المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب الخامس: اعتراضات من منكري السنة: - السنة في مواجهة الأباطيل

[محمد طاهر حكيم]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة:

- ‌الباب الأول: (السُنَّة وما إليها):

- ‌الفصل الأول: تعريف السُنَّة:

- ‌السُنَّة عند المستشرقين:

- ‌الفصل الثاني: مكانة السُنَّة التشريعية:

- ‌الفصل الثالث: حُجِيَّةُ السُنَّة:

- ‌الفصل الرابع: جهود العلماء لحفظ السُنَّة:

- ‌الباب الثاني: (السُنَّةُ ومنكروها قديماً):

- ‌تمهيد:

- ‌الفصل الأول: السُنَّةُ والخوراج:

- ‌الفصل الثاني: السُنَّة والشيعة:

- ‌الفصل الثالث: السُنَّةُ والمعتزلة:

- ‌الباب الثالث: السُنَّة ومنكروها حديثاً:

- ‌تمهيد:

- ‌الفصل الأول: السُنَّة والمستشرقون:

- ‌نظرة تاريخية لدراسة المستشرقين للسُنَّة:

- ‌عرض تاريخي لأغراض المستشرقين:

- ‌شُبَهِ المستشرقين حول السُنَّةِ:

- ‌الفصل الثاني: السُنَّةُ والدكتور توفيق صدقي:

- ‌الفصل الثالث: السُنَّة والأستاذ أحمد أمين:

- ‌الفصل الرابع: السُنَّة ومحمود أبو رية:

- ‌الفصل الخامس: السُنَّةُ والدكتور أحمد زكي أبي شادي:

- ‌الفصل السادس: مُنكرو السُنَّة في القارة الهندية:

- ‌تمهيد:

- ‌نشأة أهل القرآن في القارة الهندية:

- ‌أسباب نشأة أهل القرآن:

- ‌أشهر زعماء أهل القرآن:

- ‌1 - الخواجه أحمد دين الأمرتسري:

- ‌2 - الحافظ أسلم جراجبوري:

- ‌3 - برويز:

- ‌سيد أحمد خان (2) وموقفه من السُنَّة النبوية:

- ‌جراغ علي وموقفه من السُنَّة:

- ‌الباب الرابع: شُبُهاتُ منكري السُنَّة:

- ‌الفصل الأول: شُبُهَاتُ مُنْكِرِي السُنَّةِ:

- ‌الشُبْهَةُ الأُُولََى:

- ‌الشُبْهَةُ الثَانِيَةُ:

- ‌الشُبْهَهُ الثالثة:

- ‌الشُبْهَةُ الرَابِعَةُ:

- ‌الشُبْهَةُ الخَامِسَةُ:

- ‌الشُبْهَةُ السَادِسَةُ:

- ‌الفصل الثاني: شُبُهَات فرقة أهل القرآن:

- ‌الشُبْهَةُ الأُُولََى:

- ‌الشُبْهَةُ الثَانِيَةُ:

- ‌الشُبْهَةُ الثَالِثَةُ:

- ‌الشُبْهَةُ الرَابِعَةُ:

- ‌الشُبْهَةُ الخَامِسَةُ:

- ‌الشُبْهَةُ السَادِسَةُ:

- ‌الباب الخامس: اعتراضات من مُنْكِرِي السُنَّة:

- ‌الباب السادس: أمثلة من الأحاديث تعرَّضت لنقد مُنْكِرِي السُنَّة:

- ‌الحديث الأول:

- ‌الحديث الثاني:

- ‌الحديث الثالث:

- ‌الحديث الرابع:

- ‌الحديث الخامس:

- ‌الحديث السادس:

- ‌الحديث السابع:

- ‌الحديث الثامن:

- ‌الحديث التاسع:

- ‌الحديث العاشر:

- ‌الحديث الحادي عشر:

- ‌الحديث الثاني عشر:

- ‌الفهرس:

- ‌ثبت المصادر والمراجع:

- ‌الدوريات:

الفصل: ‌الباب الخامس: اعتراضات من منكري السنة:

‌الباب الخامس: اعتراضات من مُنْكِرِي السُنَّة:

وقد وجه هؤلاء جملة اعتراضات وانتقادات بعضها على السُنَّة وتدوينها وكتابتها، وأخرى على رُواتها ورجالها، وها هي بعضها مقرونة بالرد عليها:

1 -

قالوا: هناك أحاديث وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها المنع عن كتابة الحديث كما وردت أحاديث أخرى فيها تصريح بكتابة الحديث وهذا تعارض.

وللجواب على هذا نقول:

إنَّ كل من نقل عنه كراهية كتابة الحديث فقد نقل عنه عكس ذلك أيضًا - ما عدا شخص أو شخصين - وقد ثبت كتابتهم أو الكتابة عنهم ومن أشهر الصحابة الذين اشتهرت عنهم أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها كراهة كتابة العلم: (أبو سعيد الخدري وابن عباس وأبي هريرة وزيد بن ثابت رضي الله عنهم).

أما حديث أبي سعيد فقد رَدَّهُ مسلم بلفظ: «لَا تَكْتُبُوا عَنِّي، وَمَنْ كَتَبَ عَنِّي غَيْرَ الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ، وَحَدِّثُوا عَنِّي وَلَا حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» (1) وهذا أصح ما رُوِيَ في هذا الباب.

(1)" صحيح مسلم بشرح النووي ": 18/ 129 و " جامع بيان العلم وفضله " لابن عبد البر: 1/ 63.

ص: 117

وأما حديث ابن عباس وحديث أبي هريرة وحديث زيد بن ثابت فكلها متكلم في أسانيدها ولم تأت بطرق مقبولة بعتمد عليها.

وأما حديث أبي سعيد - الذي عند مسلم " فقد اختلف العلماء في رفعه ووقفه، قال الحافظ: «وَمِنْهُمْ مَنْ أَعَلَّ حَدِيث أَبِي سَعِيد وَقَالَ: الصَّوَاب وَقْفه عَلَى أَبِي سَعِيد، قَالَهُ الْبُخَارِيّ وَغَيْره» (1). وغلط بعض الرُوَاة فجعله عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أورد ابن عبد البر في كتاب " العلم " (2) قريباً من معناه موقوفاً على أبي سعيد من طرق لم يذكر فيها النبي صلى الله عليه وسلم.

