المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ قريش التجار - أسواق العرب في الجاهلية والإسلام

[سعيد الأفغاني]

الفصل: ‌ قريش التجار

‌الباب الثاني: أحداث‌

‌ قريش التجار

ية

قريش التجار:

"1"

في سبب تسمية هذه القبيلة قريشا أقوال مبثوثة في كتب السيرة والأدب تبلغ العشرين عدا. أما القَرْش في اللغة فهو الجمع، وإليك زبدة هذه الأقوال:

1-

سموا قريش لتجمعهم إلى الحرم بعد تفرقهم في البلاد، وذلك حين غلب على مكة1 قصي بن كلاب الذي سمي مُجمِّعا لذلك، وقال فيه الشاعر:

أبوكم قصي كان يدعى مجمعا

به جمع الله القبائل من فهر

2-

أو لأنهم كانوا أهل تجارة وتكسب وضرب في البلاد ابتغاء الرزق، يتقرشون البياعات فيشترونها ولم يكونوا أهل زرع

1 أكبر محطة تجارية داخل جزيرة العرب قبل الإسلام؛ لوقوعها وسط أحد الطريقين التجاريين الكبيرين للجزيرة كما مر بك أول هذا الكتاب، ثم لاتصالها بنجد والعراق ثم الفرس بطرق للقوافل، وميناؤها جدة يصلها بالبحر الأحمر وإن كانت رحلات قريش البحرية هي إلى الحبشة فقط عن طريق اليمن.

ص: 91

وضرع، من قولهم: فلان يتقرش المال أي: يجمعه.

3-

أو لأنهم كانوا يفتشون الحاج فيسدون خلتها؛ فمن كان محتاجا أغنوه، ومن كان عاريا كسوه، ومن كان معدما واسوه، ومن كان طريدا آووه، ومن كان خائفا حموه، ومن كان ضالا هدوه

إلخ.

4-

أو لأن أباهم النضر بن كنانة اجتمع في ثوبه يوما، فقالوا: تقرش.

5-

أو لأنه جاء إلى قومه، فقالوا: كأنه جمل قَرِيش أي: شديد.

6-

أو لأن قصيا كان يقال له: القرشي.

7-

أو سميت القبيلة بمصغر القرش، وهي دابة بحرية تخافها دواب البحر كلها1.

8-

أو سميت بقريش بن يخلد بن غالب بن فهر وكان

1 نسبوا هذا القول إلى ابن عباس. جاء في خزانة الأدب 1/ 189 "السلفية": "سأل عمرو بن العاص عبد الله بن عباس: بِمَ سميت قريش؟ قال: "بدابة في البحر تسمى قريشا، لا تدع دابة إلا أكلتها، فدواب البحر كلها تخافها" قال المشمرخ بن عمرو الحميري:

وقريش هي التي تسكن البحـ

ـر بها سميت قريش قريشا" ا. هـ

وكأن هذا البيت تعريف لغوي منظوم كما تنظم المتون، وزاد آخرون بعده:

قال المشمرخ بن عمرو الحميري:

تأكل الغث والسمين ولا تتـ

ـرك فيه لذي جناحين ريشا

هكذا في البلاد شأن قريش

يأكلون البلاد أكلا كميشا

انظر حواشي الكشاف للزمخشري عند الكلام على سورة "لإيلاف قريش".

ص: 92

صاحب عيرهم أو دليلها، فكانوا يقولون: قدمت عير قريش، خرجت عير قريش1.

فهذه ثمانية وجوه في هذا الاسم، وكل وجه منها معه شفيع من معنى أو مناسبة، ينفذ به إلى القبول.

إلا أن منها جميعا قولين يظفران على التمحيص، أما الأول فهو أنه أطلق على النضر بن كنانة، فكل من كان من ولده فهو قرشي، ومن لم يكن من ولده فليس بقرشي. وهناك مذهب آخر له شأنه من حيث رواته الثقات، يرمي إلى أن هذ اللقب أطلق على حفيده "فهر بن مالك بن النضر" نقله صاحب المصباح عن السهيلي، وشارح القاموس عن ابن الكلبي، وقال:"إنه مرجع في هذا الشأن". وذُكر أيضا في سيرة ابن هشام. ونحن إذا دققنا في صيغة الرواية عند ابن هشام وصاحب المصباح وجدناها مبنية للمجهول: "ويُقال

" وبهذا نعلم أن الراويين ضعفّاها فكفيانا بذلك المئونة2. وقول الشاعر:

1 انظر مادة "قريش" في القاموس وشرحه تاج العروس، وفي لسان العرب وخزانة الأدب 1/ 189 "السلفية".

2 ومع ذلك فقد قال في العقد الفريد "2/ 203": "إنما جمع قصي إلى مكة بني فهر بن مالك، فجد قريش كلها فهر بن مالك، فما دونه قريش وما فوقه عرب".

وجاء في خزانة الأدب 1/ 190: "قال عبد الملك بن مروان: سمعت أن قصيا كان يقال له: القرشي، لم يسمّ قرشي قبله".

ص: 93

أبوكم قصي كان يدعى مجمعا

به جمع الله القبائل من فهر1

المتقدم الذكر لا يمنع أن يكون ولد النضر جميعا من قريش، والنص على فهر لا يخرج إخوته وأولاد عمه من القرشية.

ولا بد من التنبيه هنا على حجة قوية ولعلها قاطعة، جاءت في سيرة ابن هشام وهي كفيلة بالفوز بطمأنينة الباحث، فقد ذكر بيتا لجرير في مدح هشام بن عبد الملك يعني فيه برة بنت مر أخت تميم بن مر وهي أم النضر هذا، وذلك قوله:

فما الأم التي ولدت قريشا

بمقرفة النجار ولا عقيم

وما قرم بأنجب من أبيكم

وما خال بأكرم من تميم2

وجرير من تميم.

وأما الثاني ففي بيان السبب في هذه التسمية وأي التفاسير هو الأرجح:

يستبعد الذهن أن تكون دابة البحر هي التي أوحت هذا الاسم ولو روي هذا القول عن ابن عباس؛ لبعد العرب حول مكة عن البحر وجهلهم حيوانه، ففي هذا الشرح تكلف ظاهر كالذي في اشتقاقه من الجمل القَرِيش. والذي لا يجد المرء غيره مذهبا يرتضيه هو أن

1 البيت لحذافة بن غانم العدوي، انظر طبعة لجنة التأليف للعقد الفريد 2/ 312.

2 سيرة ابن هشام 1/ 90، والإقراف: أن تكون الأم عربية والأب غير عربي، والقرم: السيد والفحل.

ص: 94

تكون "قريش" من القرش بمعنى الجمع؛ لما كانوا يتعاطون من التجارة وجمع1 المال، إذ كانوا معروفين بذلك عند العرب عامة. ذكر ابن هشام أن التقرش: التجارة والاكتساب، وأن القروش "أيضا" التجارة والاكتساب وأتى على ذلك بشاهد من كلام العرب. لكن الجاحظ أزال اللبس في ذلك وأحسن الإيضاح حين قال في صدد كلامه عنهم:

"وبالتجارة كانوا يعرفون؛ ولذلك قالت كاهنة اليمن: "لله در الديار، لقريش التجار" وليس فوقهم قرشي كقولهم هاشمي وزهري وتميمي؛ لأنه لم يكن لهم أب يسمى قريشا فينتسبون إليه، ولكنه اسم اشتق لهم من التجارة والتقريش"2.

وقد تقدم الدليل آنفا على أن النضر هو قريش، ولا داعي لتسميته بذلك إلا لمعنى التجارة والكسب.

وقريش في الأصل طبقتان: قريش البطاح وقريش الظواهر3

1 انظر مروج الذهب للمسعودي 1/ 369 حيث يقول: "وأخذت قريش الإيلاف من الملوك

وتقرشت، والتقريش: الجمع، ومنه قول ابن حلزة اليشكري:

إخوة قرشوا الذنوب علينا

في حديث من دهرنا وقديم"

2 رسائل الجاحظ ص156.

3 عدّ المسعودي في قريش البطاح: بني عبد مناف وبني عبد الدار وبني عبد العزى، وبني زهرة، وبني مخزوم، وبني تيم بن مرة، وبني جمح، وبني سهم، وبني عدي، وبني عتيك بن عامر بن لؤي.

وعد في قريش الظواهر: بني محارب، والحارث بن فهر، وبني الأدرم بن غالب بن فهر، وبني هصيص بن عامر بن لؤي. الصفحة السابقة، والعمدة 2/ 184، والمحبر ص167.

ص: 95

أما قريش البطاح فهم الذين نزلوا بطحاء مكة وبطنها وهم سادة القرشيين، فيهم بنو هاشم وبنو أمية، ومنازلهم الشِّعب بين أخشبي مكة1 وهم صُبابة قريش وصميمها وساداتها وأغنياؤها، اختطوا منازلهم في البطحاء ونزلوها.

وأما قريش الظواهر فهم الذين لم تسعهم الأباطح فنزلوا أعلى مكة خارج الشعب، فانتشروا حولها في ظواهرها وهم دون أولئك شرفا وغنى وشأنا. قال في لسان العرب:"وقريش البطاح أكرم وأشرف من قريش الظواهر". واستشهد لذلك بقول الشاعر2:

فلو شهدتني من قريش عصابة

قريش البطاح لا قريش الظواهر

ويقول الفرزدق في مباهاته جريرا:

تنحّ عن البطحاء إن قديمها

لنا، والجبال الراسيات الفوارع3

1 أخشبا مكة: جبلاها، أبو قبيس والذي يقابله.

2 هو ذكوان مولى عبد الدار، يقوله للضحاك بن قيس الفهري. انظر مروج الذهب للمسعودي 1/ 369.

3 شرح شواهد المغني ص3.

ص: 96

وقول الكميت:

فحللت معتلج البطا

ح وحل غيرك بالظواهر1

وهناك قرشيون استوطنوا الطائف، وغيرها حيث اتخذوا الأموال والمزارع فلم ينسبوا إلى ظواهر ولا إلى بطاح. روى صاحب تاج العروس أن "في قريش من ليس بأبطحية، ولا ظاهرية".

أول بانٍ لمجد قريش وموطد لنفوذها هو قصي بن كلاب، إذ استنقذ أمر مكة وولاية البيت من جرهم وخزاعة بعد حرب شديدة، وجمع أشتات قومه فأنزلهم حول الحرم وملك أمرهم "فكان أول بني كعب بن لؤي أصاب ملكا أطاع له به قومه. فكانت إليه الحجابة والسقاية والرفادة والندوة واللواء فحاز شرف مكة كله وقطع

1 انظر لسان العرب وتاج العروس، مادتي: بطح، ظهر.

والكميت يخاطب هنا هشام بن عبد الملك، وقبل هذا البيت:

يابن العقائل للعقا

ئل والجحاجحة الأخاير

إن الخلافة والإلا

ف برغم ذي حسد وواغر

دلفا من الشرف التليـ

ـد إليك بالرفد الموافر

فحللت

ص: 97

مكة رباعا بين قومه، فأنزل كل قوم من قريش منازلهم من مكة التي أصبحوا عليها

فسمته قريش مجمعا لما جمع من أمرها، وتيمنت بأمره فما تنكح امرأة ولا يتزوج رجل من قريش ولا يتشاورون في أمر نزل بهم ولا يعقدون لواء لحرب قوم من غيرهم إلا في داره

إلخ"1.

