الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكلمة المئة وواحد: السعادة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:
فإن كل إنسان في هذه الحياة يسعى إلى السعادة، وهي مطلب حقيقي لجميع الناس، المؤمن والكافر، والبر والفاجر، والغني والفقير، كلهم يريدون السعادة ولكنهم يختلفون في نظرتهم لها، فمنهم من يراها في جمع المال والدرهم، وآخر يراها في الحصول على المناصب الرفيعة، وآخر يراها في الحصول على الشهادات العالية، ومنهم من يراها في غير ذلك.
والحق أن هذه الأمور جزء من السعادة، وليست السعادة كلها، فهي سعادة وقتية تزول بزوالها، فصاحب المال قد يفقد ماله، وصاحب المنصب قد يزاح من منصبه، بل إن هذا المال الذي هو عصب الحياة إذا لم يستخدمه صاحبه في طاعة الله يكون وبالاً عليه، قال تعالى:{فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 55].
قال الشاعر:
ولسْتُ أَرَى السَّعَادَةَ جَمْع مَالٍ
…
ولَكِنَّ التَقِيَّ هُو السَّعيدُ
ليسَ السَعيدُ الذي تُسْعِدُهُ دُنياهُ
…
إن السَعيدَ الذي ينجُو من النَار
كما قال سبحانه: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ
يَوْمَ القِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَاّ مَتَاعُ الغُرُورِ} [آل عمران: 185].
روى ابن حبان في صحيحه من حديث سعد رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أَرْبَعٌ مِنَ السَّعَادَةِ: المَرْأَةُ الصَّالِحَةُ، وَالمَسْكَنُ الوَاسِعُ، وَالجَارُ الصَّالِحُ، وَالمَرْكَبُ الهَنِيءُ»
(1)
، وروى مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ»
(2)
.
ووصفت هذه المرأة الصالحة في حديث آخر رواه أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: «سُئل رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ النِّسَاءِ خَيْرٌ؟ قَالَ: الَّتِي تَسُرُّهُ إِذَا نَظَرَ، وَتُطِيْعُهُ إِذَا أَمَرَ، وَلَا تُخَالِفُهُ فِيمَا يَكْرَهُ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهِ»
(3)
.
وذكر الشيخ السعدي رحمه الله أن من أسباب السعادة:
أولاً: الإيمان بالله والعمل الصالح، قال تعالى:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]، قال ابن عباس: الحياة الطيبة هي الحياة السعيدة
(4)
، وهذه السعادة شعور يضعه الله في قلوب عباده الصالحين وإن كانوا في ضيق الدنيا.
قال ابن القيم رحمه الله وهو يتحدث عن شيخه ابن تيمية رحمه الله: «ومع ما كان فيه من ضيق السجن إلا أنه كان من أشرح الناس صدرًا، وأطيبهم عيشًا، وأنعمهم قلبًا، تلوح نضرة النعيم على وجهه، وكنا إذا ضاقت بنا الأرض، واشتد بنا الكرب، أتيناه فما هو إلا أن نسمع كلامه ونراه، حتى
(1)
صحيح ابن حبان برقم (4021).
(2)
برقم (1467).
(3)
(12/ 383 - 384) برقم (7421) وقال محققوه: إسناده قوي.
(4)
تفسير ابن كثير (8/ 352).
ينقلب ذلك قوة وثباتًا وطمأنينة، فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل، فآتاهم من طيبها وريحها ما استفرغ قواهم لطلبها، والمسابقة إليها»
(1)
.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «إن في الدنيا لجنَّة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة»
(2)
.
وقال أيضًا عندما قيل له: إن السلطان قد أمر بنفيك إلى قبرص أو قتلك، أو سجنك، فقال:«والله إن بي من الفرح والسرور ما لو قسم على أهل الشام لوسعهم، والله إني كالغنم لا تنام إلا على صوف، إن نفيت إلى قبرص دعوت أهلها إلى الإسلام» .
ويقول أحد السلف: «إنه لتمر بي أوقات أقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب» ، ويقول آخر:«لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من النعيم لجالدونا عليه بالسيوف» .
ثانيًا: من أسباب السعادة الإيمان بقضاء الله وقدره، فإن الإنسان إذا آمن بالقضاء والقدر، أحس براحة نفسية، وانشراح صدر بما وقع له، وإن كان مما يكره، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الإيمان بالقضاء والقدر ركن من أركان الإيمان الستة.
