المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المحلون والمحرمون والحمس: - أسواق العرب في الجاهلية والإسلام

[سعيد الأفغاني]

الفصل: ‌المحلون والمحرمون والحمس:

‌المحلون والمحرمون والحمس:

كان العرب يعظمون أمكنة خاصة وشهورا معينة، لا يسفكون فيها دما، ولا يتجاوز بعضهم على بعض حتى يزايلوا المكان الحرام، أو ينقضي الشهر الحرام.

وكان من بعد النظر أن جعلوا أكبر أسواقهم يقام في الأشهر الحرم، فكانت سوق حُباشة وسوق صُحار في رجب، وحضرموت في ذي القعدة، وعكاظ ومجنة وذو المجاز في ذي القعدة وذي الحجة، ومعلوم أن الأشهر الحرم أربعة: رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم، تضع فيهن العرب سلاحها، فلو لقي المرء قاتل أبيه ما وسعه التعرض له بسوء، حتى إن تلقيبهم رجبا بالأصم، كان لأنه لا ينادى فيه:"يا صباحاه"1، ولا "يا لَفلان" فينقطع فيه صوت الأسلحة.

وكان من أعظم العار أن يتعدى المرء حدود الشهر الحرام والبلد الحرام. ولهذا سمت العرب حروب قريش وهوازن في عكاظ بحروب الفجار؛ لفجورهم باقتتالهم في الشهر الحرام.

1 انظر القاموس.

ص: 70

ولما ترصدت سرية عبد الله بن جحش عير قريش، وكانت تحمل زبيبا وأدما وتجارة من تجارتهم فيها عمرو بن الحضرمي، بنخلة بين مكة والطائف، وظفرت بالعير وقتلت ابن الحضرمي بعد أن هاب قوم الإقدام على القتل؛ لأنهم كانوا في آخر يوم من رجب، وأقبلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعير وبأسيرين؛ امتنع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أخذ الخمس، وقال:"ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام"1. وسُقط في أيدي القوم وظنوا أنهم قد هلكوا، وعنفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا.

وأيقنت قريش أنها وقعت على ما تعيب به محمدا وأصحابه عند العرب عامة؛ لما انتهكوا من حرمة الشهر، فجعلت تشيع قولها:

"قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام، وسفكوا فيه الدم، وأخذوا فيه الأموال، وأسروا فيه الرجال". وأكثروا من ذلك لما فيه من تهييج العرب وتغيير قلوبها على صاحب الدعوة وتصويرها له في صورة المستحل الذي لا يرعى حرمة للشهر المحرم كما لم يرع من قبل حرمة آلهتهم. وتناست قريش ما كانت صنعت مع النبي وأصحابه من إيذاء وتعنيف، حتى اضطروهم إلى الهجرة إلى الحبشة ثم

1 سيرة ابن هشام 2/ 194.

ص: 71

إلى المدينة. ثم تناست ما عاملت به المستضعفين من المسلمين من إقامة في الهاجرة تصهرهم الشمس، ومن إلقاء الصخور عليهم، وتهافتهم على هؤلاء ضربا وإيلاما حتى يفتنوهم عن دينهم، ثم تنويعهم أساليب العذاب لهم ولأهليهم. فلما أشفق المسلمون من صنيع سرية عبد الله بن جحش، واستطالة ألسنة قريش فيهم أنزل الله هذه الآية:

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} 1.

وقال عبد الله بن جحش يرد على قريش:

تعدون قتلا في الحرام عظيمة

وأعظم منه لو يرى الرشد راشد

صدودكم عما يقول محمد

وكفر به، والله راءٍ وشاهد

وإخراجكم من مسجد الله أهله

لئلا يرى لله في البيت ساجد

فإنا وإن عيرتمونا بقتله

وأرجف بالإسلام باغ وحاسد

سقينا من ابن الحضرمي رماحنا

بنخلة لما أوقد الحرب واقد

دما وابن عبد الله عثمان بيننا

ينازعه غل من القد عاند2

1 سورة البقرة: 217.

