الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ج-
حرب الفجار:
أفردت هذا البحث وإن كان حقه أن يذكر في أحداث سوق عكاظ؛ لخطره وبعد أثره، ولأن هذا الفجار كان في حقيقته نزاعا على النفوذ التجاري والأدبي، بين قريش وأحلافها وبين هوازن القبيلة المعروفة بعددها وبطشها.
وقعت هذه الحرب وكان بودّ قريش ألا تقع؛ لميلها إلى السلم الضروري لتجارتها وكانت تجنح إلى السلم في كثير من أمورها، وخاصة مع قبيلة هوازن التي لها القوة والمنعة حول عكاظ. فإن قريشا ترهب جانبها وتجتنب ما يعكر الصفو بينها وبين هوازن؛ حرصا على سلامة الموسم وعلى تجاراتها فيه. يدلنا على ذلك أن عبد الله بن جدعان كان طرد مائة ناقة لكلاب بن ربيعة، فأرسل كلاب إلى قريش:"إن سفيهكم أغار عليّ وطرد لي مائة ناقة، فليس لكم أن تشهدوا عكاظ ولي عليكم ترة". وكانت عكاظ في وسط أرض قيس بن عيلان. قال ابن جدعان: "وإن قريشا ائتمرت بقتلي؛ لئلا أجني عليهم الجرائر فيطلبون بسببي
وهم تجار، لا يستغون عن بلد"1.
وهذا صريح في إشفاق قريش من كل ما يعكر أمن تجارتها وقد أذعنت للتهديد حتى كادت تسلم أحد أفرادها، وهو شيء لا تسمح به العرب أبدا حتى تفنى عن آخرها. وبهذا عرفوا، وما كانت قريش لتخرج على ذلك لولا الضرورة الملحة، ولولا أنها تهدد موردها الوحيد وهو التجارة.
أيام الفجار أربعة. وإنما نريد هنا الكلام على الفجار الآخر أي: الرابع؛ لأنه هو الذي أدى إلى الحروب، وهو الذي كان سببه التزاحم على الكسب والتجارة، أما بقية الأيام فستمر بها عند الكلام على عكاظ.
وقد سميت بالفجار؛ لأنها وقعت في الأشهر الحرم وهي الشهور التي تعظمها العرب وتحرم فيها القتل والقتال فيما بينها. فلما خرج المتحاربون فيها على شريعة العرب كانوا فاجرين2 بذلك، وأيامها خمسة تفرقت على أربع سنين. وها نحن أولاء نأتي عليها بالتفصيل الممكن، معتمدين فيه على الأغاني وبلوغ الأرب، وعلى العقد الفريد خاصة.
1 الإكليل للهمداني 8/ 184.
2 يلاحظ الجاحظ بحق أن قريشا لم تفجر، وإنما فجر الذين حاربوهم. رسائل الجاحظ "جمع السندوبي" ص74.
سنتها:
من الصعب تعيين سنة هذه الحروب؛ لما ورد فيها من تضارب الروايات، فقد أجمعت المصادر على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حضرها بنفسه، ثم افترقت فرقتين: فابن هشام ومن تابعه يجعلون سن الرسول لما حضرها أربع عشرة سنة، ومنهم صاحب العقد الفريد الذي يروي في ذلك حديثا هذا نصه:"كنت أنبل على أعمامي يوم الفجار، وأنا ابن أربع عشرة سنة". وابن إسحاق ومن تابعه -ومنهم: صاحب القاموس والأصفهاني وابن سعد- جعل سنه حينئذ عشرين سنة. وهناك غموض آخر اشترك فيه الفريقان معا، وهو أن أيام الفجار الآخر تفرقت على أربع سنين، ففي أيتهن كان عمره أربع عشرة أو عشرين؟ وأنا لم أهتد بعد إلى الحق الذي لا حق غيره في هذه الروايات. ونبله صلى الله عليه وسلم على أعمامه فسر بوجهين: أما صاحب العقد الفريد فقال: أنبل بمعنى: أناولهم النبل وهو خلاف ما ذهب إليه ابن هشام في سيرته من أن معناه أنه كان يرد عنهم نبل عدوهم. إلا أن تعدية الفعل بـ "على" ترجح التفسير الأول، فقد جاء في القاموس: نبل عليه: لقط له النبل، وروى الحديث "في مادة فجر" -وكذلك رواه ابن سعد- على هذه الصيغة: "كنت أنبل على عمومتي يوم الفجار، ورميت فيه بأسهم، وما أحب
أني لم أكن فعلت".
