الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكلمة المئة وخمس وعشرون: تحريم حلق اللحية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:
فمن المعاصي التي انتشرت بين صفوف الناس، وابتلي بها كثير من المسلمين حلق اللحية.
روى مسلم في صحيحه من حديث تميم الداري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ، قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: «لِلهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ»
(1)
.
وروى مسلم في صحيحه من حديث جرير رضي الله عنه قال: بَايَعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَلَقَّنَنِي:«فِيمَا اسْتَطَعْتَ» ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ
(2)
.
وعملاً بهذا التوجيه النبوي الكريم كانت هذه الكلمة للتذكير بتحريم حلق اللحية.
واللحية اسم جامع للشعر النابت على العارضين والخدين والذقن، وقد وردت النصوص الشرعية بالتحذير من حلقها، أو أخذ جزء منها، وذلك من عدة وجوه:
(1)
برقم (55).
(2)
برقم (56).
أولاً: أنه تغيير لخلق الله، قال تعالى حاكيًا عن إبليس لعنه الله:{وَلآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الأَنْعَامِ وَلآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ} [النساء: 119].
فالواجب على المسلم أن لا يتعرض لشيء مما خلقه الله بالتغيير، إلا ما أذن الشرع في أخذه، مثل شعر الرأس، والشارب، والإبطين، والأظافر، وغير ذلك مما أذن فيه الشرع، وإذا كانت المرأة التي تقوم بنتف الحاجبين، وتفليج الأسنان للحسن، قد لعنها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ورد في الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:«لَعَنَ اللهُ الْوَاشِمَاتِ، وَالْمُسْتَوْشِمَاتِ، وَالْمُتَنَمِّصَاتِ، وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ، الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللهِ» ما لي لا ألعن من لعن رسول الله وهو في كتاب الله
(1)
.
وعلة ذلك أنها غيرت خلق الله، مع أنه مباح لها الزينة، فالرجل من باب أولى، قال تعالى:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30].
ثانيًا: أن اللحية من سنن الفطرة، روى مسلم في صحيحه من حديث عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عَشْرٌ مِنَ الْفِطْرَةِ
…
وذكر منها: قَصَّ الشَّارِبِ، وَإِعْفَاءَ اللِّحْيَةِ»
(2)
.
ثالثًا: أن في حلقها مخالفة للأحاديث الصحيحة الموجبة لإعفائها، وهي كثيرة، ومقتضى الأمر الوجوب ما لم يأت صارف عن هذا الأمر، فدل على أن إعفاءها أمر واجب على كل مسلم، قال
(1)
صحيح البخاري برقم (5943)، وصحيح مسلم برقم (2125).
(2)
برقم (261).
تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63].
ومن هذه الأحاديث ما روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انْهَكُوا الشَّوَارِبَ - يعني: حُفُّوا الشَّوَارِبَ -، وَأَعْفُوا اللِّحَى»
(1)
.
وروى مسلم في صحيحه من حديث ابن عمر: عن النبي صلى الله عليه وسلم: أَنَّهُ أَمَرَ بِإِحْفَاءِ الشَّوَارِبِ وَإِعْفَاءِ اللِّحْيَةِ
(2)
، وقد عد النووي الألفاظ التي وردت في اللحية، فبلغت خمسًا، وهي: أعفوا، وأرخوا، وأوفوا، وأرجوا، ووفروا، وهذه تدل على ترك اللحية وافرة، وعدم التعرض لها بشيء من الحلق أو النتف أو التقصير
(3)
.
رابعًا: أن في حلقها تشبهًا بالمشركين والمجوس واليهود والنصارى، فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ، وَفِّرُوا اللِّحَى، وَأَحْفُوا الشَّوَارِبَ»
(4)
.
وروى مسلم في صحيحه من حديثه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «جُزُّوا الشَّوَارِبَ، وَأَرْخُوا اللِّحَى، خَالِفُوا الْمَجُوسَ»
(5)
. وذلك أن المجوس يطيلون الشوارب، ويقصون اللحى، وبعضهم يحلقها تمامًا، فنهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن التشبه بهم في هذا وذاك، وفي الحديث الذي رواه ابن
(1)
البخاري برقم (5893)، ومسلم برقم (259).
(2)
برقم (259).
(3)
شرح النووي على صحيح مسلم (1/ 151).
(4)
البخاري برقم (5892)، ومسلم برقم (259).
