الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكلمة المئة وثمان: شرح حديث (مَن أَصْبَحَ آمِنًا فِي سِرْبِهِ)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:
فقد روى الإمام الترمذي في سننه من حديث عبيد الله بن محصن الخطمي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَن أَصْبَحَ مِنْكُم آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوْتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيْزَتْ
(1)
لَهُ الدُّنْيَا»
(2)
.
قوله: «أَصْبَحَ» أي: أصبح في ذلك اليوم، وفيه إشارة إلى أن المؤمن عليه ألا يحمل هم المستقبل، فإن أمره بيد الله، وهو الذي يدبر الأمور، ويقدر الأقدار، وعليه أن يحسن الظن بربه، ويتفاءل بالخير.
قوله: «آمِنًا فِي سِرْبِهِ» ، قيل: المعنى: في أهله وعياله، وقيل: في مسكنه وطريقه، وقيل: في بيته، فهو آمن أن يقتله أحد، أو يسرق بيته، أو ينتهك عرضه.
والأمن من أعظم نعم الله على عباده بعد نعمة الإيمان والإسلام، ولا يشعر بهذه النعمة إلا من فقدها، كالذين يعيشون في البلاد التي يختل فيها النظام والأمن، أو الذين عاصروا الحروب الطاحنة التي تهلك الحرث والنسل، فهم ينامون على أزيز الطائرات وأصوات
(1)
وحيزت: جمعت.
(2)
برقم (2346) وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي (2/ 274) برقم (1913).
المدافع، ويضع الواحد منهم يده على قلبه ينتظر الموت في أي لحظة، قال تعالى:{الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82].
وقد وعد الله المؤمنين بالأمن إن حققوا التوحيد وأخلصوا الإيمان، وعملوا الصالحات، قال تعالى:{وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} [النور: 55].
وقال تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ البُشْرَى فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ} [يونس: 62 - 64].
قوله: «مُعَافًى فِي بَدَنِهِ» ، أي: صحيحًا سالمًا من العلل والأسقام، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوْذُ بِكَ مِنَ البَرَصِ وَالجُنُوْنِ وَالجُذَامِ، وَمَن سَيِّئِ الأَسْقَامِ»
(1)
.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل ربه صباحًا ومساءً هذه العافية في دينه ودنياه ونفسه وأهله وماله، وأمر أصحابه بذلك، روى الإمام أبوداود من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: لَم يَكُنْ رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدَعُ هَؤُلَاءِ الدَّعَوَاتِ حِيْنَ يُمْسِي وَحِيْنَ يُصْبِحُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ العَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ العَفْوَ وَالعَافِيَةَ فِي دِيْنِي وَدُنْيَايَ وَأَهْلِي وَمَالِي
…
» الحديث
(2)
.
(1)
(20/ 309) برقم (13004) وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط مسلم.
(2)
برقم (5074) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3/ 957) برقم (4239).
وروى الترمذي في سننه من حديث معاذ بن رفاعة عن أبيه قال: قَامَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ عَلَى الْمِنْبَرِ، ثُمَّ بَكَى، فَقَالَ: قَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ الأَوَّلِ عَلَى الْمِنْبَرِ ثُمَّ بَكَى، فَقَالَ:«سَلُوْا اللهَ العَفْوَ وَالعَافِيَةَ، فَإِنَّ أَحَدًا لَم يُعْطَ بَعْدَ اليَقِيْنِ خَيْرًا مِنَ العَافِيَةِ»
(1)
.
وأخبرالنبي صلى الله عليه وسلم أن الكثير من الناس مفرط ومغبون في هذه النعمة، روى البخاري في صحيحه من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «نِعْمَتَانِ مَغْبُوْنٌ فِيْهِمَا كَثِيْرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالفَرَاغُ»
(2)
.
وأرشد النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى اغتنام الصحة قبل المرض، روى الحاكم في المستدرك من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اغْتَنِم خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ
…
وَذَكَر مِنْهَا: صِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ»
(3)
.
وكان ابن عمر رضي الله عنهما كما في صحيح البخاري يقول: «إِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ المَسَاءَ، وَإِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَخُذ مِن صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِن حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ»
(4)
.