فإن يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حضر الأيام جميعها وكانت سنه أول ما هاجت خمس عشرة سنة -على إحدى روايتي ابن هشام- أمكن التوفيق بين الروايات على وجه التقريب، فتكون الحرب قد وضعت أوزارها وقد أشرفت سنه على العشرين. فكان يلتقط السهام في أولها ويرمي بنفسه في آخرها. فعلى الرواية الأولى تكون الحرب قد وقعت قبل البعثة بخمسة وعشرين عاما وتوافق سنة "585" للميلاد المسيحي.
سبب الحرب:
من عادة النعمان بن المنذر ملك الحيرة أنه يرسل كل عام إلى سوق عكاظ لطيمة "وهي: الجمال تحمل المسك والطيب" بجوار رجل شريف من أشراف العرب، يحميها له حتى تصل إلى السوق، فتباع فيها ويشترى له بثمنها أدم من أدم الطائف.
ولا يقوم عادة بعبء حمايتها إلا رجل منيع، لقومه عدد وعزة. وكان الذي يجيرها في الغالب سيد مضر1.
فلما جهز النعمان اللطيمة لهذا العام "585م" قال: "من يجيرها؟ "
1 الأغاني 19/ 75.
وكان بحضرته أناس من أشراف القبائل، فانبرى له البراض بن قيس الضمري وكان فتاكا يضرب بفتكه المثل فقال:"أنا أجيرها على بني كنانة" فقال النعمان: "ما أريد إلا رجلا يجيرها على أهل نجد وتهامة" فقام عروة الرحّال أحد أشراف هوازن وكبرائهم فقال:
"أكلب خليع يجيرها لك؟ أبيت اللعن، أنا أجيرها لك على أهل الشيح والقيصوم" يريد عامة العرب، فحقدها عليه البراض وقال:"أعلى بني كنانة تجيرها يا عروة؟ " قال: "نعم وعلى الناس كلهم" فحمي البراض إذ عدها استهانة به واستخفافا بقومه، وأضمرها في نفسه غدرة شنعاء.
دفع النعمان اللطيمة إلى عروة فخرج بها، فتبعه البراض وعروة يرى مكانه ولا يخشى منه شيئا لأنه منيع بين قومه من غطفان، حتى إذا بلغوا "فدك" نزل عروة في أرض يقال لها:"أوارة" فشرب الخمر وغنته قينة ثم قام فنام.
اغتنم الفرصة البراض، وانسلّ إليه في خبائه، فلما رآه عروة ناشده واعتذر إليه وقال:"كانت مني زلة" فلم يفد الاعتذار شيئا ولم يخفف مما يضطرم في صدر البراض من الحقد، فانقض على عروة فقتله وخرج يرتجز ويقول:
قد كانت الفعلة مني ضلة
هلا على غيري جعلت الزلة
فسوف أعلو بالحسام القلة
ثم أنشد:
وداهية يهال الناس منها
…
شددت لها بني بكر ضلوعي
قدمت بها بيوت بني كلاب
…
وأرضعت الموالي بالضروع
جمعت له يدي بنصل سيف
…
فخرّ يميد كالجذع الصريع1
واستاق اللطيمة إلى خيبر، وبعث رسولا مستعجلا إلى حرب بن أمية يخبره أنه قتل عروة فليحذر قيسا2، فتبعه رجلان من غطفان يريدان قتله، فكان هو أول من لقيهما فعرف ما قصدا إليه فنوى التعجيل بهما فقال لهما:"من الرجلان؟ " قالا: "من غطفان وغني" قال البراض: "ما شأن غطفان وغني بهذه البلدة؟ " قالا: "ومن أنت؟ " قال: "من أهل خيبر" قالا: "ألك علم بالبراض؟ " قال: "دخل علينا طريدا خليعا فلم يئوه أحد بخيبر، ولا أدخله بيتا" قالا: "فأين
1 أرضعت الموالي بالضروع: ألحقت الموالي بمنزلتهم من اللؤم ورضاع الضروع وأظهرت فسالتهم، وهذا كما يقال: لئيم راضع أي: يرضع اللؤم من ثدي أمه. والقلة من كل شيء: أعلاه.