روى أبو داود في سننه من حديث ابن الديلمي عن أُبي بن كعب أنه قال: «لو أن الله عَذَّبَ أَهْل سَماواته وأَهلَ أَرْضه عَذَّبَهُم وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُم، وَلَو رَحمهُم كَانَت رَحْمَتُهُ خيراً لهم من أعْمالهم، ولو أنْفَقت مِثْلَ أُحدٍ ذَهباً في سبيل اللهِ مَا قَبِلَهُ الله مِنْك حتى تُؤْمن بالقدر، وتَعلَم أن ما أصابَك لم يكن لِيُخْطِئكَ وأن ما أَخطأك لم يكُن ليُصيبك فلو مُتَّ على
(1)
الوابل الصيب من الكلم الطيب (ص: 82).
(2)
المصدر السابق نفسه (ص: 81).
غير هذا لَدَخَلْتَ النارَ»، قال: ثم أتيت عبدالله بن مسعود فقال مثل ذلك، قال: ثم أتيت حذيفة بن اليمان فقال مثل ذلك، قال: ثم أتيت زيد بن ثابت فحدثني عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل ذلك
(1)
.
وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «إِذَا سَأَلتَ فَاسْأَلِ اللهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِن بِاللهِ، واعْلم أنَ الأُمَةَ لو اجْتَمعُوا على أن يَنْفَعُوكَ، لم يَنْفَعُوكَ إِلَاّ بِشَيْءٍ قد كَتَبَه الله لكَ، ولو اجتمعوا على أن يضرُوكَ لم يَضُرُّوكَ إلا بِشَيْءٍ قد كَتبَهُ الله عليكَ، رُفِعَت الأقلامُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ»
(2)
.
قال عمر رضي الله عنه: «أصبحت وما لي سرور إلا في مواضع القضاء والقدر» .
قال عبيد الله بن عتبة:
واصْبِرْ عَلَى القَدَرِ المَحْتُوم وارْضَ به
…
وإن أَتَاكَ بمَا لا تَشتهي القدرُ
فَما صَفَا لامرئٍ عَيْشٌ يُسَرُّ بهِ
…
إلا سَيَتْبَعُ يوْماً صَفْوَهُ كَدَرُ
ثالثاً: ومن الأسباب الموجبة للسرور وزوال الهم والغم السعي في إزالة الأسباب الجالبة للهموم وفي تحصيل الأسباب الجالبة للسرور، وذلك بنسيان ما مضى عليه من المكاره التي لا يمكنه ردّها، ومعرفته أن اشتغال فكره فيها من باب العبث والمحال وأن ذلك حمق وجنون، فيجاهد قلبه عن التفكر فيها وكذلك يجاهد قلبه عن قلقه لما يستقبله مما يتوهمه من فقر أو خوف أو غيرهما من المكاره التي يتخيلها في مستقبل حياته، فيعلم أن الأمور المستقبلة مجهول ما يقع فيها من خير وشر وآمال وآلام، وأنها بيد العزيز الحكيم، ليس بيد العباد منها شيء إلا
(1)
برقم (4699) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3/ 890) برقم (3932).
(2)
(4/ 409 - 410) برقم (2669) وقال محققوه: إسناده قوي.
السعي في تحصيل خيراتها، ودفع مضراتها، ويعلم العبد أنه إذا صرف فكره عن قلقه من أجل مستقبل أمره، واتكل على ربه في إصلاحه، واطمأن إليه في ذلك؛ إذا فعل ذلك اطمأن قلبه، وصلحت أحواله، وزال عنه همه وقلقه
(1)
.
رابعاً: الإكثار من ذكر الله عز وجل، فإن له سرًا عجيبًا، في انشراح الصدر، ونعيم القلب، وذكر ابن القيم مئة فائدة للذكر.
منها: أن الذكر يطرد الهم والحزن، ويجلب الفرح والسرور وطيب العيش.
قال تعالى: {الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ} [الرعد: 28].
خامساً: القناعة برزق الله، فإن من قنع بما قسم الله سبحانه له انشرح صدره، وارتاحت نفسه، روى مسلم في صحيحه، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَم، وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللهُ بِمَا آتَاهُ»
(2)
.
سادساً: أن يعلم المؤمن علم اليقين أن السعادة الحقيقية في الآخرة، وأن الدنيا دار المصائب والنكد والأحزان، قال تعالى:{لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد: 4].
وقال تعالى حاكيًا عن أهل الجنة: {وَقَالُوا الحَمْدُ للهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ المُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} [فاطر: 34 - 35].
روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
الأسباب المفيدة للحياة السعيدة للشيخ السعدي (ص: 20).
(2)
برقم (1054).
قال: «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ»
(1)
.
ولما سئل الإمام أحمد رحمه الله: متى يرتاح المؤمن؟ قال: أول ما يضع قدمه في الجنة.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1)
برقم (2956).