المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌البصرة - المربد: - أسواق العرب في الجاهلية والإسلام

[سعيد الأفغاني]

الفصل: ‌البصرة - المربد:

‌البصرة - المربد:

يتقاضانا الكلام على المربد أن نصف البصرة، المدينة التي كان المربد سوقها العامة؛ نظرا لمكانتها التجارية، إذ إنها ثغر العراق في الإسلام. وليس من المستطاع أن نفهم المربد على حقه إذا لم نعرف أحوال بلده البصرة، وسيغنينا هذا التمهيد عن شروح وحواشٍ كثيرة عند كلامنا على المربد نفسه.

مصرت البصرة سنة "17" أيام عمر بن الخطاب "في أقصى أرض العرب وأدنى أرض العجم كما أمر الخليفة عمر رحمه الله" وكانت في الجاهلية من ثغور العراق، فيها خليط من أمم شتى؛ فرس ويونان أحلهم فيها الإسكندر، وهنود انتشروا في بطائحها، وقد نزلها العرب منذ القديم، كما فيها أنباط غير قليلين. وكانت هي والأبلة مركزين للتجارة الداخلية والخارجية، وكان يرتادها تجار العرب، وتردد عليها أبو بكر الصديق في الجاهلية مرات.

ولم تكن على عهد الراشدين بالمدينة الكبيرة؛ لحداثة نشأتها العربية، وكانت مستوخمة رديئة الهواء والماء، ليست بالخصبة ولا الغنية،

ص: 395

حتى اضطر عمر إلى أن ينظر إلى أهلها نظر رحمة، حينما شكوا إليه أمرهم، فقد جاء في فتوح البلدان1:

"قدم الأحنف بن قيس على عمر في أهل البصرة، فجعل يسألهم رجلا رجلا والأحنف في ناحية البيت" في بت2 لا يتكلم، فقال له عمر:"أما لك حاجة؟ " قال:

"بلى يا أمير المؤمنين. إن مفاتح الخير بيد الله، إن إخواننا من أهل الأمصار نزلوا منازل الأمم الخالية بين المياه العذبة والجنان الملتفّة، وإنا نزلنا سبخة بشاشة لا يجف نداها ولا ينبت مرعاها، ناحيتها من قبل المشرق البحر الأجاج، ومن قبل المغرب الفلاة، فليس لنا زرع ولا ضرع، يأتينا منافعنا وميرتنا في مثل مريء النعامة، يخرج الرجل الضعيف فيستعذب الماء من فرسخين، وتخرج المرأة لذلك فتربق3 ولدها كما تربق العنز يخاف بادرة العدو وأكل السبع، فإلا ترفع خسيستنا وتجبر فاقتنا نكن كقوم هلكوا".

1 ص356.

2 البت: طيلسان من خز.

3 ربقه: ربطه بالربق، وهو حبل فيه عدة عرا.

ص: 396

فألحق عمر ذراري أهل البصرة في العطاء، وكتب إلى أبي موسى يأمره أن يحتفر لهم نهرا.

هذه بداية أمر البصرة وقد ظلت على حالها، لم تترقّ منها إلى خير منها، حتى صدرا من أيام الأمويين. ومضت خلافة معاوية ولم ينفرج ضيق أهلها تمام الانفراج، فقد قدم الأحنف أيضا على معاوية وافدا لأهل البصرة يستعطفه لهم، وكان فيما وصف به أهلها قوله:"أهل البصرة عدد يسير وعظم كسير مع تتابع من المحول واتصال من الذحول، فالمكثر فيها قد أطرق، والمقل قد أملق، وبلغ منه المخنق"1.

وبانقضاء عهد الفتن فيها واستقرار الأمر بمثل زياد وابنه والحجاج، انصرف أهلها لشئونهم فعكفوا على الزراعة والتجارة، وانتعشوا واستفاض لهم زرع ونخيل وتجارات، فمن ثم عدت البصرة من أكبر ثغور الإسلام قاطبة.

أما الهواء فيها فرديء، وكذلك الماء فهو غير عذب، حتى إنهم

1 زهر الآداب 1/ 87 "الطبعة الثانية، مبارك". المحول: جمع محل وهو القحط. والذحول: جمع ذحل وهو الثأر؛ يعني: أنهم تفانوا لكثرة الحروب والفتن بينهم. وأطرق: غض بصره حياء؛ لأنه لا يجد ما يعطي. وأملق: افتقر.