2 تاريخ العرب قبل الإسلام لزيدان 1/ 241.
يكون؟ " قال: "فهل لكما به طاقة إن دللتكما عليه؟ " قالا: "نعم" قال: "فانزلا" فنزلا فعقلا راحلتيهما. قال البراض: "فأيكما أجرأ عليه وأمضى مقدما وأحدّ سيفا؟ " قال الغطفاني: "أنا" قال: "فانطلق أدلك عليه ويحفظ صاحبك راحلتيكما" ففعل.
وانطلق البراض يمشي بين يدي الغطفاني حتى انتهى إلى خربة في جانب خيبر، خارجة عن البيوت فقال البراض:"هو في هذه الخربة وإليها يأوي، فأنظرني حتى أنظر: أثم هو أم لا؟ " فوقف له الرجل ودخل البراض ثم خرج إليه وقال: "هو نائم في البيت الأقصى خلف هذا الجدار عن يمينك إذا دخلت، فهل عندك سيف فيه صرامة؟ " قال: "نعم" قال: "أرني سيفك أنظر إليه أصارم هو؟ " فأعطاه إياه، فهزه البراض ثم ضربه به فقتله، ووضع السيف خلف الباب.
وأقبل على الغنوي فقال: "ما وراءك؟ " قال البراض: "لم أر أجبن من صاحبك، تركته قائما في الباب الذي فيه الرجل -والرجل نائم- لا يتقدم إليه ولا يتأخر عنه" قال الغنوي: "يا لهفاه! لو كان أحد ينظر راحلتينا" قال البراض: "هما علي إن ذهبتا" فانطلق الغنوي والبراض خلفه حتى إذا جاوز الغنوي باب الخربة، أخذ البراض السيف من خلف الباب ثم ضربه به حتى قتله. وأخذ سلاحيهما
وراحلتيهما ثم انطلق.
يوم نخلة:
بلغ قريشا خبر البراض وقتله عروة، وفزعوا أن تعلم بذلك هوازن فتدهمهم وكانوا في عكاظ في الشهر الحرام، فخلصوا نجيا "واتفق رأيهم أن يخاطبوا عامر بن مالك سيد قيس بذلك، فأتوه وأخبروه فأجاز مالك بين الناس، وأعلم قومه ما قيل له، وأوشكوا أن يصطلحوا". لكن فريقا منهم خافوا أن يكون قومهم بمكة في ضيق، فانسلوا من عكاظ وهوازن لا تشعر بهم، وتوجهوا نحو مكة رجاء أن ينصروا إخوانهم إن كان حزبهم أمر.
وكان من عادة العرب إذا وفدت على عكاظ أن تدفع أسلحتها إلى عبد الله بن جدعان، وكان هذا سيدا حكيما مثريا من المال، فتبقى عنده أسلحة الناس حتى يفرغوا من أسواقهم وحجهم فيردها عليهم إذا ظعنوا. فلما كان من أمر البراض ما كان، قال حرب بن أمية لابن جدعان:"احتبس قِبَلك سلاح هوازن" فقال عبد الله: "أبالغدر تأمرني يا حرب؟ فوالله لو أعلم أنه لا يبقى فيها سيف إلا ضربت به ولا رمح إلا طعنت به ما أمسكت منها شيئا. ولكن لكم مائة درع ومائة رمح ومائة سيف تستعينون بها" ثم صاح ابن جدعان
في الناس: "من كان له قِبَلي سلاح، فليأت وليأخذه" فأخذ الناس أسلحتهم.
