المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سوق هجر: يتناول اسم هجر أرض البحرين عامة، وهي واليمن وعمان - أسواق العرب في الجاهلية والإسلام

[سعيد الأفغاني]

الفصل: ‌ ‌سوق هجر: يتناول اسم هجر أرض البحرين عامة، وهي واليمن وعمان

‌سوق هجر:

يتناول اسم هجر أرض البحرين عامة، وهي واليمن وعمان من أخصب بلاد العرب وأكثرها رخاء، وذكر ياقوت في معجمه أنها قاعدة البحرين. موقع هذه البلدة في جنوب الخليج الفارسي، وتكون على اتصال دائم ببلاد الهند وفارس، يجلب إليها مختلف الأصناف، ولأهلها أسباب أخر للمعاش غير التجارة، كالغوص على اللؤلؤ، وهم لا يزالون على ذلك إلى اليوم كسائر سكان البحرين، والنسبة إليها هجري على القياس وهاجري على غير قياس. قال دريد بن الصمة:

وربت غارة أوضعت فيها

كسحّ الهاجريّ جريم تمر1

وهجر مشهورة بكثرة وبائها، حتى قال عمر بن الخطاب:"عجبت لتاجر هجر، وراكب البحر" يريد أنهما سواء في التعرض للخطر

1 جرم النخلة: قطعها، والجريم: التمر اليابس، والنوى، ورواية اللسان:

"كسح الخزرجي".

وقال: "معناه أي: صببت على أعدائي كصب الخزرجي جريم التمر وهو النوى" وهجر أيضا قرية من قرى المدينة تنسب إليها القلال الهجرية، انظر اللسان والتاج وياقوتا وشرح شواهد المغني ص68 فقد نقل هذا: أن هجر بلدتان: هجر البحرين ذات التمر، وهجر الحجاز ذات القلال.

ص: 245

وصارت ديار القرامطة فيما بعد، وقد احتفّ بها قبائل كثيرة من مضر.

وهي أكثر بلاد العرب تمورا وأطيبها، وأروج تجاراتها التمر، به عرفت وبها اشتهر حتى ضرب به المثل فقالوا:"كمبضع تمر إلى هجر" كما قالوا: "كجالب الدر إلى البحر" قال أبو عبيد: "هذا من الأمثال المبتذلة، ومن قديها؛ وذلك أن هجر معدن التمر والمستبضع إليه مخطئ". ونخلها كثير ملتف غاية في الجودة والطيب. قال الشاعر يذكر إبلا خرجت للميرة إلى هجر، فرجعت بغير كف ولا طعام:

حبسن بين رملة وقف

وبين نخل هجر الملتف

ثمت أصدرن بغير كف1

وقد استفاض على ألسنة الناس ذكر تمرها والثناء على جودته وطيبه، وملئت كتب الأدب بالإشارة إليه، فهذا رسول جميل إلى بثينة يبلغها ما أرسل به، فتتحفه بتمر من تمر هجر2.

وذاك أعرابي حضر وليمة لعبد الملك بن مروان، عجز الفصحاء عن وصف ما حوت من الأطايب والألوان، فقيل له: "هل رأيت

1 ياقوت، والقف: ما ارتفع من الأرض وحجارة غاص بعضها ببعض، لا تخالطها سهولة، وهو جبل إلا أنه غير طويل. والكف: بقلة الحمقاء والنعمة.

2 الأغاني 2/ 138.

ص: 246

يا أعرابي طعاما أطيب وأكثر من هذا؟ " فقال: "أما أكثر فلا، وأما أطيب فنعم

" وذكر طعاما فيه تمر هجر1.

1 ذكر الخبر مفصلا صاحب الأغاني 7/ 50 فقال:

صنع عبد الملك بن مروان طعاما، فأكثر وأطاب ودعا إليه الناس فأكلوا، فقال بعضهم:"ما أطيب هذا الطعام، ما نرى أن أحدا رأى أكثر منه، ولا أكل أطيب منه! " فقال أعرابي من ناحية القوم: "أما أكثر فلا، وأما أطيب فقد والله أكلت أطيب منه" وطفقوا يضحكون من قوله.

