الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والمواضع الثلاثة - كما ترى - لا تشير إلى ما ذهب إليه هؤلاء بل إنها تأمر العبد بالرضاء بما قدره الله له أو عليه وأنَّ الله هو المتفرِّدُ في حكمه، وهذا لا يتنافى مع الاحتكام إلى السُنَّةِ ولا يوصل من حكم بها أو تحاكم إليها إلى دائرة الشرك بل هو عين التوحيد لأنَّ الحكم بالسُنَّة مستمد من الله بواسطة رسوله صلى الله عليه وسلم فالحكم بها في الحقيقة والواقع حكم لله المتفرد في شؤون خلقه، فال تعالى:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (1).
وإنما كان يصح الاستدلال بهذه الآية إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحكم ويأمر من عند نفسه وحسب هواه - وحاشاه ذلك - أما أنه لا ينطق عن الهوى وإنما يأمر بما أمره الله فإنَّ الاستدلال بهذه الآية لا يستقيم، قال تعالى:{قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي} (2).
الشُبْهَةُ الرَابِعَةُ:
قالوا إنَّ السُنَّة لم تكن شرعًا عند النبي صلى الله عليه وسلم وفهمها الصحابة على هذا المنوال لذا نُهُوا عن كتابتها وقد تحدث برويز عن ذلك بقوله: «لو كانت السُنَّة جزءًا من الدين لوضع لها الرسول صلى الله عليه وسلم منهجًا كمنهج القرآن من الكتابة والحفظ والمذاكرة ولا يفارق الدنيا إلَاّ بعد راحة بال على هذا الجزء من الدين لأنَّ مقام النبوة يقتضي أنْ يعطي الدين لأمته على شكل محفوظ لكنه صلى الله عليه وسلم احتاط بكل الوسائل الممكنة لكتاب الله ولم يفعل شيئًا لسُنَّته بل نهى عن كتابتها: " لَا تَكْتُبُوا عَنِّي غَيْرَ القُرْآنِ، وَمَنْ كَتَبَ عَنِّي غَيْرَ الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ "» (3).
(1)[النساء: 80].
(2)
[الأعراف: 203].
(3)
رواه مسلم ولفظه: «لَا تَكْتُبُوا عَنِّي، وَمَنْ كَتَبَ عَنِّي غَيْرَ الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ» . انظر " مسلم بشرح النووي ": 18/ 129.
وبقول الحافظ أسلم: «الأمر الذي لا مِرَاءَ فيه أَنَّ الصحابة قد أدركوا حقيقة نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن كتابة سُنَنِهِ وعرفوا أَنَّ الأمم السابقة لم تضل إلَاّ بسبب كتابة روايات أنبيائها» (1).
ويضيف فيقول: «االشيء الملفت للنظر هو أنَّ الأحاديث لو كانت لها الصفة الدينية لما اشتدَّ نهي النبي صلى الله عليه وسلم صحابته عن كتابتها ولهيَّأوا السبل لحفظها وتدوينها» (2).
وَيُحَذِّرُ صاحب " بلاغ الحق " العلماء من الجهر بالسُنَّة فيقول: «إياكم وإعلان الأحاديث على المنابر وإنْ أَبَيْتُمْ فسيدخل إلى دين الله ما ليس منه وينضاف إلى شرع الله ما لا يجوز إضافته إليه» (3).
الرد:
أقول أما النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كتابة السنة فإنه ثبت أنه قد أذن بكتابتها أيضًا وذكر النهي دون الإذن مخالف للأمانة العلمية وسنذكر في باب (اعتراضات منكري السُنَّة) طرق الجمع بين هذا النهي والإذن. وأنَّ الإذن ناسخ للنهي.
على أنَّ مدى حرص النبي صلى الله عليه وسلم هو تعليم صحابته وإفهامهم أمور دينهم باللسان والعمل، ثم إنَّ حياته العملية أكبر حافز للعض على سُنَّته والأخذ بها في جميع شؤون الحياة.
فلو لم تكن السُنَّة عند النبي صلى الله عليه وسلم دينًا وشرعًا - كما يزعم هؤلاء - لما اعتنى بها هذا الاعتناء ولما سلك لإشاعتها ونشرها كل الوسائل الممكنة له آنذاك ولما أمرهم بالحفظ والتبليغ، مثل قوله:«احْفَظُوهُ وَأَخْبِرُوهُ مَنْ وَرَاءَكُمْ» (4).
(1)" مقام حديث ": ص 104.
(2)
" مقام حديث ": ص 110.
(3)
انظر " فرقة أهل القرآن ": ص 101. وقد ذكر هذه الشُبْهَة بالتفصيل.
(4)
الحديث رواه البخاري: 1/ 30.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» (1).
وقوله: «خُذُوا عَنِّى مَنَاسِكَكُمْ» (2).
وقوله: «لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ» (3).