2 ذكر ابن هشام أنها تنسب أيضا لأبي بكر، ومهما يقل في نسبتها فإن فيها الجواب الطبيعي الذي لا يعقل، إلا أنهم أجابوا به قريشا.

واقد: هو ابن عبد الله التميمي الذي رمى ابن الحضرمي فقتله، وعثمان بن عبد الله: أحد الأسيرين، والغل: ما يشد على العنق. والقد: السير من جلد.

ص: 72

قال المرزوقي: "كانت هذه الأسواق منها ما يقوم في الأشهر الحرم ولا يقوم في غيرها، ومنها ما لا يقوم في الأشهر الحرم ويقوم في غيرها، لكنه لا يصل إليها أحد إلا بخفير ولا يرجع إلا بخفير".

ولا يخفى أن الأمن من أوكد الأسباب في انتظام أمور التجارة، فلولاه ما أخرج بائع بضاعة، ولا تظاهر مشترٍ بملك نقود. ومن هنا كان لقريش تلك الزعامة التجارية؛ لأنها تسكن الحرم حيث الأمن والسلم، وحيث لا تحدث أحدا نفسه بالبغي والعدوان. فكانت تجارات العرب أروج ما تكون حيث يستتب الأمن وتعم الثقة.

رعاية هذه الحرم على ما تقدم ليست مطردة على إطلاقها، بل هي كذلك في الأعم الأغلب، إذ إن هناك قبائل معدودة لا تعرف لهذه المحرمات حقا، فكانت تسفك الدم ولو في الشهر الحرام أو البلد الحرام. علمت قريش أمر هذه القبائل، فكانت تسلك في طريقها على القبائل التي تحفظ لها حرمتها، فإذا وردت على من لا يرعاها تخفّرت بخفير.

ونحن مدينون للمرزوقي الذي له الفضل بإطلاعنا على ما لقريش من منزلة سامية في نفوس قبائل العرب، وخاصة الذين يكونون على

ص: 73

طريقها، كما علمنا من القبائل التي لا تجتاز بها قريش إلا متخفرة.

كانت قريش في خروجها من مكة قاصدة دومة الجندل إذا "أخذت على الحزن لم تنخفر بأحد من العرب حتى ترجع؛ وذلك أن مضر عامتهم لا تتعرض لتجار قريش ولا يتهجمهم حليف لمضري، مع تعظيمها لقريش ومكانهم من البيت. وكانت مضر تقول: قد قضت عنا قريش مذمة ما أورثنا أبونا إسماعيل من الدين. وكانوا إذا خرجوا من الحزن أو على الحزن وردوا مياه كلب، وكانت كلب حلفاء بني تميم. فإذا سفلوا عن ذلك أخذوا في بني أسد، حتى يخرجوا على طيء فتعطيهم وتدلهم على ما أرادوا؛ لأن طيئا حلفاء بني أسد. فإذا أخذوا طريق العراق تخفروا ببني عمرو بن مرثد من بني قيس بن ثعلبة، فيجيز لهم ذلك ربيعة كلها".

هذا هو نظر أغلب العرب إلى قريش: تعظيم لهم احترام؛ لمكانهم من البيت، ولأنهم سدنته والقائمون بأمور الحاجّ أيام الحج. أذعنت لهم بذلك العرب وعرفوا لهم حقوقهم؛ لأنهم قوام الدين الذي دان به العرب قبل الإسلام وهم لهم تبع. وقد استغل القرشيون هذه المكانة القدسية، فضربوا في جزيرة العرب شمالا وجنوبا متاجرين لا يعرض لهم، ولا لأموالهم أحد.

ص: 74

وكانوا بطبيعة الأمر مسيطرين على الأسواق الثلاث الكبرى التي تقوم قريبا من مكة، وهي: عكاظ ومجنة وذو المجاز، وفيها يجتمع أكبر حفل من بلاد العرب من جميع أطرافها لوقوع هذه الأسواق في أيام الحج، وقريبا من أمكنته.