وبعد التسليم أنها مرفوعة اختلفوا في توجيهها وأهمها قولان: (3)

1 -

أنَّ أحاديث النهي منسوخة بالأحاديث الأخرى التي تبيح كتابة الأحاديث ويجب ألَاّ ننسى بأنَّ هناك حديث واحد صحيح لا غير الذي ينهى عن كتابة الأحاديث علمًا بأنَّ فيه الاختلاف أيضًا - كما رأينا آنفًا - في رفعه ووقفه.

2 -

أنَّ النهي كان خاصًا بكتابة غير القرآن مع القرآن على ورق واحد خشية الالتباس بينهما (4). وهذا التوجيه الثاني أوجه لإملاء النبي صلى الله عليه وسلم على عدد من الصحابة، ولكتابة الصحابة الأحاديث التي بلغت درجة التواتر وإليك نماذج منها:

1 -

عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن العَاصِ قَالَ: «كُنْتُ أَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ أَسْمَعُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُرِيدُ حِفْظَهُ، فَنَهَتْنِي قُرَيْشٌ وَقَالُوا: أَتَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ تَسْمَعُهُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ

(1)" فتح الباري ": 1/ 185.

(2)

" جامع بيان العلم وفضله ": 1/ 64 [انظر " الأنوار الكاشفة " للشيخ عبد الرحمن المعلمي اليماني: ص 35].

(3)

ذكر السباعي عدة أوجه للتوفيق. انظر " السُنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي ": ص 61.

(4)

" تأويل مختلف الحديث " لابن قتيبة " ص 286 و " دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه " للأعظمي: ص 78، 79.

ص: 118

وَسَلَّمَ بَشَرٌ يَتَكَلَّمُ فِي الْغَضَبِ، وَالرِّضَا، فَأَمْسَكْتُ عَنِ الْكِتَابِ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَوْمَأَ بِأُصْبُعِهِ إِلَى فِيهِ، فَقَالَ:«اكْتُبْ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ إِلَاّ حَقٌّ» (1).

2 -

ويشهد أبو هريرة على كتابته قائلاً: «مَا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحَدٌ أَكْثَرُ مِنِّي حَدِيثًا عَنْهُ إِلَاّ مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ، فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ ، وَلَا أَكْتُبُ» (2).

3 -

لما فتح الله على رسوله صلى الله عليه وسلم مكة قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطب خطبته

فقال أبو شاة - رجل من اليمن -: اكتب لي يا رسول الله، فقال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«اكْتُبُوا لأَبِي شَاهٍ» (3).

4 -

وعن أبي الطفيل قال: سُئِلَ عَلِيٌّ رضي الله عنه هل خَصَّكُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بشيءٍ؟ فقال: مَا خَصَّنَا إِلَاّ مَا كَانَ فِي قِرَابِ سَيْفِي هَذَا فَأَخْرَجَ صَحِيفَةً مَكْتُوبٌ فِيهَا: «لَعَنَ اللَّه مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللَّه» (4).

5 -

وعن رافع بن خديج أَنَهُ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّا نَسْمَعُ مِنْكَ أَشْيَاءَ أَفَنَكْتُبُهَا؟ قال: «اكْتُبُوا وَلَا حَرَجَ» (5).

(1)" مسند أحمد ": 2/ 12 - 192، 207، 215 وأبو داود: 4/ 60، 61 والحاكم: 1/ 106 وزاد عن عمر: «قيِّدُوا الْعِلْمَ بِالْكِتَابِ» " تقييد العلم " بطرق كثيرة: ص 74، 83. " جامع بيان العلم ": 1/ 71. و " سُنن الدارمي ": 1/ 125، 126 وبين القوسين زيادة له.

(2)

روه البخاري: 1/ 206. والدارمي: 1/ 125. " مسند أحمد ": 2/ 248.

(3)

رواه البخاري: 1/ 205 " فتح الباري ". والإمام أحمد: 2/ 262 - 238. " جامع بيان العلم ": 1/ 70. و " تقييد العلم ": ص 86.

(4)

" مسند أحمد ": 1/ 118 - 153.

(5)

[" المعجم الكبير " للطبراني: حديث 4410، 4/ 279. تحقيق حمدي بن عبد المجيد السلفي، نشر مكتبة ابن تيمية - القاهرة، الطبعة الثانية].

ص: 119

وذكرت روايات أخرى في هذا المعنى في المجمع (1).

2 -

قالوا: إنَّ السلف اهتموا بالأسانيد وحبسوا نشاطهم في وزن رجالها ولم يهتموا بالمتون أو يصرفوا جهدًا مذكورًا في تمحيصها .. (2).

قلنا: هذا خطأ فإنَّ الاهتمام بالسند لم يقصد لذاته وإنما قصد منه الحكم على المتن نفسه، ثم إنَّ صحة الحديث لا تجيء من عدالة رُوَاتِهِ فحسب بل أيضًا تجيء من انسجامه مع ما يثبت يقينًا من حقائق الدين الأخرى.

ثم كيف يتفق زعمهم هذا مع ما ذهبوا إليه من الحكم على متن الحديث بالشذوذ والنكارة والاضطراب والتعليل والوضع والاختلاق وما وضعوه من أمارات يستدل بها على الحديث بالوضع.

لقد جعلوا من أمارات الموضوع ركاكة اللفظ بحيث يشهد الخبير بالعربية أَنَّ هذا لن يصدر من فصيح فضلاً عَمَّنْ هو الفصحاء؟ وركاكة المعنى كَأَنْ يكون مشتملاً على محال، واشتمال الحديث على مجازفات ومبالغات لا تصدر من عاقل حكيم والمخالفة للحس والمشاهدة والمخالفة بصريح القرآن أو السُنَّة المتواترة أو الإجماع مع تعذر التأويل المقبول أو غير ذلك مما أفاضت به كتب تاريخ الوضع في الحديث. قال الربيع بن خثيم:«إِنَّ لِلْحَدِيثِ ضَوْءًا كَضَوْءِ النَّهَارِ تَعْرِفُهُ، وَظُلْمَةً كَظُلْمَةِ اللَّيْلِ تُنْكِرُهُ» .

