المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الباب الأول: شؤون العرب التجارية بين الجاهلية والإسلام ‌ ‌تجارة العرب: لبلاد العرب - أسواق العرب في الجاهلية والإسلام

[سعيد الأفغاني]

الفصل: ‌ ‌الباب الأول: شؤون العرب التجارية بين الجاهلية والإسلام ‌ ‌تجارة العرب: لبلاد العرب

‌الباب الأول: شؤون العرب التجارية بين الجاهلية والإسلام

‌تجارة العرب:

لبلاد العرب موقع جغرافي متوسط، بين بلاد أعظم الدول وأقدم الحضارات. فإلى شمالها الشرقي بلاد فارس وإلى شمالها الغربي بلاد الروم ومصر، وإلى غربها الجنوبي وراء البحر بلاد الحبشة، وفي جنوبها البحر الهندي الذي يفصلها عن بلاد الهند.

ولا نكون إلى الغلو إذا قلنا: إن معظم تجارات العالم منذ القديم حتى القرون الوسطى هي بين هذه البلاد التي عددنا. فالدولتان العظيمتان اللتان تنازعتا النفوذ والسيادة في العالم، وهما فارس والروم، كانتا على علاقات تجارية وسياسية مع بلاد العرب في الشمال والجنوب. وقل نحوا من ذلك في علاقة الحبشة والهند مع اليمن وعمان والبحرين، وإن كانت علاقة أضيق حدودا.

وكان للمواصلات التجارية في جزيرة العرب طريقان، أحدهما شرقي يصل عمان بالعراق وينقل بضائع اليمن والهند وفارس برا ثم يجوز غرب العراق إلى البادية حتى ينتهي به المطاف في أسواق الشام،

ص: 15

يمر التجار فيه على أسواق اليمن والعراق وتدمر وسورية، ويبيعون في كل قطر ما لا يكون فيه، ويأخذون منه إلى غيره ما يروج فيه.

والطريق الثاني وهو الأهم غربي يصل اليمن بالشام، مجتازا بلاد اليمن والحجاز، ناقلا أيضا بضائع اليمن والحبشة والهند إلى الشام وبضائع الشام إلى اليمن حيث تصدر إلى الحبشة، وإلى الهند في البحر.

وقد أطمع هذا الموقع الجغرافي لبلاد العرب كثيرا من الفاتحين، فغزاها الإسكندر فارتد عنها في غير طائل، وطمع فيها قديما ملوك الفرس وبابل ونينوى ومصر. والغريب أنها احتفظت بمكانتها هذه حتى العصر الأخير، إذ بسط سلطتهم شرقي الجزيرة وغربيها فملكوا "عدن" ميناء اليمن الطبيعي1 حيث ترسو السفن من الحبشة ومن الهند، وملكوا العقبة2 "أيلة" محط رحال القوافل العربية في القديم وأول الثغور الرومانية التي يحلها تجار العرب، ففازت إنجلترا بمناطق نفوذ على هذين الخطين التجاريين ضمانا لطريق الهند وتجارتها.

كان من المعقول أن يمارس الكثير من العرب التجارة رجالا

1 وبه يسمى البحر، فيقال: بحر عدن. انظر طبقات الأمم لصاعد: ص71.

2 كان ذلك قبل أن يستقل شرق الأردن باسم المملكة الأردنية الهاشمية.

ص: 16

ونساء، وخاصة الذين تقع بلادهم قريبة من إحدى هاتين الطريقين، ومن لم يتاجر منهم أفاد من التجارة بالواسطة فعمل في هذه القوافل إما دليلا وإما سائقا وإما منتظما في جملة حماتها الذين يؤجرون أنفسهم وسلاحهم ودوابهم فيها.

ولم يبعد إسطرابون حين قال: "العرب تجار وسماسرة" و"قوم تجارة وبيع وشراء؛ ولذلك لم يكونوا أمة حرب لا بالبر ولا بالبحر"1.

وقد شغلت دول العرب القديمة كتدمر وسبأ والمعينيين، المراكز الممتازة في تجارة الشرق حتى ذكرتهم التوراة ووصفت ثروتهم وتجارتهم. وحمل أهل تدمر في القديم إلى مصر وجنوب أوروبا صادرات بلاد العرب والعراق والهند، وكانت النفائس التي يحملها التدمريون من بلاد الشرق أثمن ما يتغالى به الملوك القياصرة.

توسط تدمر بين الدولتين الفارسية والرومانية، بين العراق والشام وجزيرة العرب، جعلها محط القوافل جميعا بين هذه الأقطار منذ أقدم العصور، فازدهرت تجارتها وعظم غناها واشتهرت أسواقها

1 انظر مجلة المجمع العلمي العراقي 2/ 264.

ص: 17

حتى أصبحت "قبلة التجار من الهند والفرس "وجزيرة العرب" والعراق وسورية وفلسطين ومصر وأوروبا

وكانت روما التي خضع لنيرها أغلب العالم القديم تهاب قبائل تدمر وتتودد إليها وتقدم لها الهدايا وتوفد إليها الوفود

وعرفت تدمر كيف تستثمر في ظروف كثيرة منافسة الدولة الفارسية والدولة الرومانية لمصلحتها التجارية"1.

ولما ازدهرت الدولة المعينية في اليمن تعاطى أهلها التجارة، وساعدهم عليها امتداد نفوذهم حتى شواطئ البحر المتوسط وموانئ خليج العجم.

