المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ إيلاف قريش: - أسواق العرب في الجاهلية والإسلام

[سعيد الأفغاني]

الفصل: ‌ إيلاف قريش:

ب-‌

‌ إيلاف قريش:

{لِإِيلافِ قُرَيْشٍ، إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ، الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} .

إيلاف قريش "وإذا شئنا التعبير بلغة عصرنا قلنا: المعاهدات التجارية"1 مستفيض الشهرة في كتب السير والتاريخ والأدب.

1 اطلعنا بعد صدور طبعتنا الأولى باثنتين وعشرين سنة على بحث مفيد بعنوان "الإيلاف أو المعونات غير المشروطة" نشره الأستاذ ظافر القاسمي أحد العلماء من نقباء المحامين في الشام "مجلة المجمع العلمي العربي 1 نيسان 1959" فعلق على تعبيرنا عن الإيلاف بالمعاهدات التجارية بما يلي:

"ما من شك في أن الغرض من الإيلاف تجاري

ولكنه لا يمكن أن يسمى "المعاهدات التجارية"؛ لأن هذه تقتضي اتفاقا على تبادل السلع وطريقة دفع قيمتها أو مكوسها "جماركها" أو غير ذلك. أما أمان الطريق بغير حلف، فلا يمكن أن يسمى بلغة العصر إلا "المساعدات غير المشروطة، Aides inconditionnes"" ا. هـ. وليس في يدنا ولا يده ما يجزم بأنه لم يكن هناك اتفاق على تبادل السلع، بل المعروف العكس، فالتجارة العربية كانت تنقل إلى بلاد العرب من الشام "وهي مشمولة بالحكم الروماني" القمح والزيت وما إليهما، وتجلب إليها من بضائع الهند والحبشة والجزيرة ما مر بك تفصيله أول هذا =

ص: 147

وقد أخبر به القرآن الكريم، وهو أبرز حادث في تاريخ العرب التجاري قبيل الإسلام.

وفي تحديد معنى الإيلاف مذاهب، منها:

1-

أنه الدأب، فسره بذلك ابن سعد صاحب الطبقات. ومنها:

2-

أنه ربح مخصوص جعله هاشم لرؤساء القبائل، فيحمل لهم متاعا مع متاعه ويسوق إليهم إبلا مع إبله، ليكفيهم مئونة الأسفار ويكفي قريشا الأعداء1. ومنها:

3-

أنه العهد وشبه الإجازة والخفارة2، قاله صاحب القاموس.

= الباب والباب قبله. ولا يمكننا لذلك قبول التسمية "بالمساعدات غير المشروطة"؛ لأنه سيمر بك اشتراط القرشيين على أنفسهم بلسان هاشم جلب البضائع اللازمة لبلاد قيصر، وأن يضمنوا له أن تباع عنده أرخص ويكفوه حملانها.

هذا، وشح المصادر بالتفاصيل من جهة وضرورة التسامح في المصطلحات من جهة أخرى يجعلان من غير المعقول المطالبة بالشروط الحديثة للمصطلحات القديمة حين نطلقها على أحداث كانت قبل خمسة عشر قرنا، إذ لكل جيل اعتباراته الخاصة المتغيرة على الزمن من إطلاق إلى تقييد، ومن تعميم إلى دقة في الشروط والتفاصيل والتخصيص، ونقص شيء من هذا لا يسلب المصطلح معناه.

1 ثمار القلوب ص89.

2 وفسره المسعودي بالأمن، ثم أردف بقوله:"ورحلت قريش حين أخذ لها الإيلاف من الملوك إلى الشام والحبشة واليمن والعراق". مروح الذهب 1/ 369 ومحمد بن حبيب فسره في كتابه "المحبر" بأنه العهود ص162.

ص: 148

ومن التفصيل الذي سنسوقه لك تعرف أن المعاني الثلاثة تجتمع في الإيلاف معا.