وقال ابن الجوزي: «مَا أَحْسَنَ قَوْلَ القَائِلِ: كُلُّ حَدِيثٍ رَأَيْتَهُ تُخَالِفُهُ العُقُولُ وَتُنَاقِضُهُ الأُُصُولُ وَتُبَايِنُهُ النُقُولُ فَاعْلَمْ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ» (3).

3 -

قالوا: إنَّ عمر أحرق كتب السُنَّة كما روى عنه القاسم بن محمد: «فَأَتَوْهُ بِكُتُبِهِمْ فَأَحْرَقَهَا بِالنَّارِ ، ثُمَّ قَالَ: " أُمْنِيَةٌ كَأُمْنِيَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ "» . (4).

(1)" مجمع الزوائد ": 1/ 151، 152 وانظر " كنز العمال ": 5/ 226.

(2)

" ضُحَى الإسلام ": 2/ 160 و " ليس من الإسلام " للشيخ محمد الغزالي: ص 44.

(3)

" دفاع عن السُنَّة " للشيخ محمد أبي شُهبة: ص 47.

(4)

" تقييد العلم " للخطيب البغدادي: ص 52، 53.

ص: 120

ولم يكتف بهذا بل أرسل إلى الآفاق منشورًا يدعوهم لحرق كتب السُنَّة والتخلص منها، فقد جاء عن عَنْ يَحْيَى بْنِ جَعْدَةَ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ السُّنَّةَ، ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ لَا يَكْتُبَهَا ، ثُمَّ كَتَبَ فِي الأَمْصَارِ «مَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهَا شَيْءٌ فَلْيَمْحُهُ» (1).

والجواب عن هذا: أنَّ رواية القاسم بن محمد عن عمر منقطعة ومن ثم فهي ضعيفة وساقطة عن الاعتبار. ورواية يحيى عن جعدة كذلك منقطعة وساقطة عن الاعتبار (2).

4 -

قالوا: هَدَّدَ بعض المحدثين بالنفي كما قال السائب بن يزيد أنه سمع عمر يقول لأبي هريرة: «لَتَتْرُكَنَّ الحَدِيثَ أَوْ لأُلْحِقَنَّكَ بِأَرْضِ دَوْسٍ» وقال لكعب: «لَتَتْرُكَنَّ الحَدِيثَ [عَنِ الأُوَلِ] أَوْ لأُلْحِقَنَّكَ بِأَرْضِ القِرَدَةِ» (3).

وأجيب على هذا بأنَّ القول المنسوب إلى عمر غير ثابت عنه.

قال المُعَلَّمِي: «ومحمد بن زرعة لم أجد له ترجمة، والمجهول لا تقوم به حُجَّة» (*). وفي الإسناد مشكلات أخرى.

بل الثابت أَنَّ عمر بعث في آخر إمارته أبا هريرة إلى البحرين على القضاء والصلاة، وبطبيعة الحال كان يُحَدِّثُهُمْ ويعلِّمُهُمْ ويُفْتِيهِمْ.

5 -

قالوا: إنَّ عمر ضرب أبا هريرة على كثرة الرواية كما نقل أبو رية [ص 163] وقال له: «قَدْ أَكْثَرْتَ مِنَ الرِوَايَةِ وَاَحْرَ بِكَ أَنْ تَكُونَ كَاذِباً عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم» .

قلنا: هذا كذب وافتراء وَزُورٌ ولم يثبت ضرب عمر لأبي هريرة على رواية الحديث أو على أمر آخر، والخبر مكذوب مختلق وقائلة معتزل شيعي

(1)" تقييد العلم ": ص 53، و " جامع بيان العلم ": 1/ 65.

(2)

" سير أعلام النبلاء ": 2/ 433 و " البداية والنهاية ": 8/ 106.

(3)

" سير أعلام النبلاء ": 2/ 433 و " البداية والنهاية ": 8/ 106.

(*)[بهذه الصيغة ذُكِرَ قول المعلمي اليماني، انظر " الأنوار الكاشفة ": ص 154 طبعة سَنَة: 1402هـ - 1982م. المطبعة السلفية - ومكتبتها. عالم الكتب].

ص: 121

لا يقبل قوله في الصحابة، وعزاها أبو رية إلى " شرح نهج البلاغة " لابن أبي الحديد، وهو من دعاة الاعتزال والرفض والكيد للإسلام، ثم لا يعرف له سند (1).

ومثل هذه الحكايات الطائشة توجد بكثرة عند الرافضة والناصبة والشيعة وغيرهم بما فيها انتقاص لأبي بكر وعمر وعلي وعائشة وإنما يتشبث بها من لا يعقل.

6 -

قالوا: إنَّ عمر حبس ثلاثة: ابن مسعود وأبا الدرداء وأبا ذر.

وعند البعض - وأبا مسعود - مكان أبي ذر. وقال: قد أكثرتم الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا هذا الحديث الذي تحدثون عن محمد» (2).

نعم، هكذا زعموا أنه حبسهم، وهل يعقل من مثل عمر أنْ يحبسهم وهم الأجلَاّء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهل يكفي لحبسهم أنهم أكثروا الرواية، وقد ناقش هذا الإمام ابن حزم وَرَدَّهُ وقال: هذا مرسل ومشكوك فيه من (شيعة) فلا يصح ولا يجوز الاحتجاج به، ثم هو في نفسه ظاهر الكذب والتوليد لأنه لا يخلو عمر من أنْ يكون اِتَّهَمَ الصحابة، وفي هذا ما فيه، أو يكون نهى عن نفس الحديث

ولئن كان سائر الصحابة متهمين بالكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، فما عمر إلَاّ واحد منهم، وهذا قول لا يقوله مسلم أصلاً. ولئن كان حبسهم وهم غير مُتَّهَمِينَ فقد ظلمهم، فليختر المحتج مذهبه هذا الفاسد بمثل هذه الروايات الملعونة أي الطريقتين الخبيثتين شاء ولا بد له من أحدهما

ثم قال: «وقد حدث عن عمر بحديث كثير

وَلَيْسَ فِي الصَّحَابَة أَكثر رِوَايَة مِنْهُ إِلَاّ بضعَة عشر مِنْهُم» (3). ولهذا قال السباعي: «وَقَدْ حَاوَلْتُ أَنْ أَعْثُرَ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ [فِي كِتَابٍ مُعْتَبَرٍ] فَلَمْ أَجِدْهَا، وَدَلَائِلُ الوَضْعِ عَلَيْهَا ظَاهِرَةٌ» (4).