ويظهر أن قريشا لم تكتف بما لها من نفوذ في قبائل العرب، بل أرادت أن تصبغ نفسها صبغة تمتاز بها منهم في الدين نفسه، كأنهم طبقة خاصة تتمتع بحقوق ليس لغيرهم أن يتمتع بها، ورمت من وراء ذلك إلى أن تمكن هيبتها في نفوس الأعراب الغفل، أقصد بذلك ما يعرف في كتب السير بحديث "الحُمْس":

مادة "حمس" في اللغة تفيد الشدة والصلابة في الدين والقتال.

تلقبت قريش بالحمس هي وأحلافها من كنانة، وخزاعة، وجديلة، وكلاب، وكعب، وعامر، بنو ربيعة بن عامر بن صعصعة1، ومن تبعهم في الجاهلية، وخلاصة هذا الحديث في بدعتهم تلك أنهم قالوا فيما بينهم:

"نحن بنو إبراهيم وأهل الحرمة وولاة البيت وقطّان مكة، فليس لأحد من العرب مثل حقنا ولا مثل منزلتنا، ولا تعرف له

1 العمدة 2/ 188. ولأبي عبيدة "كتاب الحمس من قريش"، الفهرست لابن النديم ص80. وانظر تعدادهم أيضا في "المحبر" لمحمد بن حبيب ص178.

ص: 75

العرب مثل ما تعرف لنا. فلا تعظموا شيئا من الحل كما تعظمون الحرم، فإنكم إن فعلتم ذلك استخف العرب بحرمتكم وقالوا: قد عظموا من الحل مثل ما عظموا من الحرم". فأجمعوا على هذا الرأي وتركوا الوقوف على عرفة والإفاضة منها كما يفعل سائر العرب. وهم مع إقرارهم أن الوقوف بعرفة من مشاعر الحج ودين إبراهيم، ومع أنهم يأمرون العرب عامة بالوقوف والإفاضة، ابتدعوا لأنفسهم البقاء في الحرم واعتذروا لذلك بقولهم: "نحن أهل الحرم، فليس ينبغي لنا أن نخرج من الحرم، ولا نعظم غيرها كما نعظمها نحن الحمس". فـ "لا نفيض إلا من الحرم، نحن قطين الله فلا نخرج من حرمه"1 وجعلوا لأنفسهم حق تمييز غيرهم بما ميزوا به أنفسهم. ثم ترقوا في الامتياز فحرموا على أنفسهم ائتقاط الأقط وسَلْء2 السمن ما داموا حرما، كما حرموا الاستظلال بغير بيوت الأدم محرمين، وكما حرموا على أنفسهم أن يدخلوا بيتا ما داموا محرمين. ثم حظروا على غيرهم الأكل من غير طعام الحرم، فمن جاء بطعام من غير الحرم، وكان حاجا أو معتمرا حرم عليه الأكل منه. ولم يقتصر تحكمهم بغيرهم على هذا،

1 تيسير الوصول 1/ 305، والقطين: الجيران.

2 سلأ السمن: طبخه وعالجه، والأقط: شيء يتخذ من المخيض الغنمي، وأقط الطعام: عمله به. "القاموس".

ص: 76

بل تعداه إلى الثياب فحجروا على كل إنسان من غيرهم الطواف بالبيت أول ما يقدمون إلا بثياب الحمس، فإن لم يجدوا منها شيئا طافوا عراة ومن طاف في غير ثياب الحمس حرمت عليه بعد الطواف فألقاها ولم يُنتفع بها قط1.

وكانت العرب إذا أحرمت لم تدخل البيوت من أبوابها، وإنما تنقب في ظهورها نقبا فتدخل منه وتخرج ويزعمون أن ذلك من البر، إلا الحمس فإنهم امتازوا من بين سائر العرب بدخول البيوت من أبوابها وهم محرمون، وجروا على ذلك حتى في الإسلام وكانوا يستنكرون من غير الحمس أن يدخل أحد بيته محرما من بابه، فيذكرون أنه "بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في بستان، إذ خرج من بابه وخرج معه قطبة بن عامر الأنصاري، فقالوا: يا رسول الله، إن قطبة رجل فاجر وإنه خرج معك من الباب!! " فقال له: "ما حملك على ما فعلت"؟ قال: "رأيتك فعلته ففعلت كما فعلت" قال: "إني رجل أحمسي" قال له: "فإن ديني دينك"2. ورووا مثل هذا الحادث لصحابي اسمه رفاعة، فلما خرج مع النبي من الباب قالوا: "يا رسول الله نافق رفاعة! "2.