أما سبأ فليس مكان غناها وتجارتها بالمجهول، فقد ذكرت التوراة أن ملكة سبأ "قدمت إلى سليمان "120" وزنة ذهب وأطيابا كثيرة جدا وحجارة كريمة"2 وحسبك هذا دليلا على وفرة مالها وخيراتها.

والسبئيون قديما أغنى العرب ثروة وأوسعهم تجارة، يحملون ما يأتيهم من بضائع الحبشة والهند إلى مصر والشام والعراق فبسطوا بذلك

1 انظر "تاريخ اللغات السامية" لإسرائيل ولفنسون ص127، 128.

2 انظر سفر الملوك الأول من العهد القديم، الإصحاح العاشر.

ص: 18

نفوذهم التجاري واستأثروا بالتجارة بين تلك الأقطار المذكورة.

جاء في تاريخ العرب الأدبي لـ "نيكلسون"1:

"قال مولر: قامت السفن منذ زمن بعيد تمخر عباب المياه بين موانئ بلاد العرب الشرقية والهند، محملة بالبضائع وكانت منتجاتها الأخيرة وخاصة الطيب والبخور والحيوانات النادرة "كالقردة والطواويس" تنقل إلى ساحل عمان، ومنذ القرن العاشر قبل الميلاد كانت لهم دراية بالخليج الفارسي حيث كانوا ييممون شطر مصر يبيعون فراعنتها وأمراءها بضائعهم، وقد كانت صعوبة الملاحة في البحر الأحمر سببا في تفضيل الطريق البري للتجارة بين اليمن وسورية، وكانت القوافل تقوم من "شبوت" في حضرموت وتذهب إلى مأرب عاصمة سبأ، ثم تتجه شمالا إلى مكربة "مكة فيما بعد" وتظل في طريقها من بترا حتى غزة المطلة على البحر الأبيض المتوسط، وظل رخاء السبئيين قائما حتى أخذت التجارة الهندية تهجر البر وتسلك عبر البحر على طول شواطئ حضرموت وخلال مضيق باب المندب. وكانت نتيجة هذا التغير -الذي يظهر أنه حدث في القرن الأول

1 ترجمة حسن حبشي في العدد "175" من مجلة الرسالة.

ص: 19

للميلاد- أن أخذت قوتهم تتضعضع شيئا فشيئا".

وحل محل هؤلاء الحميريون الذين جعلوا عرب الحجاز تحت سيطرتهم، فاستخدموهم في نقل تجاراتهم إلى أن تخلص الحجازيون منهم، وصاروا هم نقلة التجارة في الجزيرة قبيل البعثة.

قام اليمنيون في القديم إذًا بنقل المتاجر بين بلاد العرب والبلاد المجاورة، وظل ذلك دأبهم على اختلاف دولهم في الأزمان التي تقدمت القرن السادس الميلادي، فاستأثروا بتجارة الجزيرة مع غيرها من الممالك، يحملون التمر والزبيب والأدم والبخور والحجارة الكريمة والمنسوجات من مواطنها ثم يستبدلون بها بضائع أخرى، مع ما يصنعون هم أنفسهم من الأطياب والعطور التي يتخذونها في بلادهم ويبيعونها في أسواق العالم القديم: آسيا وإفريقيا وأوروبا. فكانوا حينا غير قصير مشرفين على تجارة العالم كله.

وقد نشأت مع الزمن -وسط هذه الطريق التي كثيرا ما سلكوها قبل الميلاد- محطتان تجاريتان عظيمتان هما: مكة والمدينة1، وعظم

1 وقبل هذا الزمن ازدهرت تيماء وأيلة "العقبة" وسلع شمالي الحجاز، فكانت محط القوافل الكبرى ومراكز ممتازة للتجارات وبيوت المال، منها يتسوق العالم الروماني واليوناني معظم ما يحتاج إليه.

ص: 20

أمرهما وصار أهلهما يشاركون في الاتجار قبائل اليمن. فلما كان القرن السادس انتقلت التجارة من أيدي اليمنيين بالتدريج، إلى قريش القبيلة المكية التي ارتفع أمرها وقويت ونشطت، وبدأت تحل محل الأولين في الاستئثار بتجارة جزيرة العرب، ولا سيما عند اضطراب الأمن وتعذر المرور على الأحباش والأنباط، وكان وقوع الحروب والأزمات والمنافسات بين فارس والروم من أعظم العوامل في نشأة التجارة المكية وازدهارها، إلا ما كان من تجارة فارس، فإنها بقيت في أيدي عرب الحيرة وهم يمانيون.

كانت أقطار العرب غير متساوية في الخصائص والمرافق، فبينا نجد نجدا أرضا قاحلة رملية لا زراعة لأهلها، نجد في اليمن مزارع خصيبة تفيض بالخير الواسع. ونجد بعض مدن الحجاز كمكة تشبه نجدا في جدبها وبعضا آخر فيه مزارع ونخيل كالمدينة والطائف وإن لم تكونا بدرجة اليمن. قال الألوسي: "وأما أهل اليمن وعمان والبحرين وهجر فكانت تجاراتهم كثيرة ومعايشهم وافرة؛ لما في بلادهم من الخصب والرخاء والذخائر المتنوعة والمعادن الجيدة وغير ذلك من أسباب الثروة والغنى. وأما أهل نجد فكانوا دون غيرهم في الثروة والتجارة؛ لما أن الغالب على أرضهم الرمال فكانت بلادهم دون

ص: 21

سائر بلاد العرب في رفاهية العيش ورواج التجارة". على أن لطيء ومنازلها أواسط نجد شهرة في الاتجار شمالي جزيرة العرب، هذا عدا أخلاطا من أمم شتى تتسرب تجارهم إلى الجزيرة، وأكثر هؤلاء هم الأنباط فقد بقوا حتى بعد ظهور الإسلام يجلبون الزيت من الشام إلى المدينة.