فأنت ترى أن قصيا مكَّن دعائم قريش ونظم أمورهم ثم جعل من داره التي اتخذها لنفسه وجعل بابها إلى الكعبة مجلس شورى لقريش ودار حكومة معا وسماها دار الندوة. وكانت قريش بعده لا تقضي أمرا إلا فيها، فيها ينظمون عيرهم إلى الشام أو اليمن فلا تخرج عير إلا منها ولا يقدمون إلا نزلوا فيها، ويتفاوضون في أمر تجارتهم وحربهم وسلمهم. وفيها كان معظم المؤامرات التي ائتمروا بالنبي وأصحابه في بدء الدعوة، وكانت لهم محكمة يلجأ إليها المتخاصمون ويقضي فيها شيوخهم المقدمون. ولا ريب أن أمور التجارة القرشية بعد الذي صنع قصي لهم اطرد تقدمها وازدهارها، فاتسعت ونمت.

وأراد قصي تثبيت هيبة قريش في نفوس العرب ففرض عليهم

1 سيرة ابن هشام 1/ 118.

ص: 98

خرجا يخرجونه في كل موسم من أموالهم، فإذا كان الحج قال قصي:

"يا معشر قريش: إنكم جيران الله وأهل بيته وأهل الحرم، وإن الحجاج ضيف الله وأهله وزوار بيته، وهم أحق الضيف بالكرامة، فاجعلوا لهم طعاما وشرابا أيام الحج حتى يصدروا عنكم" فكانوا يخرجون لذلك كل عام من أموالهم خرجا فيدفعونه إليه، فيصنعه طعاما للناس أياما منى فيأكله من لم يكن له سعة ولا زاد1 من الحجاج وأهل مكة، وهذه هي الرفادة.

امتدت أيام قصي حتى كبر فعهد إلى ولده عبد الدار باللواء والسقاية والرفادة؛ لأنه لم يشرف في حياته وكان بكره، فقد بطأ به عمله عن أن يلحق بأخيه عبد مناف الذي بلغ في الشرف والسيادة شأوا بعيدا، فخص قصي عبد الدار بذلك؛ جبرا له حتى يلحق بأخيه.

ثم تنازع على الشرف بنو عبد الدار وبنو عبد مناف وتحزب لكل من الفريقين أقوام وأفضى النزاع إلى الاستعداد للحرب، وتعاهد عند الكعبة بنو عبد الدار وحلفاؤهم على النصرة فسموا الأحلاف، وتعاقد بنو عبد مناف وغمسوا أيديهم في جفنة مملوءة طيبا فسموا المطيبين، ثم كان سعي بين الفريقين انفرج عن صلح بينهما على أن

1 سيرة ابن هشام 1/ 122.

ص: 99

يكون لبني عبد مناف السقاية والرفادة، وأن يكون الحجابة واللواء والندوة لبني عبد الدار، فتحاجز الناس على ذلك حتى أتى الإسلام وهم عليه.

ازدهر مجد قريش التجاري وبلغ أوجه في الحقيقة، بهاشم بن عبد مناف؛ لأن تجارة قريش قبله لم تكن تعدو مكة "وإنما كان يقدم عليهم الأعاجم بالسلع فيشترونها منهم ثم يتبايعونها بينهم ويبيعونها على من حولهم من العرب"1، حتى جاء هاشم ففتح في وجوههم ما فتح.

كانت لهاشم دون إخوته الرفادة والسقاية فقام بأمرهما، إذ كان أخوه عبد شمس رجلا سفّارا مقلا ذا عيال، وهاشم موسر طماح بعيد النظر، وقد ضرب القرشيون على عهده في الأرض فأكثروا الأسفار التجارية. ومن الغريب أن أولاد عبد مناف كلهم حليفو أسفار طوحتهم الغربة فمات كل بناحية: أما هاشم فمات بغزة من أرض الشام فسميت به غزة هاشم، وأما أخوه المطلب فقد مات بردمان من أرض اليمن، وأما أخوه نوفل فمات بسلمان من أرض العراق، وعبد شمس مات بمكة.

اضطلع هاشم بأعباء الأمور وأكثر من الأسفار، وهو أول من

1 الأمالي ج3 ص199.

ص: 100

عقد المعاهدات التجارية لقريش "كما سيأتي قريبا عند الكلام على الإيلاف" فثمّر الأموال، وارتفع له ذكر نابه بين قومه، واستفاضت له مكارم سار بها الركبان1. قال ابن سعد:

"كان اسم هاشم عمرا فأصابت قريشا سنوات ذهبن بالأموال، فخرج هاشم إلى الشام فأمر بخبز كثير فخبز له فحمله في الغرائر2 على الإبل حتى وافى مكة، فهشم ذلك الخبز -يعني كسره- وثرده ونحر تلك الإبل، ثم أمر الطهاة فطبخوا. ثم كفأ القدور على الجفان فأشبع أهل مكة، فكان ذلك أول الحيا بعد السنة التي أصابتهم، فسمي بذلك هاشما. وقال ابن الزبعرى في ذلك:

عمرو العلا هشم الثريد لقومه

ورجال مكة مسنتون عجاف

وقال وهب بن عبد قصي في ذلك:

تحمّل هاشم ما ضاق عنه

وأعيا أن يقوم به ابن بيض

أتاهم بالغرائر متأقات

من أرض الشام بالبر النقيض

فأوسع أهل مكة من هشيم

وشاب الخبز باللحم الغريض

فظل القوم بين مكللات

من الشيزاء حائرها يفيض3 ا. هـ.

1 الطبقات لابن سعد ج1 ص43 طبعة ليدن.

2، 3 الطبقات 1/ 44، الغرائر: جمع غرارة، وهي: الجوالق "العدل". متأقات: ممتلئات. الغريض: الطري. والشيزاء ممدود شيزى: وهو الخشب الأسود يعمل منه القصاع. والحائر: الودك "الدهن".

ص: 101

والظاهر أن هاشما لقي مجدا وعزا ومكانة لم يحظ ببعضها أحد، فأثار بذلك حسد الأقران له لما انقطعوا دون بلوغ شأوه وأورثوا هذا الحسد أبناءهم من بعدهم، ولم يشفع لهاشم ما قدم لقومه من خير وما رفع لهم من ذكر وما وطد لهم من تجارات، فإن ابن سعد يروي لنا بعد ما تقدم من صنع هاشم، أول ما زرع الشر بين بني أمية وبني هاشم قال:"فحسد هاشما أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وكان ذا مال فتكلف أن يصنع صنيع هاشم فعجز عنه، فشمت به ناس من قريش فغضب ونال من هاشم ودعاه إلى المنافرة، فكره هاشم ذلك لسنه وقدره، فلم تدعه قريش وأحفظوه. فقال لأمية: فإني أنافرك على خمسين ناقة سود الحدق تنحرها ببطن مكة، والجلاء عن مكة عشر سنين، فرضي أمية بذلك وجعلا بينهما الكاهن الخزاعي، فنفّر هاشما عليه، فأخذ هاشم الإبل فنحرها وأطعمها من حضره وخرج أمية إلى الشام فأقام بها عشر سنين، فكانت هذه أول عداوة وقعت بين هاشم وأمية"1.

جرى بنو قصي على سنة أبيهم في إطعام الحاج إلا أن هاشما

1 الطبقات 1/ 44.

ص: 102

امتاز منهم جميعا فسار بهذه السنة إلى شوط بعيد لم يبلغه أحد قبله ولا بعده، ولا غرو فقد كان من الغنى بالمكان المشهور وأسعفه في التجارة حظ قلما أتيح لغيره. وعلى يده وأيدي إخوته فتحت لقريش أسواق في بلاد الروم وفارس والحبشة، فصنع للحاجّ ما لم يصنعه أحد. ونحن عارضون لك من ذلك ما وصفه ابن أبي الحديد ومنبهوك خاصة على شرف هاشم وكمال مروءته في حرصه على ألا يطعم الحاج إلا ما حل كسبه:

كان يقوم أول نهار اليوم الأول من ذي الحجة فيسند ظهره إلى الكعبة من تلقاء بابها، فيخطب قريشا فيقول: "يا معشر قريش، أنتم سادة العرب، أحسنها وجوها وأعظمها أحلاما وأوسطها أنسابا وأقربها أرحاما. يا معشر قريش، أنتم جيران بيت الله، أكرمكم بولايته وخصكم بجواره دون بني إسماعيل، وحفظ منكم أحسن ما حفظ منكم جار من جاره، فأكرموا ضيفه وزوار بيته، فإنهم يأتونكم شعثا غبرا من كل بلد. فورب هذه البنية، لو كان لي مال يحمل ذلك لكفيتكموه، ألا وإني مخرج من طيب مالي وحلاله ما لم يقطع فيه رحم ولم يؤخذ بظلم ولم يدخل فيه حرام فواضعه، فمن شاء منكم أن يفعل مثل ذلك فعل. وأسألكم بحرمة هذا البيت ألا يخرج منكم رجل من ماله

ص: 103

لكرامة زوار بيت الله ومعونتهم إلا طيبا لم يؤخذ ظلما ولم يقطع فيه رحم ولم يغتصب" فكانت قريش تخرج من صفو أموالها ما تحتمله أحوالها، وتأتي به إلى هاشم فيضعه في دار الندوة لضيافة الحاج1. ا. هـ.

والمرء -وإن حدثته نفسه فيما روى ابن أبي الحديد- موقن أن هاشما في الغاية من النبل والشرف وتحري الطيب من المكاسب. كان إذا جمع الأموال من قريش يأمر بحياض2 من أدم فتجعل في موضع زمزم ثم يستقى فيها الماء من آبار مكة فيشربه الحاج، وكان يطعمهم أول ما يطعم، قبل التروية بيوم بمكة وبمنى وجمع3 وعرفة. وكان يثرد لهم الخبز واللحم والسمن والسويق والتمر ويجعل لهم الماء فيسقون بمنى -والماء يومئذ قليل- في حياض من الأدم إلى أن يصدروا من منى، فتنقطع الضيافة ويتفرق الناس لبلادهم.

لم تكن أمور قريش وخدمة الحجيج لتصرف هاشما عن تجاراته وأسفاره، بل كان بين هذا وذاك يقود قوافل قريش إلى الشام، وقد تزوج قبيل وفاته في إحدى هذه الرحلات. والفضل لابن سعد في وقوفنا على بعض تفاصيل للعير التي خرج بها هاشم، كما له الفضل في

1 شرح نهج البلاغة 3/ 454.

2 انظر طبقات ابن سعد 1/ 45

3 المزدلفة.

ص: 104

معرفتنا ممارسة المرأة العربية للتجارة، ومشاركة الرجال في الجاهلية بالخروج إلى الأسواق والاتجار فيها، قال:

"خرج هاشم في عير لقريش، فيها تجارات. وكان طريقهم على المدينة، فنزلوا بسوق النبط فصادفوا سوقا تقوم بها في السنة يحشدون لها، فباعوا واشتروا ونظروا إلى امرأة على موضع مشرف من السوق، فرأى امرأة تأمر بما يشترى ويباع لها، فرأى امرأة حازمة جلدة، مع جمال. فسأل هاشم عنها: أأيّم هي أم ذات زوج؟ فقيل له: "أيّم، كانت تحت أحيحة بن الجلاح فولدت له عمرا ومعبدا، ثم فارقها" وكانت لا تنكح الرجال لشرفها في قومها حتى يشترطوا لها أن أمرها بيدها، فإذا كرهت رجلا فارقته. وهي سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد بن خداش بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار. فخطبها هاشم فعرفت شرفه ونسبه، فزوجته نفسها ودخل بها وصنع طعاما ودعا من هناك من أصحاب العير الذين كانوا معه وكانوا أربعين رجلا من قريش، فيهم رجال من بني عبد مناف ومخزوم وسهم، ودعا من الخزرج رجالا وأقام بأصحابه أياما. وعلقت "منه" سلمى بعبد المطلب فولدته في رأسه شيبة فسمي شيبة. وخرج هاشم في أصحابه إلى الشام حتى بلغ غزة فاشتكى فأقاموا عليه حتى مات، فدفنوه بغزة

ص: 105

ورجعوا بتركته إلى ولده"1.