1 انظر تفصيلا أوفى من هذا في "المحبر" لمحمد بن حبيب ص180.

2 انظر لباب النقول في أسباب النزول.

ص: 77

استغلوا سذاجة من حولهم من الأعراب؛ لينفردوا بالحرمة والتقديس فيأمنوا بعدها على تجارتهم، ويستفيدوا من هذا التمويه ثراء وبسطة عيش. فلما جاء الإسلام دكت الامتيازات كلها جملة واحدة، ونزل قول الله لقريش:

{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} 1 كما نزل قوله تعالى في نسخ إتيان البيوت من ظهورها: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} 2، فشعائر الدين بعد هذه الآية يذعن لها الناس جميعا بلا تمييز.

واستوى في الحج القرشي وغيره بعد أن كانت قريش تنفرد دون جميع الحجاج إذا خرجوا من مكة يوم التروية وترووا من الماء، فتنزل الحمس أطراف الحرم من نمرة يوم عرفة، وتنزل الحلة عرفة. وقد أجمع أصحاب السير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف مع الناس بعرفة في سنته التي دعا فيها قبل الهجرة ولم يقف مع الحمس في طرف الحرم، فكان هذا مما جلب نظر الناس. وروى ابن هشام عن جبير3 بن

1 سورة البقرة: 199.

2 سورة البقرة: 189، وانظر المصدر السابق.

3 كان جبير هذا من أصحاب التجارات المشهورين، ولما انقضت بيعة العقبة، وعرفت قريش أمرها وأرسلت تتعقب اليثربيين، ووقع في قبضتها سعد بن عبادة، أجاره جبير بن مطعم والحارث بن أمية، إذ كان سعد يجير لهما قوافلهما التجارية كلما مرت بالمدينة.

ص: 78

مطعم أنه قال: "أضللت بعيرا في يوم عرفة، فخرجت أقصه وأتبعه بعرفة، إذ أبصرت محمدا بعرفة! فقلت: هذا من الحمس، فما يقفه ههنا؟! فعجبت له"1.

تزيُّد قريش في دينها أو في ابتداعها على الأصح، علّم بعض الاحتيال، وما زال الدين -كما عليه الوطنية في أيامنا- مبتلى بمكر المرتكبين والمحتالين ورواد المنافع. فكان إذا أحدث أحد العرب حدثا وخاف على نفسه وجد في حرمة الشهر وحرمة الحرم خير معاذ يعتصم به من أن يناله القصاص. والظاهر أن أمثال هذه الحوادث تكررت حتى حلت من حياة العرب الاجتماعية محل العادات المستحكمة، فقد ذكر الأزرقي أنه كان من سنتهم أن الرجل يحدث الحدث: يقتل الرجل أو يلطمه أو يضربه، فيربط لحاء من لحاء2 الحرم قلادة في رقبته ويقول:"أنا ضرورة" فيقال: "دعوا الضرورة بجهله، وإن رمى بجعره3 في رحله" فلا يعرض له أحد، فقال النبي

1 انظر ج2 ص194.

2 اللحاء: ما على العود من قشر، بالمد والقصر لغة.

3 الجعر: ما يبس من العذرة.

ص: 79

صلى الله عليه وسلم: "لا ضرورة في الإسلام، وإنه من أحدث حدثا أخذ بحدثه" 1 ا. هـ.

