الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث: السُنَّة والأستاذ أحمد أمين:
(*)
من المؤسف حقًا أنْ ينخدع ببحوث المستشرقين وخاصة جولدتسيهر فريق من الكُتَّاب المسلمين المعاصرين الذين تتلمذوا على المستشرقين وهو هجوم لا يبدو واضحًا كما بدت آراء المستشرقين من قبل، بل مقنعًا بستار العلم والبحث والتحقيق العلمي. وكان من أشهر الكُتَّاب الذين سلكوا هذا المسلك الأستاذ أحمد أمين في كتابيه " فجر الإسلام " و " ضُحاه " حين تعرض للكتابة عن الحديث وتدوينه فمزج السم بالدسم وخلط الحق بالباطل وهو في الحقيقة ردَّد لما كتبه جولدتسيهر إلَاّ أنه كان لبقًا وأشد تحرزًا حيث أنه بث السموم في أسلوب هادئ وحاول أنْ يصل إلى غايته من غير أنْ يثير ثائرة الجمهور عليه.
وأفرد الأستاذ في كتابه " فجر الإسلام " فصلاً خاصًا بالحديث حاول فيه أنْ يؤرِّخَ السُنَّةَ وتدوينها فبيَّن معنى السُنَّة وقيمتها التشريعية، ثم ذكر أنَّ السُنَّة لم تُدَوَّنْ في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم بل كان بعض الصحابة يكتبون لأنفسهم فقط. ثم تعرض للوضع في الحديث واستظهر أنَّ الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم بدأ في وقت مُبَكِّرٍ وأشار إلى أنَّ دخول
(*) كاتب وأديب معروف، خِرِّيج القضاء الشرعي وعميد كلية الآداب سابقًا ومؤلف " فجر الإسلام " و " ضُحَاهُ " و " ظُهْرُهُ ". إلَاّ أنه كان من دهائه ولباقته يَدُسُّ السُمَّ في الدسم في كتاباته ضد الإسلام والسُنَّة النبوية مسايرة لأهواء سادته المستشرقين المغرضين الحاقدين على الإسلام والمسلمين. انظر " السُنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي " للسباعي: ص 236 وما بعدها.
الشعوب في الإسلام كان له أثر كبير في الوضع الذي بلغ في الكثرة بعد أنْ اختار الإمام البخاري " صحيحه " من ستمائة ألف حديث كانت شائعة في عصره. ثم ذكر أهم الأمور التي حملت على الوضع وذكر منها تغالي الناس في أغراضهم عن العلم إلَاّ ما اتصل بالكتاب والسُنَّة اتصالاً وثيقًا، وانتهى من ذلك إلى بيان جهود العلماء في مكافحة الوضع وذكر ما يؤخذ عليهم من أنهم لم يعنوا بنقد المتن عُشْرَ ما عنوا بنقد السند ثم تكلموا عن أبي هريرة فقال: إنه لم يكن يكتب بل كان يُحَدِّثُ من ذاكرته وأنَّ بعض الصحابة شَكُّوا في حديثه وبالغوا في نقده ثم ختم هذا الفصل بالأدوار التي مَرَّ بها تدوين السُنَّة حتى عصر البخاري ومسلم وغيرهما من أصحاب الكتب الستة. هذا خلاصة ما كتبه الأستاذ عن السُنَّة.
وتعرَّضت لبعض آرائه بالنقد في أماكن مختلفة من بحثي هذا وأضيف على البعض ما يلي:
يقول الأستاذ متكلمًا عن نشأة الوضع: «ويظهر أنَّ الوضع حدث في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، فحديث " مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ " (1) يغلب على الظن أنه إنما قيل لحادثة زَوَّرَ فيها على الرسول (2) صلى الله عليه وسلم» .
وهذا الذي زعمه الأستاذ لا سند له في التاريخ الثابت ولا في سبب الحديث المذكور. أما التاريخ فلم يحدثنا أنَّ أحدًا في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ممن أسلم وصحبه زَوَّرَ عليه كلامًا ورواه على أنه حديثه عليه السلام ولو وقع مثل هذا لتوفر الصحابة على نقله لشناعته وفظاعته، كيف وقد كان حرصهم شديدًا على أنْ ينقلوا لنا كل ما يتصل به صلى الله عليه وسلم حتى ما يتعلق بحياته العادية.