ذكر ياقوت أن قبر هاشم بغزة حيث مات، وأنها لذلك يقال لها: غزة هاشم، وروى لمطرود الخزاعي في رثائه:

مات الندى في الشام لما أن ثوى

فيه بغزة هاشم لا يبعد

قال ياقوت: "مات هاشم بغزة وعمره خمس وعشرون سنة وذلك الثبت، وقيل: عشرون". وفي النفس من هذا التقدير شيء؛ لأن ما حفلت به حياة هاشم وما تم لقومه على يديه يندر أن يكمل لابن خمس وعشرين.

قام بأمر قريش بعد هاشم أخوه الأصغر المطلب بن عبد مناف، وكان ذا شرف في قومه وفضل، وكانت قريش إنما تسميه الفيض لسماحته2 وفضله، وقد ضم إليه ابن أخيه شيبة بن هاشم في أحد أسفاره فدخل به مكة مردفا إياه على بعيره، فظنت قريش أنه غلامه فقالوا: عبد المطلب، فقال المطلب: ويحكم، إنه شيبة ابن أخي هاشم، قدمت به من المدينة. ولما خرج المطلب في رحلة له إلى اليمن مات بردمان، وكان آخر من مات من بني عبد مناف: نوفل الذي تقدم أنه مات بسلمان من أرض العراق، فذكرهم مطرود بن كعب الخزاعي في رثائه فقال:

1 الطبقات: 1/ 45.

2 ابن هشام 1/ 128.

ص: 106

أربعة كلهم سيد

أبناء سادات لسادات

ميت بردمان وميت بسلـ

ـمان وميت بين غزات1

إلخ

ثم انتهت السقاية والرفادة من بعده إلى عبد المطلب بن هاشم، فأدار أمور قومه وأهم ما صنع لهم حفر بئر زمزم، وقد كان في قريش ذا هيبة ومكانة.

وفي أيامه هددت مكة وتعرضت مكانتها التجارية للهبوط؛ إذ قصدها أبرهة "يريد بلا شك الاستيلاء على مكة ومفاتيح تجارتها"2، فاعتصمت قريش في شعف الجبال وفي الشعاب؛ تخوفا من معرة الجيش، وأخذ عبد المطلب بحلقة باب الكعبة مع نفر من قريش يستعدي رب البيت على الأحباش بما لا غرض لنا بذكره هنا، إلا أننا لا نرى مندوحة

1 ومن الغريب الطريف أنه أصاب أولاد العباس بن عبد المطلب ما أصاب إخوة هاشم هؤلاء حتى قالوا: أبعد قبور إخوة على الأرض قبور أولاد العباس؛ فعبد الله بن عباس الحبر دفن في الطائف، والفضل بن عباس رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم مات في طاعون عمواس بالشام أيام عمر، وعبيد الله بن عباس الجواد مات بالمدينة، وقثم بن عباس شيبة النبي صلى الله عليه وسلم مات بسمرقند زمن معاوية، وعبد الرحمن بن عباس قتل بأفريقية زمن عمر. ا. هـ ملخصا عن النوادر للقالي ص197.

2 تاريخ العرب الأدبي للأستاذ رينولد نيكلسون، ترجمة محمد حسن حبشي في الرسالة عدد 189/ 64.

ص: 107

عن التعرض للتقدمة التي قدّم بها أنيس "سائس فيل أبرهة"، عبد المطلب إلى أبرهة، إذ قال له:"أيها الملك! هذا سيد قريش ببابك يستأذن عليك، وهو صاحب عير مكة، يطعم الناس بالسهل والوحوش في رءوس الجبال"1. وكان أبرهة أخذ لعبد المطلب مائتي بعير أصابها خارج مكة فأتاه يستردها. وإذا كان مائتا بعير مما يملك مثل عبد المطلب وأضفت إلى ذلك ما يذكر الرواة من أن عبد المطلب أمهر امرأته فاطمة بنت عمرو مائة ناقة ومائة رطل من الذهب2، وهو لم يشتهر بكثرة الأسفار كما اشتهر غيره من القرشيين، أمكنك أن تتصور الغنى الذي تمتع به هذا البطن من العرب.

وعبد المطلب هذا هو الذي رأس وفد قريش الذي ذهب إلى سيف بن ذي يزن ليهنئه بالملك وبالظفر. وقد لقي الوفد ورئيسه خاصة من إجلال الملك وإكرامه ما تجد تفصيله في العقد الفريد "1/ 175"

1 المصدر السابق. هذا وقد كان أبرهة بنى بيتا مقدسا باليمن ليصرف الناس عن قصد الكعبة والحج إليها، فلما رأى اليمنيين وسائر العرب لا تنصرف عن الحج إلى مكة والطواف بكعبتها غاظه ذلك وعزم على هدمها. والحافز له على ذلك -فيما أرى- تجاري قبل كل شيء؛ إذ في إقامة الحج في اليمن ونقل أسواق العرب الكبرى إليها ما يجلب الحياة والانتعاش والنشاط للحركة الاقتصادية باليمن، وذلك بالطبع يستتبع عمرانها وتقدمها وغناها.

2 إنسان العيون 1/ 48.

ص: 108

فارجع إليه ثمة، وكان قبيل ذلك قد وفد إلى معديكرب حين ملك على اليمن1. وينسب إلى عبد المطلب هذه الأبيات يذكر فيها حرمة البيت، ويعرض لجيش أبرهة:

نحن آل الله في ذمته

لم نزل فيها على عهد قدم

إن للبيت لربا مانعا

من يرد فيه بإثم يُخترم

لم تزل لله فينا حرمة

يدفع الله بها عنا النقم2

ثم أفضى الأمر من بعده إلى أصغر أولاده العباس بن عبد المطلب ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ابن ثماني سنين، وبقي الأمر في يده حتى جاء الإسلام.

ومن تمام الوصف أن نختصر هنا عن العقد الفريد توزيع "الوظائف الرسمية" على بطون قريش، في هذه الجمهورية التجارية في مكة، التي شبهها "لامنس" بجمهوريتي البندقية وقرطاجة؛ لسيطرة الماليين من أرباب التجارة وأصحاب رءوس الأموال3:

1 مروج الذهب 2/ 10.

2 هذا، وقد جاء في فهرست ابن النديم ص7 "أنه كان في خزانة المأمون كتاب بخط عبد المطلب بن هاشم في جلد أدم، فيه ذكر حق عبد المطلب بن هاشم من أهل مكة على فلان بن فلان الحميري من أهل وزل صنعاء، عليه ألف درهم كيلا بالحديدة، ومتى دعاه بها أجابه، شهد الله والملكان".

3 مجلة المشرق سنة 1936 ص539.

ص: 109

قال ابن عبد ربه1:

"من انتهى إليه الشرف من قريش في الجاهلية فوصله بالإسلام عشرة رهط من عشرة أبطن، وهم هاشم وأمية ونوفل وعبد الدار وأسد وتيم ومخزوم وعدي وجُمح وسهم:

1-

فكان من هاشم: العباس بن عبد المطلب؛ يسقي الحجيج في الجاهلية وبقي له ذلك في الإسلام.

2-

ومن بني أمية: أبو سفيان بن حرب؛ كانت عنده العُقاب راية قريش، وإذا كانت عند رجل أخرجها إذا حميت الحرب، فإذا اجتمعت قريش على أحد أعطوه العقاب وإن لم يجتمعوا على أحد رأسوا صاحبها فقدموه.

3-

ومن بني نوفل: الحارث بن عامر، وكانت إليه الرفادة.

4-

ومن بني عبد الدار: عثمان بن طلحة، كان إليه اللواء والسدانة مع الحجابة والندوة.

5-

ومن بني أسد: يزيد بن زمعة بن الأسود، وكانت إليه المشورة. وذلك أن قريشا لا تجتمع على أمر حتى يعرضوه عليه، فإن وافقه والاهم عليه، وإلا تخير وكانوا له أعوانا.

1 العقد الفريد 3/ 313 فما بعد "مطبعة لجنة التأليف 1372هـ".

ص: 110

6-

ومن بني تيم: أبو بكر الصديق؛ وكانت إليه في الجاهلية الأشناق وهي الديات والمغرم. فكان إذا احتمل شيئا من الدماء فسأل فيه قريشا صدقوه وأمضوا حمالة من نهض معه، وإن احتملها غيره خذلوه.

7-

ومن بني مخزوم: خالد بن الوليد؛ وكانت إليه القبة والأعنة، فأما القبة فإنهم كانوا يضربونها ثم يجمعون إليها ما يجهزون به الجيش، وأما الأعنة فإنه كان على خيل قريش في الحرب.

8-

ومن بني عدي: عمر بن الخطاب؛ وكانت إليه السفارة في الجاهلية. وذلك أنهم كانوا إذا وقعت بينهم وبين غيرهم حرب بعثوه سفيرا، وإن نافرهم حي لمفاخرة جعلوه منافرا ورضوا به.

9-

ومن بني جمح: صفوان بن أمية؛ وكانت إليه الأيسار وهي الأزلام يستقسم لهم بها، إذا أرادوا أمرا من أمورهم العامة.

10-

ومن بني سهم: الحارث بن قيس؛ وكانت إليه الحكومة والأموال المحجّرة التي سموها لآلهتهم.

فهذه مكارم قريش التي كانت في الجاهلية، وهي: السقاية والعمارة1 والعقاب والرفادة والسدانة والحجابة والندوة واللواء والمشورة

1 سيشرحها ابن عبد ربه بعد أسطر.

ص: 111

والأشناق والقبة والأعنة والسفارة والأيسار والحكومة والأموال المحجرة، إلى هؤلاء العشرة من هذه البطون العشرة على حال ما كانت في أوليتهم، يتوارثون ذلك كابرا عن كابر.

وجاء الإسلام فوصل لهم ذلك. فكانت سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام وحلوان النفر في بني هاشم، والعمارة هي ألا يتكلم أحد في المسجد الحرام بهُجر ولا رفث ولا يرفع صوته، فكان العباس ينهاهم عن ذلك. وأما حلوان النفر فإن العرب لم تكن تملك عليها في الجاهلية أحدا، فإن كان حرب أقرعوا بين أهل الرياسة فمن خرجت عليه القرعة أحضروه صغيرا كان أو كبيرا، فلما كان يوم الفجار أقرعوا بين بني هاشم فخرج سهم العباس وهو صغير، فأجلسوه على المجن".

"2"

هذا أمر سراة قريش ورؤسائهم، فأما عامتهم فقد أخذوا يشغلون مركزا ممتازا بين قبائل العرب ساعدهم على بلوغه مقامهم في مكة حيث البيت والحرم، إذ كانوا يقومون بسدانة البيت وما يحتاج إليه من خدمة وعناية. فكانت العرب تعرف لقريش شرفها ومكانتها وغناها كما تعرف لها زعامتها الدينية وسيطرتها على مكة وإدارتها.