إذا أضفت هذه التزيدات إلى ما في نفوس العرب من نفرة للخضوع حتى للدين، استطعت أن تستسيغ وجود قبائل تستهين بالحرمات وتتجاهل مكان قريش فتراها كغيرها من سائر العرب دماء وأموالا، بل تذهب أبعد من ذلك فلا ترعى حرمة شهر ولا أيام حج. ومن هنا تخوَّف الناس بعض التخوف من ورود الأسواق عزلا، ولو كانت مواسمها في الأشهر الحرم. فإن كنت علمت أن عكاظ ومجنة وذا المجاز، الأسواق الكبرى للعرب، تقام في الأشهر الحرم، فاعلم أن الأمن فيها هو أكثر حالها والأغلب من أيامها، وأن ما وقع فيها من أحداث استحلت فيها حرمتها، صادر ممن لا يرى لها حرمة وهم أقلية قلما يقيم المؤرخون لها حسابا.

انقسم العرب إزاء حرمة هذه الأسواق أقساما ثلاثة:

1-

فأما قسم، فقد استحلوا المظالم فيها في أشهر الحج، ففعلوا المناكر وأحلوا الحرام وفتكوا وسرقوا ولم يحفظوا للمكان ولا للشهر ولا لقريش حرمة ما، فسموا "المحلين" لما استحلوا من الحرم

1 أخبار مكة ص132.

ص: 80

وهم قبائل من أسد وطيء وبكر بن عبد مناة، وقوم من بني عامر بن صعصعة1، وأناس من خثعم وقضاعة. وغير هؤلاء أيضا: ذؤبان وصعاليك وخلعاء، ممن نفاهم قومهم وتبرءوا منهم.

1-

وأما القسم الثاني، فأقوام حفظت للمكان قدسه وللشهر حرمته وللقُوَّام على البيت منزلتهم، فكفت عن الفتك والسرقة وسائر المظالم، وأنكرت على المحلين استخفافهم، ونصبت أنفسها لنصرة المظلوم وحقن الدماء ومنع الأذى فسموا بـ "الذادة المحرمين" وهم أغلب العرب.

3-

والقسم الثالث "أهل هوى شرعه لهم صلصل بن أوس من بني عمرو بن تميم، فإنه أحل قتال المحلين"2 فيلبسون سلاحهم؛ ليدفعوا عن الناس أذى المحلين من الفريق الأول. وكان في هؤلاء أيضا قبائل من طيء وخثعم، وناس من بني أسد بن خزيمة.

أما سائر العرب ممن لم نعد، فهم في صف المحرّمين: يضعون أسلحتهم في الأشهر الحرم و"كان الرجل إذا خرج من بيته حاجا أو داجا "والداج: التاجر في الأشهر الحرم" أهدى وأحرم ثم قلّد

1 انظر كتاب الأزمنة والأمكنة 2/ 166.

2 الأزمنة والأمكنة 2/ 166.

ص: 81

وأشعر1، فيكون ذلك أمانا له في المحلين. وكان الداج إذا انفرد وخشي على نفسه ولم يجد هديا، قلد نفسه بقلادة من شعر أو وبر، وأشعر نفسه بصوفه فيأمن بها، وإذا صدر من مكة تقلد من لحاء شجر الحرم. وكان الداج وغيره إذا أمّ البيت وليس له علم بذلك ولا هو في سيماء المحرم أخذ المحلون ما معه. وكانت العرب جميعا تنزع أسنتها في الأشهر الحرم، غير المحلين والذين يقاتلونهم، فإنهم كانوا يقاتلونهم حتى في الأشهر الحرم"2.

خير تلك الطوائف الطائفة الثالثة التي نعتها المرزوقي بأنها أهل هوى؛ إذ لا يكفي أن يكون الإنسان محرما يرعى ذمام الشهر والمكان، كافّا أذاه عن غيره وهو ينظر إلى المحلين يسفكون الدم الحرام وينهبون المال الحرام. ليس من البر أن يترك هؤلاء وانتهاكهم، بل البر كل البر أن يكون المرء محرما ثم مدافعا عن المحرمين شر هؤلاء المعتدين، وبذلك تستأصل شأفتهم ويحسم ضرهم. أما كف

1 أهدى: ساق الهدي، وهو ما يهدى إلى الحرم من النعم. وأحرم: دخل بالحج. وقلد: من تقليد الهدي، وهو أن يعلق بعنق البعير قطعة من جلد؛ ليعلم أنه هدي فيكف الناس عنه. وأشعر البدنة "الناقة" إشعارا: حزّ سنامها، حتى يسيل منه الدم فيعلم أنها هدي.