ولا بد لنا من التنبيه على حدة، إلى العنصرين التجاريين اللذين عملا في بلاد العرب، وهما الأنباط واليهود، فقد كان الأولون يختلفون بين بلاد الشام والحجاز والعراق في الجاهلية، وكان أكثر ما يحملون من بضائع على ما علمت الزيت والدرمك "دقيق الحوارى"1 يحملونهما من الشام إلى الحجاز وإلى العراق ويرجعون من هذين القطرين بالأدم والتمر وغيرهما من الحاصلات، فكانوا يشاركون القوافل العربية في تجاراتها ويقيمون لأنفسهم أسواقا في البلاد العربية ذاتها، فابن سعد يذكر أن هاشما في بعض أسفاره إلى المدينة "نزل بسوق النبط، فصادف سوقا تقوم بها في السنة يحتشدون لها"2. ولما

1 الحوارى: لُباب الدقيق وكل ما حُوِّر أي: بُيِّض من طعام.

2 طبقات ابن سعد ج1 ص45، وانظر شرح المواهب ج3 ص23.

ص: 22

كانت الفتوحات والغزوات، قام الأنباط التجار بمهمة نقل الأخبار بين الشام والحجاز1.

وأما اليهود فقد "كانت التجارة بنوع خاص من أهم مرافق الحياة عند يهود الحجاز، حتى صار لبعضهم فيها شهرة عظيمة وصيت بعيد كأبي رافع الخيبري الذي أرسل بضاعته بوساطة القوافل إلى الشام، واستورد منها الأقمشة المختلفة. ويمكن أن يقال: إن تجارة البلح والشعير والقمح كانت خاصة بهم في شمال الحجاز"2.

لكن شأن اليهود فاق شأن الأنباط؛ لاستيطانهم في جزيرة العرب فاستفحل أمرهم، وزاحموا السكان الأصليين على مرافقهم وكانت لهم خبرة في الزراعة والتجارة وتنمية المال، فاستغنوا وبنوا لأنفسهم القرى والمزارع والحصون، وأشهر مراكزهم العامة في المدينة وخيبر.

ومما تجدر ملاحظته أنهم بعد أن شاركهم في مغانمهم التجارية

1 ومن هؤلاء الأنباط التجار علم الرسول صلى الله عليه وسلم بتجمع الروم على الحدود، فأخذ أهبته وأخفى جهته في الغزوة المشهورة غزوة تبوك. انظر شرح الزرقاني للمواهب 3/ 63.

2 تاريخ اليهود في بلاد العرب ص18.

ص: 23

أهل يثرب وخاف اليهود هذه المزاحمة، وكانوا عاجزين عن التغلب على اليثربيين قوة وعنوة، لجئوا إلى الإيقاع بين الحيين الأوس والخزرج، فلما وقعت العداوة واتصلت الحروب جعل اليهود يضرمون نارها كلما خمدت، فشغلوا بعضا ببعض وانصرفوا هم إلى تجاراتهم وإنماء ثرواتهم. فلما هاجر المسلمون إلى المدينة وأسلم أهلها، بغى اليهود الغوائل لهم وصاروا يحرضون عليهم المشركين من قبائل العرب وينقضون عهودهم للنبي، ويطعنون المسلمين من خلفهم. إزاء ذلك رأى النبي ضرورة التخلص منهم، فأجلى بني قينقاع ثم بني النضير فحطوا بأذرعات من أرض الشام، ثم تخلص من بني قريظة1 أيضا، فخلت المدينة وما حولها من جماعاتهم وتحولت تجاراتها إلى أيدي أهلها من العرب.

لا بدع في أن تكون التجارة من أول أسباب المعاش للحجازيين فعكفوا عليها، وتمادحوا بكسب المال، وأخذوا يضربون في الأرض يبتغون الرزق من هذه المهنة، فعرفوا قبل الإسلام بكثير، كثيرا من مدن الشام كبصرى وغزة وأيلة والمشارف، ومدن العراق

1 انظر أسباب جلاء هذه القبائل اليهودية في كتب السيرة النبوية.

ص: 24

واليمن وحتى مصر، فقد رووا أن نفرا من بني مالك أجمعوا على الوفود إلى المقوقس وأهدوا له هدايا1، وذكروا أن ابن جدعان أتى مصر ببضاعة فباعها ورجع إلى عكاظ.

ولم يحاول انتزاع تجارتهم هذه منهم أحد، إلا ما ذكروا من أمر الحبشة التي أرادت الاستيلاء على مكة نفسها، المركز التجاري العظيم في جزيرة العرب. وقدّر بعضهم ما يشتريه العالم الروماني من طيوب بلاد العرب والفرس والصين بقيمة مائة مليون من الدراهم

وكانت صيدون "صيدا" من أشهر الأسواق العطرية2.

ووصل المكيون قبيل الإسلام -عندما كان العداء بين الفرس والروم بالغا منتهاه- إلى درجة عظيمة في التجارة، وكان على تجارة مكة اعتماد الروم في كثير من شئونهم، حتى فيما يترفهون به -كالحرير- وحتى استظهر بعض مؤرخي الإفرنج أنه كان في مكة نفسها بيوت تجارية رومانية يستخدمها الرومانيون للشئون التجارية والتجسس على أحوال العرب، كذلك كان فيها أحابيش ينظرون في مصالح قومهم التجارية3.

1 طبقات ابن سعد.