ذكر الثعالبي أن قريشا "كانت لا تتاجر إلا مع من ورد عليها مكة في المواسم وبذي المجاز وسوق عكاظ في الأشهر الحرم، لا تبرح دارها ولا تجاوز حرمها؛ للتحمس في دينهم والحب لحرمهم والإلف لبيتهم، ولقيامهم لجميع من دخل مكة بما يصلحهم. وكانوا بوادٍ غير ذي زرع، كما حكى الله عن إبراهيم حين قال:

{رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} 1.

فكان أول من خرج إلى الشام ووفد إلى الملوك، وأبعد في السفر، ومر بالأعداء وأخذ منهم الإيلاف الذي ذكره الله، هاشم بن عبد مناف، وكانت له رحلتان: في الشتاء نحو العباهلة من ملوك اليمن ونحو اليكسوم من أرض الحبشة، ورحلة في الصيف نحو الشام وبلاد الروم.

وأبى رواة الأخبار إلا أن يجعلوا لهاتين الرحلتين بدءا يكون لهما كالسبب والعلة، فرووا عن ابن عباس:

1 ثمار القلوب ص89، والآية هي السابعة والثلاثون من سورة إبراهيم.

ص: 149

"أن السبب في هاتين الرحلتين هو أن قريشا إذا أصاب واحدا منهم مخمصة، خرج وعياله إلى موضع، وضربوا على أنفسهم خباء حتى يموتوا، إلى أن جاء هاشم بن عبد مناف وكان سيد قومه وكان له ابن يقال له: أسد، وكان له تِرْب من بني مخزوم يحبه ويلعب معه، فشكا إليه الضر والمجاعة. فدخل أسد على أمه يبكي، فأرسلت إلى أولئك بدقيق وشحم فعاشوا فيه أياما. ثم أتى ترب أسدا مرة أخرى وشكا إليه الجوع. فقام هاشم خطيبا في قريش فقال:

"إنكم أجدبتم جدبا تقلون فيه وتذلون، وأنتم أهل حرم الله وأشراف ولد آدم، والناس لكم تبع" قالوا: "نحن تبع لك، فليس عليك منا خلاف".

فجمع هاشم كل بني أب على الرحلتين في الشتاء إلى اليمن، وفي الصيف إلى الشام للتجارات، فما ربح الغني قسمه بينه وبين الفقير حتى كان فقيرهم كغنيهم. فجاء الإسلام وهم على ذلك، فلم يكن في العرب بنو أب أكثر مالا ولا أعز من قريش. وهذا معنى قول شاعرهم فيهم:

والخالطون فقيرهم بغنيهم

حتى يكون فقيرهم كالكافي"1.

1 بلوغ الأرب 3/ 368 والكافي: الغني. وفي هاشم وصنيعه يقول خاله الحارث بن حنش السلمي:

إن أخي هاشما ليس أخا واحد

الآخذ الإيلاف، والقائم للقاعد

انظر رسائل الجاحظ، جمع السندوبي ص71 "المطبعة الرحمانية سنة 1352هـ" و"المحبر" لابن حبيب ص162.

ص: 150

وكان هاشم يأخذ الإيلاف من رؤساء القبائل ورؤساء العشائر لخصلتين: "إحداهما: أن ذؤبان العرب وصعاليك الأعراب وأصحاب الغارات وطلاب الطوائل كانوا لا يؤمنون على أهل الحرم ولا غيرهم، والخصلة الأخرى: أن أناسا من العرب كانوا لا يرون للحرم حرمة ولا للشهر الحرام قدرا كبني طيء وخثعم وقضاعة، وسائر العرب يحجون البيت ويدينون بالحرمة له

فكان الإيلاف صلاحا للفريقين، إذ كان المقيم رابحا والمسافر محفوظا، فأخصبت قريش وأتاها خير الشام واليمن والحبشة، وحسنت حالها وطاب عيشها".

وقول الله: {أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} يعني: الضيق الذي كان فيه أهل مكة قبل أن يأخذ هاشم لهم الإيلاف، والخوف الذي كانوا عليه ممن يمرون به من القبائل والأعداء وهم مغتربون ومعهم الأموال، وهو قوله عز ذكره:{تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ} 1 يعني: في تلك الأسفار ولم يرد ذلك وهم مقيمون في حرمهم وأمنهم؛ لأن الله يقول: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} 2 مع قوله: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} 3 وقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} 4.