(1)" الأنوار الكاشفة ": ص 152، 153.

(2)

[ذكر المؤلف في الهامش: (" تذكرة الحفاظ ": 1/ 7 و " مجمع الزوائد ": 1/ 149) لكني لم أجد قولة عمر رضي الله عنه في الكتابين المذكورين] انظر: " السُنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي " للدكتور مصطفى السباعي - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -: ص 64، 65.

(3)

" الإحكام " لابن حزم: 2/ 139 وما بعدها.

(4)

" السُنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي " للدكتور مصطفى السباعي: ص 64.

ص: 122

ثم لو سلمنا - جَدَلاً - بصحة الرواية، فهناك خلاف بين المحبوسين، فالذهبي يذكر ابن مسعود وأبا الدرداء وأبا مسعود - بينما يذكر ابن حزم - ابن مسعود وأبا الدرداء وأبا ذر، فهل تكرر الحبس من عمر؟ ولو تكرر لاشتهر، ثم إنَّ خبرًا كهذا يجب أنْ ينتشر في الآفاق من غير أنْ يحتمل الشك في المحبوسين، ولو سلمنا أَنَّ العبرة في الحادثة نفسها فإنَّ هناك صحابة أكثر منهم حديثًا لم يردنا خبر عن حبسهم، فلا يعقل أنْ يحبس بعضًا دون بعض في قضية واحدة. فيحبس هؤلاء ويترك أبا هريرة وهو أكثر حديثًا منهم. فقد روى [5374] حديثًا. هذه يدلك على أنَّ هذه الحادثة فرية وأكذوبة. ولأنَّ ابن مسعود كان من كبار الصحابة وأقدمهم إسلامًا وله مقام كبير في نفس عمر حتى أنه حين أرسله إلى العراق لِيُعَلِّمَ أهلها الدين والأحكام اِمْتَنَّ عليهم بقوله:«وَلَقَدْ آثَرْتُكُمْ بِعَبْدِ الله عَلَى نَفْسِي» .

وأما أبو ذر فمهما نقل عنه من حديث فهو لم يبلغ جزءًا ما رواه أبو هريرة، فَلِمَ يحبسه ولا يحبس أبا هريرة؟ (1).

يتبيَّنُ من هذا أنَّ ما نسب إلى عمر ليس بصحيح، بل مختلق مكذوب، بل على العكس فإنَّ هذه الأخبار على فرض صحتها، لا تدل على عدم اعتداده بالسُنَّة النبوية، بل على أنه كان يريد التثبت لا أكثر.

7 -

قالوا: إنَّ بعض الصحابة - كابن عباس وعائشة - رَدُّوا على أبي هريرة بعض حديثه وَكَذَبُوهُ وَمَثَّلُوا لذلك بحديث «مَنْ حَمَلَ جِنَازَةً فَلْيَتَوَضَّأْ» ، فلم يأخذ ابن عباس بخبره وقال:«لَا يَلْزَمُنَا الوُضُوءُ مِنْ حَمْلِ عِيدَانٍ يَابِسَةٍ» . يريدون من هذا أنْ يثبتوا أَنَّ الصحابة كان يضع بعضهم بعضًا موضع النقد والطعن. وليس فيه دليل على ما زعموا وإنما هو نقاش

(1)" السُنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي ": ص 64، 65 و " السُنَّة قبل التدوين ": ص 109، 110.

ص: 123

علمي محض مبني على اختلاف أنظارهم وتفاوت مراتبهم في الاستنباط والاجتهاد أو على نسيان أحدهم حديثًا وتذكر الآخر له. وليس ذلك ناشئًا عن شك أو ريبة أو تكذيب واحد لآخر.

أما الحديث هذا فليس له أثر بهذا اللفظ - كما قال الشيخ السباعي - في كتب الحديث قاطبة ولا في كتب الفقه - وليس فيها ذكر لهذه الحادثة التي رَوَوْهَا عن ابن عباس على أبي هريرة - ولو ثبت وثبتت الحادثة لما أغفلوا النص عليها.

نعم، ذكرها بعض علماء الأصول منهم - صاحب [" مُسَلَّم الثبوت "]- وهؤلاء القوم بتساهلون - بعضهم - في ذكر الأحاديث التي ليس لها أصل أو لها أصل من طريق ضعيف لأنَّ الحديث ليس من اختصاصهم، وعلى كل حال فإنَّ كتبهم ليست مرجعًا في علم الحديث ولا يرجع إليها فيه.

واللفظ الموجود لهذا الحديث في كتب الحديث هو «مِنْ غُسْلِهِ الْغُسْلُ وَمِنْ حَمْلِهِ الْوُضُوءُ» (1).

ثم إنَّ أبا هريرة لم ينفرد بهذا الحديث، بل رواه عَلِيٌّ وعائشة ورواه أبو هريرة مرفوعًا وموقوفًا.

ثم على فرض صحة الواقعة وثبوت رَدِّ ابن عباس لأبي هريرة فليس معناه التكذيب ولا الطعن بل هو خلاف في فهم الحديث وفقهه، فأبو هريرة يوجب الوضوء من الجنازة عملاً بظاهر الحديث وابن عباس يرى الوجوب غير مراد من الحديث بل هو محمول على الندب (2).

8 -

قالوا: إنَّ أبا هريرة لم يكن يكتب الحديث، بل كان يعتمد في روايته على ذاكرته (3).

(1) رواه الترمذي وابن ماجه.

(2)

" السُنَّة ومكانتها ": ص 300.

(3)

" فجر الإسلام " لأحمد أمين: ص 268.