فأشار إليه عبد الملك فأُدني منه، فقال:"ما أنت بمحق فيما تقول إلا أن تخبرني بما يبين به صدقك" فقال: "نعم يا أمير المؤمنين:

بينا أنا بهجر في ترب أحمر في أقصى حجر، إذ توفي أبي وترك كلا وعيالا وكان له نخل، فكانت فيه نخلة لم ينظر الناظرون إلى مثلها كأن ثمرها أخفاف الرباع، لم ير تمر قط أغلظ ولا أصلب ولا أصغر نوى ولا أحلى حلاوة منها، وكانت تطرقها أتان وحشية قد ألفتها تأوي الليل تحتها فكانت تثبت رجليها في أصلها وترفع يديها وتعطو بنيها فلا تترك إلا النبذ والمتفرق، فأعظمني ذلك ووقع مني كل موقع، فانطلقت بقوسي وأسهمي وأنا أظن أني أرجع من ساعتي، فمكثت يوما وليلة لا أراها حتى كان السحر، فأقبلت فتهيأت لها فرشقتها فأصبتها وأجهزت عليها، ثم عمدت إلى سرتها فافتريتها، ثم عمدت إلى حطب جزل فجمعته إلى رضف، ثم عمدت إلى زندي فقدحت وأضرمت النار في ذلك الحطب وألقيت سرتها فيها وأدركني نوم السبات فلم يوقظني إلا حر الشمس في ظهري، فانطلقت إليها فكشفتها وألقيت ما عليها من قذى أو سواد أو رماد ثم قلبت مثل الملاءة البيضاء، فألقيت عليها من رطب تلك النخلة المجزعة والمنصفة فسمعت لها أطيطا كتداعي عامر وغطفان، ثم أقبلت أتناول الشحمة واللحمة فأضعها بين التمرتين وأهوي إلى فمي، فيما أحلف: إني ما أكلت طعاما مثله قط". فقال له عبد الملك: لقد أكلت طعاما طيبا

إلخ.

ص: 247

وليس هذا التمر معروفا عند الأدباء وحدهم، بل إن ذكره لابس مسألة نحوية مشهورة، فما على الأرض نحوي إلا يعرف لهجر تمرها، فقد أتى خلف الأحمر ويحيى اليزيدي أبا المهدي أعرابيا فصيحا حجة، وكان به عارض فوجداه يصلي، فلما التفت قال:"ما خطبكما؟ " قالا: "كيف تقول: ليس الشرابُ إلا العسلُ؟ " فقال: "فما يصنع سودان هجر، ما لهم شراب غير هذا التمر"1.

1 والقصة على التمام ذكرها أبو علي القالي في أماليه 3/ 39 قال:

حدثنا أبو حاتم قال: سمعت الأصمعي يقول: جاء عيسى بن عمر الثقفي ونحن عند أبي عمرو بن العلاء فقال: "يا أبا عمرو، ما شيء بلغني عنك تجيزه؟ " قال: "وما هو؟ " قال: "بلغني عنك أنك تجيز: ليس الطيبُ إلا المسكُ بالرفع" فقال أبو عمرو: "نمت يا أبا عمر وأدلج الناس، ليس في الأرض حجازي إلا وهو ينصب، وليس في الأرض تميمي إلا وهو يرفع" ثم قال أبو عمرو: "قم يا يحيى -يعني اليزيدي- وأنت يا خلف -يعني الأحمر- فاذهبا إلى أبي المهدي فإنه لا يرفع، واذهبا إلى المنتجع ولقناه النصب، فإنه لا ينصب".

قال: فذهبا فأتيا أبا المهدي فإذا هو يصلي، وكان به عارض وإذا هو يقول:"لقد أخسأناه عني" ثم قضى صلاته والتفت إلينا وقال: "ما خطبكما؟ " قلنا: "جئناك نسألك عن شيء" قال: "هاتيا" فقلنا: "كيف تقول: ليس الطيبُ إلا المسكُ؟ " فقال: "أتأمرانني بالكذب على كبرة سني؟ فأين الجادي وأين كذا؟ وأين بنة الإبل الصادرة؟ " فقال له خلف: "ليس الشرابُ إلا العسلُ" فقال: "فما يصنع سودان هجر؟ ما لهم شراب غير هذا التمر". قال اليزيدي: فلما رأيت ذلك منه قلت له: "ليس ملاك الأمر إلا طاعةُ الله =