ص: 397

ليجلبونه من المسافات البعيدة. وقد حفرت فيها أقنية وجداول كثيرة تتشعب عن النهر الأعظم، ووصف الأقدمون كثرتها وصفا نكاد لا نصدقه. جاء في مسالك الممالك للإصطخري:

"البصرة مدينة عظيمة لم تكن في أيام العجم، وإنما اختطّها المسلمون أيام عمر، ومصّرها عتبة بن غزوان وهي خطط وقبائل كلها. ويحيط بغربيّها البادية، وليس فيها إلا أنهار. وذكر بعض أهل الأخبار أن أنهار البصرة عدت أيام بلال بن أبي بردة فزادت على "120000" نهر "كذا!! " تجري فيها الزوارق. وقد كنت أنكر ما ذكر من عدد هذه الأنهار في أيام بلال، حتى رأيت كثيرا من تلك البقاع، فربما رأيت في مقدار رمية سهم عددا من الأنهار صغارا تجري في كلها زواريق صغار، ولكل نهر اسم ينسب إلى صاحبه الذي احتفره أو إلى الناحية التي يصب فيها وأشباه ذلك من الأسامي، فجوزت أن يكون ذلك في طول هذه المسافة وعرضها. وأكثر أبنيتها بالآجر "هذا على عهد الإصطخري في القرن الرابع الهجري" وهي من بين سائر العراق مدينة عُشْرية، ولها نخيل متصلة من عبدس إلى عبادان نيفا وخمسين فرسخا متصلا، لا يكون الإنسان منه في مكان إلا

ص: 398

بحيث نهر ونخيل أو يكون بحيث يراهما، وهي في مستوى لا جبال فيه ولا بحيث يقع البصر على جبال

وبها نهر يعرف بنهر الأبلة، طوله أربعة فراسخ ما بين البصرة والأبلة1، وعلى حافتي هذا النهر قصور وبساتين متصلة كأنها بستان واحد قد مدت على خيط واحد. ويتشعب هذا النهر إلى أنهار كثيرة، فمنها ما يقارب هذا النهر في الكبر

وهذه الأنهار كلها مخترقة بعضها إلى بعض وكذلك عامة أنهار البصرة حتى إذا جاءهم مد البحر تراجع الماء في كل نهر حتى يدخل نخيلهم وحيطانهم وجميع أنهارهم من غير تكلف، فإذا جزر الماء انحط حتى تخلو منه البساتين والنخيل ويبقى في الأنهار، إلا أن الغالب على مائهم الملوحة وإنما يستقون إذا جزر الماء إلى حد نهر معقل ثم يعذب فلا يضره ماء البحر".

ونحن معنيون بأن نعرف عن البصرة ميناء العراق الأكبر تفاصيل مسهبة؛ لأنها سوق العراق العامة يومئذ، فلا غنى لنا عمن شاهدها ونعتها لنقف على مكانتها وسعة غناها. ولولا هذه الصفات

1 قال في القاموس: الأبلة: موضع بالبصرة، أحد جنان الدنيا.

ص: 399

التي وصلتنا عن الأقدمين في مختلف حالاتها، لما استطعنا أن نعلم التدرج الذي ترقّت فيه البصرة من الإملاق إلى الثروة. ثم صار لهذه الأرض السبخة القفرة على عهد عمر، الشأن العظيم والمكانة البعيدة في نفوس الكبار، حتى قال زياد:"لو أضللت البصرة لجعلت الكوفة لمن دلني عليها! "1.

والذين نعتوها متفقون على رداءة هوائها مع سعة عيشها، فقد روى ابن عبد ربه عن أبي العباس أنه قال:"إنما مثل الكوفة مثل اللهاة من البدن، يأتيها الماء ببرده وعذوبته، ومثل البصرة مثل المثانة، يأتيها الماء بعد تغيّر وفساد". وقال الحجاج: "الكوفة

1 العقد الفريد 4/ 265. هذا، وقد ألف العلماء في البصرة وخططها وأسواقها وأخبارها تواليف مستقلة لم نطلع عليها. وحسبك أن ابن حزم الظاهري وهو أندلسي في أقصى المغرب، يقول في رسالته في فضل الأندلس:

"

ولا أعلم في أخبار البصرة غير كتاب عمر بن شبة، وكتاب لرجل من ولد الربيع بن زياد المنسوب إلى أبي سفيان في خطط البصرة وقطائعها، وكتابين لرجلين من أهلها، يسمى أحدهما عبد القاهر كريزي النسب، وصفاها وذكرا أسواقها ومحالها وشوارعها" نفح الطيب 2/ 129.

فإذا كان ما اطلع عليه ابن حزم في أقصى المغرب أربعة كتب فقط، فمن المحتمل أن تزخر مكاتب الشرق بالكتب عن البصرة.

ص: 400

بكر حسناء، والبصرة عجوز بخراء أوتيت من كل حلي وزينة"1.

وسماها الناس لتقلب هوائها بالرعناء. قال الفرزدق:

لولا أبو مالك المرجو نائله

ما كانت البصرة الرعناء لي وطنا

والرعونة: الحمق والاسترخاء.