ص: 124

قلنا هذا شيء لم ينفرد به أبو هريرة وإنما صنيع كل من روى الحديث من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عدا - عبد الله بن عمرو - فقد كانت له صحيفة يكتب فيها. وهذا شيء يعترفون به كما قال أحمد أمين: «وعلى كل حال مضى العصر الأول ولم يكن تدوين الحديث شائعًا إنما كانوا يَرْوُونَهُ شفاهًا وحفظًا، ومن كان يُدَوِّنُ فإنما كان يُدَوِّنُ لنفسه» (1).

إذًا فما وجه تخصيص أبي هريرة بهذا؟ وما الفائدة من ذكره وهو معلوم في أحاديث أبي هريرة، فما دام الرجل لم يكتب الحديث وما دام لم يرو عن ذاكرته فقط، وما دامت الذاكرة قد تخطئ وتخون فنحن في شك من صحة أحاديثه (2).

سبحان الله! هل هذا مأخذ على أبي هريرة؟ فهل غفل الأستاذ عن ثناء الصحابة عليه في حفظه وصدقه وزُهده وورعه، بل هل غفل أو تغافل عن دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم بالحفظ؟.

هل جهل الأستاذ أنَّ العلماء من يفضل الأخذ عن الذي يُحَدِّثُ من حفظه إذا كان مثبتًا صدوقًا عن الأخذ عن الذي يُحَدِّثُ من كتاب غيره، حتى لقد قال علماء الأصول: إذا تعارض حديثان أحدهما مسموع والآخر والآخر مكتوب كان المسموع أولى وأرجح، ومن هنا كره فريق من العلماء من الصحابة والتابعين كتابة الحديث كيلا يَتَّكِلُوا على الكتابة وحدهافتضعف ملكة الحفظ.

أخرج ابن عبد البر عن الأوزاعي: «كَانَ هَذَا الْعِلْمُ شَيْئًا شَرِيفًا إِذْ كَانَ مِنْ أَفْوَاهِ الرِّجَالِ يَتَنَاقَلُونَهُ وَيَتَذَاكَرُونَهُ، فَلَمَّا صَارَ فِي الْكُتُبِ ذَهَبَ نُورُهُ وَصَارَ إِلَى غَيْرِ [أَهْلِهِ]» (3).

(1)" فجر الإسلام ": ص 272.

(2)

" السُنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي ": ص 304.

(3)

" السُنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي ": ص 305. [انظر " جامع بيان العلم وفضله "، تحقيق: أبي الأشبال الزهيري، الطبعة: الأولى 1414 هـ - 1994 م، نشر دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية].

ص: 125

9 -

قال الأستاذ أحمد أمين: «إنَّ أبا هريرة لم يكن يقتصر على ما سمع من الرسول صلى الله عليه وسلم. بل كان يُحَدِّثُ عنه بما سمعه من غيره، فقد رُوِيَ أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا، فَلَا صَوْمَ لَهُ " فأنكرت ذلك عَائِشَةُ رضي الله عنها وَقَالَتْ: " كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُدْرِكُهُ الْفَجْرُ فِي رَمَضَانَ وَهُوَ جُنُبٌ مِنْ غَيْرِ احْتِلَامٍ فَيَغْتَسِلُ وَيَصُومُ " فلما ذُكِرَ ذلك لأبي هريرة قال: " إِنَّهَا أَعْلَمُ مِنِّي وَإِنِّي لَمْ أَسْمَعْ مِنَ النَّبِيِّ بَلْ سَمِعْتُهُ مِنَ الفَضْلِ بْن العَبَّاسِ» (1).

الجواب على ذلك:

أولاً: إنَّ إسناد أبي هريرة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ما لم يسمعه منه شيء لم ينفرد به أبو هريرة بل شاركه فيه صغار الصحابة، ومن تأخَّر إسلامه فعائشة وأنس والبراء وابن عباس وابن عمر، هؤلاء وأمثالهم أسندوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ما سمعوه من صحابته عنه وذلك لما ثبت عندهم من عدالة الصحابي وصدقه، فقد روى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«مَنْ صَلَّى عَلَى جَنَازَةٍ فَلَهُ قِيرَاطٌ» . وأسنده إلى أبي هريرة.

وقد قال أنس رضي الله عنه: «مَا كُلُّ مَا نُحَدِّثُكُمْ بِهِ سَمِعْنِاهُ مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، [وَلَكِنْ كَانَ يُحَدِّثُ بَعْضُنَا بَعْضًا، وَلَا يَتَّهِمُ بَعْضُنَا بَعْضًا]» .

وقال البراء: «مَا كُلُّ الْحَدِيثِ سَمِعْنَاهُ مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، كَانَ يُحَدِّثُنَا أَصْحَابُنَا عَنْهُ، كَانَتْ تَشْغَلُنَا عَنْهُ رَعِيَّةُ الإِبِلِ» . وهذا ما يُسَمَّى عند العلماء بمرسل الصحابي وقد أجمعوا

(1)" فجر الإسلام ": ص 269.

ص: 126

على الاحتجاج به وأنَّ حكمه حكم المرفوع وأنَّ الجهالة بالصحابي غير قادحة لأنَّ الصحابة كلهم عدول، قال الإمام النووي بعد ذكر الخلاف في حُجِيَّة المرسل: «هَذَا كُلُّهُ فِي غَيْرِ مُرْسَلِ الصَّحَابِيِّ أَمَّا مرسل الصحابي كاخباره عن شَيْءٍ فَعَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَوْ نَحْوِهِ مِمَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَحْضُرْهُ لِصِغَرِ سِنِّهِ أَوْ لِتَأَخُّرِ إسْلَامِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَالْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا وَجَمَاهِيرُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ حُجَّةٌ

» ثم قال: «وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " وَ " مُسْلِمٍ " مِنْ هَذَا مَا لا يحصى.

