المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌ربا الجاهلية: لست هنا بصدد بيان الربا وأنواعه ومضارّه على التجارة - أسواق العرب في الجاهلية والإسلام

[سعيد الأفغاني]

الفصل: ‌ ‌ربا الجاهلية: لست هنا بصدد بيان الربا وأنواعه ومضارّه على التجارة

‌ربا الجاهلية:

لست هنا بصدد بيان الربا وأنواعه ومضارّه على التجارة والعمران والأخلاق، وما يعقب من خراب البيوت وتقويض الأسر وفقدان الثروة والشقاء والدمار، فذلك معروف أمره، مستوفًى شرحه في مظانه من كتب الحديث والتفاسير، عدا ما يعاين الناس في حياتهم من شروره على المرابين أنفسهم قبل غيرهم، فحوادثه نشاهدها في كل يوم بالعشرات. وإنما أريد الإشارة إلى ما استفاض منه في الجاهلية، حتى أتى الإسلام فاجتثّه من جذوره.

يرجح أن الذي أشاع الربا في جزيرة العرب هم اليهود الطارئون عليها، الذين اتخذوا من بعض قراها ومدنها مستعمرات عالجوا فيها الزراعة فأصابوا منها الغنى، ولم يكن لعرب الحجاز فيها كبير نصيب. فكان العربي إذا أعوزه المال اقترض ورهن عند دائنه درعه أو ثيابه أو سلاحه، وأحيانا تشتد به الحاجة ويشتط الدائن فيرهن ولده.

إلا أن الربا لم يقتصر على اليهود، بل ما زال ينتشر في مكة والطائف وخيبر ووادي القرى ويثرب حتى ألفه الناس، وصاروا يأخذون به ويعطون.

ص: 60

اشتهرت الطائف برباها، ولعل هذه الشهرة كانت لمكان اليهود منها فقد جاء في فتوح البلدان للبلاذري "ص56" أنه: "كان بمخلاف الطائف قوم من اليهود طردوا من اليمن ويثرب، فأقاموا بها للتجارة، فوضعت عليهم الجزية

".

ويذكر المفسرون "أن أربعة إخوة من ثقيف كانوا يداينون بني المغيرة بن عبد الله بن عمير بن عوف الثقفي، وكانوا يرابون، فلما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم على الطائف أسلم هؤلاء الإخوة بنو عمرو الثقفي، وطلبوا رباهم من بني المغيرة. فقال بنو المغيرة: "والله ما نعطي الربا في الإسلام وقد وضعه الله عن المؤمنين! ". فاختصموا إلى عتاب بن أسيد وكان عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم على مكة، فكتب إلى النبي بقضية الفريقين وكان ذلك مالا عظيما، فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ

} 1".

هذا، وقد كانت ثقيف صالحت النبي صلى الله عليه وسلم على أن ما لهم من ربا على الناس وما كان للناس عليهم من ربا فهو موضوع، وثقيف هم أهل الطائف.

ولم تقتصر علائق أهل مكة مع أهل الطائف على المراباة والتجارة، بل كان لأهل مكة أملاك بالطائف يصلحونها ويستغلونها، فقد "كان

1 سورة البقرة: 278.

ص: 61

للعباس أرض بالطائف وكان الزبيب يحمل منها فينبذ بالسقاية للحاج، وكانت لعامة قريش أموال بالطائف يأتونها من مكة فيصلحونها

وصارت أرض الطائف مخلافا من مخاليف مكة"1.

وكان بالمدينة -وفيها كثير من اليهود- ربا منتشر، وعرف من مرابيها من أصبح ذا غنى فاحش:

جاء في خزانة الأدب: "كان أُحَيْحة بن الجلاح كثير المال شحيحا عليه، يبيع بيع الربا بالمدينة، حتى كاد يحيط بأموالهم، وكان له تسع وتسعون بئرا كلها ينضح عليها، وكان له

إلخ"2.

ومن مراجعة كتاب الصلح الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل نجران نعلم أن غير اليهود لهم نصيب يحملونه من أمر الربا هذا، فقد شرط عليهم ألا يأكلوا الربا ولا يتعاملوا به "ومن أكل منهم ربا من ذي قِبَل، فذمتي منه بريئة". ولعل نصارى نجران كانوا قد بلغوا من التعامل به مبلغا صعب عليهم فيه تنفيذ هذا الشرط؛ لما تأصل فيهم من اعتياده، حتى استفحل أمره فيهم أيام خلافة عمر بن الخطاب وشاعت لهم أموال أفادوها منه، وخاف عمر العاقبة فأجلاهم3.

1 البلاذري ج1 ص56.

2 خزانة الأدب 3/ 337 "المطبعة السلفية".

3 فتوح البلدان البلاذري 1/ 66.