(1) سيأتي تخريجه في ص 169.
(2)
" فجر الإسلام ": ص 258.
وأما الحديث المذكور فقد اتَّفَقَتْ كتب السُنَّة المعتمدة على أنَّ الرسول إنما قاله حين أمرهم بتبليغ حديثه إلى من بعدهم فقد أخرج البخاري في (باب ما ذكر عن بني إسرائيل) من طريق عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» ورواه مسلم من طريق أبي سعيد
…
وظاهر من هذه الرواية أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم وقد علم أنّض الإسلام سينتشر وسيدخل فيه أقوام من أجناس مختلفة، نَبَّهَ بصورة قاطعة على وجوب التحري في الحديث عنه وتجنُّب الكذب عليه بما لم يقله وَوَجَّهَ الخطاب في ذلك إلى صحابته لأنهم هم المُبَلِّغُونَ إلى أُمَّتِهِ من بعده وهم شهداء نُبُوَّتِهِ ورسالته وليس في هذه الرواية وغيرها إشارة قط إلى أنَّ هذا الحديث إنما قيل لوقوع تزوير على النبي صلى الله عليه وسلم (1).
وقد ذكر السباعي أسبابًا غير ما ذكرته الرواية السابقة (2) وقال في ص 529: «وحسبك دليلا على مقدار الوضع أن أحاديث التفسير التي ذكر عن أحمد بن حنبل أنه قال: «لم يصح عنده منها شيء» ، قد جمع فيها آلاف الأحاديث، وأن البخاري وكتابه يشتمل على سبعة آلاف حديث منها نحو ثلاثة آلاف مكررة، قالوا: إنه اختارها وصَحَّتْ عنده من ستمائة ألف حديث كانت متداولة في عصره».
إنَّ كثرة الوضع في الحديث مِمَّا لاينكره أحد، ولكن المؤلف أراد أنْ يستدل على مقدار الوضع بأحاديث التفسير، وأحاديث " البخاري ". وظاهر كلامه أنه يُشكِّكُ في أحاديث التفسير كلها إذ ينقل عن الإمام أحمد أنه قال:«لم يصح منها شيء» . والإمام أحمد لا تخفى مكانته في السُنَّة فإذا قال في أحاديث التفسير:
(1) اقتباس من " السُنَّة ومكانتها ": ص 238، 239.
(2)
اقتباس من " السُنَّة ومكانتها ": ص 240، 241.
لم يصح منها شيء كان كل ما رُوِيَ فيها مشكوكًا بصحته إِنْ لم يحكم عليه بالوضع هذا نتيجة منطقية لظاهر كلام الأستاذ.
أما أحاديث التفسير فلا يخفى على كل من طالع كتب السُنَّةِ أنها أثبتت شيئًا كثيرًا منها بطرق صحيحة لا غبار عليها وما من كتاب في السُنَّةِ إلَاّ وقد أفرد فيه مؤلفه بَابًا خَاصًّا لما ورد في التفسير عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو الصحابة أو التابعين.
وأما ما نقله الأستاذ عن الإمام أحمد في أحاديث التفسير فهو يشير إلى ما رُوِيَ من قوله: «ثَلَاثَةُ لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ: التَفْسِيرُ، وَالمَلَاحِمُ وَالمَغَازِي» والكلام عن هذه العبارة من وجوه.
أولاً: إنَّ في النفس من صحتها شيئًا لأنَّ الإمام أحمد نفسه قد ذكر في " مسنده " أحاديث كثيرة في التفسير، فكيف يعقل أنْ يُخْرِجَ هذه الأحاديث ويثبتها عن شيوخه في " مسنده " ثم يحكم بأنه لم يَصِحَّ في التفسير شيء.
ثانيًا: إِنَّ نفي الصِحَّة لا يستلزم الوضع أو الضعف، وقد عرف عن الإمام أحمد خاصة في نفي الصحة عن أحاديث وهي مقبولة. وقالوا في تأويل ذلك أَنَّ هذا الاصطلاح خاص به (1).