وقال الاستاذ أبو إسحاق الاسفراينى مِنْ أَصْحَابِنَا: " لَا يُحْتَجُّ بِهِ بَلْ حُكْمُهُ حُكْمُ مُرْسَلِ غَيْرِهِ إلَاّ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّهُ لَا يُرْسِلُ إلَاّ مَا سَمِعَهُ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْ صَحَابِيٍّ، [قَالَ]: لأنهم قَدْ يَرْوُونَ عَنْ غَيْرِ صَحَابِيٍّ "»، ثم قال النووي:«وَالصَّوَابُ الأَوَّلُ وَأَنَّهُ يُحْتَجُّ بِهِ مُطْلَقًا لأَنَّ رِوَايَتَهُمْ عَنْ غَيْرِ الصَّحَابِيِّ [نَادِرَةٌ] وَإِذَا رَوَوْهَا بَيَّنُوهَا فَإِذَا أَطْلَقُوا ذَلِكَ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عَنْ [الصَّحَابَةِ] وَالصَّحَابَةُ كُلُّهُمْ عُدُولٌ» (1).

ثانيًا: إنَّ كُتُبَ الحديث لم تذكر إنكار عائشة على أبي هريرة ولكنها ذكرت المسألة على أنَّ أبا هريرة استفتى في صوم من أصبح جُنُبًا فأفتى بأنه لا صوم له، فاستفتيت عائشة وأم سلمة في المسألة نفسها فكلتاهما أفتت بصحة صومه، وقالت:«كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصْبِحُ جُنُبًا ثُمَّ يَصُومُ [ذَلِكَ الْيَوْمَ]» فلما قيل ذلك لأبي هريرة رجع عن فتواه وقال: «هُمَا أَعْلَمُ مِنِّي» ، فالواقعة واقعة فتوى أفتى فيها كل بما علمه وصح عنده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس فيها إنكار عائشة ولا رَدَّها عليه (2).

ثم لو سلمنا بثبوت الإنكار عنها فليس معناه تكذيب أبي هريرة فيما روى بل معناه أنها لا تعرف هذا الحكم، وإنما تعرف خلافه فيكون من الاستدراكات

(1)" المجموع " للنووي: 1/ 62.

(2)

" السُنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي ": ص 308.

ص: 127

التي استدركتها عائشة أم المؤمنين على كبار الصحابة وما زال الصحابة يستدركون بعضهم على بعض لا يرون ذلك تكذيبًا بل تصحيحًا للعلم وأداء للأمانة على ما يعرفها الصحابي (1).

10 -

زعموا أنَّ الصحابة قد أكثروا من نقد أبي هريرة على إكثاره من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وَشَكُّوا فيه.

هذا زعم كل من الأستاذ أحمد أمين والمستشرق جولدتسيهر.

من المعلوم أنَّ أبا هريرة كان من المكثرين في التحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرغم من تأخر إسلامه لكثرة ملازمته للرسول صلى الله عليه وسلم حتى كان يدور معه حيث دار، فلما توفي الرسول صلى الله عليه وسلم كما كان يفعل صغار الصحابة.

يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: «إِنَّكُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يُكْثِرُ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَاللَّهُ الْمَوْعِدُ، إِنِّي كُنْتُ رَجُلاً مِسْكِينًا، أخدُم رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مِلْءِ بَطْنِي، وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ يَشْغَلُهُمُ الصَّفْقُ بِالأَسْوَاقِ، وَكَانَتِ الأَنْصَارُ يَشْغَلُهُمُ الْقِيَامُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ» وفي حديث آخر «وَكُنْتُ أَلْزَمُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مِلْءِ بَطْنِي فَأَشْهَدُ إِذَا غَابُوا وَأَحْفَظُ إِذَا نَسُوا» (2).

11 -

قال صاحب " فجر الإسلام ": «والحنفية يتركون حديثه - يعني حديث أبي هريرة - أحياناً إذا عارض القياس كما فعلوا في حديث [المُصَرَّاةِ] (*)» (3).

(1)" السُنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي ": ص 209. وذكر السباعي وجوهًا أخرى للتوفيق بين الروايتين، فانظرها.

(2)

" السُنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي ": حيث الرد المفصل ص 209.

(*) [ورد في المطبوع من الكتاب (المعراة) وهو خطأ وإنما هي (المُصَرَّاةِ). هي التي يترك حلبها أياماً ليجتمع اللبن في ضرعها فيتوهم المشتري أنها تدُرُّ هذا القدر من اللبن كل يوم.

(3)

" فجر الإسلام ": ص 269.

ص: 128

يزعم المؤلفان أنَّ الحنفية يقدمون القياس على الخبر إذا عارضه، والحنفية لم يقولوا بتقديم القياس على الحديث بل الإمام وصاحباه وجمهرة من أتباعه على أنَّ الخبر مُقَدَّمٌ على القياس مطلقًا وإنْ كان ضعيفًا، وذكر ابن حزم الإجماع على أنَّ مذهب أبي حنيفة: أنَّ ضعيف الحديث أولى عنده من الرأي والقياس إذا لم يجد في الباب غيره (1) وهو مذهب الجمهور.

وذهب فخر الإسلام واختاره ابن أبان وأبو زيد وهم من الحنفية، إلى أَنَّ الراوي إذا كان فقيهًا قدم خبره على القياس مطلقًا. وإِنْ كان غير فقيه قدم خبره على القياس أيضًا إِلَاّ إذا خالف جميع الأقيسة وانسد باب الرأي بالكلية، ومثلوا لذلك بحديث [المُصَرَّاةِ].

ثم يظهر من ظاهر قول [المُؤَلِّفَيْنِ] هذا الموقف من تقديم القياس على الخبر خاص بأبي هريرة - عند القائلين به - وليس بصحيح، بل هم يُعَمِّمُونَ في كل رَاوٍ غير فقيه، إذًا فما وجه تخصيص أبي هريرة بالذكر؟ إلَاّ شيء في نفس المؤلف على أبي هريرة.

وأما ما نقله عن الحنفية من قولهم بعدم فقاهة أبي هريرة فغير صحيح، إذ لم يقل بذلك منهم إلَاّ فخر الإسلام وصاحباهُ، وجمهور الحنفية على خلافهم والتشنيع على مقالتهم تلك (2)، وجمهور الحنفية على أنَّ أبا هريرة فقيه، قال الكمال [بن] الهُمَام:«وَأَبُو هُرَيْرَةَ فَقِيهٌ» .