فلو لم تكن السُنَّة شرعًا ودينًا لما حرص الصحابة والتابعون على حفظها ولما ضربوا أكباد الإبل لسماعها وحفظها وتدوينها وجمعها، يَقُولُ أَنَسٌ رضي الله عنه:«كُنَّا نَكُونُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَسْمَعُ مِنْهُ الحَدِيثَ فَإِذَا قُمْنَا نَتَذَاكَرُهُ فِيمَا بَيْنَنَا حَتَّى نَحْفَظُهُ» (4). ويقول أبو هريرة: «إِنِّي لأُُجَزِّئُ اللَّيْلَ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ: فَثُلُثٌ أَنَامُ، وَثُلُثٌ أَقُومُ، وَثُلُثٌ أَتَذَكَّرُ أَحَادِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» (5). وهذا سعيد بن المسيب يقول: «كُنْتُ أَرْحَلُ الأَيَّامَ وَاللَّيَالِي فِي طَلَبِ الحَدِيثِ الوَاحِدِ» قِيْلَ لِلشَّعْبِيِّ: «مِنْ أَيْنَ لَكَ هَذَا العِلْمِ كُلُّهٌ؟ قَالَ: " بِنَفْيِ الاغْتِمَادِ (*)، وَالسَّيْرِ فِي البِلَادِ، وَصَبْرٍ كَصَبْرِ الجَمَادِ (*)، وَبُكُوْرٍ كَبُكُوْرِ الغُرَابِ» (6).
فلو لم تكن السُنَّةُ شرعًا ودينًا لما حرصوا عليها هذا الحرص ولما تحمَّلوا مشاق السفر في سبيلها ولما أصبحت جزءًا من حياتهم اليومية ولما قال عليه الصلاة والسلام: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِى وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ» (7).
(1) الحديث رواه البخاري: 1/ 155.
(2)
و (3) سبق تخريجهما. [حديث «خُذُوا عَنِّى مَنَاسِكَكُمْ» انظر ص 15 والحديث الثاني: «فَلْيُبْلِغْ الشَّاهِدُ مِنْكُمْ الْغَائِبَ، فَرُبَّ مُبَلِّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ» انظر ص 17 و 56].
(4)
رواه الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي، انظر أصول الحديث لمحمد عجاج الخطيب
(5)
رواه الدارمي في " سُننه ": 1/ 82.
(*)[ورد كذلك: «بِنَفْيِ الاغْتِمَامِ» و «وَصَبْرٍ كَصَبْرِ الحَمَامِ» انظر " سير أعلام النبلاء " للذهبي، تحقيق الشيخ شُعَيْب الأرناؤوط، الطبعة: الثالثة، 1405 هـ / 1985 م، نشر مؤسسة الرسالة: 4/ 300].
(6)
ذكر المؤلف في الهامش المصدر الذي استقى منه قوله الشعبي: " البداية والنهاية " لابن كثير: 9/ 100 [بحثت في هذا المصدر فلم أجد مقولة الشعبي هذه. انظر " سير أعلام النبلاء ": 4/ 300].
(7)
رواه أبو داود: 5/ 13. وابن ماجه: 1/ 16. والدارمي: 1/ 43. وأحمد: 4/ 126، 127. كلهم عن العرباض بن سارية ورواه الترمذي: 7/ 438. وقال: حسن صحيح.
كيف لا تكون السُنَّةُ شرعًا ودينًا وعليها قوام بناء الدين، وكفاها فخرًا أنْ يجعلها رب العزة والجلال طريق الوصول إليه لمن أراد غفرانه وجنَّته:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} (1).
أما ما استدلوا به من أنَّ نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن كتابة السُنَّة دليل على عدم حُجِيَّتِهَا فهو استدلال لا ينهض لأنَّ عدم الكتابة ليس دليلاً على عدم حُجِيَّتِهَا وإخراجها من مصدر التشريع لأنَّ المكتوب في حد ذاته لا يكون حُجَّةً حتى يقوم الدليل على صدق نسبته إلى كاتبه بَيْدَ أَنَّ تشكيل المجتمع على السُنَّة العملية أقوى حُجَّةً وأكثر ضمانًا من المكتوب في الكراريس دون نزوله إلى محيط العمل لذا يقول الأستاذ المودودي: «ترك النبي صلى الله عليه وسلم مجتمعًا متكاملاً على سُنَّته والذي نقل كل حركة من حركاته بختم هدايته عليه السلام وكان هذا المجتمع يحوي ألوفًا من البشر ممن سمع أقواله وشاهد أفعاله وتربى في كنف هدايته عليه السلام فنقل هؤلاء كل النقوش إلى من بعدهم نسلاً بعد نسل حتى وصلت إلينا» (2).
ثم لا يخفى على المُطَّلِعِ البصير أَنَّ ما ورد من النهي إنما كان عن كتابة الحديث رسميًا كالقرآن أما أَنْ يكتب الكاتب لنفسه فقد ثبت وقوعه وإقراره عليه الصلاة والسلام على ذلك كما رُوِيَ عن عبد الله بن عمرو بن العاص في " مسند أحمد "(3) أَنَّ بعض الصحابة اشتكوا سوء حفظهم لما يسمعون منه عليه السلام فقالوا: «يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا نَسْمَعُ مِنْكَ أَحَادِيثَ لَا نَحْفَظُهَا، أَفَلَا نَكْتُبُهَا؟ قَالَ: " بَلَى، فَاكْتُبُوهَا "»
(1)[الأحزاب: 21].
(2)
" سنت کي اءيني حيثيت ": ص 160.
(3)
2/ 215.