والذي يزور مستشفيات المسلمين ويرى ما ابتلي به إخوانه من الأمراض الخطيرة التي عجز الطب الحديث عن علاج بعضها ليحمد الله عز وجل صباحًا ومساءً على نعمة العافية، وصدق الله إذ يقول: {وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ
(1)
برقم (3558) وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (3/ 180) برقم (2821).
(2)
برقم (6412).
(3)
(5/ 435) برقم (7916)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم (1077).
(4)
برقم (6416).
الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34].
قوله: «عنده قوت يومه» ، أي: قدر ما يغديه ويعشيه، والطعام من نعم الله العظيمة، قال تعالى:{فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا البَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: 3 - 4].
وكان عليه الصلاة والسلام يتعوذ بالله من الجوع، روى أبو داود في سننه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوْذُ بِكَ مِن الجُوْعِ، فَإِنَّهُ بِئْسَ الضَّجِيعُ»
(1)
.
ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل ربه الكفاف، أي مقدار ما يكفيه، روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: «اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوْتًا»
(2)
.
ومما تقدم يتبين أن من اجتمعت له هذه الخصال الثلاث في يومه، فكأنما ملك الدنيا كلها، وقد اجتمع لكثير من الناس أضعاف أضعاف ما ذكر في هذا الحديث، ومع ذلك فهم منكرون لها، محتقرون ما هم فيه، فهم كما قال تعالى:{يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الكَافِرُونَ} [النحل: 83].
وقال تعالى: {أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ} [النحل: 71].
ودواء هذا الداء أن ينظر المرء إلى من حرم هذه النعم، أو بعضها، كما أرشد إلى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «انْظُرُوْا إِلَى مَن أَسْفَلَ مِنْكُم،
(1)
برقم (1547) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 288) برقم (1368).
(2)
البخاري برقم (6460)، ومسلم برقم (1055).
وَلَا تَنْظُرُوْا إِلَى مَن هُوَ فَوْقَكُم، فَهُوَ أَجْدَرُ أَلَاّ تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللهِ»
(1)
.
قال ابن جرير وغيره: هَذَا حَدِيْثٌ جَامِعٌ لأَنْوَاعٍ مِنَ الخَيْرِ؛ لأَنَّ الإِنْسَانَ إِذَا رَأَى مَن فُضِّلَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا طَلَبَت نَفْسُهُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَاسْتَصْغَرَ مَا عِنْدَهُ مِن نِعْمَةِ اللهِ، وَحَرَصَ عَلَى الازْدِيَادِ لِيَلحَقَ بِذَلِكَ، أَو يُقَارِبَهُ. هَذَا هُوَ المَوْجُوْدُ فِي غَالِبِ النَّاسِ، وَأَمَّا إِذَا نَظَرَ فِي أُمُوْرِ الدُّنْيَا إِلَى مَن هُوَ دُوْنَهُ فِيْهَا، ظَهَرَتْ لَهُ نِعْمَةُ اللِه تَعَالَى عَلَيْهِ، فَشَكَرَهَا، وَتَوَاضَعَ وَفَعَلَ فِيْه الخَيْرَ. اهـ
(2)
.
وأختم بهذا الحديث الذي يبين أن كثيراً من الناس يعيشون عيشة الملوك:
روى مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أَنَّ رَجُلاً سَأَلَهُ فَقَالَ: أَلَسْنَا مِن فُقَرَاءِ المُهَاجِرِيْنَ؟ فَقَال عَبْدُ اللهِ: أَلَكَ امْرَأَةٌ تَاوِي إِلَيْهَا؟ قَالَ: نَعَم. قَالَ: أَلَكَ مَسْكَنٌ تَسْكُنُهُ؟ قَالَ: نَعَم. قَالَ: فَأَنْتَ مِنَ الأَغْنِيَاءِ. قَالَ: فَإِنَّ لِي خَادِمًا. قَالَ: فَأَنْتَ مِن المُلُوْكِ
(3)
.
قال الشاعر:
إذا اجتمع الإسلامُ والقُوتُ للفَتَى
…
وأضْحَى صحيحاً جسمُهُ وهو في أمن
فقد ملَكَ الدُنيا جميعاً وحازها
…
وَحَقَّ عليه الشكرُ لله ذي المَنّ
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1)
البخاري برقم (6490)، ومسلم برقم (2963).
(2)
صحيح مسلم بشرح النووي (6/ 97).
(3)
برقم (2979).