الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكلمة المئة وثلاث عشرة: الزهد في الدنيا
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:
فقد وصف ربنا عز وجل حال الدنيا وأهلها فيها، وكشف حقيقتها، وبين قصر مدتها، وانقضاء لذتها، فقال تعالى:{اعْلَمُوا أَنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَاّ مَتَاعُ الغُرُورِ} [الحديد: 20].
فبين لنا العليم الحكيم في هذه الآية حال الدنيا التي افتتن الناس بها، وبين أنها لعب لا ثمرة فيه سوى التعب، ولهو يشغل صاحبه ويلهيه عما ينفعه في آخرته، وزينة تخدع المفتون بها، وتفاخر بالأنساب والعظام البالية، ومباهاة بكثرة الأموال والأولاد، وعظم الجاه، وأشار سبحانه إلى أنها مع ذلك سريعة الزوال، كمثل غيث أعجب الزراع نباته الناشئ منه، ثم يهيج ويتحرك وينمو إلى أقصى ما قدره الله له، فسرعان ما تراه مصفرًا متغيرًا ذابلاً بعد أن كان أخضر نضرًا، ثم يعود إلى اليبس هشيمًا متكسرًا، ففيه تشبيه جميع ما في الدنيا من السنين الكثيرة بمدة نبات غيث واحد يفنى ويضمحل ويتلاشى في أقل من سنة، إشارة إلى سرعة زوالها وقرب فنائها.
ثم أشار سبحانه إلى عظم شأن الآخرة بما فيها من الآلام والعذاب الشديد لمن عصاه، والمغفرة والرضوان الموجب لكمال النعيم لمن أطاعه.
قال تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ
…
بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} [الكهف: 45].
…
[آل عمران: 14 - 15]. وقال تعالى: {وَفَرِحُوا بِالحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآَخِرَةِ إِلَاّ مَتَاعٌ} [الرعد: 26].
روى مسلم في صحيحه من حديث المستورد بن فهر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وَاللهِ مَا الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَاّ مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ هَذِهِ - وَأَشَارَ يَحْيَى بِالسَّبَّابَةِ - فِي الْيَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بِمَ تَرْجِعُ؟ »
(1)
.
وروى ابن ماجه في سننه من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: اضْطَجَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى حَصِيرٍ، فَأَثَّرَ فِي جِلْدِهِ، فَقُلْتُ: بِأَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللهِ، لَوْ كُنْتَ آذَنْتَنَا فَفَرَشْنَا لَكَ عَلَيْهِ شَيْئًا يَقِيكَ مِنْهُ؟ ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا أَنَا وَالدُّنْيَا؟ ! إِنَّمَا أَنَا وَالدُّنْيَا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ
(1)
برقم (2858).
تَحْتَ شَجَرَةٍ، ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا»
(1)
.
قال ابن القيم رحمه الله: «ولا تتم الرغبة في الآخرة إلا بالزهد في الدنيا، ولا يستقيم الزهد في الدنيا إلا بعد نظرين صحيحين: النظر الأول: النظر في الدنيا وسرعة زوالها وفنائها، وألم المزاحمة عليها، والحرص عليها، وما في ذلك من الغصص والنغص والأنكاد، وآخر ذلك الزوال والانقطاع، مع ما يعقب من الحسرة والأسف، فطالبها لا ينفك من همّ قبل حصولها، وهمّ في حال الظفر بها، وحزن وغم بعد فواتها، فهذا أحد النظرين.
النظر الثاني: النظر في الآخرة، وإقبالها، ومجيئها، ولا بد من دوامها وبقائها، وشرف ما فيها من الخيرات والمسرات، والتفاوت الذي بينه وبين ما ههنا، فهي كما قال سبحانه:{وَالآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 17] فهي خيرات كاملة دائمة، وهذه خيالات ناقصة منقطعة مضمحلة، فإذا تم له هذان النظران آثر ما يقتضي العقل إيثاره، وزهد فيما يقتضي الزهد فيه، فكل أحد مطبوع على أن لا يترك النافع العاجل، واللذة الحاضرة إلى النفع الآجل، واللذة الغائبة المنتظرة، إلا إذا تبين له فضل الآجل على العاجل، وقويت رغبته في الأعلى الأفضل، فإذا آثر الفاني الناقص كان ذلك إما لعدم تبين الفضل له، وإما لعدم رغبته في الأفضل، وكل واحد من الأمرين يدل على ضعف الإيمان، وضعف العقل والبصيرة، فإن الراغب في الدنيا، الحريص عليها، المؤثر لها إما أن يصدق بأن ما هناك أشرف وأفضل وأبقى، وإما أن لا يصدق، فإن لم يصدق بذلك كان عادمًا للإيمان رأسًا، وإن صدق بذلك ولم يؤثر كان فاسد العقل سيئ
(1)
برقم (4109) وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (2/ 394) برقم (3317).