وبعث ابن جدعان وحرب بن أمية وهشام والوليد ابنا المغيرة إلى أبي براء سيد قيس: "إنه قد كان بعد خروجنا حرب، وقد خفنا تفاقم الأمر فلا تنكروا خروجنا" وساروا راجعين إلى مكة1. فلما كان آخر النهار بلغ أبا البراء قتل البراض عروة، فقال: "خدعني حرب وابن جدعان" وركب فيمن حضر عكاظ من هوازن في إثر القوم، فأدركوهم في نخلة قبيل الحرم، فناوشوهم شيئا من القتال يسيرا حتى جاء الليل ودخلت قريش الحرم فأمسكت هوازن عنهم ونادوهم: "يا معشر قريش! إنا نعاهد الله ألا نبطل دم عروة الرحال أبدا أو نقتل به عظيما منكم، وميعادنا وإياكم هذه الليالي من العام المقبل". ونادى رجل من بني عامر:
لقد وعدنا قريشا وهي كارهة
…
بأن تجيء إلى ضرب رعابيل2
فقال حرب بن أمية لأبي سفيان ابنه: قل لهم: "إن موعدكم قابل في هذا اليوم".
وتعرف هذه الوقعة بيوم نخلة، وقد تعطلت السوق فلم تقم تلك
1 الأغاني 19/ 76.
2 ثوب رعابيل: ممزق بالٍ.
السنة، فقال خداش بن زهير يذكر قريشا بها ويعيرهم، وكانت العرب تسمي قريشا "سخينة" لأكلها السخينة، وهي طعام رقيق يتخذ من دقيق:
يا شدة ما شددنا غير كاذبة
…
على "سخينة" لولا الليل والحرم
إذ يتقينا هشام بالوليد ولو
…
أنا ثقفنا هشاما شالت الخدم
لما رأوا خيلنا تزجي أوائلها
…
آساد غيل حمى أشبالها الأجم
ولوا شلالا وعظم الخيل لاحقة
…
كما تخب إلى أعطانها النعم1
بين الأراك وبين المرج تبطحهم
…
زرق الأسنة في أطرافها السهم
فإن سمعتم بجيش سالك شرفا
…
وبطن مر فأخفوا الجرس واكتتموا
وهذا غاية في التعبير، وفي وصف شدة الحرب حتى صار الأخ يفتدي نفسه بأخيه.
يوم شمظة:
شمظة2 موضع في عكاظ نزلته كنانة بعد عام من يوم نخلة حسبما
1 الخدم جمع خدمة، وهي حلقة القوم حيث يجتمعون. عظم الخيل: معظمها. تخب: تسرع. والأعطان: مبارك الإبل حول الماء، أو هي كالأوطان للناس. شلالا: خفافا سراعا، وانظر طبقات فحول الشعراء ص121.
2 أثبتها ياقوت في معجم البلدان بالطاء، وذكر أن الأزهري نقلها بالظاء، قلت: وهو المشهور المتداول في كتب اللغة.
اتعدوا هم وهوازن. فاحتشدت كنانة، قريشها وعبد منافها والأحابيش1 ومن لحق بهم، وسلّح يومئذ عبد الله بن جدعان مائة كمي بأداة كاملة سوى من سلّح من قومه. وعلى إحدى مجنبتي كنانة عبد الله بن جدعان، وعلى الثانية كريز بن ربيعة، وأمر الجميع إلى حرب بن أمية الذي كان في القلب. أما هوازن وأحلافها فأمرها إلى مسعود بن معتب الثقفي، واعتزل فريق من الحيين فلم يشهدوا الحرب.