ص: 62

تسرب الربا إلى أهل مكة وتعاملوا به، وعُرف رجال منهم من أهل الشرف والرئاسة بتعاطيه كالعباس بن عبد المطلب وخالد بن الوليد وعثمان بن عفان1 وغيرهم. ومتى انتشرت عادة قبيحة ستر فشوّها قبحها لم يترفع عنها أحد، وكانت الضرورة والحاجة شر معوان على تعاطيه، وبذلك انحصر الغنى في طائفة معينة وعم الفقر من عداهم.

بلغ اليهود في هذا الميدان شوطا لم يلحقهم فيه لاحق قط؛ لما تركز فيهم من الثراء وما حذقوا من حسن التأتي في تثمير أموالهم، واستغلال الفقر والسذاجة في العرب، فاعتقدوا الأرضين وبنوا الحصون ثم دأبوا في جمع المال وتنميته وإدانته حتى كثرت الرهائن عندهم واشتطوا في طلبها وافتنوا في تنويعها افتنانا شائنا، فصاروا يرتهنون الأولاد ويطلبون النساء أيضا، ولا يرعون في سبيل المادة حلفا ولا آصرة. جاء في سيرة ابن هشام "2/ 341" أن أبا نائلة سلكان بن سلامة أتى أحد أشراف اليهود وأغنيائهم كعب بن الأشرف، وكان أخاه من الرضاعة فقال له:"إني قد أردت أن تبيعنا طعاما ونرهنك ونوثق لك وتحسن في ذلك". فقال كعب: "أترهنونني نساءكم؟! "

1 انظر تفسير الخازن عند قوله: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا} [البقرة: 278] .

ص: 63

قال: "كيف نرهنك نساءنا وأنت أشب أهل يثرب وأعطرهم؟ ".

قال كعب: "أترهنونني أبناءكم؟ " قال: "لقد أردت أن تفضحنا، إن معي أصحابا لي على مثل رأيي، وقد أردت أن آتيك بهم فتبيعهم وتحسن في ذلك، ونرهنك من الحلقة ما فيه الوفاء".

يريد أبو نائلة بقوله: "على مثل رأيي": تضايقهم من مجيء الرسول والمسلمين ومزاحمتهم في بلدهم "المدينة" على العيش، فلينظر امرؤ كيف لم يشفع شيء عند كعب في سبيل المادة، لا مشايعة القوم له "ظاهرا" في هواه وعداوته لرسول الله، ولا أخوة الرضاعة، لا شيء إلا المال والربح، المال وحده هو معبود اليهود منذ خُلقوا إلى يوم يبعثون.

هذا الغلو من اليهود في الربا، وتعاطيه منذ القديم هو السبب في تشنيع القرآن الكريم لفعلتهم، وتعنيفهم عليها حين يقول:

{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا، وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} 1.

1 سورة النساء: 158، 159.

ص: 64

أتى الإسلام وطعمة كثير من الجاهليين ومأكلهم من الربا، فامتنع قسم منهم من الاتجار؛ لأن الربح قد حصل لهم بأخف مئونة وأيسر مشقة؛ فلا أسفار ولا تعرض لأخطار ولا جهد ولا سعى. وكف أكثرهم بطبيعة الحال عن الإقراض بلا فائدة واعتاد المدين إعطاء الربا راضيا، غير واجد فيه غبنا ولا شناعة، وقال كثير منهم:"سواء علينا الزيادة في أول البيع بالربح أو عند المحل لأجل التأخير"، هوّنوا بذلك على أنفسهم، ورأوا البيع والربا سواء في الزيادة حتى أكذبهم الله، وعنفهم أشد تعنيف بقوله:{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} 1.

ولما حرم الإسلام الربا جملة واحدة كان لا بد من تشريع حاسم للعلاقات التي سبقت إسلام المتعاملين به، والتي كانت لا يخلو من الارتباط بها من كان يتعاطى التجارة وغيرها من شئون الكسب ووقف الناس إزاء مشكلة جديدة: هل يمضون عقودهم على ما عقدوا قبل الإسلام إذا حل الأجل، أم يتقيدون بتعاليمه فيهملون ما كان منها فاسدا حسب هذه التعاليم؟ وإذا كان الأمر الثاني فلا بد حينئذ من

1 سورة البقرة: 275.

ص: 65

غبن -في زعمهم- يلحق الدائن. وقد عرضت قضية من هذا الشكل، فنزل الوحي بالحل القاطع:

ذكر الطبري في تفسيره: أن العباس ورجلا من بني المغيرة "لعله خالد بن الوليد المصرح به في تفسير الخازن" كانا شريكين في الجاهلية، سلّفا في الربا إلى أناس من ثقيف وهم بنو عمرو بن عمير، فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا. وذكر الخازن أن عثمان بن عفان والعباس بن عبد المطلب كان أسلفا في التمر، فلما كان وقت الجُذاذ قال صاحب التمر لهما:"إن أنتما أخذتما حقكما لم يبق لي ما يكفي عيالي، فهل لكما أن تأخذا النصف وتؤخرا النصف، وأضعف لكما؟ " ففعلا، فلما حل الأجل طلبا منه الزيادة، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاهما.