2 مجلة المشرق "السنة 35 ص324".

3 فجر الإسلام ص15.

ص: 25

واشتهر كل قطر بما يصنع أو يصدر من متاع، فالسيوف والبرود لليمن. قال الأصمعي:"أربعة قد ملأت الدنيا، ولا تكون إلا في اليمن: الورس والكندر والخطر1 والعقيق" وقالوا: "برود اليمن ورِيَط الشام وأردية مصر"2.

ولعل ما ذكر الثعالبي من غنى الحجاز في الإسلام، صحيح إلى حد بعيد فيما كان عليه من قبل، قال3:"وكان يحمل من مكة والمدينة والحجاز كل عام إلى السلطان من العنبر4 ثمانون رطلا ومن المتاع أربعة آلاف ثوب ومن الزبيب ثلاثمائة راحلة" وكان من أعجب ما يأتي النجاشي من مكة الأدم5.

1 الكندر: ضرب من العلك، نافع لقطع البلغم جدا "القاموس". أما الخطر فنبات يختضب به.

2 ثمار القلوب، ص424. هذا، وقد يجد الباحث في مطاوي الأخبار كثيرا من الإشارات العارضة لصنوف البضائع والحاصلات التي عرف بها كل قطر، من مثل قول ابن عساكر في ترجمة طلحة: "روى ابن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ارتحل إلى المدينة لقيه طلحة جائيا من الشام في عير، فكسا رسول الله وأبا بكر من ثياب الشام، وخبره أن من بالمدينة من المسلمين استبطئوه

إلخ". تهذيب ابن عساكر 7/ 73.

3 المصدر نفسه، ص426.

4 مدح الأعشى سلامة ذا فائش فأعطاه كرشا مدبوغة مملوءة عنبرا، فباعها الأعشى بثلاثمائة ناقة حمراء. الأغاني 9/ 125 طبعة دار الكتب.

5 سيرة ابن هشام ج1 ص303.

ص: 26

ويذكر آخرون أن مكة أصبحت أكبر سوق للرقيق1.

هذا، وهناك أيضا بلدان اختصت بضرب من العروض، أو الصناعة فتقصد لما عرفت به كالطائف، فإنه يحمل إليها الأدم فيدبغ فيها، قال الهمداني:"الطائف مدينة قديمة جاهلية وهي بلد الدباغ، يدبغ بها الأهب الطائفية المعروكة3" ثم يصدر عنها إلى الحبشة وغيرها، وكهجر والبحرين حيث التمر الجيد المنقطع النظير، وكالشام ومشارفها حيث يحمل الزيت والزبيب والخمر وغيرها.

ومما ضمن استمرار الحركة التجارية الداخلية والخارجية في جزيرة العرب، اختلاف أقطارها هذا الاختلاف في المحصول الصادر والوارد، وما أحسن قول الهمداني في ذلك:

"ولولا أن الله عز وجل خص بلطفه كل بلد من البلدان، وأعطى كل إقليم من الأقاليم بشيء منعه غيرهم، لبطلت التجارات وذهبت الصناعات، ولما تغرب أحد ولا سافر رجل، ولتركوا التهادي وذهب الشراء والبيع والأخذ والعطاء. إلا أن الله أعطى كل صقع في كل حين نوعا من الخيرات ومنع الآخرين ليسافر هذا إلى بلد هذا،

1 مجلة المشرق، السنة 35 ص83 فما بعد.

2 الإكليل ج8 ص120.

ص: 27

ويستمتع قوم بأمتعة قوم ليعتدل القسم وينتظم التدبير. قال الله عز وجل: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} 1، وقال الله تعالى:{وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} 2" ا. هـ.

ومما يجب أن يقف عليه النظر والتأمل إشارات عارضة في صدد جدل القرآن الكريم لمشركي مكة، فإن المتأمل ليجد فيها دلالات بعيدة على عظم ما شغلت أمور التجارة من أفكارهم وخواطرهم، وذلك عند مثل قول الله:{قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 3 فالمفسرون يذكرون في سبب نزول الآية أن المشركين قالوا: "لم لا يوحي إليه ربه أثمان السلع فنشتريها حين ترخص ونبيعها حين تغلو، فتزداد أموالنا؟ ".

1 سورة الزخرف: الآية 32.

2 سورة السجدة: الآية 10. كتاب البلدان، "ليدن" ص251.

3 سورة الأعراف: الآية 188، وانظر الكلام عليها في: لباب النقول في أسباب النزول للسيوطي، وتفسير الخازن، وغيرهما.

ص: 28

هذا، ولم يخفف الإسلام كثيرا من شغف العرب بالتجارة1، فقد استمروا فيه على ما كانوا عليه في الجاهلية، وإذا استثنينا فترة الفتوح التي شغلتهم كانت أحداثهم التجارية في الإسلام امتدادا لأحداثهم في الجاهلية، مع مراعاة الظروف التي تغيرت كل التغير، وشغل القرشيون بالجهاد فكان منهم عمال ومنهم قواد ومنهم قضاة

إلخ. وخير ما يدلنا على بقاء ولوع القوم بالتجارة آية الجمعة.

كان المسلمون يجهزون العير إلى الشام -كما في الجاهلية- فتذهب بأموالهم ومتاعهم فتباع هناك، ثم تحمل إلى الحجاز فتأتي المدينة، وكانوا يستقبلونها بالطبل والتصفيق فرحا بها، فذكر المفسرون أن دحية بن خليفة الكلبي رجع مرة بتجارة زيت وطعام من الشام والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة على منبر مسجد المدينة، فاستقبلها الناس كعادتهم

1 جاء في الفائق للزمخشري: "قال قيس بن أبي غرزة: كنا نسمى السماسرة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتانا ونحن بالبقيع، فسمانا باسم هو أحسن فقال: "يا معشر التجار" فاستمعنا إليه فقال: "إن هذا البيع يحضره الحلف والكذب، فشوبوه بالصدقة" " ا. هـ.