نعم إِنَّ الحنفية مع كونهم يُقَدِّمون الخبر على القياس إذا تعارضا، فقد

(1) انظر " الأجوبة الفاضلة " للكنوي: ص 49، وقال ابن القيم في " أعلام الموقعين ": 1/ 77: «وأصحاب أبي حنيفة مُجْمِعُونَ على أنَّ مذهب أبي حنيفة أَنَّ ضعيف الحديث عنده أولى من القياس والرأي وعلى هذا بنى مذهبه

».

(2)

انظر " السُنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي " حيث قد أفاض الدكتور السباعي في الرَدِّ على مزاعم الأستاذ أحمد أمين بالتفصيل. ص 298 وما بعدها وانظر " دفاع عن السُنَّة " الدكتور محمد أبو شُهبة: ص 145.

ص: 129

تركوا خبر أبي هريرة هنا - لا لخصوص أبي هريرة - كما يزعم المؤلف، ولا خروجًا عن قاعدتهم بل يناء على قاعدة مُسَلَّمٌ بها عندهم وعند جميع العلماء أنَّ الخبر إذا عارض الكتاب والسُنَّة والإجماع لم يعمل به، لأنَّ القاعدة في الترجيح عند تعارض الأدلة أنْ يصار إلى الأقوى ولا شك أنَّ ما دَلَّ عليه الكتاب والسُنَّة بمجموعها والإجماع أقوى مِمَّا دَلَّ عليه خبر الآحاد، وهذا الخبر قد عارض عندهم الكتاب والسُنَّة والإجماع فلا يعمل به، ثم سلكوا في الجواب عنه مسالك مختلفة أقربها أنه منسوخ.

وَأَيًّا كان الأمر فليس في مسلك الحنفية هنا ما يعود بالطعن على أبي هريرة.

12 -

قال: «وَالوُضّاع قد استغلوا فرصة إكثاره فزوَّرُوا عليه أحاديث لَا تُعَدُّ» (1).

نقول: إنَّ هذا شيء لم يُخَصَّ به أبو هريرة بل إِنَّ عَلِيًّا وعمر وعائشة وابن عباس وغيرهم قد كُذِبَ عليهم، إذًا فما وجه تخصيص أبي هريرة بالذكر إِلَاّ أنَّ الأستاذ يريد التشكيك في مرويات أبي هريرة كلها كما صَرَّحَ قبل ذلك بقوله:«كل هذه الظروف تجعلنا نقف من أحاديث أبي هريرة موقف الحذر والشك» ، بهذا يُنْهِي الأستاذ حديثه عن أبي هريرة كما أنهى سلفه - جولدتسيهر - بحثه في أبي هريرة حيث يقول:«إنَّ كثيرًا من الأحاديث التي نسبها الرُواة إليه قد نُحِلَتْ عليه في عصر متأخر» (2).

وهكذ يحمل مؤلف " فجر الإسلام " حملات مُنْكَرَةٍ بأسلوب لطيف على هذا الصحابي الجليل من غير تَثَبُّتٍ ولا تحقق أو مُتعمدًا ليحقق فكرة خبيثة في ذهن مستشرق ومغلوب على هواه لِيُشَوِّهَ بها سيرة عظمائنا الذين نقلوا إلينا هذا الشرع وحفظوه، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

(1)" فجر الإسلام ": ص 270.

(2)

" دائرة المعارف الإسلامية ": 2/ 25 - 27.

ص: 130

13 -

يزعمون أَنَّ السُنَّة لما دخلها من الوضع ورواية بالمعنة لم تعد مَحَلاًّ للثقة والاعتماد، يقول أبو رية [ص 8] أنه بعد أنْ لبث زمنًا طويلاً يبحث ويُنَقِّبُ بعد أَنْ أخذ نفسه بالصبر والأناة، انتهى إلى حقائق عجيبة ونتائج خطيرة: «ذلك أني وجدت أنه لا يكاد يوجد في كتب الحديث (كلها) - مِمَّا سَمَّوْهُ صحيحًا أو ما جعلوه حسنًا - حديث قد جاء على حقيقة لفظه ومُحْكَمِ تركيبه كما نطق به الرسول

وقد يوجد بعض ألفاظ مفردة بقيت على حقيقتها في بعض الأحاديث القصيرة، وذلك في القلة والندرة، وَتَبَيَّنَ لي أنَّ ما يسمُّونه في اصطلاحهم حديثًا صحيحًا إنما كانت صِحَّتُهُ في نظر رُوَّاتِهِ لَا أَنَّهُ صَحِيحٌ في ذاته».

إنه يريد أنْ يُفْهِمَ القارئَ أنَّ السُنَّة لم يأت فيها حديث على مُحْكَمٍ لفظه وأصل تركيبه، وأنها قد دخلها الكثير من التغيير والتحريف والتبديل وأنَّ رواية الحديث بالمعنى هو الأصل والقاعدة ومجيئها على اللفظ النبوي أمر شاذ ونادر

الخ.

«ونحن لا نقول: إِنَّ الأحاديث كلها رُوِيَتْ بألفاظها، وكيف وقد ثبت أنَّ القصة الواحدة أو الواقعة رُوِيَتْ بألفاظ مختلفة وإنْ كان المعنى واحداً؟ ولا نقول: إنَّ الأحاديث كلها رُوِيَتْ بالمعنى - كما زعم - وكيف ومن الأحاديث ما اتفقت الروايات على لفظها؟ أفلا يدل اتفاق الروايات على اللفظ أنَّ هذا حقيقة اللفظ المسموع من الرسول صلى الله عليه وسلم؟ ومن الأحاديث ما لا يشك متذوق للبلاغة أنها من كلام أفصح العرب، وأنها لن تخرج إِلَاّ من مشكاة النبوَّة» (1).

وبعد هذا يعلم أنَّ الرواية بالمعنى قد منعها كثير من العلماء كما أجازها بعض الآخرين لمن كان عارفًا بالألفاظ والأساليب خبيرًا بمدلولاتها والفروق

(1) انظر " دفاع عن السُنَّة " الدكتور محمد أبو شُهبة: ص 52.

ص: 131

الدقيقة بينها على أنْ تكون بقدر الحاجة إليها لا أنها أصل يتبع ويلتزم في الرواية وأنَّ الرواية بالمعنى ممنوعة باتفاق في الأحاديث المعتبر بلفظها كالأذكار والأدعية وجوامع كلمه صلى الله عليه وسلم.

