الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع: جهود العلماء لحفظ السُنَّة:
أسلفنا في الفصلين السابقين - مكانة السُنَّة التشريعية وحُجية السُنَّة ونذكر في هذا الفصل بيذة من جهود العلماء من لدن الصحابة والتابعين لحفظ السُنَّة وصيانتها لِنُدَلِّلَ على أنَّ السُنَّة حظيت من أول يومها بسياج وحماية منقطعة النظير، وما ذلك إلَاّ لأنهم عرفوا منزلة السُنَّة وإنها المصدر التشريعي الأول بعد القرآن الكريم ولهذا اتبعوا كل سبيل يحفظ على السُنَّة نورها وبالغوا في التحري والتثبت في روايتها خشية الوقوع في الخطأ وخوفاً من أنْ يتسرَّب إليها التصحيف أو التحريف، بل إنَّ بعضهم فَضَّلَ الإقلال من الرواية، قال ابن قتيبة:«وَكَانَ عُمَرُ أَيْضًا شَدِيدًا عَلَى مَنْ أَكْثَرَ الرِّوَايَةَ، أَوْ أَتَى بِخَبَرٍ فِي الْحُكْمِ لَا شَاهِدَ لَهُ عَلَيْهِ. وَكَانَ يَأْمُرُهُمْ بِأَنْ يُقِلُّوا الرِّوَايَةَ، يُرِيدُ بِذَلِكَ: أَنْ لَا يَتَّسِع النَّاس فِيهَا، وَيَدْخُلُهَا الشَّوْبُ؛ وَيَقَعُ التَّدْلِيسُ وَالكَذِبُ مِنَ الْمُنَافِقِ وَالْفَاجِرِ وَالأَعْرَابِيِّ. وَكَانَ كَثِيرٌ مِنْ جُلَّةِ الصَّحَابَةِ، وَأَهْلِ الخَاصَّةِ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَأَبِي بَكْرٍ، وَالزُّبَيْرِ، وَأَبِي عُبَيْدَةَ، وَالْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، يُقِلُّون الرِّوَايَةَ عَنْهُ. بَلْ كَانَ بَعْضُهُمْ لَا يَكَادُ يَرْوِي شَيْئًا كَسَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، وَهُوَ أَحَدُ الْعَشْرَةِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالجَنَّةِ» (1).
وكما احتاط السلف في التحديث احتاطوا وتثبَّتُوا في قبول الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الذهبي: «كَانَ أَبُو بَكْرٌ رضي الله عنه، أَوَّلَ مَنْ احْتَاطَ فِي قَبُولِ الأَخْبَارِ، فَرَوَى ابْنُ شِهَابٍ عَنْ قَبِيْصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ
(1)" تأويل مختلف الحديث ": ص 48، 49.
أَنَّ الجَدَّةَ جَاءَتْ إِلَى أَبِي بَكْرٍ تَلْتَمِسُ أَنْ تُوَرَّثَ، فَقَالَ:" مَا أَجِدُ لَكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ شَيْئًا، وَمَا عَلِمْتُ أَنَّ رَسُولَ الْلَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ لَكِ شَيْئًا "، ثُمَّ سَأَلَ النَّاسَ فَقَامَ المُغيرَةُ فَقَالَ:" سَمِعُتُ رَسُولَ الْلَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعْطِيهَا الْسُّدُسَ ". فَقَالَ لَهُ: " هَلْ مَعَكَ أَحَدٌ؟ " فَشَهِدَ مُحَمَّدٌ بْن مَسْلَمَةَ بِمِثْلِ ذَلِكَ فَأَنْفَذَهُ لَهَا أَبُوْ بَكْرٍ رضي الله عنه» (1).
وفي " صحيح مسلم "(2): اسْتَشَارَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه النَّاسَ فِي إِمْلَاصِ الْمَرْأَةِ (3)، فَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ:«شَهِدْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى فِيهِ بِغُرَّةٍ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ» ، قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: ائْتِنِي بِمَنْ يَشْهَدُ مَعَكَ، قَالَ: فَشَهِدَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلمَةَ.
وحدث لعمر مثل هذه الحادثة مع كثير من الصحابة منهم أُبَيْ بن كعب وأبي موسى وفي رواية قال عمر لأبي موسى: «أَمَا إِنِّي لَمْ أَتَّهِمك، وَلَكِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَتَقَوَّلَ النَّاسُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم» (4).