فلعل "السماسرة" كانت تطلق على صنف من مزاولي بعض أعمال التجارة الصغيرة كما تطلق لعهدنا هذا، ولكن الرسول كان من خلقه أن يخاطب الناس بما يحبون.

ص: 29

بالفرح والطبول والتصفيق، وخشي المصلون أن يُسبَقوا إلى العير فيفوتهم الربح، فتركوا الرسول يخطب وبادروا إليها في البقيع ولم يبق مع الرسول إلا اثنا عشر رجلا، فأنزل الله تعالى في ذلك:

{وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} 1.

وفي القرآن الكريم إشارة إلى فاصل تاريخي في حياة مكة التجارية، وذلك حين نزل قول الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} 2.

فلما حرم دخول مكة على المشركين سنة تسع للهجرة خشي الناس الفقر بسبب انقطاع تجارة المشركين عنهم في المواسم، فوعدهم الله بغنى عن غير طريق التجارة، فكان العوض -على ما ذكر المفسرون- في المغانم والفتوح العاجلة.

1 سورة الجمعة: الآية 11.

2 سورة التوبة: الآية 29.

ص: 30

كان لا بد من أن تدخل أحوال العرب التجارية في طور جديد، فاهتمّ الإسلام بأمر تجارتها وشرع لهم فيها ما يحتاجون إليه، وطفح الحديث الشريف بأحكام البيع والشراء والاحتكار والديون والربا

إلخ. وعني الخلفاء بعد الرسول عناية خاصة بالتجارة بعد أن هدأت مشاغل الفتوح أيام أبي بكر وعمر وعثمان، ولنلاحظ أن فترة الفتوح نفسها لم تكن لتخلو من الاتجار حتى من عمال الخليفة أنفسهم، وهذا خير ما يفسر لنا حرص القوم على حرفتهم، واشتد عمر على عماله فلم يقبل منهم الاشتغال بالتجارة أبدا، وصار يؤاخذ كل من فشا لهم غنى في قومهم فيدقق عليهم، فإن اعتذروا بتجارة تجروها فربحوا منها صادرهم ولم يلق لعذرهم بالا، وكأنه يقول لهم: بعثتكم عمالا ولم أبعثكم تجارا.

ومن حسن الاتفاق أن الخلفاء الثلاثة الأولين كانوا تجارا، فأبو بكر وعثمان كانا بزازين، وعمر تجر في الجاهلية واستغنى في غزة، وكان مبرطشا "يكتري للناس الإبل والحمير يأخذ عليها جُعْلا"1 أما علي فلم نعرف أنه تجر، وقد ظهر الإسلام وهو صبي، ومع هذا فقد

1 انظر مادة برطش في "تاج العروس".

ص: 31

كان على علم من التجارة وأحوالها؛ لأنها مهنة قومه جميعا، ولما ولي الخلافة لم يكن يجهل خطر التجارة وقيمتها. ومن الطريف حقا أن ننقل بهذه المناسبة مرسوما أصدره إلى عامله الأشتر في التجار والصناع، فإنه يدل على إحاطته بأسرار التجار وأخلاقهم، ويعلمنا من جهة ثانية منزلة هذه الطبقة بين بقية الطبقات وما كان يعلق عليها من مهام، قال من كلام له للأشتر:

"ثم استوصِ بالتجار وذوي الصناعات وأوصِ بهم خيرا، المقيم منهم والمضطرب بماله والمترفق ببدنه، فإنهم مواد المنافع وأسباب المرافق وجلابها من المباعد والمطارح، في برك وبحرك، وسهلك وجبلك، وحيث لا يلتئم الناس لمواضعها ولا يجترئون عليها. فإنهم سِلْم لا تخاف بائقته وصلح لا تخشى غائلته. وتفقد أمورهم بحضرتك وفي حواشي بلادك، واعلم مع ذلك أن في كثير منهم ضيقا فاحشا وشحا قبيحا واحتكارا للمنافع وتحكما في البياعات، وذلك باب مضرة للعامة وعيب على الولاة، فامنع من الاحتكار؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم منع منه. وليكن البيع بيعا سمحا بموازين عدل وأسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع، فمن قارف

ص: 32

حُكْرَة بعد نهيك إياه فنكِّلْ به، وعاقبه من غير إسراف"1.

ولنا أن نستأنس بشيء آخر له خطره في الدلالة على ما شغلت التجارة من حياة العرب وأفكارهم واهتمامهم، وذلك هو اللغة والأشعار والأمثال، فإنها تكشف لنا إلى حد بعيد ما كان عليه القوم من عادات وأحوال. وأول ما نلاحظ في هذا الباب غنى اللغة بالألفاظ التي تتعلق بالأسفار وما إليها من حط وترحال ونزول على الماء ووصف لدواب السفر وضروب سيرها، ولسنا مبالغين إذا قلنا: إن أكثر القصائد في الجاهلية والإسلام يفتتحها صاحبها بذكر رحلته وما لاقى فيها هو وراحلته من التعب والشقاء والضيق والعطش والجوع، عدا ما هناك من ألفاظ كثيرة تتعلق بالبيع والشراء والصفقة الرابحة والخاسرة. ولما كانت الخلافة، لم يجد العرب لفظا يدلون به على بذل الطاعة للخليفة غير المبايعة2، فاشتقوا لهذه الحال المستجدة

1 شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد ج4 ص139.