إنَّ الذين نقلوا الأحاديث من الصحابة ومن بعدهم من ثقات الرواة كان لهم من الخصائص الدينية والنفسية والخُلُقِيَّةِ ما يعصمهم من التغيير والتبديل والتساهل في الرواية، وإنكار ذلكر مكابرة.

وأما ما ادَّعَاهُ من أنه يَتَبَيَّنُ له أنَّ ما سَمَّوْهُ صحيحًا إنما هو في نظر رواته لا أنه صحيح في ذاته، فشيء سبق به من ألف سَنَةٍ أو تزيد، فقد قال أئمة الحديث (1) إنَّ الحكم على الحديث بالصحة أو الحسن أو عدم تحققها. وليس المراد أنه صحيح أو حسن أو ضعيف في الواقع ونفس الأمر، إذ لا يعلم ذلك يقينًا إلَاّ عَلَاّمُ الغيوب وأنه يجوز عقلاً أنْ يكذب الصادق ويصدق الكذوب به، وهذا التجويز العقلي دعاهم إليه التعمق في البحث والتأنِّي في النظر والتثبت في الحكم وبلوغ الغاية في النصفة» (2).

14 -

قالوا: «إنهم أباحوا للناس أنْ يَرْوُوهَا - السُنَّة - عنهم بالمعنى على حسب ما فهموه» ، قاله الدكتور توفيق صدقي (3).

ونقول له: إنَّ جواز رواية الحديث بحسب ما يؤدِّيه الفهم، لا نسمعه إلَاّ منك فإنَّ المقرر المعروف أنَّ فهم الحديث في ذاته تابع لروايته لا أنَّ روايته تابعة لفهمه، وأما رواية الحديث بمعناه - إذا غاب عن الراوي لفظه - فجائز لأنَّ المراد منه حكمه لا التحدي بلفظه، ولأنَّ القرآن مُتَعَبَّدٌ بلفظه وليست السُنَّةُ كذلك، إذًا فلا بأس بروايته بمعناه.

(1) انظر " قواعد في علوم الحديث " ظفر أحمد العثماني التهانوي: ص 49 - 56.

(2)

" دفاع عن السُنَّة ": ص 54.

(3)

انظر " مجلة المنار ": 9/ 913.

ص: 132

15 -

وقال الدكتور توفيق - أيضًا -: «إنَّ ولوع المتقدمين بجمع روايات الحديث مدعاة إلى وقوع التضارب والاختلاف فيها» .

قلنا بالعكس بل هو ادَّعَى إلى حفظها وصيانتها لأنَّ من وقف على قراءة شيء من أخبار اولئك الأخيار العدول الذين انقضت أعمارهم في هذا السبيل، إذ كان يمشي الواحد منهم الشهر والشهرين والأكثر متنقلاً بين الأقطار والمدن لطلب الحديث الواحد، قال سعيد بن المسيب:«كُنْتُ أَرْحَلُ الأَيَّامَ وَاللَّيَالِي فِي طَلَبِ الحَدِيثِ الوَاحِدِ» .

مع العلم أنَّ ولوع المتقدمين بجمع الروايات ورواية الحديث الواحد بطرق متعددة وبأسانيد مختلفة أكبر مدافع لدعوى التضارب والاختلاف فيها.

16 -

قالوا: كيف نقبل الأحاديث ونعتبرها صحيحة وقد بلغ عددها أكثر من سبعمائة ألف، ألم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم شغل شاغل إلَاّ الكلام فقط؟.

وأضاف بعضهم: إنَّ الأحاديث الموجودة بين أيدينا لا تصل إلى مائة ألف، فأين بقية الرصيد المُدَّعَى؟.

أما الأستاذ أحمد أمين فاتخذ من كثرة الحديث دليلاً على كثرة الوضع حيث قال: «

وأن البخاري وكتابه يشتمل على سبعة آلاف حديث منها نحو ثلاثة آلاف مُكَرَّرَةٌ، قالوا: إنه اختارها وصَحَّتْ عنده من ستمائة ألف حديث كانت متداولة في عصره» (1).

نحن لا ننكر كثرة الحديث ولكن يجب أنْ يعلم تحديد المراد من كلمة الحديث وتفريق العلماء بين الحديث والخبر والأثر.

(1)" فجر الإسلام ": ص 529.

ص: 133

فقد قال جماعة: إنَّ الحديث ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيختص بالمرفوع عند الإطلاق ولا يراد به الوقوف إلَاّ بقرينة.

أما الخبر فإنه أعم من أنْ يطلق على المرفوع والموقوف فيشمل ما أضيف إلى الصحابة والتابعين وعليه يُسَمَّى كل حديث خبرًا، ولا يُسَمَّى كل خبر حديثًا.

أما الأثر: فإنه مرادف للخبر، فيطلق على المرفوع والموقوف.

وفقهاء خراسان يسمون الوقوف بالأثر، والمرفوع بالخبر.

فإذا عرف تحديد المراد بالحديث والخبر والأثر سهل علينا أنْ نفهم معنى لهذه الكثرة الهائلة، فهي شاملة لما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولأقوال الصحابة والتابعين، كما يشمل طرق الحديث الواحد، فقد يروي المُحَدِّثُ الحديث الواقع من طرق مختلفة بجمع طرقه من رُواته، فقد يبلغ أحيانًا عشرة طرق فيعدها عشرة أحاديث وهي ليست إلَاّ حديثًا واحدًا، وقد كان إبراهيم بن سعيد الجوهري يقول:«كُلُّ حَدِيثٍ لَمْ يَكُنْ عِنْدِي مِنْ مِائَةِ وَجْهٍ فَأَنَا فِيهَ يَتِيمٌ» .

وبهذا إذا جمعت أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته إلى أقوال الصحابة والتابعين، وجمعت طرق كل حديث لا يستغرب ولا يستبعد أنْ يبلغ ذلك كله مئات الألوف بهذا المعنى.

وبهذا تفهم معنى قول بعضهم: «فلان كان يحفظ سبعمائة ألف حديث» . أي من أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين مع طرق كل قول.

ص: 134