الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكلمة الرابعة والسبعون: النكت
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:
فمن الأمور المنكرة التي انتشرت بين الناس في هذه الأيام ما يُسمى بالنكت، وهذه النكت قصص مكذوبة يقصد بها إضحاك الآخرين، وإدخال السرور إلى قلوبهم.
روى الإمام أبو داود في سننه من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «وَيْلٌ لِلَّذِي يُحَدِّثُ فَيَكْذِبُ لِيُضْحِكَ بِهِ الْقَوْمَ، وَيْلٌ لَهُ، وَيْلٌ لَهُ»
(1)
.
ومن مفاسد هذه النكت ما يلي:
أولاً: الكذب، وهو من أعظم المفاسد، وقد نهى الله تعالى عنه في آيات كثيرة، قال تعالى:{فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: 30]. قال بعض المفسرين الزور: الكذب
(2)
.
روى البخاري ومسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُمْ
(1)
سنن أبي داود برقم (4990) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3/ 942) برقم (4175).
(2)
تفسير ابن جرير (7/ 5838).
وَالْكَذِبَ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا»
(1)
.
وروى البخاري في صحيحه حديث سمرة بن جندب الطويل، وفيه رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّهُ أَتَانِي اللَّيْلَة آَتِيَانِ وَإِنَّهُمَا ابْتَعَثَانِي وَإِنَّهُمَا قَالَا لِي: انْطَلِقْ، وَإِنِّي انْطَلَقْت مَعَهُمَا
…
فَأَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُسْتَلْقٍ لِقَفَاهُ، وَإِذَا آخَرُ قَائِمٌ عَلَيْهِ بِكَلُّوبٍ مِن حَدِيْدٍ، وَإِذَا هُوَ يَاتِي أَحَدَ شِقَّيْ وَجْهِهِ فَيُشَرْشِرُ شِدْقَهُ إِلَى قَفَاهُ وَمَنْخِرَهُ إِلَى قَفَاهُ، وَعَيْنَهُ إِلَى قَفَاهُ، قَالَ: ثُمَّ يَتَحَوَّلُ إِلَى الجَانِبِ الآخَرِ فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ بِالجَانِبِ الأَوَّلِ، فَمَا يَفْرُغُ مِن ذَلِكَ الجَانِبِ حَتَّى يَصِحَّ ذَلِكَ الجَانِبُ كَمَا كَانَ، ثُمَّ يَعُوْدُ عَلَيْهِ فَيَفْعَلُ مِثْلَ مَا فَعَلَ المَرَّةَ الأُوْلَى، قَالَ: قُلتُ: سُبْحَانَ اللهِ مَا هَذَانِ؟ .... قَالَ: قَالَا: أَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي أَتَيْتَ عَلَيْهِ يُشَرْشِرُ شِدْقَهُ إِلَى قَفَاهُ، وَمَنْخِرَهُ إِلَى قَفَاهُ، وَعَيْنَهُ إِلَى قَفَاهُ، فَإِنَّهُ الرَّجُلُ يَغْدُو مِن بَيْتِهِ فَيَكْذِبُ الكَذْبَةَ تَبْلُغُ الآفَاقَ»
(2)
.
وهذه النكت وإن قُصِد بها المزاح، فإنه ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو داود من حديث أبي أمامة أنه قال:«أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا، وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسُنَ خُلُقُهُ»
(3)
.
وهذا - والله أعلم - إذا لم تتضمن قولاً فاحشًا، أو نشر فاحشة، أو إشاعة منكر، أو استطالة في عرض مسلم، فما كان من هذا ونحوه لا شك أنه من المحرمات، كما سبق في الحديث المتقدم.
(1)
صحيح البخاري برقم (6094)، وصحيح مسلم برقم (2607) واللفظ له.
(2)
صحيح البخاري برقم (7047).
(3)
سنن أبي داود برقم (4800)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3/ 911) برقم (4015).
قال ابن مسعود: «الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل»
(1)
ثم تلا عبد الله قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119]، وقال أيضاً:«المؤمن يُطبع على الخلال كلها غير الخيانة والكذب»
(2)
.
ثانيًا: ومن مفاسدها أن بعض هذه النكت تحتوي على الاستهزاء بدين الله، أو المؤمنين، وهذا يؤدي بصاحبه إلى الكفر والخروج من دائرة الإسلام، قال تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65، 66]. وهو من نواقض الإسلام العشرة.
وقال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب: «أجمع العلماء على كفر من فعل شيئًا من ذلك، فمن استهزأ بالله، أو بكتابه، أو برسوله، كفر ولو مازحًا لم يقصد حقيقة الاستهزاء إجماعًا»
(3)
.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله «الاستهزاء بالله وآياته ورسوله كفر، يكفر به صاحبه بعد إيمانه»
(4)
.
ثالثًا: أنها تؤدي إلى السخرية بالناس واحتقارهم.
روى مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المُسْلِمُ
(1)
مصنف ابن أبي شيبة (8/ 425).
(2)
مصنف ابن أبي شيبة (8/ 425)، وقال محققو مسند الإمام أحمد بن حنبل (36/ 505): إسناده صحيح على شرط مسلم.
(3)
تيسير العزيز الحميد (ص: 617).
(4)
الفتاوى (7/ 273).
أَخُو المُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هَهُنَا - وَيُشِيْرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ - بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَن يَحْقِرَ أَخَاهُ المُسْلِمَ، كُلُّ المُسِلِم عَلَى المُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ»
(1)
.
رابعًا: أن فيها إضاعة الوقت، وهذا الوقت سيُسأل عنه العبد يوم القيامة، روى الترمذي في سننه من حديث أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَا تَزُوْلُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَن عُمُرِه فِيْمَ أَفْنَاهُ؟ وَعَن عِلمِهِ فِيْمَ فَعَلَ؟ وَعَن مَالِهِ مِن أَيْنَ اكْتَسَبَهُ؟ وَفِيْمَ أَنْفَقَهُ؟ »
(2)
.
وروى البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ»
(3)
.
خامسًا: أن بعض هذه النكت تحتوي على الفحش وبذاءة اللسان، وهذا لا يليق بالمؤمن، لا قوله، ولا الاستماع إليه، قال تعالى:{وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان: 72].
قال بعض المفسرين: أي الكذب، وقال تعالى:{وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون: 3].
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: لَم يَكُن رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَاحِشًا وَلَا مُتَفَحِّشًا، وَكَانَ يَقُوْلُ:«إِنَّ مِن خِيَارِكُم أَحْسَنَكُم أَخْلَاقًا»
(4)
.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1)
قطعة من حديث برقم (2564).
(2)
برقم (2417) سبق تخريجه.
(3)
برقم (6412).
(4)
صحيح البخاري برقم (3559)، وصحيح مسلم برقم (2321).