ص: 112

"ولم تزل العرب تعرف لقريش فضلها عليهم وتسميها: أهل الله"1. وأبلغ تعبير عما بلغته قريش في نفوس العرب من منزلة في الجملة، قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بعد: "الناس تبع لقريش في الخير والشر" 2.

والقرشيون من بين عامة سكان الحجاز أغنياء مهرة في أمور التجارة لا يكاد يعرف لكثير منهم عمل غير الاتجار "ومن لم يكن من قريش تاجرا، فليس بشيء"، فكانوا ينظمون عيرهم في الشتاء إلى اليمن حيث يتبايعون سلع الهند والحبشة المستفيضة هناك فيحملونها إلى الحجاز، وعيرا في الصيف إذ يرحلون بما حملوا من الحبشة والهند وما عندهم أيضا من محصول بلادهم كالتمر والأدم إلى الشام، فيفرغون في أسواقها: غزة وبصرى وغيرهما، ما في أحمالهم ويأخذون بدلا منها ما في الشام مما لا يكون بالهند ولا بالحبشة.

وكانوا يسيرون قوافل عظيمة معها حامياتها وأدواتها ومعهم الأدلاء يسيرون بين أيديهم. أما الحاميات فأكثر ما تكون من بني غفار ومن إليهم، ممن يتقاضون على مرافقة العير وحمايتها جُعْلا من قريش، هذا عدا عبدان قريش ومواليها وأحلافها.

اختلاط القرشيين بالروم والفرس والحبشان بسبب التجارة

1 الصاحبي ص23.

2 تيسير الوصول 3/ 304.

ص: 113

جعلهم يتميزون من سائر العرب بميزات أفادوها من هذا الاختلاط؛ فتعلم فريق منهم الكتابة من الحيرة ونشروها لما رجعوا إلى بلادهم، فكان في مكة والطائف عدد يسير يحسنون الكتابة1. ويذكرون أنه كان لبشر أخي أكيدر بن عبد الملك صاحب دومة الجندل صحبة بحرب بن أمية التاجر القرشي الكبير؛ لتجارته عندهم في بلاد العراق، فتعلم حرب منه الكتابة ثم سافر معه بشر إلى مكة فتزوج الصهباء بنت حرب، فتعلم منه جماعة من أهل مكة، فبهذا كثر من يكتب بمكة من قريش قبل الإسلام. ولذلك قال رجل كندي من أهل دومة الجندل يمنّ على قريش بذلك:

لا تجحدوا نعماء "بشر" عليكم

فقد كان ميمون النقيبة أزهرا

أتاكم بخط الجزم حتى حفظتم

من المال ما قد كان شتى مبعثرا

وأتقنتم ما كان بالمال مهملا

وطامنتم ما كان منه منفرا

فأجريتم الأقلام عودا وبدأة

وضاهيتم كتاب كسرى وقيصرا

وأغنيتم عن مسند الحي حمير

وما زبرت في الصحف أقيال حميرا2

1 انظر بلوغ الأرب 3/ 368 وما بعدها. ولما دوّن عمر الديون أمر عقيل بن أبي طالب ومخرمة بن نوفل وجبير بن مطعم وكانوا من كتّاب قريش فكتبوا ديوان الجند، فلولا التجارة ما كان لقريش هؤلاء الكتاب المخضرمون.

2 انظر المزهر للسيوطي "النوع الثاني والأربعون 2/ 346، طبعة عيسى الحلبي" الأولى.

ص: 114

ومهما يكن، فقد كان أكثر كتاب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم منهم، ومن هنا كان القرشيون أقرب العرب من علم وثقافة وتهذيب؛ لمخالطتهم هؤلاء الأجانب المتحضرين وقبسهم شيئا من تعاملهم في بيوعهم، وأنظمتهم في تجارتهم حسبما كانوا يرون في الأسواق التي كانوا يحطون رحالهم فيها. وهذه الأسواق وإن لم تكن في الدرجة الأولى بين أسواق الرومان، ولا كان أهلها سابقين في مضمار الحضارة كثيرا، لم تخل من آثار بعيدة في التحضر استفاد منها تجار مكة شيئا بعتد به في السياسة والاقتصاد.

بل، لقد تأثروا برحلاتهم هذه ببعض المعتقدات أيضا؛ فقد ذكروا أن عبادة الأصنام طارئة على أهل مكة من الشام، وأن عمرو بن لحي -فيما زعموا- أول من نشر عبادة الأصنام حول الكعبة حين حمل معه صنما من أصنام وجدها في جنوب الشام، فنصبه في الكعبة1.

وفشت في جماعة من قريش زندقة، حتى قال صاعد:"كانت الزندقة في قريش، أخذوها عن أهل الحيرة"2.

فأنت ترى أن هذه الرحلات أثّرت حتى في معتقدات العرب

1 انظر مثلا: مروج الذهب للمسعودي 1/ 367.

2 طبقات الأمم لصاعد ص67.

ص: 115

ومن القريب المألوف أن يحمل الرحّالون من البلاد التي ينزلونها شيئا من طرائقها في العادات والدين والأخلاق والعروض والأزياء يتحدثون عنه إذا ردتهم أسفارهم إلى بلادهم، فيعجبون منه ذويهم وجيرتهم ممن لم يكن له بتلك البلاد عهد، وما أكثر ما يحاول الإنسان تقليد من يملأ عينه.

أفادت قريش من هذه الرحلات وهذا الاختلاط بالأمم التي سبقتهم، كثيرا من اللباقة والكياسة إلى ما عرفت به من الفصاحة المشهود لهم بها، حتى إن العرب كانت تعرض شعرها على قريش. وعرض علقمة الفحل عليهم شعره فوصفوه بسِمْط الدهر1، وثقفت ألوانا من الدهاء والاحتيال، لا يحسنها إلا من رسخت قدمه في التجارة وأسبابها وضروب تعاطيها، حتى إذا دار الزمان وقضي للعرب أن تكون لهم دولة ذات سياسة داخلية وخارجية، كان أقطاب هذه الدولة وأركانها أولئك التجار الذين يعرفون كيف يتأتون للأمور، ويتلطفون لمواجهة الصعاب وتذليل العقبات وحل المشكلات من أمثال أبي بكر وعمر وعثمان وأبي سفيان ومعاوية وعمرو بن العاص وزياد والمغيرة، وتلك الطبقة الممتازة من أكابر التجار2 في الجاهلية

1 الأغاني 21/ 112.

2 من المهم أن نلاحظ هنا أن أكثر تجار قريش أمويون، وقد طال تردادهم ولبثهم في الشام، فاطلعوا على أصول السياسة والحكم، وكان نجاحهم فيما بعد من ثمة.

ص: 116

وكبار أهل الحل والعقد في الإسلام.

ومتى رميت برجل ذي ذكاء ومواهب، في قطر تجاري كالشام أو العراق "قبل الإسلام" فاختلط بالتجار، وقاسى محيطا غير محيطه، تفتّحت تلك المواهب، وانجلت عن نبوغ كبير ما كان لينكشف لو جمد صاحبه في محيطه الضيق، بين شعاف مكة وبطاحها. إن شئت فانظر إلى هذا الاحتيال المضاعف الذي أتاه المغيرة بن شعبة وضحك به على كل خمّار في الحيرة "إن كان ليعجز عن أقل منه أقطاب فضائح "ستافسكي" رغم ما يجهزهم به العصر العشرون من وسائل وعدد".

ولعل في هذه القصة التي سأوردها لك بيانا شافيا لهذا الدهاء التجاري الذي تمرّست به قريش، وامتازت به من العرب قاطبة:

قال المغيرة بن شعبة:

"أول ما عرفني به العرب من الدهاء والحزم، أني كنت في ركب من قومي، في طريق لنا إلى الحيرة فقالوا لي: "قد اشتهينا الشراب، وما معنا إلا درهم زائف" فقلت:"هاتوه وهلموا زقين". فقالوا: "وما يكفيك لدرهم زائف زق واحد! " قلت: "أعطوني ما طلبت وخلاكم ذم" ففعلوا وهم يهزءون من قولي.

ص: 117

فصببت في أحد الزقين شيئا من ماء ثم جئت إلى خمّار فقلت له: "كِل لي ملء هذا الزق" فملأه. فأخرجت الدرهم الزائف فأعطيته إياه. فقال: "إن ثمن هذا الزق عشرون درهما جيادا، وهذا درهم زائف! " فقلت: "أنا رجل بدوي وظننت أن هذا يصلح كما ترى، فإن صلح وإلا فخذ شرابك". فاكتال مني ما كاله وبقي في زقي من الشراب بقدر ما كان فيه من الماء، فأفرغته في الزق الآخر وحملتهما على ظهري وخرجت، فصببت في الزق الأول ماء ودخلت إلى خمار آخر فقلت:"إني أريد ملء هذا الزق خمرا فانظر إلى ما معي منه، فإن كان عندك مثله فأعطني" فنظر إليه "وإنما أردت ألا يستريب بي إذا رددت الخمر عليه" فلما رآه قال: "عندي أجود منه" قلت: "هات" فأخرج إلي شرابا فاكتلته في الزق الذي فيه الماء ثم دفعت إليه الدرهم الزائف، فقال لي مثل قول صاحبه فقلت:"خذ خمرك" فأخذ ما كال لي وهو يرى أني خلطته بالشراب الذي أريته إياه. وخرجت فجعلته مع الخمر الأول.

ثم لم أزل أفعل ذلك بكل خمار في الحيرة حتى ملأت زقي الأول وبعض الآخر. ثم رجعت إلى أصحابي فوضعت الزقين بين أيديهم ورددت درهمهم.

ص: 118

فقالوا: "ويحك! أي شيء صنعت؟ " فحدثتهم فجعلوا يعجبون وشاع لي الذكر في العرب بالدهاء حتى اليوم"1.

هذا احتيال لا يخترعه إلا عقل تاجر ماهر، ملم بحرفته وأسرارها وبالغش وضروبه، أحسنته قريش وشركاؤها كما أحسنت ضربا آخر من اللباقة وحسن التأتي مع الدول المجاورة التي تاجروا في بلادها، فكانوا بهذه الكياسة، ينجون من عقاب المخالفات التي يرتكبونها وعواقب المغامرات التي يقتحمونها. ولما أرادت قريش أن تفتح لها أسواق فارس ولم تكن ترتادها كما ترتاد أسواق الشام، كان لا بد في سبيل الوصول إلى ذلك من مغامرات ومخاطرة وتعرض للأذى وكانت الحاجة تخلق لها مغامرين أذكياء منها أو من شركائها يصلون برفقهم ودهائهم إلى ما يريدون مع السلامة والغنيمة. ونحن ذاكرون لك هنا شاهدا، مهما يكن حظ التزيد فيه فإن ما يخلص منه بعد الامتحان صالح لأن يعطيك صورة صحيحة عن فطنة القوم في أمور التجارة والاحتيال لها والجرأة فيها:

ذكر الرواة أن أبا سفيان خرج في جماعة من قريش يريدون العراق بتجارة، فلما ساروا ثلاثا جمعهم أبو سفيان فقال لهم: "إنا من

1 الأغاني 14/ 135.