وسواء أكانت الحادثة الأولى أم الثانية سببا في نزول الآية، فإن من المعقول أن تتعدد الحوادث على هذا النسق لتفشي المعاملات فيما سبق على الربا، وحلول الآجال أجلا بعد أجل، وتحير الدائن والمدين معا بين إمضاء التعاقد السابق للتحريم، والإذعان والكف عما نهى الله عنه، أيا كان، فقد نزل قول الله فاصلا في هذه المسائل وأشباهها بهذا التشريع الحاسم، الذي لا هوادة فيه:

ص: 66

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} 1.

فسمع العباس وخالد وعثمان وغيرهم، وأطاعوا وأخذوا رءوس أموالهم. وكتب رسول الله يجيب عَتَّابا عامله على مكة بهذه الآية، وقال له في آخرها:"إن رضوا، وإلا فآذنهم بحرب"2.

هذا ما كان من الربا في الجاهلية عامة: يبيع الرجل البيع إلى أجل مسمى، فإذا حل الأجل ولم يكن عند صاحبه قضاء، زاده وأخّر عنه. إلا أن هناك ربا خاصا كان من أثقل الأعباء على المعسرين، وهو ربا بالأضعاف الذي أشار القرآن الكريم إليه بقوله:{لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} 3 وذلك أن الرجل منهم في الجاهلية يكون له على الرجل مال إلى أجل، فإذا حل الأجل وكان الذي عليه الدين ضائقا لا يجد ما يؤدي به دينه، قال صاحب المال:"زدني في المال حتى أزيدك في الأجل" فيقول الآخر: "أخِّر عني دينك، وأزيدك على مالك كذا" فيفعلان ويكون الدين

1 سورة البقرة: 278، 279.

2 انظر تفسير الطبري.

3 سورة آل عمران: 130.

ص: 67

مائة فيصير إلى قابل مائتين مثلا، وربما حل الأجل الثاني والذي عليه الدين في إعساره ذاك، لم يتخلص منه، فيؤجله الدائن أجلا ثالثا، ويزيد المال عليه، وربما فعلوا ذلك مرارا حتى تصير المائة بعد سنين مئات.

وذكر ابن حجر في الزواجر ما يفيد أن ربا الجاهلية كان الإنساء فيه بالشهور، وعلى ذلك يسهل علينا إدراك هذا التضعيف فيه، قال:"وربا النسيئة الذي كان مشهورا في الجاهلية؛ لأن الواحد منهم كان يدفع ماله لغيره إلى أجل، على أن يأخذ منه كل شهر قدرا معينا ورأس المال باقٍ بحاله، فإذا حل الأجل طالب برأس ماله، فإن تعذر عليه الأداء زاده في الحق والأجل".

ذلك تضعيفهم في العين "النقود"، وأما تضعيفهم في السن ففي الإبل، وقد شرحوا ذلك بما يأتي:

"إنما كان الربا في الجاهلية في التضعيف وفي السن: يكون للرجل فضل دين فيأتيه إذا حل الأجل فيقول: "تقضيني أو تزيدني؟ " فإذا كان عنده شيء يقضيه قضى، وإلا حوّله إلى السن التي فوق ذلك: إن كانت ابنة مخاض "وهي التي دخلت في السنة الثانية" يجعلها ابنة لبون "وهي التي دخلت في الثالثة" في السنة التالية، ثم حِقة "وهي التي أتت عليها الرابعة"، ثم جذعة "وهي التي أتت عليها الخامسة" ثم رباعيا ثم هكذا

إلى فوق".

ص: 68

بدأت العلائق التي نشأت عن تعامل الجاهلية تضمحل بقاياها مع الزمن. وقد تشدد الإسلام بما يرتبط منها بالربا تشددا حازما، وورد فيها من الوعيد والتهديد ما لا مجال لبسطه هنا. وكان خاتمتها ما جهر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، في خطبته البليغة المأثورة التي كانت فاصلة بين آثار الجاهلية وعهد جديد، والتي بيَّن فيها أهم الأمور الجسام التي يريد من أمته التمسك بها، وكان في طليعتها -دون شك- الربا، فقال فيه:

"ألا، وإن كل ربا الجاهلية موضوع كله، وأول ربا أبتدئ به ربا عمي العباس بن عبد المطلب "لكم رءوس أموالكم، لا تَظلمون ولا تُظلمون""1.

1 تيسير الوصول 1/ 69.

ص: 69