إلا أن وخامتها لم تمنع أن يتكاثف فيها السكان ويطّرد لها النمو، حتى أصبحت كما وصفها جعفر بن سليمان بقوله:"العراق عين الدنيا، والبصرة عين العراق".

انقضى القرن الهجري الأول والبصرة قد قطعت شوطا بعيدا في الازدهار، ولم تستقر الأمور لبني العباس في عهد المهدي ومن بعده، حتى صارت البصرة باب2 بغداد الكبير ومدخل دجلتها المتدفق بضروب المتاع وأنواع السلع المجلوبة من أطراف الدنيا، نظير مرسيليا اليوم بالنسبة إلى فرنسا، أو جنوة لإيطاليا، أو ليفربول لبلاد الإنجليز. بل امتازت البصرة على تلك المراسي بنصيب أوفر وحظ أكبر؛ إذ كانت مقصد القوافل الواردة من كل حدب وصوب، ومحط رحال الشرق والغرب، من مجاهل

1 المصدر نفسه. وانظر أيضا ما جاء في أحسن التقاسيم، وفي رحلة ابن بطوطة من تقلب هوائها وعفنها. اللهاة: الهنة المطبقة في أقصى سقف الفم. والبَخَر: نتن ريح الفم.

2 حسن حسني عبد الوهاب "مجلة المجمع العلمي العربي" 12/ 321.

ص: 401

الصين إلى مفاوز الصحراء الكبرى؛ ولذلك استفحل بها العمران وكثرت فيها المصانع والصناعات، وصارت واسطة العرب والعجم، وحُق لها أن تتلقب "بقبة الإسلام" كما سماها عمر بن الخطاب. ناهيك ببلد جمع لحسن الموقع أضداد الأشياء وأشتات الأرزاق ومختلف المكاسب والمطالب

اشتهر أهل البصرة من قديم بالتطوّح في الآفاق والترامي على الأسفار البعيدة والضرب في مناكب الأرض طلبا للرزق والتماسا للثراء "اشتهارا" جعل الجاحظ يصرح: "بأنه ليس في الأرض بلدة واسطة ولا بادية شاسعة ولا طرف من أطراف الدنيا إلا وأنت واجد به البصري والمدني"1. وقد اتفقت كلمة السائحين وأصحاب الرحلات على بعد همة البصريين في الترحال وغَوْرهم في الاغتراب حتى قال أبو بكر الهمذاني -وناهيك به من خبير-: "وأبعد الناس نجعة في الكسب بصري وحميري، ومن دخل فرغانة القصوى "شرقا" والسوس الأقصى "غربا" فلا بد أن يرى فيهما بصريا أو حميريا"2. ا. هـ ملخصا.

1 البخلاء "طبعة مصر سنة 1323" ص160.

2 البلدان للهمذاني "ليدن" ص51.

ص: 402

وكثرت الأصناف المجلوبة إلى البصرة من عامة الأقطار حتى لقبت بحق بـ "خزانة العرب"1 واستطاع أحد أبنائها وهو الجاحظ، أن يؤلف في بضائع البصرة كتابا مستقلا، يذكر فيه الأحجار الثمينة كالذهب والفضة واللؤلؤ والياقوت والزبرجد.. إلخ والطيب والعطر والروائح الطيبة والوشي والفرش، وما يجلب من البلدان من طرائف السلع والأمتعة والجواري، وما يختار من البزاة والشواهين والبواشق والصقور

يبتدئ بصفة النوع وما يستجاد منه ومن أين يجلب وأين أحسنه. والجاحظ كما نعلم لم يرحل إلى الهند ولا إلى فارس، ولكن عنده في بلده تجارات تلك الأمم كلها. ولا نكون إلى الغلوّ إذا قلنا: إن البصرة في عصر العباسيين الذهبي كانت سوق العالم قاطبة.

ولم يقصّر البصريون في الزراعة، بل عكفوا عليها وجوّدوها حتى اختُصوا بمعرفة النخيل وضروبه وأصول غراسه اختصاصا فاقوا به كل أحد. قال الهمذاني في كتابه البلدان: "ولأهل البصرة من النخيل وأنواع التمور ما عدم مثله في جميع كور النخيل، وذكر الجاحظ أنهم أحصوا أصناف نخيل البصرة دون نخل المدينة ودون مصر واليمامة والبحرين وعمان وفارس وكرمان

1 انظر تاج العروس.

ص: 403

ودون الكوفة وسوادها وخيبر وذواتها والأهواز وما بها، أيام المعتصم، وإذا ثلاثمائة وستون ضربا من مُغَلّ معروف وخارجي موصوف وبديع غريب مع طيب عجيب".