ص: 119

مسيرنا هذا لعلى خطر، ما قدومنا على ملك جبار لم يأذن لنا في القدوم عليه، وليست بلاده لنا بمتجر؟ ولكن أيكم يذهب بالعير، فإن أصيب فنحن براء من دمه، وإن غنم فله نصف الربح؟ "

فقال غيلان بن سلمة: "دعوني إذًا فأنا لها". فدخل الوادي فجعل يطوفه ويضرب فروع الشجر ويقول:

ولو رآني أبو غيلان إذ حسرت

عني الأمور إلى أمر له طبق

لقال رعب ورهب يجمعان معا

حب الحياة وهول النفس والشفق

إما بقيت على مجد ومكرمة

أو أسوة لك فيمن يهلك الورق

ثم خرج في العير، وكان أبيض طويلا جعدا ضخما، فلما قدم بلاد كسرى تخلّق ولبس ثوبين أصفرين وشهر أمره وجلس بباب كسرى حتى أذن له، فدخل عليه فخرج إليه الترجمان، وقال له:"يقول لك الملك: ما أدخلك بلادي بغير إذني؟ " فقال: "قل له: لست من أهل عداوة لك، ولا أتيتك جاسوسا لضد من أضدادك، إنما جئت بتجارة تستمتع بها، فإن أردتها فهي لك، وإن لم تردها وأذنت لي بذلك رددتها". فتكلم كسرى فلما سمع صوته غيلان سجد، فقال الترجمان:"يقول لك الملك: لم سجدت؟ " فقال: "سمعت صوتا عاليا حيث لا ينبغي لأحد أن يعلو صوته إجلالا للملك، فعلمت أنه لم يقدم على رفع

ص: 120

الصوت هناك غير الملك، فسجدت إعظاما له". فاستحسن كسرى ما فعل وأمر له بمرفقة توضع تحته، فلما أتي بها رأى عليها صورة الملك فوضعها على رأسه، فاستجهله كسرى واستحمقه وقال للترجمان: "قل له: إنما بعثنا بهذه لتجلس عليها" قال: "قد علمت، ولكني لما أتيت بها رأيت عليها صورة الملك، فلم يكن حق صورته على مثلي أن يجلس عليها، ولكن كان حقها التعظيم، فوضعتها على رأسي لأنه أشرف أعضائي وأكرمها علي". فاستحسن فعله جدا ثم قال له:"ألك ولد؟ " قال: "نعم" قال: "فأيهم أحب إليك؟ " قال: "الصغير حتى يكبر، والمريض حتى يبرأ، والغائب حتى يئوب" فقال كسرى: "زهْ، ما أدخلك علي ودلك على هذا القول والفعل إلا حظك، فهذا فعل الحكماء وكلامهم، وأنت من قوم جفاة لا حكمة فيهم، فما غذاؤك؟ " قال: "خبز البر" قال: "هذا العقل من البر، لا من اللبن والتمر". ثم اشترى منه التجارة بأضعاف ثمنها وكساه "وبعث معه من الفرس من بنى له أطما بالطائف، فكان أول أطم بني بها"1 فهذا نمط مما بلغ إليه القوم.

1 انظر الأغاني 12/ 46، ولغيلان هذا شأن في العرب، فمحمد بن حبيب في "المحبر ص135" وتبعه المرزوقي في الأزمنة والأمكنة "2/ 274" عده من حكام قيس، وذكر أن له ثلاثة أيام: يوما ينشد الناس بشعره ويوما يحكم بين الناس، ويوما يقعد الناس فيه فيُزار ويُنظر إلى سرره وجماله. فلا تعجب بعد هذا إن حدثتك نفسك بتزيد أضيف إلى أخباره.

ص: 121

حتى الأجيال التي انقطعت عن التجارة من القرشيين كانت ألفاظ التجارة وحساباتها أسرع إلى أفكارهم وعلى ألسنتهم حين التعبير، فهذا إسماعيل بن علي بن العباس يقول لطلحة بن عمر بن عبد الله:"أنت أتجر الناس! " فيقول طلحة: "والله ما عالجت تجارة قط! " فيجيبه: "بلى حين تزوجت فاطمة بنت القاسم بأربعين ألفا فولدت لك إبراهيم ورملة، فزوجت رملة بمائة ألف دينار فربحت ستين ألفا وإبراهيم" في خبر طريف1.

مكانة قريش من العرب، وقيامها على الدين كلفاها مغارم كانت تؤديها عن طيب نفس، ويتعاون أفراد هذا الحي على الإنفاق في كل ما يعود على مكة والبيت وأهله بالفخر والتكرمة. ولنا على ذلك دليلان مشهوران هما خير ما يمثل لنا تضامن هذا الحي في المكارم، وما يتكلف من بذل وخدمة في سبيل تقوية منزلته من نفوس العرب، وفي سبيل تعظيم حرمة البيت وأهله وحفظ قدسيته في قلوب القبائل كافة:

1 انظره في كتاب "أخبار النساء" لابن قيم الجوزية ص73 "مطبعة التقديم العلمية بمصر سنة 1319هـ".

ص: 122

أما الأول فالرفادة التي كانت من مناقب قريش خاصة، مما تفاخر به أحياء العرب قاطبة، وهي -كما ذكرنا في موضع آخر- "شيء تترافد به قريش في الجاهلية، تخرج فيما بينها مالا تشتري به للحاج طعاما وزبيبا" ولعل في هذا الأمر شيئا وراء إكرام حجاج البيت الحرام، وما إلى ذلك من أمور تتصل بشعائر وعقائد تمتّ إلى الدين، وهذا الشيء هو إغراء العرب بحج تلك الأسواق التجارية والإقبال عليها حتى تغصّ بالبائعين والشارين، فتأمن قريش على أرباحها وتكفل من ذلك رواج تجاراتها التي هي قوام أمورها في الحياة. فالغرض الحقيقي -فيما يبدو لي- تجاري أكثر منه دينيا. ولا يفسر ذلك أحسن تفسير إلا الحوادث التي رافقت البعثة، وما لاقى رسول الله صلى الله عليه وسلم أول أمره من الألاقي والأذى. وما كانت قريش -وهي ما هي حصافة عقول- لتعمى عن نور الإسلام لولا أنها خافت على زعامتها التجارية والدينية أن يدكها الإسلام ويذهب ريحها، وإنما تسلطت قريش على نفوس العرب السذج بتلك الخرافات التي جعلت من أصنام الكعبة آلهة مقدسة لُفِّق حولها أباطيل وقصص اتخذت مع الزمن شكل العقائد، وجعلت من قريش قُوّاما على هذا الدين الذي دانته العرب في الجاهلية.

ص: 123

وأما الأمر الثاني فما كانت تتشارك فيه من كسوة الكعبة، جاء في "أخبار مكة للأزرقي ص174":

"إن الكعبة كانت تكسى في الجاهلية كسا شتى، كانت البدنة تجلل الحبرة والبرود والأكسية، وغير ذلك من عصب اليمن، وكان هذا يهدى للكعبة سوى جلال البدن، هدايا من كسا شتى: خز وحبرة وأنماط تعلق فتكسى فيه الكعبة ويجعل ما بقي في خزانة الكعبة. فإذا بلي منها شيء أخلف عليها مكانه ثوب آخر، ولا ينزع مما عليها شيء من ذلك، وكان يهدى إليها خلوق ومجمر، وكانت تطيب بذلك في بطنها ومن خارجها".

ويظهر أن الحرص على شرف هذه الكسوة كان بالغا، وكان مما تباهي به قريش سائر العرب حتى كان في الأفراد من اشرأبّ للاستئثار بهذه المكرمة وحده بلا شريك، ففي ص175 من الكتاب المذكور:

كانت قريش في الجاهلية ترافد في كسوة الكعبة، فيضربون ذلك على القبائل بقدر احتمالها من عهد قصي بن كلاب، حتى نشأ أبو ربيعة بن المغيرة بن عمرو بن عبد الله بن مخزوم، وكان يختلف إلى اليمن يتجر بها، فأثرى في المال فقال لقريش:

"أنا أكسو وحدي الكعبة سنة، وجميع قريش سنة" فكان يفعل ذلك حتى مات؛ يأتي بالحبرة الجيدة من الجَنّد "إحدى قرى

ص: 124

اليمن ومن أسواق العرب" فيكسوها الكعبة، فسمته قريش "العدل"؛ لأنه عدل فعله بفعل قريش كلها، فسموه إلى اليوم العدل ويقال لولده: بنو العدل".

والحق أن الأمر لم يقتصر على هذه "المكارم الرسمية" من الرفادة وكسوة الكعبة وما إليهما، بل كان ذلك من أخلاق قريش الملازمة لهم في حلهم وترحالهم، فـ "لم يكن أحد يتزود مع قريش في سفر، وكانوا يطعمون كل من يصحبهم" وعرف ثلاثة نفر منهم لمبالغتهم في هذه الخصلة بـ "أزواد الركب" وهم: مسافر بن أبي عمرو بن أمية، وزمعة بن الأسود، وأبو أمية بن المغيرة1.

لم تنج قريش من ألسنة العرب، ولم تخل ممن نفس عليها مكانها أو حقد عليها استئثارها بالغنى من أفناء العرب الذين يقدمون مكة فيعانون من تجارتها عنتا وإرهاقا، عدا ما يسامون من الهزء أحيانا ومن أداء الربا المضاعف لهؤلاء. وكان اشتغال التجار بتجارتهم وانكبابهم على شئونها قد صرفهم بعض الصرف عن معالجة شئون الحرب كما يعالجها أمثالهم من غير التجار. ولاحظ ابن سلام أن الذي

1 الأغاني 9/ 49 "طبعة دار الكتب"، وانظر في هذه الصفحة الحاشية المنقولة عن كتاب "ما يعول عليه في المضاف إليه".

ص: 125

قلل شعر قريش عدم اشتغالها بالحروب "فلم يكن بينهم ثائرة ولم يحاربوا، وذلك الذي قلل شعر عمان وأهل الطائف"1، وعمان والطائف أيضا بلدان تجاريان. ولما أرادت أن تباهي الأنصار ولم يكن لها أيام ولا أشعار جعلت "تزيد في أشعارها"2. عرف بعض العرب ذلك من أمرها، والبدو يحقرون التجارة بطبعهم ككل الأمم التي تعيش من الغزو والسلب، فصاروا يعيرونهم بها، وطارت لهم أشعار في ذلك؛ منها ما يحقر التجارة نفسها، ومنها ما يقصد إلى قريش مباشرة، وانظر إن شئت قول القائل يريد مكة:

ولا مرتع للعين أو متقنص

ولكن تجرا والتجارة تحقر

وقول ابن الزبعرى:

ألهى قصيا عن المجد الأساطير

...............

...............

وقولها: رحلت عير أتت عير

ومن هنا كانت استهانة بعض العرب بقريش وعدم الهيبة منها؛ لانكبابها على التجارة وشغلها عن الحروب من دون سائر العرب، عرف ذلك من أمرهم القاصي والداني. جاء في تاريخ الطبري عند كلامه على فتوح سعد بن أبي وقاص قائد الجيوش الإسلامية في العراق، ما يأتي:

1 طبقات الشعراء ص102.

2 ص98 المصدر نفسه.

ص: 126

سأل النعمان بن قبيصة الطائي، وكان على مرابطة كسرى، عن سعد بن أبي وقاص فقيل له:"رجل من قريش" فقال: "أما إذ كان قرشيا فليس بشيء، والله لأجاهدنه القتال، إنما قريش عبيد من غلب، والله ما يمنعون خفيرا ولا يخرجون من بلادهم إلا بخفير"1، إلا أنه لما عانى من شدة بأسهم ما عاناه علم أن في جلود أولئك التجار مغاوير حرب ومذاويد حق2.