2 الأزمنة والأمكنة 2/ 166.

ص: 82

اليد والاقتصار عليه بينما العين تنظر مكان المستبيحين ومدى أذاهم في الآمنين البريئين، فإنه إن لم يكن إثما لم يكن برا، وإن دان به أكثر العرب. ولعل خير ما يمثل هؤلاء كلمة الزبير بن عبد المطلب أحد الحمس، وكان شاعرا خطيبا سيدا جوادا:

ولولا الحمس لم يلبس رجال

ثياب أعزة حتى يموتوا

ثيابهم شمال أو عباء

بها دنس كما دنس الحميت1

ولكنا خلقنا إذ خلقنا

لنا الحبرات والمسك الفتيت

ويقطع نخوة المختال عنا

رقاق الحد ضربته صموت

بكف مجرب لا عيب فيه

إذا لقي الكريهة يستميت1

بقي أمر، وهو أي الحرمتين العرب أكثر رعاية لها: آلشهر أم الحرم؟ فإن المرء ليحب أن يعرف الواقع ليستطيع أن يتمم فكرته عن مفاضلتهم بين الحرمتين. ومن يتتبع ما وراء الحوادث يعرف أن العرب أرعى لحرمة الحرم منها لحرمة الشهر، ولنا على ذلك أدلة:

1-

منها أن حرمة الحرم لا تكلفهم إلا رعاية مكان محدود مدة إقامتهم فيه، فهي ميسورة لهم وقل أن حفظ التاريخ انتهاكا لحرمة

1 ص72 رسائل الجاحظ "جمع السندوبي" الحميت: الزق الصغير، وعاء السمن ممتن بالرب، القاموس.

ص: 83

الحرم. وليس كذلك حرمة الشهر فإن أمد رعايتها طويل جدا وهو ثلث السنة، فيجب عليهم أن يكفوا عن الاعتداء مدة أربعة أشهر في أي بقعة كانوا، وهو قيد صعب على طبيعة العربي النفور من القيود.

2-

كثير من القبائل انتهكت حرمة الشهر، ولم تجرؤ على انتهاك حرمة الحرم على حين أن ثأرها وشرفها -وأنت تعلم قيمتهما عندهم- كان يتقاضيانها غض النظر عن حرمة الحرم. كان من هؤلاء القبائل قريش نفسها، فسيمر بك في حرب الفجار التي كانت بين قريش وأحلافها من جهة وهوازن وقيس وأحلافهما من جهة أخرى، أن القوم اقتتلوا بعكاظ في الشهر الحرام فاستووا جميعا في انتهاك حرمته مع أن قريشا هي القيّمة على دين العرب بحكم مكانها من البيت.

إلا أن قريشا لما انسلّت من عكاظ حين أتاها نبأ اعتداء أحد أحلافها على هوازني، خوفا من هوازن التي كانت متكاثرة في السوق، علمت هوازن بالأمر فاتبعت قريشا فاقتتلوا حتى جاء الليل ودخلت قريش الحرم، فأمسكت عنهم هوازن رعاية لحرمته. فهم جميعا يرون للحرم من الرعاية ما لا يرون للشهر.

3-

للعرب أساطير تقص العقاب الشديد الذي نزل بمن لم يبالِ

ص: 84

حق الحرم، وليس لهم في قوتها أساطير تعاقب من انتهك حرمة الشهر. واقرأ إن شئت حديث إساف ونائلة1 اللذين مسخا صنمين؛ لأنهما لم يحفظا للبيت حرمة، واقرأ إن شئت الأحداث التي ترويها سيرة ابن هشام "1/ 18 فما بعد" في ذلك والأشعار، وكلها متضافرة في بيان تعظيم حرمة البيت والعقاب الشديد الذي حل بمن أراد انتهاكها.