وهذا افتنان غير قليل في إجادة الزراعة يدل على حذق بها ورقي بالغ. وذلك عدا ما شهرت به من الأسماك وأنواع اللحوم والألبان والأقطان وسائر التجارات.

ولها إلى ذلك شهرة أخرى تعنينا هنا في بحثنا كثيرا، وهي ما استفاض فيها من علوم ولغة وأدب وشعر حتى صارت تقصد لذلك دون سائر البلاد، وكثر فيها العلماء والشعراء والأدباء والكتاب والفقهاء والقراء

كثرة تستعصي على الإحصاء، وسنلمّ بذلك في كلامنا على سوقها الكبرى: المربد.

ولم تخل إبان ازدهارها من أن تكون متعة للناظرين ومنازه للمتفرجين، واشتهر فيها وادي القصر الذي قال فيه الجاحظ:

"ومن أتى وادي القصر بالبصرة رأى أرضا كالكافور، ورأى ضبابا تُحْتَرش، وغزلانا وسمكا وصيادا، وسمع غناء ملاح في سفينته، وحُداء جمّال خلف بعيره".

وكأن هذه الجملة الموجزة، نثر ما كان الخليل بن أحمد قاله قبله:

زر وادي القصر نعم القصر والوادي

في منزل حاضر إن شئت أو بادي

ص: 404

ترى به السفن والظلمان حاضرة

والضب والنون والملاح والحادي

وليس في أيدينا نعت للبصرة أبلغ ولا أكثر إحاطة، ولا أصدق ولا أدق مما قاله خالد بن صفوان لعبد الملك بن مروان، فقد جمع لنا فيه من صفات البصرة وخصائصها ما لم نجده عند غيره، ولا ريب فهو ابن البصرة وأحد بلغاء الناس، وكل من أراد معرفة البصرة في القرن الأول الهجري فهو عيال على صفة خالد هذه، قال:

"يغدو قانصنا فيجيء هذا بالشبوط والشيم ويجيء هذا بالظبي والظليم، ونحن أكثر الناس عاجا وساجا، وخزا وديباجا، وبرذونا هملاجا، وخريدة مغناجا. بيوتنا الذهب، ونهرنا العجب، أوله الرطب، وأوسطه العنب، وآخره القصب:

فأما الرطب عندنا فمن النخل في مباركه، كالزيتون عندكم في منابته، هذا على أفنانه، كذاك على أغصانه، هذا في زمانه، كذاك في إبّانه، من الراسخات في الوحل، المطعمات في المحل، الملقحات بالفحل، يخرجن أسفاطا عظاما، وأوساطا ضخاما كأنما ملئت رباطا. ثم ينفلقن عن قضبان الفضة منظومة باللؤلؤ الأبيض، ثم تتبدل قضبان الذهب منظومة بالزبرجد الأخضر، ثم تصير ياقوتا أحمر وأصفر، ثم تصير عسلا في شنة من سحاء

ص: 405

ليست بقربة ولا إناء، حولها المذابّ، ودونها الحراب، لا يقربها الذباب، مرفوعة عن التراب. ثم تصير ذهبا في كِيَسة الرجال، يستعان به على العيال1.

وأما نهرنا العجب فإن الماء يقبل عنقا، فيفيض مندفقا، فيغسل غثها، ويبدي مبثها، يأتينا في أوان عطشنا، ويذهب في زمان رِيّنا، فنأخذ منه حاجتنا، ونحن نيام على فرشنا، فيقبل الماء وله عُباب وازدياد، ولا يحجبنا عنه حجاب، ولا نغلق دونه الأبواب، ولا يتنافس فيه من قلة، ولا يحبس عنا من علة2.

وأما بيوتنا الذهب، فإن لنا عليهم خرجا في السنين والشهور، نأخذه في أوقاته، ويسلمه الله تعالى من آفاته، وننفقه في مرضاته".

هذا ولم تحظ -فيما نعلم- بلدة من بلاد الإسلام بمثل ما حظيت به البصرة، فقد تشارك في صفتها ثلاثة من فرسان البلاغة والعبقرية: خالد بن صفوان، والخليل بن أحمد، والجاحظ.

1 الشبوط والشيم: نوعان من السمك. والساج: خشب يجلب من الهند. والهملاج: الحسن السير. والأسفاط مفردها سَفَط: وعاء يجعل فيه الطيب ونحوه. والرباط: جمع ربطة، وهي الملاءة. والشنة: القربة البالية. والسحاء: القشر. والمذاب: جمع مذبّة، وهي من شعر ذنب الفرس يدفع بها الذباب، والكيسة: جمع كيس.

2 العَنَق: سير فسيح سريع. والغث الرديء. والعباب: موج أو ارتفاع الماء.

ص: 406