2 اتباعا للقرآن الكريم، حين عبر بهذه الكلمة التجارية عن معاهدة الصحابة رسول الله يوم الحديبية على الثبات، وعدم الفرار بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ

} [الفتح: 10] ، وسميت البيعة بيعة الرضوان، وهناك أيضا بيعة النساء": {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرُجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ

} [الممتحنة: 12] .

ص: 33

كلمة من كلمات التجارة التي كانت الشغل الشاغل لهم. ونظرة واحدة إلى مادة "باع" مثلا في اللسان أو التاج توضح لنا المواضع التي استعيرت لها هذه الكلمة لتشبه أحوالا مختلفة بحال من حالات البيع والشراء، فقالوا مثلا:

"بايعه بالخلافة، وأخذ منه البيعة، وباعه من السلطان إذا سعى به إليه

إلخ".

وكذلك إذا نظرنا إلى مادتي "سام" و"سوق" وأمثال قولهم: نفقت السوق إذا راجت، وانحمقت إذا كسدت. وبعته ناجزا بناجز ويدا بيد، عدا ألفاظ أخرى سيمر بعضها بك حين الكلام على بيوع الجاهلية.

وهذا القالي قد عقد في أماليه فصلا في "ما يقال في وصف الرجل لا يملك شيئا"1 من مثل قولهم: ما له سَبَد ولا لَبَد، ومطلبا

1 ج1 ص90.

ص: 34

آخر فيما يقال "لمن يصلح المال على يديه"1 كقولهم: هو ترعية مال، محجن مال

إلخ. واقرأ إن شئت الفصل الذي كتبه في "دعاء العرب"2 فستجد جملا كثيرة في حرمان من يدعون عليه من ضروب المال.

أما الأمثال التي تتعلق بأمورهم التجارية وأحوالهم فيها فكثيرة، وإليك طائفة منها تمثل لنا شيئا من تجاربهم وأحوالهم في أسفارهم:

عند الصباح يحمد القوم السُّرى، لا تدرك الراحة إلا بالتعب، قتل أرضا عالمها وقتلت أرض جاهلها، إن ترد الماء بماء أكيس، لا يرحل رحلك من ليس معك، إن يدم أظلك فقد نقب3 خفي، إن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى4

إلخ.

وأكثر من هذا ما أرسلوه في المال نفسه وفي السعي للرزق وفي الربح والخسارة والبيع والشراء، فإنهم يستعيرون ألفاظها لكثير من أحوالهم كما في هذه الأمثلة:

الحمد مغنم والذم مغرم، خير مالك ما نفعك، لم يضع من مالك

1 ج2 ص322.

2 أمالي القالي، النوادر ص55، 75.

3 الأظل: ما تحت منسم البعير، وأخفافه: قوائمه، والمعنى: أشكو من مثل ما تشكو.

4 الذي يجدّ في سيره حتى ينقطع أخيرا عن أصحابه في السفر، الظهر: الدابة.

ص: 35

ما وعظك، خير المال عين ساهرة لعين نائمة، من العجز نُتجت الفاقة، كلب طواف خير من أسد رابض، حظ جزيل بين شدقي ضيغم، افتح صدرك تعلم عُجرك1، لا ترسل الساق إلا ممسكا ساقا، كمستبضع التمر إلى هجر، ما عنده خير ولا مَيْر، سواء هو والعدم، البضاعة تيسر الحاجة ومن اشترى فقد اشتوى، إن الجواد عينه فراره، أعطاه اللقاء غير الوفاء، أحشفا وسوء كيلة، أخسر صفقة من شيخ مهو2، صفقة لم يشهدها حاطب

إلخ3.

أما الحث على السفر في طلب المال، فقد استفاض في أشعارهم جاهليين وإسلاميين، ولست بحاجة إلى أن أشير إلى ما قالوا في فوائد المال من حِكَم وما يصون المال من حسب ويجلب من هيبة فأمره معروف، وما أكثر ما قالوا في هذا الموضوع من مثل قول عروة بن الورد:

1 العجرة: العقدة وشبهها، والعجر: العيوب.

2 هو من عبد القيس، اشترى عار الفسو من إيادي "وكانت إياد تعيّر به" ببردين فضرب بصفقته المثل، وسيأتيك خبرها في أحداث عكاظ.

3 حاطب بن أبي بلتعة كان حازما فطنا في أمور البيع، فباع بعض أهله في غيبته بيعة غُبن فيها، فضرب هذا المثل لكل أمر يبرم دون حضور ماهر فيه، انظر مجمع الأمثال للميداني 1/ 266.

ص: 36

ذريني للغني أسعى فإني

رأيت الناس شرهم الفقير

وقوله:

دعيني أطوّف في البلاد لعلني

أفيد غنى فيه لذي الحق محمل

وقول الآخرين:

سأُعمل نص العيس حتى يكفني

غنى المال يوما أو غنى الحدثان

سأكسب مالا أو أموت ببلدة

يقل بها قطر الدموع على قبري

ومن يك مثلي ذا عيال ومقترا

من المال يطرح نفسه كل مطرح

فسر في بلاد الله والتمس الغنى

تعش ذا يسار أو تموت فتعذرا

إلخ

ويذكر المشتغلون باللغات القديمة السامية، وغيرها قضية الكلمات الأجنبية الأصل في اللغة العربية، وقد أداهم بحثهم إلى أن اللغة الفارسية والحبشية والآرامية "كانت لغات العلائق التجارية أيضا، فإن تجار مكة مثلا كانوا يتجرون مع الآراميين في دمشق، ومع الفرس في الحيرة والمدائن، ومع سبأ وحمير في اليمن، وقوافل هذه الأقوام كانت تجتاز جزيرة العرب من جهة إلى أخرى"1 ويعدد

1 ص142 من سلسلة محاضرات "التطور النحوي للغة العربية" ألقاها سنة 1929 بالجامعة المصرية الأستاذ "برجستراسر" أستاذ اللغات السامية بجامعة ميونخ بألمانيا.

