الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بين يدي الكتاب:
سبق لمدينة دمشق، أن أقامت سنة 1927م معرضا للثمار والفواكه، افتتح يوم الاثنين ثاني عشر تشرين الثاني، دام خمسة أيام واشترك فيه "1500" عارض من مختلف بقاع الشام "سورية"، وكان أثره في نهضة الزراعة وانتعاشها مباركا محمودا: علَّم الزراع ما لم يكونوا يعلمون، وحمل إلى الناس ما تنتج أرض الوطن في مختلف البقاع من ثمار تتشابه في النوع وتتباين في الصفة، فأغنى الناس بعض الإغناء عن رحلة زراعية واسعة في البلاد السورية، ووفر عليهم زمنا ومشقة وأموالا، وخطا في سبيل تعليم الجمهور خطوة ميمونة العاقبة. ورأى فيه الزارعون من يعنى بهم ويريد لهم الخير واطراد الرقي، وتسابق فيه العارضون وفاز المعتنى بثماره منهم بجوائز المعرض، وزاره من الرجال والنساء والأطفال ما يزيد عددهم على الأحد عشر ألفا1.
ثم أقامت معرضا ثانيا للصناعات الشرقية في المجمع العلمي العربي "المدرسة العادلية في باب البريد" افتتح يوم الثامن من آذار سنة 1928م، فخصصت الردهة الكبرى للآثار الشرقية الحديثة، ولم يسعف الزمن القصير أن تشترك فيه مدن الشام فاقتصر على دمشق، وكان ما عرض فيه "627" من القطع المنوعة من "السجاد والنحاس والأخشاب والأسلحة والمخطوطات والجلود والصور والأقمشة وكل ما هو
1 انظر التقرير الذي رفعه رئيس لجنة إدارة المعرض إلى وزير الزراعة والتجارة يومئذ، السيد نصوحي البخاري.
من الفنون الجميلة". و"كان الإقبال على معرض الصناعات فوق ما كان يرجى؛ وذلك لتعطش الجمهور لمثل هذه المظاهر الفنية والصناعية واهتمامه بالنهضة الاقتصادية. وقد زار المعرض نيف وأربعون ألفا خلال ثمانية الأيام "8-15 حزيران" التي ظلت أبوابه مفتحة فيها، منهم ثلاثة عشر ألف سيدة". و"كانت نتائج المعرض مرضية محسوسة، شعر بها من عرضوا مصنوعاتهم في القاعتين الخاصتين بالنفائس والأعلاق النفيسة"1.
والمعرض الشامي الثالث كان للصناعات الوطنية، أقيم في صرح الجامعة السورية، في شهر آب سنة 1929، وعرض فيه مصنوعات المناسج على اختلافها والمصابغ والمطابع والمطاحن والمزايت والمصابن عدا النفائس الشامية من القطع الخشبية والنحاسية والمصوغات، هذا إلى ما اشتهرت به دمشق من عمل "السكاكر" والمربيات والزجاج
…
إلخ. وكان الإقبال على هذا المعرض أكثر من سابقيه؛ لشموله أكثر صناعات الشام واشتراك مدن سورية الشمالية. وقد تجلت فيه مواهب العرب في سورية، واستعدادهم للإسهام في الصناعات العالمية. وقوي الأمل في أحفاد من أقاموا بأيديهم وفكرهم وجهودهم، المجد الصناعي لقرطبة وبغداد ودمشق ومصر، يوم لم تكن صناعة إلا صناعتنا ولا حضارة إلا ما تنعم به الإنسانية على يدنا وبمسعانا.
وفي ربيع هذا العام "1936م" قامت الاستعدادات على قدم وساق لإنشاء معرض عام يمثل ذكاء العربي وتقدمه في جميع المناحي. وقد وافق هذا التأهب كلبا من الزمان، وحربا من العدو، وفقرا
1 انظر التقرير الخامس بأعمال المجمع العلمي العربي سنة 1928 ص38.
عاما، ومصيبة شاملة، فكان الناس مشغولين بذوات أنفسهم عما سواها، فالسماء شحيحة ما تبضّ بقطرة، والأرض مجدبة ما تهتزّ عن خضرة، والموارد ناضبة لا تسعف، وأجزاء البلاد يُرْجى فيها السموم وتبث بينها العقارب، حتى خبطتها فتنة عمياء تنكّر فيها الساحلي للداخلي، وتجهّم العربي للعربي، رغم الدم الصارخ في عروقهما من الفرقة، الداعي لهما إلى الألفة والاتحاد. وغذّى هذا الشر أناس أقيموا ليهدوا الناس إلى الخير والأخوة والمحبة والسلام، فكانوا دعاة للشر وعمالا على الإفساد والتفريق والشفاء. وجعلوا من الدين الذي أنزله الله ليزيد الأواصر قوة والوشائج لحمة، ويفيض على القربى والرحم محبة ورحمة، وتعاونا وعطفا
…
جعلوا من هذا الدين وسائل سافلة تستغل سذاجة العامي الغفل، وتموّه عليه السم بالدسم؛ ليسعى إلى حتفه بظلفه، ويقتل نفسه وأخاه معا.