ثم تناهض الناس وزحف بعضهم إلى بعض، فكانت الدائرة أول النهار لكنانة على هوازن، حتى إذا كان آخر النهار تداعت هوازن وصابرت، فانقشعت كنانة واستحرّ القتل فيهم، فقتل منهم تحت رايتهم مائة رجل، ولم يقتل من قريش يومئذ أحد يذكر، وذلك قول خداش بن زهير:
فأبلغ إن عرضت بنا هشاما
…
وعبد الله أبلغ والوليدا
أولئك إن يكن في الناس خير
…
فإن لديهم حسبا وجودا
1 الأحابيش: حلفاء قريش وهم -على ما قال ابن قتيبة- بنو المصطلق، والحياء بن سعد بن عمرو، وبنو الهون بن خزيمة. اجتمعوا أسفل جبل بمكة اسمه "حبشي" فتحالفوا بالله إنا ليد على غيرنا ما سجا ليل وأوضح نهار وما رسا حبشي. وقيل: سموا بذلك لاجتماعهم، والتحبيش: التجميع. العمدة 2/ 185، والقاموس مادة "حبش".
هم خير المعاشر من قريش
…
وأوراهم إذا قدحت زنودا
بأنا يوم "شمظة" قد أقمنا
…
عمود الدين إن له عمودا
فجاءوا عارضا بردا وجئنا
…
كما أضرمت في الغاب الوقودا
فعانقنا الكماة وعانقونا
…
عراك النمر واجهت الأسودا
ونادوا: يا لعمرو لا تفروا
…
فقلنا: لا فرار ولا صدودا
فولوا نضرب الهامات منهم
…
بما انتهكوا المحارم والحدودا1
فلم أر مثلهم هزموا وقلوا
…
ولا كذيادنا عنقا مذودا
يوم العبلاء:
عاد الأحياء المذكورون من هؤلاء وأولئك فالتقوا من قابل في اليوم الثالث من أيام عكاظ بالعبلاء إلى جنب عكاظ، فاقتتلوا على التعبئة التي تقدمت.
فكان هذا اليوم أيضا لهوازن على قريش وكنانة، فأصيبت قريش وقتل أحد صناديدها العوام بن خويلد، والد الزبير بن العوام حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، قتله مرة بن معتب الثقفي، فقال في ذلك
1 انظر خزانة الأدب، وطبقات الشعراء لابن سلام ص53 "في طبعة دار المعارف ص121". أبلغ بحذف نون التأكيد الخفيفة وإبقاء فتحة البناء على آخر فعل الأمر. والذياد: الدفاع. والعنق: المقبلون بجماعاتهم.
رجل من ثقيف يفتخر بقتله؛ لما له من الخطر:
منا الذي ترك العوام مجندلا
…
تنتابه الطير لحما بين أحجار
وفي هذا يقول شاعر هذه الحروب من هوازن، خداش بن زهير:
ألم يبلغكم أنا جدعنا
…
لدى العبلاء خندف بالقياد
فقدتكم ولحظكم إلينا
…
ببطن عكاظ كالإبل الغِداد1
ضربناهم ببطن عكاظ حتى
…
تولوا طالعين من النجاد
ويقول:
ألم يبلغك ما لقيت قريش
…
وحي بني كنانة إذ أبيروا
دهمناهم بأرعن مكفهر
…
فظل لنا بعقوتهم زئير2
يوم شرب 3:
ثم التقوا على رأس الحول في اليوم الثالث من عكاظ أيضا بشرب، وشرب من عكاظ. ولم يكن بين الفريقين يوم أعظم منه، صدقوا
1 هذا البيت في كتاب "الإمتاع والمؤانسة 1/ 221" وهو في لسان العرب:
"عدمتكم ونظرتكم إلينا
…
"
الغداد: جمع غادة، أي: ناقة ذات غدة.
2 أبيروا: أهلكوا. العقوة: ما حول الدار، المحلة.
3 ضبطه ياقوت في معجم البلدان بفتح فكسر نقلا عن أبي بكر بن نصر، فأما التي في شعر ابن مقبل فبفتح فسكون.
فيه الحملة، وصبروا حفاظا وحمية، وقد أبلت فيه قريش بلاء حسنا.