ص: 37

هؤلاء الباحثون هذه الكلمات، فإذ في أولها كلمات تجارية وهي أسماء البضائع التي يجلبها التجار من بلاد الفرس من مثل: "الصنج والصولجان والفيل والجاموس والمسك، وخصوصا أنواع النسائج كالديباج والإستبرق والإبريسم والطيلسان

إلخ"1.

ولا ريب في أن اختلاط القوافل والتجار العرب منذ الزمن الأقدم بعرب الشام وغيرهم سرّب إلى اللغة العربية كثيرا من الكلمات اليونانية التجارية والحضارية، حتى أتى عهد الجاهلية وكانت هذه الكلمات قد تعربت وصقلها الاستعمال الطويل، وقد عد أحد الباحثين عشرات منها لا يظن لأول نظرة عجمتها، مثل:

إقليد "مفتاح" وإقليم وإكسير وبرج وبيطار وبوص "حرير أبيض" وترف وجزية ودرهم ودكان ودمقس ودينار وزبرجد وزنار وسرَق "شقة حرير" وسفود وسفين وسندس وسير "قدة جلد" وسيمياء وطاوس وفرصة وفص وفندق وقارب وقالب وقربوس وقرنفل وقصدير وقلس "حبل السفينة" وقمقم وقميص وقنب وقنينة وكركي وكوب وكورة وكيس ولص ومرجان ومصطبة ومنجنيق ومنديل ونافورة وناموس ونقرس ونوتي وياقوت ويانسون "آنسون"2.

1 المصدر السابق ص143.

2 سرد هذه الكلمات بهذا الترتيب المعجمي بثدلي جوزي، انظر بحثه بعنوان "بعض اصطلاحات يونانية في اللغة العربية" في مجلة مجمع اللغة العربية 3/ 330.

ص: 38

بل ما لنا لا نعمد إلى القرآن الكريم نفسه، وفيه على ذلك أوضح الأدلة: يقرب لهم المعاني بما تفيض به حياتهم ويضرب لهم الأمثال على الضلالة والهدى والمؤمنين والكافرين من التجارة نفسها، فهو يقول في المؤمنين المطيعين الذين أقاموا الصلاة وآتو الزكاة: إنهم {يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} 1 ويشبه الذين شغلتهم الضلالة عن الهدى بالخاسر في تجارته فيقول:

{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ} {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} 4.

ومدح آخرين سعوا في مرضاة الله فقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} 5، وقال: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا

1 سورة فاطر: 29.

2 سورة البقرة: 16.

3 سورة البقرة: 86.

4 سورة البقرة: 90.

5 سورة البقرة: 217.

ص: 39

بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} 1.

ولأن التجارة والبيع أهم ما يشغل العرب، لم يذكر الله غيرهما من المشاغل حين أثنى على أناس لا يغفلون عن ذكره فقال:{رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} 2.

وقال في تأنيب الذين اشتغلوا بالتجارة عن الصلاة: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} 3.

ولما أراد تشويق قوم إلى الإيمان قال:

{هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، تُؤْمِنُونَ بِاللَّه} 4.

وكثيرا ما تتكرر كلمات التجارة والربح والخسران في القرآن.

وأحسب أن هذا القدر كافٍ في بيان الحيز الذي شغلته التجارة من حياة العرب في جاهليتهم وإسلامهم، حتى إن صعصعة بن صوحان لم يذكر للعرب من الحرف غيرها. جاء في أمالي القالي:"قال معاوية لصعصعة بن صوحان: "صف لي الناس" فقال: "خلق الناس

1 سورة التوبة: 112.

2 سورة النور: 37.

3 سورة الجمعة: 11.

4 سورة الصف: 10، 11.

ص: 40

أخيافا: فطائفة للعبادة، وطائفة للتجارة، وطائفة خطباء، وطائفة للبأس والنجدة، ورِجْرِجة بين ذلك يكدرون الماء ويغلون السعر ويضيقون الطريق""1.

ولعلك تتساءل بعد هذا قائلا: إن التجارة تستلزم إلماما بقيود وحسابات، والعرب أمة أمية لا تقرأ ولا تحسب فكيف كان ذلك؟ والجواب: إن هذا الحكم على العرب حكم على مجموعهم، لا على جميعهم2؛

1 ج1 ص257 والأخياف: الأخلاط. والرجرجة: شرار الناس ورذالهم.