1 سورة الأنفال: الآية 26.

2 سورة البقرة: الآية 125.

3 سورة آل عمران: الآية 97.

4 سورة العنكبوت: الآية 67.

ص: 151

ويعلق عدد من المفسرين مطلع السورة "لإيلاف" بسورة الفيل التي قبلها ويكون تسلسل الكلام عندهم: "فجعلهم كعصف مأكول لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف" والمعنى: أنه أهلك أصحاب الفيل "الذين قصدوهم ليتسامع الناس بذلك فيتهيبوهم زيادة تهيب ويحترموهم فضل احترام حتى ينتظم لهم الأمن في رحلتيهم، فلا يجترئ عليهم أحد ولا يتعرض لهم، والناس غيرهم يتخطفون ويغار عليهم"1.

هذا، وقد عم مطرود الخزاعي بني عبد مناف بذكر الإيلاف؛ لأن جميعهم قد فعل ذلك فقال:

يا أيها الرجل المحول رحله

هلا حللت بآل عبد مناف

المنعمين إذا النجوم تغيرت

والظاعنين لرحلة الإيلاف2

سفرين سنهما له ولقومه

سفر الشتاء وسفرة الأصياف

1 الزمخشري في الكشاف، ويؤكد تعليق "لإيلاف" بـ "فجعلهم" بأن السورتين في مصحف أبي سورة واحدة بلا فصل، وأن عمر قرأها في الركعة الثانية من صلاة المغرب.

2 لهذا البيت روايات، والتي هنا من سيرة ابن هشام. وانظر "المحبر" لمحمد بن حبيب ص164 ففيه:

هبلتك أمك لو حللت إليهم

ضمنوك من جوع ومن تطواف

الآخذون العهد من آفاقها

والراحلون برحلة الإيلاف

ويقابلون الريح كل عشية

حتى تغيب الشمس في الرجاف

ص: 152

ومر بك تعداد الكميت مآثر أجداد هشام بن عبد الملك، فذكر منها الإيلاف ص97.

وفي اختصاص قريش بالإيلاف دون غيرهم من العرب، قال الشاعر وهو يردّ على بني أسد ما يدّعونه من قرابة قريش:

زعمتم أن إخوتكم قريش

لهم إلف وليس لكم إلاف

أولئك أومنوا خوفا وجوعا

وقد جاعت بنو أسد وخافوا ا. هـ

وهناك قول بتفسير الإيلاف غير صحيح جاء في شرح ابن أبي الحديد، وهو قوله:"إن هاشما جعل على رؤساء القبائل ضرائب يؤدونها إليه ليحمي بها مكة" والأمر على العكس، فالمستفيد من الإيلاف مادة هم رؤساء القبائل، ومكة لم يؤثر أن اعتدى على حرمتها أحد من العرب فبلغ منها.

وقد آن أن نذكر الإيلافات أو المعاهدات التجارية التي عقدها هاشم وإخوته: المطلب وعبد شمس ونوفل مع العرب والروم والحبشة وفارس، فأخرجوا بذلك تجارة قريش من طابعها المحلي وأفقها المحصور إلى الآفاق الأجنبية، فصارت لقريش العلائق الخارجية مع الدول المعروفة حينئذ، وأثرت هذه العلاقات في حالاتها الاجتماعية تأثيرا بعيدا نحن متعرضون له بعد قليل.

ص: 153

ومتى عرفنا ما أسدى أولاد عبد مناف لقريش وللعرب من أيادٍ تبيّنّا مدى الصدق في قولة ابن عباس:

"والله، لقد علمت قريش أن أول من أخذ الإيلاف وأجاز لهم العير لهاشم، والله ما شدت قريش رحلا ولا حبلا بسفر ولا أناخت بعيرا لحضر إلا بهاشم".

