الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سوق بصرى:
بصرى من مشارف الشام وهي عاصمة حوران، ومن كبار مدن الشام منذ الزمن الأطول قبل الإسلام، حتى إن اسمها ليتردد في كثير من أشعار العرب. وكان أهل الشام عامة على علاقات متواصلة مع سكان الحجاز؛ لكثرة أسفار هؤلاء إلى الشام، وكان النبط كثيرا ما يحملون تجاراتهم بين الحجاز والشام وينقلون الأخبار بين البلدين.
بل إنا لنجد لبصرى من الشهرة في الجاهلية ما لا نجد لدمشق نفسها؛ لأنها كانت محط رحال تجار العرب من بلاد الشام يقدمون إليها بحاصلات الحبشة والهند واليمن، فكانت هذه العلائق سببا في جريان الألسنة بذكرها دون دمشق التي لا نكاد نعثر على ذكر لها في الأشعار القديمة.
كانت بصرى أيام الرومان على جانب من العظمة والمكانة، وقد أنجبت أحد أباطرة الرومان "فيليبس" الذي نصب إمبراطورا سنة "244" من الميلاد، فقد كان عربيا من بصرى حوران. جاء في خطط
الشام1 في صدد الكلام على حوران وعمرانها:
"ولا تزال خرائب بصرى عاصمة حوران وأحصن مدن "باشان" ومعقل الرومان، شاهدة بما كان في بلاد تلك المدينة من الفخامة والعظمة. وكان طولها داخل السور -كما قال بورتر- ميلا وربع ميل وعرضها ميلا. ويحيط بالسور ربَض كثير المباني، ومحيطها خمسة أميال، لها سور عالي الجدران وثيق البنيان، وقلعة لا أحصن منها في عامة بلاد الشام. ويقطع المدينة شارع كبير على طولها يمر في وسطها له بابان جميلان على طرفه، وشوارع رحبة، وفيها ما يفوق الوصف من غرائب الصناعة، وبدائع البناء، وأساليب النقش في الهياكل والكنائس والقبور والمذابح، ورُكام الأنقاض، وبيوت الأقدمين. وقوس نصر أقيم للقائد فيليبس الذي صار إمبراطورا وهو من أهالي بصرى. والمشهد نصف دائرة قطره "271" قدما وهو مكشوف من الأعلى مثل كل المشاهد الرومانية. وفيها مشهدان وستة هياكل وعشر كنائس، عدا القصور والحمامات والسبل والقنوات وأقواس النصر وغير ذلك من المباني الكثيرة. وبعضها ما يصلح أن تزدان به أعظم عواصم أوروبا الآن" ا. هـ.
1 5/ 258.
ونظرا لمركزها التجاري المهم وكونها سوقا عامة للقوافل الآتية من جزيرة العرب وتوسطها بين أماكن قبائل النبط والبدو وغيرهم، حصنها الرومانيون وعنوا بها عناية فائقة، وجعلوا فيها الحاميات القوية لمراقبة قبائل الصحراء وحركاتهم، فهي قلعة الرومان في وجه البادية والصحراء، ومعقلهم يصدون منها ما قد تتعرض له الشام من هجمات القبائل.
انتظم سير القوافل التجارية العربية إلى بصرى قبل الإسلام بزمن طويل. وكان رحل إلى الشام فسكنها وما حولها، عرب من اليمن بعد حادث سيل العرم، وكانت تزعم لها الشهرة قبل هذا الحادث أيضا. فقد جاء في الأغاني:
لما أرسل الله سيل العرم على أهل مأرب قام رائدهم فقال: من كان يريد الخمر والخمير، والأمر والتأمير، والديباج والحرير، فليلحق ببصرى والحفير، وهي من أرض الشام فكان الذين سكنوه غسان. ا. هـ.
ولما عظم أمر قريش صارت عيرهم ترد بصرى في مقدمة ما ترد من مدن الشام وتعددت أسفارهم إليها، وليس في قريش تاجر إلا رحل إليها مرارا وعرفها حق المعرفة، كما عرف أغلب مدن الشام، فاستفادوا من خبرتهم بهذه
الديار فوائد جلّى لما بدأت الفتوحات بعد الإسلام. وفيما يذكر رواة الأخبار دليل على احتفال العرب ببصرى وسوقها؛ فيروي الحافظ ابن عساكر مثلا عن الصحابي الجليل طلحة بن عبيد الله أحد العشرة أنه قال: "كنت في سوق بصرى، فإذا راهب في صومعته يقول: "سلوا أهل هذا الموسم: أفيهم أحد من أهل الحرم؟ " فقال طلحة: "نعم أنا" فقال: "هل ظهر أحمد بعد؟ "
…
إلخ"1 فالموسم جامع للناس من أقطار شتى وأهل الحرم ممن يرد.
وكتب السيرة تذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سافر إليها مرتين: مرة طفلا ومرة تاجرا ابن خمس وعشرين سنة2، وتزعم اجتماعه بأحد الرهبان في دير3 هناك، وأن الراهب دعا إلى وليمته جميع من في العير
…
مما يدل على
1 تهذيب تاريخ ابن عساكر 7/ 73.
2 انظر ص113 من هذا الكتاب.