2 ومع هذا، فقد كان العرب وتجارهم خاصة نقلة ثقافة تاريخية سياسية، جاء في طبقات الأمم لصاعد "ص69": قال أبو محمد الهمداني: ليس يوصل إلى خبر من أخبار العجم والعرب إلا بالعرب ومنهم، وذلك أن من سكن بمكة من العمالق وجرهم وآل السميدع بن هونة وخزاعة أحاطوا بعلم العرب العاربة والفراعين العاتية وأخبار أهل الكتاب. وكانوا يدخلون البلاد للتجارة فيعرفون أخبار الناس، وكذلك من سكن الحيرة وجاوروا الأعاجم من عهد أسعد أبي كرب وبختنصر حووا على الأعاجم وأخبارهم وأيام حمير ومسيرها في البلاد، وعنهم صار أكثر ما رواه عبيد بن شرية ومحمد بن السائب الكلبي والهيثم بن عدي، وكذلك من وقع بالشام من مشايخ غسان خبيرٌ بأخبار الروم وبني إسرائيل واليونانيين، ومن وقع بالبحرين من تنوخ وإياد فعنه أتت أخبار طسم وجديس، ومن وقع من ولد نصر من الأزد بعمان فعنه أتى كثير من أخبار السند والهند وشيء من أخبار فارس، ومن وقع بجبلي طيء فعنه أتت أخبار آل أذينة والجرامقة، ومن سكن باليمن فإنه علم أخبار الأمم جميعا؛ لأنه كان في دار مملكة حمير وفي ظل الملوك السيارة إلى الشرق والغرب والجنوب والشمال. ولم يكن ملك منهم يغزو إلا عرف البلاد وأهلها" ا. هـ.

وإذا تجاوزت عن جانب المبالغة في هذا الكلام، بقي لك أن العرب لم تقتصر فائدتهم في ترحالهم على الاتجار، بل كانوا يستفيدون من رقي أهل الحضارات المجاورة ويحملون عنهم آثارا من تقدمهم وثقافتهم.

ص: 41

فمنهم من كان يقرأ ويكتب ويحسب، وقد تعلم القرشيون الكتابة منذ القديم في الحيرة والأنبار، وكذلك فعل أهل الطائف. وسترى في أحداث عكاظ أن عمرو بن الشريد دعا فيها بصحيفة وكاتب وسجل على نفسه صكا أشبه بسند التمليك "طابو" الذي نألفه اليوم. كان هناك إذن صحف وكتاب وصكوك عند العرب وعند اليهود، بل إنا لنجد في آيات سورة البقرة الأخيرة ما يجعلنا نذهب إلى معرفة العرب بتقييد المعاملات التجارية، وليس من المعقول أن يخاطبهم الله بشيء لا يألفونه من الإملاء والكتابة بالعدل وإشهاد الشهود في قوله:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} 1.

1 سورة البقرة: 282.

ص: 42

وفوق هذا كله كان لهؤلاء العرب ذوي الملكة التجارية الراقية اهتمام بما حولهم من الأقطار التي يتاجرون فيها، ومراقبة لما يجري هناك من أحداث، دفعهم إلى ذلك طبيعة التجارة وما تتطلب من درس وإلمام بالأسواق وأمنها وأحوال المسيطرين على شعوبها، وأنت تعرف ذلك من الحرب التي كانت بين الفرس والروم في مشارف الشام قبل الهجرة بست سنين، وكيف كان مشركو مكة فرحين بانتصار الفرس إذ كانوا مثلهم غير ذوي كتاب، وقد شمتوا بهزيمة الروم إذ كانوا كالمسلمين أتباع كتاب سماوي. وقد سجل القرآن الكريم هذه الظاهرة ظاهرة اهتمام المكيين بما يجري حولهم من شئون الفرس والروم في الآية الكريم، أول سورة الروم:

{غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ، فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ، بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} .

و"أدنى الأرض": بصرى وأذرعات، وهما سوقان من أسواق العرب.

والتجار منذ القديم نقلة ثقافة من حيث لا يشعرون1، فيجب

1 ذكروا أن قصص لافونتين نقلت إلى أوروبا على ألسنة التجار والمسافرين. انظر "مجلة الرسالة: السنة الخامسة ص1035".

ص: 43

أن يحسب حسابهم فيما يكون بين الشعوب من تمازج وتفاعل، وليس العرب ببدع بين الشعوب، فقد أفادوا من اتجارهم واختلاطهم بالرومان والفرس وخضعوا لما يخضع له غيرهم من آثار الاختلاط وكثرة العلائق حتى إنا لنرى أسماء رومانية1 وفارسية تخللت لغتهم.

ولنا أن نعد انتشار النصرانية في الشام والمجوسية في العراق واليمن أثرا من آثار التجارة، فقد ذكروا أن "تنصر العباد بالحيرة؛ لكثرة ترددهم إلى بلاد الروم للتجارة"2.

وستعلم بعد قليل أن العرب -وقريشا خاصة- أحسنوا العلائق مع دولتي فارس والروم، إذ كانت تجاراتهم إلى بلاد تحت سيطرة هاتين الدولتين أو نفوذهما، فالشام ومصر ولايتان رومانيتان، والحبشة على علائق خاصة بالرومان والعراق واليمن تحت سيطرة الفرس، والعرب تتاجر صيفا إلى مصر والشام والعراق وشتاء إلى اليمن والحبشة.

هذا مجمل ما أردت أن أعرض له من بيان اهتمام العرب في التجارة

1 في كتاب "أمثال الضبي وأسرار الحكماء، طبع الجوائب" ما يفيد أن "دختنوس" من أسماء العرب، انظر ص6.

2 تاريخ ملوك الحيرة للأعظمي ص140.

ص: 44

ولم أقصد فيه إلى شيء من التطويل؛ لأن الكتاب ليس في تاريخ تجارة العرب، وإنما هو في أسواقها والتجارة أحد مواضيع الأسواق، وحسبنا هذه الإلمامة الموجزة نمهد بها قبل الشروع في الموضوع لتتم لنا الصورة التي نريد أن يتمثلها القارئ مستوفاة في غير نقص ولا زيادة.

ص: 45