كان لهؤلاء القرشيين معارف في بلدان الشام واليمن وفارس، وكانت قريش تنظم وفودا تفد على ملوك النواحي، ونحن نعلم أن عمرو بن العاص كان يعرف مصر وغزة والشام تمام المعرفة ويعزى نجاحه في فتح مصر إلى عوامل منها إجادة معرفته بها. ولما كان أمام غزة دخل على حاكمها بصفة موفد وعرفه الحاكم وأمر حاجبه سرا بقتله لولا أن نبهه عربي نصراني كان يعرف عمرا في الجاهلية حين كان يتاجر والقصة مشهورة. وعرف من القرشيين تجار كبار ذوو أسفار بعيدة

1 تاريخ الطبري 1/ 2350 "طبع ليدن".

2 ليس غريبا أن يحقر بعض العرب حينذاك التجارة، وإنما الغريب أن تستمر هذه النغمة في النفوس حتى القرن الرابع الهجري وقد تبدلت الأرض غير الأرض، فيقول شاعر مثل المتنبي في رثاء أخت سيف الدولة:

ولا من في جنازتها تجار

يكون وداعها نفض النعال

ص: 127

كثيرة، فأبو سفيان كان "تاجرا يجهز التجار بماله وأموال قريش إلى أرض العجم"1، ولعل أول عير طرقت بلاد فارس العير التي كان هو صاحبها، والتي دخل بها غيلان مخاطرا كما تقدم. ثم كانت له عودات إلى فارس، ودخل وافدا مرة على كسرى وأهدى إليه "خيلا وأدما، فقبل الخيل ورد الأدم" قال أبو سفيان: "أدخلت على كسرى فكأن وجهه وجهان من عظمه. فألقى إلي مخدة كانت عنده فقلت: وا جوعاه! هذه حظي من كسرى بن هرمز! " فخرجت من عنده، فما أمر على أحد من حشمه إلا أعظمها حتى دفعتها إلى خازن له، فأخذها وأعطاني ثمانمائة إناء من فضة وذهب"2.

وكان يخرج إلى اليمن أيضا، ويتصل بطبقات أهلها وأحبار يهودها كما يتصل غيره، فيعلمون من الأخبار والسياسة ما لا يعلمه غيرهم، واقرأ في الأغاني كيف يشرح لك الحرب بين هرقل وفارس وكيف انتصر هرقل، وكيف خرج من حمص ليصلي ببيت المقدس شكرا لله. وهو حديث طويل مستوفى في كتب السيرة هو والحوار الذي دار بين هرقل وأبي سفيان في شأن بعثة النبي صلى الله عليه وسلم. ولا بأس في أن أنقل هنا أول هذا الحديث؛ لعلاقته بموضوعنا، قال أبو سفيان:

"كنا قوما تجارا وكانت الحرب بيننا وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حصرتنا حتى نهكت أموالنا. فلما كانت الهدنة "هدنة الحديبية"

1 الأغاني 6/ 343 دار الكتب.

2 العقد الفريد 1/ 174.

ص: 128

بيننا وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجت في نفر من قريش إلى الشام، وكان وجه متجرنا منه غزة، فقدمناها حين ظهر هرقل على من كان بأرضه من الفرس

إلخ"1.

واقرأ أيضا ما كان بينه وبين العباس وحبر من أحبار اليهود في متجرهم باليمن "الأغاني 6/ 349" فستعرف من كل ذلك أن هؤلاء التجار كانوا على اتصال بما كان يجري في زمنهم من أحداث سياسة، شديدو الاهتمام بذلك لما يعود على علائقهم بالبلدان وعلى تجاراتهم. وكانوا ينقلون إلى بلادهم بعض ما يجدون في متاجرهم الخارجية من طرف وغرائب، ولعلهم استفادوا من بعض الأنظمة الاجتماعية التي وجدوا عليها الروم أو فارس. بل ما يدرينا أن دار الندوة نفسها اقتباس مغير مصغر عن مجامع الروم الدينية والمدنية، فقد كانت مجلسا منظما "لتشاور قريش وعقد الألوية في حروبهم، ولا ينكح رجل من قريش إلا فيها، ولا يعقد لواء الحرب لهم ولا لغيرهم إلا فيها، ولا يعذر غلام إلا فيها2، ولا تدرع جارية من

1 الأغاني: 6/ 345 "دار الكتب".

2 مدنية العرب في الجاهلية والإسلام، محمد رشدي، ص58، ويعذر غلام: يختن.

ص: 129

قريش إلا فيها، يشق عليها درعها ثم تدرع وينطلق بها إلى أهلها، ولا تخرج عير من قريش إلا منها، ولا يقدمون إلا نزلوا فيها". وهذا عبد الله بن جدعان أتى العرب بطعام لا عهد لهم به: وفد على كسرى فأطعمه الفالوذج، فسأل عن صنعه وحمل معه غلاما يحسن له عمله، فصار يطعم أهل مكة منه. وهو من سراة مكة وأجوادهم وأحد أغنيائهم الكبار و"وضع الموائد بالأبطح إلى باب المسجد، ثم نادى مناديه: ألا من أراد الفالوذج فليحضر، فحضر الناس"1. وقال فيه أمية بن أبي الصلت يصف طعامه هذا:

له داع بمكة مشمعلّ

وآخر فوق دارته ينادي

إلى رُدُح من الشيزى ملاء

لباب البر بلبك بالشهاد2

1، 2 الأغاني 8/ 330 اشمعلّ القوم في الطلب، إذا بادروا فيه وتفرقوا، وردح: جمع رداح وهي الجفنة العظيمة، والشيزى: خشب أسود تتخذ منه القصاع.

جاء في الأمالي 3/ 38: قال أمية بن أبي الصلت: أتيت نجران فدخلت على عبد المدان بن الديان، فإذا به على سريره، وكأن وجهه قمر، وبنوه حوله كأنهم الكواكب، فدعا بالطعام فأتي بالفالوذج فأكلت طعاما عجيبا، ثم انصرفت وأنا أقول:

ولقد رأيت القائلين وفعلهم

فرأيت أكرمهم بني الديان

ورأيت من عبد المدان خلائقا

فضل الأنام بهن عبد مدان

البر يلبك بالشهاد طعامه

لا ما يعللنا بنو جدعان

فبلغ ذلك عبد الله بن جدعان، فوجه إلى اليمن من جاءه بمن يعمل الفالوذج بالعسل، فكان أول من أدخله مكة، ففي ذلك يقول أمية بن أبي الصلت:

"له داع

البيتان"

ولعل الفالوذج الذي كان صنعه الغلام الفارسي بمكة لعبد الله بن جدعان لم يكن لذيذا في فم الشاعر أمية، كما كان فالوذج نجران.

ص: 130

وممن كان يواصل أسفاره في التجارة أبو طالب والعباس عما النبي صلى الله عليه وسلم وقد أخرج أبو طالب ابن أخيه محمدا مرتين إلى الشام في تجارة: مرة وهو فتى لا تتجاوز سنه الخامسة عشرة، ومرة وهو شاب في سن الخامسة والعشرين.

وقد تجر أبو بكر إلى الشام، وتجر عمر إلى غزة وفيها استغنى في الجاهلية على ما قال ابن حوقل1، واستمر عمر مشتغلا بالتجارة في الإسلام وأسف على اشتغاله هذا؛ إذ حرم من علم كثير، وجهل في خلافته مسألة في الاستئذان، فلما رويت له عبر عن أسفه بقوله:"أخفي علي "هذا" من أمر رسول الله!! ألهاني الصفق بالأسواق!! " يعني: الخروج إلى التجارة2.

وقل أن تجد قرشيا ذا شأن في الجاهلية والإسلام إلا كان

1 المسالك والممالك لابن حوقل ص113، طبع ليدن.

2 الأدب المفرد للبخاري، الباب 492 ص274 "المطبعة السلفية سنة 1375هـ".

ص: 131

تاجرا1، واستفاض لهم غنى عريض وثروة واسعة حتى كثر منهم الأجواد وغزرت عطاياهم وقصدهم العفاة وأصحاب الحاجات، وكان من ذلك ما نقرؤه من أخبار جودهم الكثيرة في العقد الفريد والأغاني وغيرهما من الأمهات.

ولم تكن النساء القرشيات لتقصر عن الرجال في هذا المدى، بل كان منهن من اتسعت ثروتها من التجارة حتى فاقت كثيرا من الرجال. ولعل السيدة خديجة بنت خويلد أم المؤمنين خير مثال نقدمه على ذلك: فقد كانت من أكبر تجار قريش وأكثرهم مالا وأوفرهم غنى، وكانت في حسب ومقام رفيع في قومها، مع مزايا في أخلاقها طيبة. كانت تستأجر الرجال في مالها وتضاربهم إياه بشيء تجعله لهم. ترسل بأموالها إلى الشام، وإلى عكاظ وحباشة وغيرهما من أسواق العرب، وكثيرا ما كانت ترجع هذه الأموال بربح وافر. وذكروا أن عير

1 وفي كتب الأدب تقع على مكاسب كثير منهم، وفيهم من صاروا أعلام الإسلام فيما بعد؛ فابن قتيبة في كتابه المعارف يذكر أن أبا سفيان كان يبيع الزيت والأدم، وأمية بن خلف يبيع البرم، وعقبة بن أبي معيط كان خمارا، وأبا طالب كان يبيع العطر وربما باع البز، وأبا بكر وعثمان بن عثمان وطلحة وعبد الرحمن بن عوف كانوا يبيعون البز

المعارف ص247 "المطبعة الرحمانية 1935".

ص: 132

خديجة كعامة عير قريش1. ولما بلغها عن محمد بن عبد الله ما بلغها من صدق حديثه وعظم أمانته وكرم أخلاقه عرضت عليه أن يخرج إلى الشام، ولعل الحقيقة ما ذكره الزرقاني شارح المواهب من أن الرسول نفسه استشرف للسفر بمال خديجة، فقد ذكر:

"أن أبا طالب قال له: "يابن أخي، أنا رجل لا مال لي وقد اشتد الزمان علينا وألحت علينا سنون منكرة، وليس لنا مادة ولا تجارة، وهذه عير قومك قد حضر خروجها إلى الشام، وخديجة تبعث رجالا من قومك يتجرون في مالها ويصيبون منافع، فلو جئتها لفضّلتك على غيرك؛ لما يبلغها عنك من طهارتك" فقال محمد:"لعلها ترسل إلي في ذلك" فقال أبو طالب: "إني أخاف أن تولي غيرك" ".

وبلغ خديجة ما كان من محاورتهما، فقالت لمن بلغها:"ما علمت أنه يريد هذا". ثم أرسلت إليه وقالت له: "دعاني إلى البعثة إليك ما يبلغني من صدق حديثك وعظم أمانتك وكرم أخلاقك، وأنا أعطيك ضعف ما أعطي رجلا من قومك" فذكر ذلك لعمه فقال: "إن هذا لرزق ساقه الله إليك" وكان عمره صلى الله عليه وسلم في هذه الرحلة خمسا وعشرين سنة. "وخرج رسول الله إلى سوق بصرى فباع سلعته

1 شرح المواهب1/ 198، وابن سعد 8/ 9.

ص: 133

التي أخرج واشترى غيرها، وقدم بها فربحت ضعف ما كانت تربح. .."1.