ونحن فيما سنعرض عليك من حديث، عيال على القالي الذي انفرد دون غيره من أصحاب الأمهات بتفصيل تلك الأحلاف، ولا بد من تنبيهك إلى أن العرب كثيرا ما تسمي عامل الشام قيصر وهو المراد في حديث القالي، ولعل عامل أنقرة هو المراد أيضا من قيصر أنقرة فيما روى ابن سعد في طبقاته، إذ قال:

"كان اسم هاشم عمرا وكان صاحب إيلاف قريش. وإيلاف قريش: دأب قريش، وكان أول من سنّ الرحلتين لقريش، ترحل إحداهما في الشتاء إلى اليمن وإلى الحبشة إلى النجاشي فيكرمه ويحبونه، ورحلته في الصيف إلى الشام إلى غزة، وربما بلغ "أنقرة" فيدخل على قيصر فيكرمه ويحبوه"1.

ولا ينبغي أن تستغرب ما تقرأ في رواية القالي من اهتمام قيصر

1 الطبقات 1/ 43.

ص: 154

بهاشم، فإن الروم كانوا يهتمون بمن ينزل أرضهم من العرب الغرباء وليس من المعقول أن يكون أمرهم هملا، فالغالب أن هناك موظفين وعيونا من العرب أو ممن يعرفون العربية يوافون العامل بأخبار الطراء والتجار الأجانب، قال أبو علي القالي1:

"كانت قريش تجارا، وكانت تجارتهم لا تعدو مكة، إنما تقدم عليهم الأعاجم بالسلع فيشترونها منهم ثم يتبايعونها بينهم ويبيعونها على من حولهم من العرب، فكانوا كذلك حتى:

1-

ركب هاشم بن عبد مناف إلى الشام فنزل بقيصر، فكان يذبح كل يوم شاة ويصنع جفنة ثريد ويجمع من حوله فيأكلون، وكان هاشم من أجمل الناس وأتمهم، فذكر ذلك لقيصر فقيل له:"ههنا رجل من قريش يهشم الخبز ثم يصب عليه المرق ويفرغ عليه اللحم" وإنما كانت العجم تصب المرق في الصحاف ثم تأتدم بالخبز. فدعا به قيصر، فلما رآه وكلمه أعجب به، فكان يبعث إليه في كل يوم فيدخل عليه ويحادثه. فلما رأى نفسه تمكن عنده قال له: "أيها الملك، إن قومي تجار العرب، فإن رأيت أن تكتب لي كتابا تؤمن تجارتهم فيقدموا عليك بما يستطرف من أدم الحجاز وثيابه فتباع عندكم فهو

1 الأمالي 3/ 199، طبعة دار الكتب.

ص: 155

أرخص عليكم" فكتب له كتاب أمان لمن يقدم منهم. فأقبل هاشم بذلك الكتاب، فجعل كلما مر بحي من أحياء العرب أخذ من أشرافهم إيلافا -والإيلاف: أن يأمنوا عندهم في أرضهم بغير حلف، وإنما هو أمان الطريق- على أن قريشا تحمل إليهم بضائع فيكفونهم حملانها، ويؤدون إليهم رءوس أموالهم وربحهم، فأصلح هاشم ذلك الإيلاف بينهم وبين أهل الشام حتى قدم مكة فأتاهم بأعظم شيء أتوا به بركة، فخرجوا بتجارة عظيمة وخرج هاشم معهم يجوزهم ويوفيهم إيلافهم الذي أخذ لهم من العرب حتى أوردهم الشام وأحلهم قراها، ومات في ذلك السفر بغزة.

ب- وخرج المطلب بن عبد مناف إلى اليمن فأخذ من ملوكهم عهدا لمن تجر إليهم من قريش، وأخذ الإيلاف كفعل هاشم. وكان المطلب أكبر ولد عبد مناف وكان يسمى الفيض، وهلك بردمان من اليمن.

ج- وخرج عبد شمس بن عبد مناف إلى الحبشة، فأخذ إيلافا كفعل هاشم والمطلب، وهلك عبد شمس بمكة فقبره بالحجون.

د- وخرج نوفل بن عبد مناف وكان أصغر ولد أبيه، فأخذ عهدا من كسرى لتجار قريش وإيلافا ممن مر به من العرب. ثم قدم

ص: 156

مكة ورجع إلى العراق فمات بسلمان.