بهذا اشتغل الناس يومئذ وحق لهم الشغل والتفكير في هذه القطيعة المجرمة، إذ متى عاش رأس بلا جسم وهل استغنى قلب عن وريد وشريان، وأين شرع الله للجارين من جنس واحد أن يعملا على شقائهما معا، ويسعيا إلى التعس السعي الحثيث، ويزجا بأعقابهما وذراريهما من بعدهما في العذاب الأليم والانقراض المحتم؟ ثم يعملان في أبدانهما سلاحا دسه العدو في أيديهما، وهو يتربص بكليهما الشر ليسود دارهما وحده لا شريك له1.
في غمرة هذه النزوات الطائشة، وفي شدة مقاومة المقيد الذي شعر أنه إنما يساق إلى الموت، وهو أشد ما يكون تعشقا للحياة وتمسكا
1 أما الآن في سنة 1960 فقد أزال الله الأجنبي، فزال بزواله أكثر ما بذر من أسباب القطيعة وعاش الإخوان -كل في داره- جيرانا متحابين.
بحبالها، قام "معرض دمشق وسوقها" وأعلن في أقطار الشرق موعد افتتاحه! فاعجب إن كنت عاجبا لهذه الأمة الكريمة التي تنبض عروقها قوة غريبة وحيوية عنيفة، إنها لم تشغلها مصيبة عن واجب؛ فما أهاب بها الداعي حتى هبت هبة واحدة تنظم معرضها وتمده بكل ما في بقاع الوطن من تحفة فريدة في بابها. وزحفت صناعات الشام تتمثل في المعرض للعالمين، وازدهى هذا المعرض بعبقرية الوطن تتجلى في الفكر الخصب، واليد الصناعة.
افتتح المعرض مساء الأحد الحادي والثلاثين من حزيران سنة 1936م، في مدرسة التجهيز الجديدة، حيث أجمل بقعة في دمشق وأنزهها وأحفلها بآثار العرب في القديم والحديث. فصروح الجامعة السورية الحديثة وبناء دار الآثار ونزل "خوام" عن يمين بردى
…
إلى جانب القباب الأثرية والمآذن الشاهقة، تلك تقفك على نشاط العربي ابن العصر العشرين، وهذه تذكرك بعنفوان مجده في القديم.
ومن غريب الاتفاق أن تقوم معارض دمشق الثلاثة، في المجمع العلمي العربي "كان"، والجامعة السورية، ومدرسة التجهيز؛ أكبر المعاهد العلمية وأعودها بالخير على البلاد، لتثير في الناس أثرين مزدوجين، يرتبطان أشد الارتباط ولا ينفكان، مرتبطين أبدا أو يفنيان معا: عبقرية الفكر وعبقرية اليد. لا تقوم حضارة على علم وحده ولا على صناعة وحدها، ولا بد من الاثنين معا. وقد فهمنا هذه الظاهرة وأخذنا في العمل لتحقيقها، وقطعنا في هذا أشواطا نسأل الله أن يرعاها بعنايته حتى نبلغ بها الغاية.
وهناك اتفاق آخر فطن له كثيرون، وعجبوا له العجب كله، وهو افتتاح المعرض في ليلة ذكرى المولد النبوي، في الليلة التي يستعيد فيها المسلمون ذكرى ما قدموا للإنسانية من نظم وحضارة وعدل وسعادة، في الليلة التي ولد في مثلها قبل أربعة عشر قرنا، خير طفل حملته الأرض، وكان له يد ومنة على كل من نعم بسعادة وشمل برحمة وتمتع بعدل واغتبط بعرفان.
افتتح معرض دمشق وسوقها في مساء الليلة التي يقول فيها المسلم والعربي غير المسلم: كان منا هادٍ أفاض الرحمة على الإنسان والحيوان والجماد
…
فتفاءل الناس خيرا، وأيقنوا أنهم لا بد بادئون تاريخهم من جديد وقد ولد ليلة المولد هذا المعرض، وهو فاتحة مباركة في تاريخ بعثنا الحديث إن شاء الله.
فإنا كما شرعنا نصل حلقات السلسلة التي انقطعت، بجهادنا للحرية والحق، والعدل والنور، افتتحنا ليلتنا هذه بوصل حلقة مجدنا الصناعي والتجاري. وإن الإنسانية لتنتظر على أحر من الجمر، وبفارغ الصبر، الشعب الذي نعمت في ظلاله ليتبوأ مكانه من جديد، ويقوم برسالته في هذا العالم الذي ملئ اليوم رذيلة وعسفا ومادية. وإن انتعاش الشعب العربي انتعاش للخير والإنسانية، ونصرته نصرة للعدل والعمران، وما كانت الإنسانية لتنسى الذين كانت على عهدهم حقائق ملموسة فأصبحت اليوم طلاء ودهانا، بل الإنسانية اليوم -إذا دققنا في حقيقة أعمال من يدّعون حمايتها- شقاء باسم السعادة، وظلم باسم الرحمة، ووحشية باسم الحضارة، ولصوصية باسم الحق، ودناءة وحطة وإماتة ضمير وخذلان خلق وبهيمية.. باسم التمدين..