ص: 248

ولهجر شأن آخر في آداب اللغة العربية غير هذا المثل المضروب وتلك القاعدة النحوية، إذ في دِهاسها1 هلك المهلهل، أول من هلهل الشعر وأرق نسجه، مات عطشا في حمارّة القيظ "الأغاني 6/ 128". ومن الغريب أن سبب موته هو خمر هجر هذه: وذلك أن عمرو بن مالك ومهلهلا التقيا في خيلين من غير مزاحفة في بعض الغارات بين بكر وتغلب، فانهزمت خيل مهلهل وأدركه عمرو بن مالك فأسره، فانطلق به إلى قومه وهم في نواحي هجر، فأحسن إساره، ومر عليه تاجر يبيع الخمر، قدم بها من هجر وكان صديقا لمهلهل يشتري منه الخمر، فأهدى إليه وهو أسير زق خمر، فاجتمع إليه بنو مالك فنحروا عنده بكرا وشربوا عند مهلهل في بيته -وقد أقرد له عمرو بيتا يكون فيه- فلما أخذ منهم الشراب تغنى مهلهل فيما كان يقوله من الشعر وينوح به على كليب، فسمع ذلك عمرو بن مالك وهاج تغنّيه كامن الغيظ في

= والعمل بها" فقال: "هذا كلام لا دخل فيه، ليس ملاك الأمر إلا طاعةَ الله والعمل بها" فقال اليزيدي:"ليس ملاكُ الأمر إلا طاعةُ الله والعمل بها" فقال: "ليس هذا لحني ولا لحن قومي". فكتبنا ما سمعناه منه ثم أتينا المنتجع، فأتينا رجلا يعقل، فقال له خلف:"ليس الطيب إلا المسكَ" فلقنّاه النصب وجهدنا فيه فلم ينصب، وأبى إلا الرفع.

فأتينا أبا عمرو فأخبرناه وعنده عيسى بن عمر لم يبرح، فأخرج عيسى بن عمر خاتمه من يده وقال:"ولك الخاتم، بهذا والله فقت الناس" ا. هـ.

1 الدهاس: المكان السهل ليس برمل، ولا تراب.

ص: 249

نفسه فقال: "إنه لريَّان، والله لا يشرب ماء حتى يرد ربيب""وربيب هذا جمل كان لعمرو بن مالك، وكان يتناول الدِّهاس من أجواف هجر فيرعى فيها غبا بعد عشر في حمارّة القيظ" فأشفق إخوان عمرو من هذا القسم وخافوا أن يزيد الشر بين الحيين إن هلك مهلهل، فأسرعت ركبانهم وخرجت في طلب البعير ربيب، وهم حراص على ألا يقتل مهلهل، فلم يقدروا على البعير حتى مات مهلهل عطشا، ونحر عمرو يومئذ ناقة مسنة فأسرج جلدها على مهلهل وأخرج رأسه.

وهكذا ذهب مهلهل من جراء نشوة من خمر هجر1، وكم أفقدت الخمر الناس رءوسهم وسادتهم، وكم كانت نذير الشر والشؤم منذ الزمن الأقدم، فلنذكرنّ هجر وخمرها، وهذه الميتة الروائية كلما ذكرنا المهلهل وما رقق من شعر.

تهبط العرب هذه السوق ولعلها كانت أكثر مكانة من دومة الجندل؛ لأنها فرضة يجدون فيها من أصناف التجارات التي يأتيهم بها تجار الهند وفارس ما لا يجدون في تلك، ولأن بها من التمر ما طبقت شهرته الآفاق، وضرب في الجودة مثلا في البلاد، وليس ذلك بقليل.

1 في الجزء الأول من مسالك الأبصار فصل عن حانات هجر المشهورة، فارجع إليه ثمة.

ص: 250

وكان بها عدا ذلك ضروب من البضائع، فعلى مقربة منها "الخط" المشهورة برماحها. وفي "رياض الصالحين ص449" أن سويد بن قيس قال:"جلبت أنا ومخزمة العبدي بزا من هجر، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فساومنا سراويل" فأنت ترى أنه يجلب منها بز يباع في المدينة. وكان كسرى يرسل إلى سوق هجر من تجاراته: يرسل إليها لطائم فيها الطيب فيباع فيها، ثم ترجع موقرة عروضا وتمرا. وحدث مرة أن أغارت بنو تميم على لطيمة لكسرى فيها مسك وعنبر وجوهر كثير، فأرسل جيشا أوقع بهم فأخذ الأموال وسبى الذراري بمدينة هجر، وسميت تلك الوقعة "يوم الصفقة"1. ولعل نفوذ كسرى في هذه السوق كان غير ضئيل.

تقصد العرب هذه السوق بعد انفضاضهم من سوق دومة الجندل، فإذا أهلّ ربيع الآخر انتقلوا إليها فقامت سوقها. وينظر في أمرها المنذر بن ساوى أحد بني عبد الله بن دارم، يتولى أمرها ويعشر الناس فيها، وهو ملك البحرين عامة.

1 انظر الخبر مفصلا في العقد الفريد 3/ 354.

ص: 251