واتسعت قريش في التجارة في الجاهلية وكثرت أموالها. فبنو عبد مناف أعظم قريش على قريش منة في الجاهلية والإسلام" ا. هـ.

يمتاز هذا الخبر مما تقدمه بالدقة، فقد عرفنا أن صاحب القاموس ومحمد بن حبيب فسرا الإيلاف بالعهد. وما يتبادر إلى الذهن من ذلك حقوق متقابلة وحلف دائم، فقصر الإيلاف هنا على أمان الطريق فقط. وخرجنا من رواية القالي بأربع معاهدات تجارية، إلا أن الفكر ليستشرف لمعرفة نصوص هذه المعاهدات ويتوقع تفصيلا أكثر. أما الكتاب الذي أشار القالي إلى أن قيصر كتبه لهاشم فإنا لم نجد له ذكرا بعد موت هاشم، فيما بين أيدينا من المصادر. وهو -إن صح وقوعه- من الخطر بمكان، بل هو مما يجب أن يعضّ عليه بنو هاشم بالنواجذ، ففيه لهم فخر كبير وهم الحريصون على قيد كل صغيرة وكبيرة مما يدخل في باب المفاخرة، فمن العجيب سكوت الأخباريين عن ذكره في المناسبات التي كثيرا ما تعرض.

وهؤلاء "هاشم والمطلب وعبد شمس ونوفل" هم أصحاب الإيلاف "الذين رفع الله بهم قريشا ونعش فقراءها

وكل كان رئيس من يخرج معه ممن يتجر في وجهه

فهؤلاء سادة قريش

ص: 157

وناعشوهم"1.

لقد انتقلت أحوال قريش التجارية بهاشم وإخوته من طور إلى طور، فبعد أن كانت قاصرة على مكة يقدم عليهم فيها التجار الأعاجم فيشترون منهم سلعهم، خلصوا من تحكم الأجانب ومارسوا هم أنفسهم التجارة الخارجية بعد أن أمنوا الطريق، وعقدوا المحالفات فعظمت ثرواتهم وفاض غناهم، وأصبح معظم اتجار الجزيرة مع الأمم المجاورة حكرة لهم، وقد اعترفت قريش لأولاد عبد مناف بفضلهم وجميل صنيعهم لقومهم فسموهم "المجبرين"2، إذ بهؤلاء النفر الأربعة جبرت قريش وتبحبحت في الخير والغنى والمقام.

ويزيد ابن سعد في طبقاته، فيذكر لنا شيئا مما في عهد قيصر، ويذكر أيضا كتابا آخر أرسله قيصر إلى النجاشي يوصيه بهم ولم يشر إلى شيء من مضمون هذا الكتاب، قال3:"كان هاشم رجلا شريفا، وهو الذي أخذ الحلف لقريش من قيصر لأن تختلف آمنة. وأما من على الطريق "يعني قوافل العرب" فألفهم على أن تحمل قريش بضائعهم ولا كراء على أهل الطريق. فكتب له قيصر كتابا وكتب إلى النجاشي أن يدخل قريشا أرضه".

1 محمد بن حبيب في كتاب المحبر ص162، 163.

2 وسموهم أيضا أقداح النضار لشرف أحسابهم، وفضل مساعيهم. انظر الإسلام والحضارة العربية ص116.

3 الطبقات 1/ 45.

ص: 158

وفي شرح نهج البلاغة "3/ 458" أن هاشما سأل قيصر أن يأذن لقريش في القدوم عليه بالمتاجر وأن يكتب لهم كتب الأمان فيما بينهم وبينه، ففعل. والغموض الذي في الرواية المتقدمة يكتنف هذه أيضا، فليس فيها صيغة هذا الأمان ولا شروطه.

