الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث: السُنَّةُ والمعتزلة:
اختلفت نُقُولُ العلماء من موقف المعتزلة من السُنَّة، والذي استنتجه الخضري من كتابات الشافعي ومال إلى ذلك الأستاذ السباعي بأنَّ الفرقة التي رَدَّتْ الأخبار كلها هي المعتزلة (1) لأنهم كانوا يَزِنُونَ جميع الأشياء بعقولهم الفاسدة وأذهانهم القاصرة، ولا شك أنَّ العقل الإنساني مهما بلغ من الذُّرْوَةِ والكمال فلا بُدَّ أنْ يبقى قاصرًا عن إدراك بعض الحقائق ولا سيما الأمور التعبُّدية غير المُعَلَّلَةِ كما قال الشافعي:«كما أنَّ الحواس لها حد تنتهي إليه كذلك العقل له حد ينتهي إليه ويقصر دونه» .
والواقع أنَّ نُقُولَ العلماء عن موقف المعتزلة من السُنَّةِ قد اضطربت - كما قال السباعي - هل هم مع الجمهور في القول بِحُجِيَّتِهَا بِقِسْمَيْهَا المتواتر والآحاد أم ينكرون حُجِيَّتِهَا بِقِسْمَيْهَا أم يقولون بحجية المتواتر وينكرون حجية خبر الآحاد؟
وذكر السباعي نُقُولاً عن الآمدي وابن حزم وابن القيم ثم قال: «وهذه النقول - كما ترى - متضاربة لا تعطينا حكما صحيحاً في المسألة» ثم تحدث عن مذهب النَظَّامِ وأنه ينكر معجزات النبي صلى الله عليه وسلم من انشقاق القمر وتسبيح الحصى في يده ونبع الماء من بين أصابعه ليتوصل من ذلك إلى إنكار نُبُوَّتِهِ. ثم إنه استثقل أحكام شريعة الإسلام في فروعها ولم يجرؤ على إظهار
(1)" السُنَّة ومكانتها ": ص 134، 135.
رفعها فأبطل الطرق الدالة عليها فأنكر لأجل ذلك حجية الإجماع وحجية القياس في الفروع الشرعية وأنكر الحُجَّةَ من الأخبار التي لا توجب العلم الضروري
…
كما عاب أصحاب الحديث وروايتهم أحاديث أبي هريرة، وزعم أن أبا هريرة كان أكذب الناس وطعن في الفاروق عمر رضي الله عنه وزعم أنه شك يوم الحديبية في دينه وشك يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه ضرب فاطمة وابتدع صلاة التراوايح، وطعن في عثمان لاستعماله الوليد بن عقبة على الكوفة حتى صلى بالناس وهو سكران، وطعن في عَلِيٍّ وابن مسعود ونسب الصحابة إلى الجهل والنفاق
…
إلى آخر هذيانه (1).
ومنه نرى أنَّ المعتزلة ما بين شاك في عدالة الصحابة منذ عهد الفتنة كـ (واصل) وما بين مُوقِنٍ بفسقهم كـ (عمرو بن عبيد) وما بين طاعن في أعلامهم مُتَّهِمٌ لهم بالكذب والجهل والنفاق وذلك يوجب رَدَّهُمْ - على زعمهم - للأحاديث التي جاءت من طريق هؤلاء الصحابة (2).
ما أسخف هذا الدليل وما أوهى هذا الاستدلال فيا لله لدواوين السُنَّة وكتب الحديث، نعوذ بالله من الخذلان واستحواذ الشيطان من لم يهده فلا هادي له.
«وقد كان موقف المعتزلة من السُنَّة هذا الموقف المتطرف المباين لعقيدة جمهور المسلمين أثر كبير في الجفاء بين علماء السُنَّة ورؤوس المعتزلة، تراشق على أثره الفريقان التُّهَمَ، فالمعتزلة يرمون المُحَدِّثِين بروايتهم الأكاذيب والأباطيل - على زعمهم -، وبأنهم زوامل للأخبار لا يفهمون ما يروون
…
بينما يَتَّهِمُ المُحَدِّثُونَ أئمة الاعتزال بالفسق والفجور والابتداع في الدين والقول بآراء ما نزَّلَ الله من سلطان».
(1) " السُنَّة ومكانتها: ص 135.
(2)
" السُنَّة ومكانتها: ص 140.
هذا وقد أدى مع الأسف هذا الصراع إلى نتيجتين خطيرتين فيما يتعلق بالسُنَّة:
أولاهما: ما فتحه رؤساء المعتزلة من ثغرات في مكانة الصحابة استطاع أنْ يَلِجَ المتعصبون من المستشرقين ويَجْرُؤُا على رميهم بالكذب والتلاعب في دين الله مستدلين إلى ما افتراه النَظَّام وأمثاله عليهم، وقد تبع المستشرقين في هذا بعض كُتَّابِ المسلمين كأحمد أمين وأَبِي رِيَّةَ وغيرهما.
ثانيهما: أنَّ جمهور المعتزلة كانوا في الفقه على مذهب الإمام أبي حنيفة وأصحابه حتى أنَّ بِشْر المريسي كان من أبرز رؤوس المعتزلة في عصره: قالوا إنه كان في الفقه على رأي أبي يوسف (1).
فلما أشرعت الخصومة بين أهل الحديث وأهل الاعتزال جَرَّحَ المُحَدِّثُونَ كُلَّ من قال بخلق القرآن، وجرَّ ذلك بعض المُغالين منهم إلى أَنْ يُجَرِّحَ كثيراً من أصحاب أبي حنيفة بِحُجَّةِ أنهم يقولون بالرأي. ولا ذنب لهم إلَاّ أنَّ مذهب أبي حنيفة كان مذهب خصومهم المعتزلة، حتى إنَّ الإمام أبا حنيفة نفسه لم يسلم من أذى الذين جاؤوا بعده من أولئك المُحَدِّثِينَ، فلقد نسبوا إليه القول بخلق القرآن مع أن الثابت عنه بنقل الثقات غير ذلك ومع أن محمد بن الحسن كان يقول:«مَنْ صَلَّى خَلْفَ المُعْتَزِلِيَّ يُعِيدُ صَلَاتَهُ» .
هذا وقد وجد قديمًا بعض الأشخاص أو بعض الفرق التي طعنت في السُنَّة ولكنها انهزمت وَضَمَّهُمْ الدهر إليه بنهاية القرن الثاني أو على الأكثر بنهاية القرن الثالث ولم تقم لها قائمة بعد ذلك. وقد أحييت الفتنة مَرَّةً أخرى في القرن الماضي بتأثير الاستعمار الغربي كما سنراه قريبًا.
(1)" الفَرْقُ بين الفِرَقِ ": ص 124. و " السُنَّة ومكانتها ": ص 142.