كنت في هذا الجو من الغبطة والذكرى والتأثر، لما عرضت في ذهني حلقات تاريخنا وأين انقطعت كل حلقة ومتى عهدنا بوصلها، فكان أول ما جال في خاطري وأنا في معرض دمشق وسوقها: أسواق العرب في الجاهلية والإسلام، وكيف كانت تزخر بالناس من تجار وصناع، وأدباء وشعراء وخطباء، وساسة وأشراف
…
عجبت لهذه الذكرى وقد أعاد هذا المعرض لنا أسواقنا -مع مراعاة الفارق بين الزمانين- وذكرت أن المجمع العلمي بدمشق -وكان إذ ذاك اسما على مسمى- سيقوم بمهرجان للمتنبي في آخر أسبوع من تموز، وقد اختار لهذا المهرجان مكان المعرض وزمانه، لتتم لنا صورة عن أسواق العرب ومحافلهم فيها. فكملت بهذا أداة هذه السوق العربية الكبرى بما سيلقى فيها من أدب وشعر وعلم، وبمن سيؤمها من العلماء والأدباء من المشرق والمغرب؛ عربا وأجانب ومستشرقين. وأصبح من كان يتمنى أن ينعم بمرأى عكاظ في الجاهلية، يستطيع أن يشهد عكاظ العرب في القرن العشرين، فينظر كيف انقلب الزمن وكم قطعت الحضارة بين العكاظين من أشواط.
ولعل القارئ أحس مما قدمت مقدار الحاجة إلى بحث يعرض لأسواق العرب وما كانت عليه في الجاهلية والإسلام، وما قامت به من عمل في خير العرب ولغتهم؛ ليقف على شأنها في تاريخنا ويستطيع أن يفاضل بين رسالتها قديما ورسالة المعارض حديثا. وما زالت هذه الأسواق تقتعد الذروة من اهتمام الأمم مذ كان اليونان وأولمبياهم وأعيادهم. وقد رغب إلي من أرضى رأيه أن أسد هذه الثلمة في المكتبة العربية، فعكفت على أمهات المصادر -وهي في موضوعنا هذا جد شحيحة- أنقب فيها وأفليها لأخلص منها بكل ما يفيدني في بحثي، حتى تمت لي مادة
هذا الكتاب الذي تنحصر بحوثه بين عهد الجاهلية والقرن الثاني للهجرة. ولعل الله ييسر لي في المستقبل أن أصل هذا البحث عصرا فعصرا في أمصار العرب حتى عصرنا الحاضر.
ومن مارس التنقيب في مصادرنا العربية، القديمة منها خاصة، واطلع على ما تزخر به من كنوز مبعثرة هنا وهناك، لا تجمعها جامعة ما، عرف مقدار العنت والنصب اللذين يتعرض لهما الباحث، ولا سيما في موضوع كهذا لم يعالج بعد. وأنا أعفي القارئ من وصف ما لقيت من عناء، فما أريد أن أمن عليه وحسبي أن أكون في وجداني قد أبلغت نفسي عذرها.
وقد مهدت للكلام على الأسواق ببحوث رأيتها لازمة، وثيقة العلاقة بموضوعي كبيوع الجاهلية ورباها، وأسهبت في الكلام على قريش؛ لأنهم في الحقيقة هم عنوان الفريق التاجر من العرب، وحرصت كل الحرص أن أنقل القارئ إلى جو تلك الأسواق فيراها كما هي.
سيكون في هذه البحوث أدب جم، وتاريخ كثير كما فيها صناعة وتجارة، وستعرض فيها عادات العرب في أسواقها ومجالسها الأدبية وبلاغتها النثرية والشعرية، حتى النحو سيكون له بعض النصيب لأن إحدى الأسواق كانت تقصد من أجل مادة يستعين بها النحو في تنظيم قواعده وتبويب فصوله.
وبعض هذه الحوادث والأخبار والأشعار التي سأعرضها -وإن كان مظنة أنه مصنوع- قد اجتهد صانعه أن يقلد فيحسن التقليد ويحاكي الأصل فيحكم الحكاية، فإن شككنا في نسبة الخبر لم نشك أبدا فيما يدل عليه أو يستخلص منه. وذكرت من هذه الأحداث هنات جوزت لنفسي نقلها في هذا الكتاب مع تصريحها بما يحتشم منه؛ لأنها لا تتم الصورة
إلا بها، ولأني أحرص على أن يتمثل القارئ حالة الأسواق تمثلا صادقا صحيحا كاملا على قدر الإمكان.
وقد عنيت بشرح ما يشكل من غريب أو معنى مغلق؛ لأكون قد بلغت جهدي واستفرغت وسعي في الاجتهاد لأن يكون هذا العمل أقرب من كمال وأبعد من نقص. وأنا أشكر لمن أطلعني على عيب أو نبهني لإصلاح، فما يزال الإنسان بحاجة إلى من ينبهه ويصلح عمله. والله المستعان ومنه الرضى والمثوبة.
غرة ربيع الثاني سنة 1355هـ و2 حزيران سنة 1936م.
سعيد الأفغاني