كانت قريش تنظم كل سنة عيرا بتجارة إلى الشام، وكانت هذه القوافل تزيد شأنا عاما فعاما.

ولما بلغ أذى قريش من المسلمين ما بلغ، حتى اضطر هؤلاء إلى الهجرة إلى الحبشة2، ثم الهجرة الكبرى إلى المدينة3، واعتز المسلمون وقووا

كان أول أمر ينتصفون به لأنفسهم، ويحملون أعداءهم من قريش بسببه على الكف من كيدهم وأذاهم لمن في بلدهم من ضَعَفَة المسلمين، هو التعرض لتجارتهم، وإن جارينا مصطلح عصرنا قلنا: أن يضربوا على قريش حصارا اقتصاديا، لعلمهم أن ذلك أبعث على الرعب وأبلغ في النكاية بهم وأفتك ما تكون الحرب في العدو

1 طبقات ابن سعد 8/ 9.

2 وإنما خصوا الحبشة بالهجرة؛ لكثرة تردادهم عليها في الجاهلية للاتجار، وإيناسهم من ملكها عدلا ورعاية، والأصفهاني يذكر لنا في صدد كلامه على خروج عمارة بن الوليد وعمرو بن العاص -وكانا تاجرين- إلى أرض الحبشة قوله:"وكانت أرض الحبشة لقريش متجرا ووجها". الأغاني 9/ 56 "طبعة دار الكتب".

3 خافت قريش على مكانتها وتجارتها فوضعت جائزة كبيرة لمن يأتيها بالنبي، حتى اضطر النبي وصاحبه إلى الاختفاء في الغار

وهذا من أعمالهم "الدولية" التي أفادوها من مخالطتهم شعوبا خاضعة لحكومات مختلفة.

ص: 134

حين توهى "اقتصادياته"، فأرسل الرسول صلى الله عليه وسلم سرية عليها عبد الله بن جحش أميرا؛ لتتعرض لعير قريش، وكانت راجعة من الشام فترصدوها بموضع بين مكة والطائف يعرف بنخلة، وكان في العير العلاء بن الحضرمي، فلما مرت بهم حملوا على من فيها واحتجزوا الأموال وكانت زبيبا وأدما وتجارة من تجارة قريش. فقتل من حامية القافلة من قتل، وأسر من أسر، وقوى الله المسلمين بما غنموا من عدوهم الذي أخرجهم من ديارهم وأبنائهم، وبلغ الخبر قريشا فكانت الأذية منهم بالغة.

وكان السبب في استدراج المسلمين قريشا إلى المعركة الحاسمة بين الإسلام والشرك في بدر الكبرى تجاريا أيضا: فإن قريشا أقبلت لها عير من الشام عليها أبو سفيان في ثلاثين راكبا، وكان فيها معظم أموالهم، قدرها المؤرخون بخمسين ألف دينار، وقالوا:"لم يبق قرشي ولا قرشية له مثقال إلا بعث به في العير". وبلغ النبي صلى الله عليه وسلم خبرها فتجهز ليتعرض لها، ولكن أبا سفيان أخذ على الساحل فنجا بها بعد أن أرسل إليهم نذيرا ضمضم بن عمرو الغفاري يستنفرهم إلى العير.

فجدع هذا أنف بعيره وحول رحله وشق قميصه من قبل ومن دبر وصرخ في أهل مكة: إن محمدا مع أصحابه قد عرض لعير قريش،

ص: 135

يا معشر قريش! اللطيمة اللطيمة، أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه، ما أرى أن تدركوها، الغوث الغوث

فنهضوا وقالوا: "أيظن محمد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمي، كلا والله، ليعلمن غير ذلك". وخرجوا ألفا بين فارس وراجل، كل من قدر على النهوض نهض ومن لم يستطع أرسل بماله وسلاحه من يقوم مقامه. وكان كل ذي خطر إما في العير مع أبي سفيان، وإما في النفير إلى بدر، وصاروا بعد ذلك إذا استصغروا أحدا قالوا:"لا في العير ولا في النفير" فأرسلوها مثلا في الناس.

ثم نجت العير، والتقى الجمعان في بدر الكبرى وكان من أمرهم ما يعلم الجميع. وقرر كبراء قريش أن ترصد أرباح العير للتجهيز لغزو محمد؛ ثأرا لقتلى بدر.

وطفق الرسول عليه الصلاة والسلام يبث سراياه، وأشفقت قريش من ذلك؛ إذ تتعطل تجاراتهم إذا لم تكن الطريق آمنة، وطريقهم المسلوكة المعبدة هي الطريق المساحلة إلى الشام وإلى اليمن، وقد أصبحت غير مأمونة بعد أن صارت كتائب المسلمين تترصد قوافل التجارة المكية، وأشفق أيضا القبائل المقيمة على هذا الطريق حول المدينة إلى مكة؛ إذ بانقطاع هذا الطريق التجاري موت لهم. وأيا كان، فقد فكرت قريش

ص: 136

في تغيير الطريق وسلوك طريق نجد فالعراق؛ لبعده عن منطقة الحصار الذي ضربه المسلمون على تجارة مكة. وقد قال صفوان بن أمية يوما في أحد منتديات قريش: "إن محمدا وأصحابه قد عوّروا علينا متجرنا، فما ندري كيف نصنع بأصحابه وهم لا يبرحون الساحل، وأهل الساحل قد وادعوه ودخل عامتهم معه، فما ندري أين نسكن؟! وإن أقمنا في دارنا هذه أكلنا رءوس أموالنا فلم يكن لها من بقاء، وإنما حياتنا بمكة على التجارة إلى الشام في الصيف وإلى الحبشة في الشتاء".

فأشير على قريش أن تسلك طريق العراق، فخرجت عيرهم مثقلة بالعروض والفضة، وبلغ أمرها النبي فأرسل زيد بن حارثة في سرية اعترضت العير عند "القردة" أحد مياه نجد، فغنم العير وأسر الدليل.

كان هذا الحصار الاقتصادي الذي أحكمه الرسول أهم الممهدات لفتح مكة فيما بعد؛ إذ أضعف من قوة قريش الاقتصادية. وإنما قريش بتجارتها وأموالها، فإذا فقدت مكانتها التجارية فقد هوى شأنها بين العرب؛ ولذلك عادت تفكر في رفع هذا الحصار عنها في محاولات لم تنته بالنجاح. ولعل أشد ما أحمى قريشا في موقفها من الرسول وصحبه في مفاوضات الحديبية خوفها أن تفقد مكة ما عرفت به من حرمة وأمن إذا اقتحمها عليهم محمد صلى الله عليه وسلم عنوة، فلا تعود العرب تقصدها للتجارة

ص: 137

فتتعطل أسواقها وتخسر قريش أرباحها وثراءها. فلذلك حالوا بكل ما يستطيعون دون وقوع قتال ودون دخول المسلمين لها عامهم ذاك؛ إبقاء على مصالحهم التجارية والأدبية بين العرب.

وليس يصور لنا ذلك الغنى المستفيض إلا الأخبار التي أثرت عن كبار القرشيين في الجاهلية والإسلام، ولا بأس في ذكر عبد الله بن جدعان مثلا في ذلك:

فقد تقدم أنه كان يبسط الموائد في مكة يطعم الناس الفالوذج، وله جفنة عظيمة يأكل منها الفارس على فرسه، وفي الحديث: $"كنت أستظل بظل جفنة عبد الله بن جدعان صكة عمي"1. ورويت له أخبار أشبه بما يروى عن الملوك؛ فقد كان يتخذ القيان يغنينه ثم يهبهن لمادحه، وكان يقضي عن الناس ديونهم، وله شاعر هو أمية بن أبي الصلت، وكان يلقب بحاسي الذهب، وما أجد حاجة إلى التنبيه على بطلان خرافة الكنز التي ذكروها تعليلا لوجود كل هذا الغنى عنده، فليس من كسب له ولا لقومه سوى التجارة، وما عرفنا أن رمال الجزيرة مما تبطن الكنوز.

وأصحاب السير يقدمون لنا حسابا نستطيع أن نعتمد عليه هنا

1 صكة عمي: حين اشتداد الهاجرة.

ص: 138

في معرفة أرباحهم التجارية1 لنقدر نحن بعد ذلك الأمد الذي بلغوه في الثروة، قالوا: إن قريشا لما رجعوا من هزيمة بدر إلى مكة، وقد أصيب أصحاب القليب ورجع أبو سفيان بعيره "سالمة" مشى جماعة من أشراف قريش ممن أصيب آباؤهم وإخوانهم وأبناؤهم يوم بدر فقالوا:"يا معشر قريش، إن محمدا وتركم وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه" يعنون: عير أبي سفيان ومن كانت له في تلك العير تجارة، والعير -كما تقدم من عادتهم- تنزل أول ما تنزل في دار الندوة حتى يتفق أصحابها على إخراجها للبيع، فائتمر القرشيون وشركاؤهم أن ينفقوا ربح هذه العير على تجهيز جيش يحاربون به محمدا صلى الله عليه وسلم، وكانت ألف بعير موقرة بما قيمته خمسون ألف دينار، وكانوا يربحون بكل دينار دينارا -على ما نقل الزرقاني- فيكون ما أُنفق على هذا الجيش خمسين ألف دينار أو -على رواية المقل- خمسة وعشرين ألف دينار. وهو على كل حال مبلغ ضخم جدا، وكان عدد من استأجرهم أبو سفيان

1 كانت هذه التجارة التي تبعث بها مكة والطائف جميعا، والتي كانت تجيء إلى مكة من بلاد الجنوب، تجارة واسعة النطاق، حتى لقد كانت بعض القوافل تسير في ألفي بعير، حمولتها تزيد على خمسين ألف دينار. وكانت صادرات مكة السنوية على ما قدرها المستشرق "سبرنجر" توازي مائتين وخمسين ألفا من الدنانير، أي: نحو مائة وستين ألف جنيه ذهبا. حياة محمد ص240.

ص: 139

من الأحابيش فقط ألفين. وفي هذا الحادث نزل قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} 1.

وخليق بمن كانت أرباحهم بهذا المقدار أن يثروا في المدة الوجيزة الثراء الكبير. ونحن نعرف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ من العباس الفداء يوم بدر فكان مقداره عشرين أوقية من ذهب، وأن عثمان بن عفان وحده جهّز جيش العسرة "في غزوة تبوك" ألف بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، ولما أقحط الناس أيام أبي بكر وأتت عير لعثمان خاصة جعلها جميعا في سبيل الله. ولما كانت الفتوحات زاد غناه بما لا يقدر، حتى إن ابن سعد صاحب الطبقات ليروي "3/ 53" أنه "كان له عند خازنه يوم قتل "30.500.000" درهم و"150" ألف دينار، فانتهبت وذهبت، وترك ألف بعير بالربذة، وترك صدقات كان تصدق بها ببراديس وخيبر ووادي القرى قيمة مائتي ألف دينار".

وليس ما يروى في تقدير ثروة عبد الرحمن بن عوف بالقليل، فقد ذكر ابن سعد2 عنه أنه: قدم المدينة فآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري، فقال له سعد: أخي، أنا أكثر

1 سورة الأنفال: 36.

2 الطبقات 3/ 89.