ومهما يكن من شيء، فإلى هؤلاء الإخوة الأربعة يرجع الفضل كله في تثمير تجارة قريش1، وبنائها على أسس قوية حتى اتسعت فصارت شبه دولية بعد أن كانت موضعية لا تعدو الأسواق القريبة من مكة. فهم في الحقيقة أبطال قريش ورجالاتها في الاقتصاد، وهم دعائمها التجارية التي قامت تلك الثروة العريضة بمساعيهم وكفاياتهم، وليس بقليل أن تفتح أربع ممالك أسواقها لقوافل قريش وتجاراتها. وما أنا إلى الغلو إذا زعمت أن فضل هذه الأحلاف امتد حتى زمن الإسلام، وأن المسلمين الأولين ما اختِيرت لهم الحبشة مهاجرا إلا لاعتيادهم الرحلة إليها متاجرين، وإلا لمعرفتهم بها وبأهلها لكثرة ارتيادهم

1 ومن حولها أيضا من التجار غير القرشيين الذين ضربوا في الأرض للتجارة بعد أن مهدت لهم قريش السبيل، فكتب السيرة مثلا تذكر لنا أن مشركي مكة أرسلوا عروة بن مسعود الثقفي سفيرا إلى الرسول في مفاوضات الحديبية، وأن من قوله لقريش لما عاد: "يا معشر قريش، إني جئت كسرى في ملكه وقيصر في ملكه والنجاشي في ملكه، وإني والله ما رأيت ملكا في قوم قط مثل محمد في أصحابه

إلخ".

ص: 159

إياها وحمدهم مقامهم فيها، وحسن ما يلقون من معاملة طيبة.

في الخبر بعد، إشارة إلى كرم هاشم وكثرة إنفاقه على إخوانه، وأن أفعاله نمّت على أصله وسيادته وشرفه، كما فيه تصريح بأسلوب الروم وأسلوب العرب في أكل اللحم والمرق، وكيف عجب الروم من الثريد لأنه طراز لم يألفوه.

ذكروا أن اللام في قوله تعالى أول السورة: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ} للتعجب، فالمعنى: اعجبوا لإيلاف قريش، وآخرون علقوها ومجرورها بالفعل فقالوا: إن المعنى: فليعبدوا رب هذا البيت لإيلافهم1. فجعلوا الفاء في الفعل زائدة لتحسين اللفظ، وتقوية المعنى كما في قوله تعالى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} وجعلوا "إيلاف" الثانية توكيدا للأولى.

وقد امتنّ الله عليهم بإيمان خوفهم من الغارات والحروب والقتال، وغير ذلك من الأمور التي يخافها كل عربي غيرهم، حتى إن الرجل منهم ليصاب في حي من أحياء العرب، فإذا قال: أنا حرمي "أي: من أهل الحرم" أطلقوه، وكفوا عن ماله إكراما له.

وقد أمّن الله أهل مكة من خوف آخر هو جيش أبرهة أصحاب

1 والوجه ما تقدم لك ص152 من تعليق "لإيلاف" بقوله: "فجعلكم كعصف مأكول" فارجع إليه.

ص: 160

الفيل حين ردهم الله عن مكة، والبيت بعد أن اعتصم أهلها بالشعاف والهضاب. ومنّ عليهم حين أنقذهم من جوع السنين التي أصابهم قحطها من قبل. فذكر ابن عباس وعكرمة1 أن الله أمرهم في هذه السورة بالإقامة بمكة لعبادة رب هذا البيت؛ إذ كفاهم مئونة رحلتيهم بعد أن كانوا لا يكادون يرتاحون في صيف ولا شتاء.

لخص صاحب القاموس ما تقدم حين عرض لتفسير الإيلاف، فقال:

"والإيلاف في التنزيل "العهد" وشبه الإجازة بالخفارة وأول من أخذه هاشم من ملك الشام، وتأويله أنهم كانوا سكان الحرم، آمنين في امتيارهم وتنقلاتهم شتاء وصيفا والناس يُتَخَطَّفون من حولهم، فإذا عرض لهم عارض قالوا: "نحن أهل حرم الله" فلا يتعرض لهم أحد

وكان هاشم يؤالف إلى الشام، وعبد شمس إلى الحبشة، والمطلب إلى اليمن، ونوفل إلى فارس، وكان تجار قريش يختلفون إلى هذه الأمصار بحبال "عهود" هؤلاء الإخوة، فلا يتعرض لهم. وكان كل أخ منهم أخذ حبلا من ملك ناحية سفره؛ أمانا له".

1 راجع أقوال المفسرين في ذلك.

ص: 161