الاختيار لنفسه. والنبي صلى الله عليه وسلم عُرضت عليه مفاتيح كنوزها فردها، وفاضت على أصحابه فآثروا بها ولم يبيعوا حظهم من الآخرة بها وعلموا أنها معبر وممر لا دار مقام ومستقر، وأنها دار عبور لا دار سرور، وأنها سحابة صيف تنقشع عن قليل، وخيال طيف ما استتم الزيارة حتى آذن بالرحيل اهـ
(1)
.
قال الشاعر:
لَا طِيبَ لِلْعَيشِ مَا دَامَتْ لَذَّاتُهُ
…
مُنَغَّصَةً بِادِّكَارِ المَوتِ وَالهَرَم
وقد توعد سبحانه أعظم الوعيد لمن رضي بالحياة الدنيا، واطمأن بها، وغفل عن آياته ولم يرج لقاءه، فقال سبحانه:{إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آَيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَاوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يونس: 7 - 8].
وقد عاتب سبحانه من رضي بالدنيا من المؤمنين، فقال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآَخِرَةِ إِلَاّ قَلِيلٌ} [التوبة: 38].
وعلى قدر رغبة العبد في الدنيا، ورضاه بها يكون تثاقله عن طاعة الله وطلب الآخرة، ويكفي في الزهد في الدنيا قوله تعالى:{أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء: 205 - 207].
وقال تعالى: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَاّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ
(1)
الفوائد (ص: 112 - 113) بتصرف.
بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَاّ القَوْمُ الفَاسِقُونَ} [الأحقاف: 35].
وقال تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ المُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ} [الروم: 55].
وكان النبي صلى الله عليه وسلم من أكثر الناس قناعة وزهدًا في الدنيا، فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لعروة ابن أختها:«إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الْهِلَالِ ثَلَاثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ، وَمَا أُوقِدَتْ فِي أَبْيَاتِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَارٌ. فَقُلْتُ: مَا كَانَ يُعِيشُكُمْ؟ قَالَتِ: الأَسْوَدَانِ التَّمْرُ وَالْمَاءُ، إِلَاّ أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم جِيرَانٌ مِنَ الأَنْصَارِ كَانَ لَهُمْ مَنَائِحُ، وَكَانُوا يَمْنَحُونَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَبْيَاتِهِمْ، فَيَسْقِينَاهُ»
(1)
. روى البخاري في صحيحه من حديث عمرو بن الحارث قال: مَا تَرَكَ رَسُولُ اللهِ عِنْدَ مَوْتِهِ دِرْهَماً وَلَا دِينَاراً وَلَا عَبْداً وَلَا أَمَةً وَلَا شَيْئاً إِلَاّ بَغْلَتَهَ البَيْضَاءَ وَسِلَاحَهُ وَأَرْضاً جَعَلَهَا صَدَقَةً
(2)
.
بل إنه عليه الصلاة والسلام توفي ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعاً من شعير
(3)
.
وأوصى النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من الأنصار أن يكون بلاغ أحدهم من الدنيا كزاد الراكب، ووصى ابن عمر أن يكون في الدنيا كأنه غريب أو عابر سبيل، وقال لأبي هريرة:«ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبُّكَ اللهُ، وَازْهَدْ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ يُحِبُّوكَ»
(4)
.
قال ابن القيم رحمه الله: والزهد زهد في الحرام، وهو فرض عين،
(1)
صحيح البخاري برقم (6459)، وصحيح مسلم برقم (2972).
(2)
برقم (2739).
(3)
صحيح البخاري برقم (4467).
(4)
ابن ماجه في سننه برقم (4102) وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (944).
وزهد في الشبهات، وهو بحسب مراتب الشبهة، فإن قويت التحقت بالواجب، وإن ضعفت كان مستحبًّا، وزهد في الفضول، وزهد فيما لا يعني من الكلام والنظر والسؤال واللقاء وغيره، وزهد في الناس، وزهد في النفس بحيث تهون عليه نفسه في الله، وزهد جامع لذلك كله، وهو الزهد فيما سوى الله، وفي كل ما شغلك عنه. وأفضل الزهد إخفاء الزهد، وأصعبه الزهد في الحظوظ، والفرق بينه وبين الورع أن الزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة، والورع ترك ما يخشى ضرره في الآخرة، والقلب المعلق بالشهوات لا يصح له زهد ولا ورع. إلى آخر ما قال
(1)
.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1)
الفوائد (ص: 138).