ثالثًا: الإمام لم يقل: إنه لم يصح في التفسير شيء وإنما قال: «ثَلَاثَةُ لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ
…
»، والظاهر أَنَّ مراده نفي كتب خاصة بهذه العلوم الثلاثة بدليل ما جاء في الرواية الثانية مُصَرِّحًا به «ثَلَاثَةُ كُتُبٍ» وهذ المعنى هو ما فهمه الخطيب البغدادي حيث قال: «إِنَّ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى كُتُبٍ مَخْصُوصَةٍ فِي هَذِهِ المَعَانِي الثَلَاثَةِ
…
» (2).
(1) انظر " الرفع والتكميل في الجرح والتعديل " للكهنوي، بتحقيق الشيخ عبد الفتاح أبو غدة: ص 86.
(2)
اقتباس من " السُنَّة ومكانتها ": ص 243، 244 وانظر ما بعدها.
وأما زعمه أَنَّ البخاري قد انتقى أحاديث صحيحة من ستمائة ألف حديث فسيأتي الحديث عنه في باب (اعتراضات منكري السُنَّةِ).
وعندما تعرض المؤلف لعدالة الصحابة قال: (1)«وأكثر هؤلاء النُقَّادُ عَدَّلُوا الصحابة كلهم إجمالاً وتفصيلاً، فلم يتعرَّضوا لأحد منهم بسوء ولم ينسبوا لأحد منهم كَذِبًا وقليل منهم من أجرى على الصحابة ما أجرى على غيرهم» .
إِنَّ مما اتفق عليه الجماهير قاطبة من أهل السُنَّة والجماعة ونُقَّادِ الحديث تعديل الصحابة وتنزيههم عن الكذب والوضع وَشَذَّ عن ذلك الخوارج والمعتزلة والشيعة أصحاب الأهواء والميول المعروفة.
ولكن المؤلف - لغرض في نفسه - يُشَكِّكُنَا في هذه الحقيقة فَادَّعَى أولاً أَنَّ أكثر النُقَّادِ عَدَّلُوا الصحابة مع أَنَّ النُقَّادَ جميعًا عَدَّلُوهُمْ وعدالتهم محل إجماع بينهم ثم يزعم أَنَّ قليلاً منهم أجرى على الصحابة ما أجرى على غيرهم مع أَّنَّ الذين تكلموا في الصحابة ليسوا من نُقَّادِ الحديث بل من أصحاب الأهواء والميول المعروفة بالتعصب لبعض الصحابة على بعض الآخر.
قال الحافظ الذهبي: قال الحافظ الذهبي: «فأما الصحابة رضي الله عنهم فبساطهم مطوي وإن جرى ما جرى
…
إذ على عدالتهم وقبول ما نقلوه العمل، وبه ندين الله تعالى» (2).
وقال الحافظ ابن كثير: «وَالصَحَابَةُ كُلُّهُمْ عُدُولٌ عِنْدَ أَهْلِ السُنَّةِ وَالجَمَاعَةِ» ، ثم قال:«وَقَوْلِ المُعْتَزِلَةِ: الصَحَابَةُ عُدُولٌ إِلَاّ مَنْ قَاتَلَ عَلِيًّا قَوْلٌ بَاطِلٌ [مَرْذُولٌ] وَمَرْدُودٌ» (3)
وهكذا ذهبت مزاعم الأستاذ هباء وصان الله صحابة رسوله عليه السلام من تلك الحملات التشكيكية التضليلية التي رفع لواءها هؤلاء المُتَعَصِّبُونَ.
(1) ص 265.
(2)
" السُنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي " للسباعي: ص 261.
(3)
[" الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث " لابن كثير، تأليف أحمد شاكر: ص 182، نشر دار الكتب العلمية، بيروت. لبنان].
أما مزاعمه في أبي هريرة فقد تناولناها بالرد في باب (اعتراضات منكري السُنَّة).
ثم نشر إسماعيل أدهم رسالته في سَنَة 1353 هـ عن تاريخ السُنَّة وَكَذَّبَ فيها أحاديث الكتب الصحاح (1) إلَاّ أنَّ أخطر من قام بهذا الدور في العصر الحديث هو محمود أبو رية.
فإلى الحديث مع «محمود أبو رية» .
(1) انظر " دراسات في الحديث النبوية وتاريخ تدوينه ": ص 27.