3 جاء في مسالك الأبصار 1/ 347 ما يأتي:
دير بصرى هو بالشام، وقيل: هو الذي كان فيه بحيرى الراهب. حكى المازني قال: نزلت بدير بصرى فرأيت في رهبانه فصاحة، وهم عرب متنصرة من طيئ من بني الصادر، أفصح من رأيت. فقلت لهم: ما لي لا أرى فيكم شاعرا مع فصاحتكم؟! فقالوا: والله ما فينا رجل ينطق بالشعر، إلا أمة لنا كبيرة =
وجود العلائق بين الفريقين وتفاهمهم معا باللغة العربية، بحيث يجوز لنا أن نعد كورة بصرى قطرا عربيا في الجاهلية. وقد راسل رسول الله ملك بصرى عاصمة حوران، فأرسل إليه كتابا مع الحارث بن عمير كما بعث إلى غيره من الملوك. ولما كانت خلافة أبي بكر لم يفت المسلمين شأن بصرى وعظمتها، فكانت أول ما فتحت صلحا بعد حصار قليل؛ لما سار خالد بن الوليد من العراق لمدد أهل الشام وقدم على المسلمين وهم نزول ببصرى، وضايقوا أهلها فصالحوهم، على أن يؤدوا عن كل حاكم دينارا وجريب حنطة، ثم افتتح المسلمون حوران جميعها وقد تم ذلك سنة 13 للهجرة. قال القعقاع بن عمرو يذكر أمر بصرى هذا، وقد كان في الجيش المحاصر:
بدأنا بجمع الصفرين فلم ندع
…
لغسان أنفا فوق تلك المناخر
= السن، فقلت: جيئوني بها فجاءت، فاستنشدتها فأنشدتني لنفسها:
أيا رفقة من آل بصرى تحملت
…
تؤم الحمى لقيت من رفقة رشدا
إذا ما بلغتم سالمين فبلغوا
…
تحية من قد ظن أن لا يرى نجدا
وقولوا: تركنا الصادري مكبلا
…
بكبل هوى من حبكم، مضمرا وجدا
فيا ليت شعري هل أرى جانب الحمى
…
وقد أنبتت أجراعه بقلا جعدا
وهل أردن الدهر ماء وقيعة
…
كأن الصبا تسدى على متنه بردا
فوهبت لها دريهمات، وبتّ في ديرهم وأكرموا ضيافتي.
صبيحة صاح الحارثان ومن به
…
سوى نفر نجتذّهم بالبواتر
وجئنا إلى بصرى وبصرى مقيمة
…
فألقت إلينا بالحشا والمعاذر
فضضنا بها أبوابها ثم قابلت
…
بنا العيس في اليرموك جمع العشائر
ونحن -وإن لم يكن في يدنا نص عربي قديم يشير إلى غناها، وكثرة أرزاقها- نجد في شروط الصلح ما يدل على وفرة خيراتها، حتى لقد ادعى صاحب بصرى مرة أنه صالح المسلمين على طعام وخل وزيت فكذبه أبو عبيدة1. كما أن في كثرة ورودها على ألسنة الشعراء ما يدل على شأنها، فإنا إذا أردنا التقصي تعذّر علينا إحصاء ما في الشعر القديم من مثل:
أيا رفقة من آل بصرى تحملوا
…
رسالتنا لقيت من رفقة رشدا
وقول الصمة بن عبد الله القشيري:
نظرت وطرف العين يتبع الهوى
…
بشرقي بصرى نظرة المتطاول
وقول المتلمس "وهذا كان له ولد يقال له: عبيد المنان، هلك ببصرى ولا عقب له":
لم تدر بصرى بما آليت من قسم
…
ولا دمشق إذا ديس الكراديس
1 طبقات ابن سعد.
وقول الآخر:
ولو أعطيت من بلاد بصرى
…
وقنسرين من عرب وعجم
وورد في كتب السيرة ذكر لقصور بصرى هذه.
لم ينقطع قيام سوق بصرى بعد الإسلام بل زاد أمد قيامها، وكان العرب في جاهليتهم إذا انتهوا من سوق دير أيوب أقاموا سوق بصرى، حيث كان يشرف عمال الرومان. وتطول مدة هذه السوق طولا يتناسب هو وما قطعوا في سفرهم إليها من زمن. وقد بقيت تلك السوق حتى زمن المرزوقي "القرن الخامس الهجري"، إذ ذكر أنه أدركها تقوم خمسا وعشرين ليلة، ونقل أنها كانت تقوم بولاية بني أمية من ثلاثين ليلة إلى أربعين، وهي مدة طويلة ليس للعرب مثلها في عامة أسواقهم.
اشتهر لبصرى نوعان من البضاعة اختصت بهما؛ أما الأول فالخمر لأنها كانت من مدن الشام التي يحمل منها الخمر1 ويتبجح العرب بذكرها. قال أبو ذؤيب الهذلي يذكر خمرتها:
سلافة راح ضمنتها إداوة
…
مقيرة ردف لمؤخرة الرحل
1 كذلك صرخد، وحلبون كانتا مشهورتين بخمرهما أيضا.
تزودها من أهل بصرى وغزة
…
على جسرة مرفوعة الذيل والكفل1
وأما الثاني فالسيوف، وقد اشتهرت بصنعها بصرى كما اشتهر كثير غيرها من قرى الشام التي تدنو من الريف، حتى قيل للسيف:"مشرفي" نسبة إلى مشارف الشام وبصرى أحدها فتنتسب إليها السيوف البصرية. قال الشاعر:
يعلون بالقلع والبصريّ هامهم2
وقال الحصين بن حمام المري، يصف خيل الغارة:
عليهن فتيان كساها محرق
…
وكان إذا يكسو أجاد وأنعما
صفائح بصرى أخلصتها قيونها
…
ومطردا من نسج داود معلما3
وأمر هذه السوق من إشراف ومكس إلى عمال الروم عليها، وكثيرا ما يكونون عربا من غسان.
1 مر شرحهما ص345.
2 القلع: فأس صغيرة تكون مع البنَّاء، ومعدن ينسب إليه الرصاص الجيد.
3 الصفائح: السيوف. والقيون: الحدادون. والمطرد: الدرع. والمعلم: ما عليه علامة.