ص: 140

أهل المدينة مالا فانظر شطر مالي فخذه، وتحتي امرأتان فانظر أيتهما أعجب إليك حتى أطلقها لك. فقال عبد الرحمن: "بارك الله لك في أهلك ومالك، دلوني على السوق

" فاشترى وباع فربح، فجاء بشيء من أقط وسمن، ثم لبث ما شاء الله أن يلبث فجاء وعليه ردع "لطخ وأثر طيب" من زعفران، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مهيم" فقال: "يا رسول الله تزوجت امرأة" قال: "فما أصدقتها"؟ قال: "وزن نواة من ذهب" قال: "أولم ولو بشاة" فقال عبد الرحمن: "فلقد رأيتني، ولو رفعت حجرا لرجوت أن أصيب تحته ذهبا". وحسبك هذا دليلا على مهارتهم في الاتجار وخبرتهم بطرق الكسب.

أما تركته فكانت "ألف بعير وثلاثة آلاف شاة ومائة فرس ترعى بالبقيع

وكان فيما ترك ذهب قطع بالفئوس حتى مجلت أيدي الرجال منه. وترك أربع نسوة، فأُخرجت امرأة من ثُمُنها بثمانين ألفا1، وقد باع مرة أرضا له بأربعين ألف دينار، فتصدق بها كلها، وتصدق مرة بسبعمائة جمل بأحمالها قدمت من الشام، وأعان في سبيل الله بخمسمائة فرس عربية"2 "وأوصى في السبيل بخمسين ألف دينار"3.

1 طبقات ابن سعد 3/ 96، والمجْل: أن يكون بين الجلد واللحم ماء من العمل.

2 تهذيب التهذيب للذهبي.

3 طبقات ابن سعد 3/ 96.

ص: 141

"وكان الزبير بن العوام كثير المتاجر والأموال، قيل: كان له ألف مملوك يؤدون الخراج، فربما تصدق بذلك في مجلسه، وقد خلّف أملاكا بيعت بنحو أربعين ألف ألف درهم"1.

"وأرسل سعد بن أبي وقاص إلى مروان، بزكاة عين ماله خمسة آلاف درهم، وترك يوم مات "250000" درهم"2. ومهما تسقط من هذه الأرقام مما تقدر أنهم كسبوه من غنائم الحرب فسيبقى لك بعد ذلك مقادير وأموال طائلة.

فهذا دون شك غنى واسع، ودنيا عريضة، وتوفيق عجيب أُتيح لهؤلاء التجار، وإن كلمة عبد الرحمن بن عوف:"لو رفعت حجرا لرجوت أن أصيب تحته ذهبا" لتشرح لك مدى التوفيق التجاري الذي أحرزوه بما أتقنوا من هذه المهنة، وما تفننوا في أساليبها وطرقها.

وأظن هذا القدر كافيا في الدلالة على مبلغ اهتمام قريش بالتجارة حتى صاروا يعيّرون بذلك3، حين جعلوها ديدنهم ومعاشهم

1 تهذيب التهذيب.

2 الطبقات 3/ 96.

3 قال زيد بن صوحان لمعاوية: "كم تكثر علينا بالإمرة وبقريش، فما زالت العرب تأكل من قوائم سيوفها وقريش تجار!! ". العواصم من القواصم لأبي بكر بن العربي ص120 "طبع السلفية".

ص: 142

وهجيراهم في مجالسهم وأسمارهم، الكبير منهم والصغير والرجل والمرأة سواء، كلٌّ يسهم في العير بما يستطيع، وله من الربح على قدر ماله. كانوا يذهبون راحلين إلى اليمن أو إلى الشام أو إلى العراق، حتى جعلوا لأنفسهم محطات ومنازل خاصة بأصحابها على طول الطريق1، كل أسرة ترسل من أفرادها من استطاع، ولا يكادون يُعرفون في العرب بعمل غير التجارة وما إليها من معاملات2.

1 جاء في تفسير الطبري: لما نزلت آية الاستئذان في البيوت، قال أبو بكر:"يا رسول الله، فكيف بتجار قريش الذين يختلفون بين مكة والمدينة والشام ولهم بيوت معلومة على الطريق، فكيف يستأذنون ويسلمون وليس فيها سكان؟ " فنزل: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} [النور: الآيتان 28، 29] .

2 أضاف الزمن على تاريخ قريش هذا ثوبا من التقديس لمكان النبوة منهم، فكان كثير من علماء المسلمين ومتكلميهم يسبغون على قريش ألوانا من الإجلال والتعظيم؛ لما تكنه قلوبهم لنفر النبي صلى الله عليه وسلم، وصرنا نسمع كثيرا من مثل قول الشاعر:

فأصبحوا قد أعاد الله نعمتهم

إذ هم قريش وإذ ما مثلهم بشر

ومثل قول أبي تمام:

تلكم قريش لم تكن آباؤها

تهفو ولا أحلامها تتقسم

حتى إذا بعث النبي محمد

فيهم غدت شحناؤهم تتضرم

عزبت عقولهم وما من معشر

إلا وهم منهم ألب وأحزم

=

ص: 143

ونختم هذا الفصل برأي لأحد سادات قريش في الجاهلية

= ومن الخير للقارئ أن يطلع على هذه النطرة ليكون إلمامه محيطا شاملا، وليرى فيما سندرجه له امتدادا لنظرة عرب الجاهلية إلى قريش النظرة الدينية التي أسهبنا في وصفها، وإليك أقوالا لرجال ثلاثة مختلفين، تمثل في الجملة آراء الناس حتى المائة الرابعة للهجرة، أما من بعدهم فتبع لهم في ذلك:

1-

قال العتبي: شهدت مجلس عمرو بن عتبة وفيه ناس من القرشيين فتشاجروا في مواريث وتجاحدوا، فلما قاموا من عنده أقبل علينا فقال:"إن لقريش درجا تزلق عنها أقدام الرجال، وأفعالا نخضع لها رقاب الأموال، وغايات تقصر عنها الجياد المنسوبة، وألسنة تكل عنها الشفار المشحوذة، ولو احتفلت الدنيا ما تزينت إلا بهم، ولو كانت لهم ضاقت بسعة أخلاقهم". "العقد الفريد 2/ 208".

2-

قال الجاحظ: "قد علم الناس كيف كرم قريش وسخاؤها، وكيف عقولها ودهاؤها، وكيف رأيها وذكاؤها، وكيف سياستها وتدبيرها، وكيف إيجازها وتحبيرها، وكيف رجاحة أحلامها إذا خف الحليم، وحدة أذهانها إذا كلّ الحديد، وكيف صبرها عند اللقاء، وثباتها في اللأواء، وكيف وفاؤها إذا استحسن الغدر، وكيف جودها إذا حب المال، وكيف ذكرها لأحاديث غد، وقلة صدودها عن جهة القصد، وكيف إقرارها بالحق وصبرها عليه، وكيف وصفها له، ودعاؤها إليه، وكيف سماحة أخلاقها وصونها لأعراقها، وكيف وصلوا قديمهم بحديثهم، وطريفهم بتليدهم، وكيف أشبه علانيتهم سرهم، وقولهم فعلهم، وهل سلامة صدر أحدهم إلا على قدر بعد غوره؟ وهل غفلته إلا في وزن صدق ظنه؟ وهل ظنه إلا كيقين غيره؟

بل، قد علم الناس كيف جمالها وقوامها، وكيف نماؤها وبهاؤها، وكيف سَرْوها ونجابتها، وكيف بيانها وجهارتها، وكيف تفكيرها وبداهتها. =

ص: 144

والإسلام حكيم بن حزام، وكان واسع الغنى فاحش الثراء، تصدق

= فالعرب كالبدن وقريش روحها، وقريش روح وبنو هاشم سرها ولبها، وموضع غاية الدين والدنيا منها، وهاشم ملح الأرض وزينة الدنيا، وحي العالم، والسنام الأضخم والكاهل الأعظم، ولباب كل جوهر كريم، وسر كل عنصر شريف، والطينة البيضاء، والمغرس المبارك، والنصاب الوثيق، ومعدن الفهم، وينبوع العلم، وثهلان ذو الهضاب في الحلم، والسيف الحسام في العزم، مع الأناة والحلم، والصفح بعد المقدرة. وهم الأنف المقدم والسنام الأكرم، وكالماء الذي لا ينجسه شيء، وكالشمس التي لا تخفى بكل مكان، وكالذهب لا يعرف بالنقصان، وكالنجم للحيران، والبارد للظمآن، ومنهم: الثقلان، والأطيبان، والسبطان، وأسد الله، وذو الجناحين، وذو قرنيها، وسيد الوادي، وساقي الحجيج، وحليم البطحاء، والبحر والحبر، والأنصار أنصارهم، والمهاجر من هاجر إليهم أو معهم، والصديق من صدقهم، والفاروق من فرّق بين الحق والباطل "منهم"، والحواريّ حواريّهم، وذو الشهادتين لأنه شهد لهم، ولا خير إلا لهم أو فيهم أو معهم أو يضاف إليهم. وكيف لا يكونون كذلك ومنهم رسول رب العالمين، وإمام الأولين والآخرين، ونجيب المرسلين، وخاتم النبيين، الذي لم يتم لنبي نبوة إلا بعد التصديق به، والبشارة بمجيئه، الذي عم برسالته ما بين الخافقين، وأظهره الله على الدين كله ولو كره المشركون؟ ". زهر الآداب 1/ 94.

وقال أيضا: "وقد علم المسلمون أن خيرة الله تعالى من خلقه، وصفيه من عباده، والمؤتمن على وحيه من أهل بيت التجارة، وهي معولهم وعليها معتمدهم، وهي صناعة سلفهم وسيرة خلفهم، ولقد بلغتك بسالتهم، ووصفت لك جلادتهم، ونعتت لك أحلامهم، وتقدّر لك سخاؤهم وضيافتهم، وبذلهم =

ص: 145

بعيره الخاصة غير مرة، وأعتق المئات من العبيد في عرفة، وتصدق بدور وأموال عظام، هذا الثري القرشي أحب أن يتصل لقريش هذا المجد التجاري، فلما شاور عمر الصحابة في فرض العطاء لقريش وافقوه إلا حكيم بن حزام فقال له:"يا أمير المؤمنين، إن قريشا أهل تجارة، ومتى فرضت لهم عطاء تركوا تجارتهم، فيأتي بعدك من يحبس عنهم العطاء فتكون قد خرجت من أيديهم"1.

= ومواساتهم

". رسائل الجاحظ، الرسالة السادسة في مدح التجار وذم عمل السلطان.

3-

قال الثعالبي يعدّد مناقب قريش أهل الله: "ومنها ثبات جودهم، وجزالة عطاياهم، واحتمالهم المؤن الغلاظ في أموالهم المكتسبة من التجارة، ومعلوم أن البخل والنظر في الطفيف مقرون بالتجارة التي هي صناعاتهم، والتجار هم أصحاب التربيح والتكسب والتدنيق، وكان في اتصال جودهم العالي على الأجواد، من قوم لا كسب لهم إلا من التجارة عجب من العجب، وأعجب من ذلك أنهم من بين جميع العرب دانوا بالتحمس والتشدد في الدين، فتركوا الغزو كراهة للسبي واستحلال الأموال، فلما زهدوا في المغصوب لم يبق مكسبة سوى التجارة، فضربوا في البلاد إلى قيصر بالروم، والنجاشي بالحبشة، والمقوقس بمصر، وصاروا بأجمعهم تجارا خلطاء، فكانوا مع طول ترك الغزو إذا غزوا كالأسود على براثنها، مع الرأي الأصيل، والبصيرة النافذة

" ثمار القلوب للثعالبي ص9.

1 تهذيب تاريخ ابن عساكر 4/ 421.

ص: 146