(5)
برقم (260).
جرير، وابن سعد في الطبقات في قصة رسولي كسرى حينما رآهما النبي صلى الله عليه وسلم وقد حلق كل واحد منهما لحيته، ووفرا شاربيهما، فأعرض عنهما النبي صلى الله عليه وسلم وقال:«وَيلَكُمَا، مَن أَمَرَكُمَا بِهَذَا؟ » ، فقالا: أمرنا ربنا، يعنيان كسرى، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم:«وَلَكِن رَبِّي أَمَرَنِي أَن أُعفِيَ لِحيَتِي، وَأَن أَقُصَّ شَارِبِي»
(1)
.
فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على هذين الرجلين، مع العلم بأنهما كافران من المجوس، فالمسلم من باب أولى.
إضافة إلى أن اللحية زينة وجمال للرجل.
خامسًا: إن في حلقها مخالفة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم والأنبياء قبله، والخلفاء الراشدين والصحابة من بعدهم، قال تعالى حاكيًا عن هارون وهو يخاطب موسى:{قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَاخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَاسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [طه: 94].
قال الشنقيطي رحمه الله: إذا ضمت هذه الآية إلى آية الأنعام التي ذكر فيها عز وجل الأنبياء، ثم قال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90]. دلت على لزوم إعفاء اللحية وهذا دليل من كتاب الله.
وإعفاء اللحية من السمت الذي أُمرنا به في القرآن العظيم، وأنه كان سمت الرسل الكرام صلوات الله وسلامه عليهم، والعجب من الذين مسخت ضمائرهم، واضمحل ذوقهم، حتى صاروا يفرون من صفات الذكورية، وشرف الرجولة إلى خنوثة الأنوثة، ويمثلون بوجوههم
(1)
أخرجه ابن جرير (2/ 266) وابن سعد في الطبقات (1/ 2 / 147)، وهو حسن. انظر: تخريج فقه السيرة (ص: 359) للألباني، والعزو منه.
بحلق أذقانهم، ويتشبهون بالنساء، حيث يحاولون القضاء على أعظم الفوارق الحسية بين الذكر والأنثى، وهو اللحية، وقد كَانَ صلى الله عليه وسلم كَثَّ اللِّحيَةِ، وهو أجمل الخلق وأحسنهم صورة، والرجال الذين أخذوا كنوز كسرى وقيصر، ودانت لهم مشارق الأرض ومغاربها ليس فيهم حالق، نرجوا الله أن يرينا وإخواننا المؤمنين الحق حقًا ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه
(1)
. اهـ.
روى مسلم في صحيحه من حديث جابر بن سمرة قال: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَثِيرَ شَعْرِ اللِّحْيَةِ
(2)
، وفي صحيح البخاري من حديث أَبِي مَعْمَرٍ، قَالَ:«قُلْنَا لِخَبَّابٍ: أكان رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْنَا: بِمَ كُنْتُمْ تَعْرِفُونَ ذَاكَ؟ قَالَ: بِاضْطِرَابِ لِحْيَتِهِ»
(3)
، وهذا دليل على أنه كان يعفيها ولا يأخذ منها شيئًا، وهكذا الصحابة جميعًا ولم يعرف حلق اللحية إلا في الأزمنة المتأخرة.
وبعض الناس يثير شبهة إذا نصحته بعدم حلق اللحية، فيقول: الإيمان بالقلب، وليست القضية تربية اللحية، فكم من إنسان حليق اللحية خدم الإسلام والمسلمين، وكم من إنسان أعفى لحيته وعليه من التقصير ما الله به عليم؟
فالجواب عن ذلك أن على المؤمن الالتزام بأوامر الله ورسوله، قال تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31]. وقال صلى الله عليه وسلم: «مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ، وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»
(4)
.
(1)
أضواء البيان (3/ 64).
(2)
قطعة من حديث برقم (2344).
(3)
برقم (746).
(4)
صحيح البخاري برقم (7288)، وصحيح مسلم برقم (1337)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وهذه شبهة باطلة، لو أخذنا بها لتركنا كثيرًا من الأوامر والنواهي التي جاء بها الشرع. ثم إن الإيمان قول باللسان، وتصديق بالقلب، وعمل بالجوارح، فلا يكفي التصديق بالقلب، بل لا بد من العمل، قال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ
…
عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة: 105].
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.