4-

أمر النسيء وهو تلاعب محض بالتقاليد التي تخص الشهر، ولم يؤثر لهم مثله ولا قريب منه فيما يخص الحرم. جاء في أمالي القالي:

"إنهم كانوا إذا صدروا عن منى قام رجل من بني كنانة يقال له: نعيم بن ثعلبة فقال: "أنا الذي لا أعاب ولا يرد لي قضاء" فيقولون له: "أنسئنا شهرا" أي: أخر عنا حرمة المحرم فاجعلها في صفر.

وذلك أنهم كانوا يكرهون أن تتوالى عليهم ثلاثة أشهر "ذو القعدة وذو الحجة والمحرم" لا تمكنهم الإغارة فيها؛ لأن معاشهم كان من الإغارة، فيحل لهم "نعيم بن ثعلبة" المحرم ويحرم عليهم "بدلا منه"

1 في كتاب الأصنام للكلبي: أن إساف رجل من جرهم يقال له: إساف بن يعلى، ونائلة بنت زيد من جرهم وكان يتعشقها في أرض اليمن، فحجا فدخلا الكعبة، فوجدا غفلة من الناس وخلوة من البيت، ففجر بها فيه فمسخا، فأصبحوا فوجدوهما ممسوخين، فوضعوهما ليتعظ بهما الناس. فلما طال مكثهما وعُبدت الأصنام عُبدا معها ا. هـ. ثم صارت قريش تنحر عندهما النسائك.

ص: 85

صفرا، فإذا كان في السنة المقبلة حرم عليهم المحرم وأحل لهم صفرا، فقال الله عز وجل:{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ} الآية1.

وقال الشاعر:

ألسنا الناسئين على معد

شهور الحل نجعلها حراما"2

هذا وقد وقر في نفوس العرب "أن مكة لا تقر فيها بغيا ولا ظلما، لا يبغي فيها أحد إلا أخرجته ولا يريدها ملك يستحل حرمتها إلا هلك مكانه"3. وذهب الزرقاني إلى أنها سميت "بكة"؛ لأنها تبك "تدق" أعناق الجبابرة.

فللحرم في صدورهم رهبة، لا يدانيه فيها غيره.

رأيت أن اسم الحرم الذي تضاف إليه قريش، كان خير حارس لتجارتها وعيرها. تسير بفضله آمنة مطمئنة، تتمتع بالرعاية والحرمة إلى اليمن وإلى العراق وإلى الشام.

وقد ذكر النيسابوري في تفسيره "عند الكلام على الإيلاف"

1 سورة التوبة: 38.

2 1: 4 طبع دار الكتب المصرية، وانظر مروج الذهب للمسعودي 1/ 367.

3 شرح المواهب "للزرقاني" 1/ 92.

ص: 86

أن أشراف مكة لما كانوا يرتحلون للتجارة في الشتاء والصيف، كانوا "يأتون لأنفسهم ولأهل بلدهم بما يحتاجون إليه من الأطعمة والثياب، وإن ملوك النواحي كانوا يعظمونهم ويقولون: هؤلاء جيران بيت الله وقطّان حرمه، فلا يجترئ عليهم أحد". وظاهر أن المقصود بملوك النواحي أمراء العرب في اليمن والعراق والشام؛ فإن هؤلاء هم الذين يعظمون البيت؛ لا قيصر وكسرى.

هذا مكان قريش من العرب في الأعم الأغلب، ولا حكم للنادر. ولو لم يكن ذلك مستتبا لقريش ما كان هناك من معنى لسعي هاشم في طرق أبواب الأسواق الخارجية يفتحها لقبيله، بينما تجارته المحلية غير آمنة. فهو وإخوته ما شرعوا بمفاوضاتهم التجارية مع دول الرومان والفرس واليمن الحبشة إلا وقد فرغوا من الاطمئنان إلى الطرق الموصلة إلى هذه الممالك.

ص: 87