(1) رواه الترمذي (6/ 278، 279) وقال: حسن صحيح، وأبو داود في الفرائض (3/ 316)، وابن ماجه (2/ 909)، ومالك (2/ 513)، و " الكفاية " للخطيب البغدادي: ص 26.
(2)
" صحيح مسلم ": (3/ 1311).
(3)
هو جنين المرأة.
(4)
" موطأ الإمام مالك ": (2/ 964).
(5)
رواه أحمد: (1/ 154، 174، 387)، وابن ماجه:(1/ 446) ورقم الحديث (1395) و " الكفاية " للخطيب البغدادي: ص 28.
هذا لا يعني أنَّ الصحابة اشترطوا لقبول الحديث أنْ يرويه راويان فأكثر أو يشهد الناس على الراوي أو أنْ يستحلف بل كان الحامل لهم على هذا ألَاّ يسترسل الناس في رواية الحديث ويتساهلوا فيه من غير تَحَرٍّ وَتَثَبُّتٍ كاف فيقعوا في الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم من حيث شعروا أو لم يشعروا ويتَّضح هذا من قول عمر لأبي موسى: «أَمَا إِنِّي لَمْ أَتَّهِمك، وَلَكِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَتَقَوَّلَ النَّاسُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم» وإلَاّ فقد قبلوا أحاديث كثيرة برواية الآحاد وبنوا عليها أحكامهم، فقد ورد أَنَّ عُمَرَ ذَكَرَ الْمَجُوسَ. فَقَالَ:«مَا أَدْرِي كَيْفَ أَصْنَعُ فِي أَمْرِهِمْ» .
فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ بْنُ عَوْفٍ: أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ» (1).
وأراد رجم مجنونة حتى أُعْلِمَ بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ» (2) فأمر أنْ لا تُرْجَمَ.
يَتَبَيَّنُ من هذا أنَّ الخلفاء الأربعة لم تكن لهم شروط معيَّنة لقبول الأخبار وإنَّ كل ما روي عنهم ما يوهم ذلك لا يعدو التثبت والتأكد وكل ما صدر عنهم كان في سبيل الحفاظ على السُنَّة المطهَّرة وألَاّ يشوبها ما ليس منها.
ومن الجهود التي بُذِلَتْ للحفاظ على السُنَّة وضع ضوبط مُقَرَّرَةٍ تعرف بها قوة الحديث أو وَهَنِهِ منها علم إسناد الحديث وقد بدأ المطالبة به منذ وقت مُبَكِّرٍ واهتم به العلماء حتى جعلوه من الدين، قال عبد الله بن المبارك:«الإِسْنَادُ مِنَ الْدِّينِ، وَلَوْلَا الإِسْنَادُ لَقَالَ مَنْ شَاءَ مَا شَاءَ» وقال: «بَيْنَنَا وَبَيْنَ القَوْمِ الْقَوَائِمُ» (3) يَعْنِي الإِسْنَادَ.
(1) انظر " الكفاية " للخطيب البغدادي: ص 27 و " الأحكام ": (2/ 13).
(2)
رواه ابن ماجه: (1/ 658)، والدارمي:(2/ 93) ، وأبو داود (4/ 559)، والإمام أحمد:(6/ 100، 101، 144).
(3)
" السُنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي " للدكتور مصطفى السباعي: ص 92.
ومنها - أيضاً - نقد الرُواة وبيان حالهم ومن تقبل روايته ومن لا تقبل من خلال دراسة الراوي سيرة وتاريخاً وما خفى من أمره وما ظهر. ولم تأخذ العلماء في ذلك لومة لائم. وقيل ليحيى بن سعيد القطان: «أَمَا تَخْشَى أَنْ يَكُونَ هَؤُلَاءِ الذِينَ تَرَكْتَ حَدِيثَهُمْ خُصَمَاءَكَ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ؟» فَقَالَ: «لأَنْ يَكُونَ هَؤُلَاءِ خَصْمِي أَحَبَّ إِليَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ خَصْمِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لِمَ لَمْ تَذُبَّ الكَذِبَ عَنْ حَدِيثِي؟» (1).
هذه بعض جهود العلماء لحفظ السُنَّة ولا سبيل إلى استقصاء جهود علماء السُنَّة في الحفاظ عليها والإفاضة في بيانها في هذا المختصر.
(1)" السُنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي " للدكتور مصطفى السباعي: ص 92.