وكان الذي أحماهم أن لهوازن عليهم يومين ذهبت بفخرهما، فحافظت قريش وكنانة وصابرت بنو مخزوم وبنو بكر، وقيّد ثلاثة شجعان من قريش وأشرافها أنفسهم وقالوا:"لا يبرح منا رجل مكانه حتى يموت أو نظفر" وهم: أبو سفيان وحرب ابنا أمية، وأبو سفيان بن حرب والد معاوية فسموا "العنابسة" من يومئذ. وكان على الفريقين رؤساؤهم السابقون، واستمر القتال بهذه الشدة حتى انهزمت هوازن وقيس كلها رغم عددها وعدتها، إلا بني نصر فإنهم صبروا مع ثقيف؛ وذلك لأن عكاظ بلدهم، لهم فيه نخل وأموال إلا أنهم لم يغنوا شيئا ثم انهزموا أيضا، وقتلت هوازن يومئذ قتلا ذريعا. وذهبت بفخر هذا اليوم كله كنانة وقريش، فارتفعت أصوات شعرائهم تخلد هذا النصر المؤزر، وما لها لا تفعل، وقد لقيت خزيا كبيرا من شعراء هوازن؟! وما شأن شاعر تفقده أمته يوم الحاجة؟! وأي غناء لشاعر لا قوم له؟! فقال أمية بن أسكر الكناني:
ألا سائل هوازن يوم لاقوا
…
فوارس من كنانة معلمينا
لدى شرب وقد جاشوا وجشنا
…
فأوعب في النفير بنو أبينا1
1 وعب: جمع.
وقال:
قومي اللذو بعكاظ طيّروا شررا
…
من روس قومك ضربا بالمصاقيل1
وقال جذل الطعان:
جاءت هوازن أرسالا وإخوتها
…
بنو سليم فهابوا الموت وانصرفوا
فاستُقبلوا بضراب فض جمعهم
…
مثل الحريق فما عاجوا ولا عصفوا
وقال عبد الله بن الزبعرى شاعر قريش "والمشركين فيما بعد":
ألا لله قوم و
…
لدت أخت بني سهم
هشام وأبو عبد
…
مناف مدره الخصم
وذو الرمحين أشباك
…
من القوة والحزم
فهذان يذودان
…
وذا من كثب يرمي2
1 اللذو: لغة في الذين. والمصاقيل: السيوف.
2 وتتمة هذه الأبيات:
أسود تزدهي الأقرا
…
ن منّاعون للهضم
وهم يوم عكاظ مـ
…
ـنعوا الناس من الهزم
وهم من ولدوا أشبوا
…
بسر الحسب الضخم
فإن أحلف وبيت اللـ
…
ـه لا أحلف على إثم
لما من إخوة بين
…
قصور الشام والردم
بأزكى من بني ريطـ
…
ـة أو أوزن في الحلم
أبو عبد مناف الفاكه بن المغيرة، وريطة هذه التي عناها هي أم بني المغيرة، وهي بنت سعيد بن سعد بن سهم، ولدت من المغيرة هشاما وأبا ربيعة والفاكه =
يوم الحريرة:
وهو آخر أيامهم. ثم التقوا على رأس الحول بالحريرة، وهي حرة إلى جنب عكاظ مما يلي مهب جنوبها، وعلى كل قوم رؤساؤهم
= وذو الرمحين هو أبو ربيعة بن المغيرة، لقب به لقتاله في هذه الحرب برمحين. وأشباك: حسبك. والمدرة: زعيم القوم وخطيبهم والمتكلم عنهم. تزدهي الأقران: تستخف بهم. وأسبى فلان: إذا ولد له ولد كيس. والردم: مكان بمكة يضاف إلى بني جمح، وقرية بالبحرين.
هذا، وقد اختلف في قائل هذه الأبيات، فقيل: ابن الزبعرى. وقيل: عمر بن أبي ربيعة حفيد ذي الرمحين، وقد كشف الأصفهاني عن حقيقتها بخبره الطريف المشهور قال: قال أبو نهشل: جئت أبا بكر عبد الرحمن بن الحارث بن هشام الوارد ذكره في الأبيات، قصدته أطلب منه مغرما، فقال: يا خال، هذه أربعة آلاف درهم وأنشد هذه الأبيات الأربعة "الأولى" وقل: سمعت حسان ينشدها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: أعوذ بالله أن أكذب على الله ورسوله، ولكن إن شئت أن أقول: سمعت عائشة تنشدها فعلت. فقال: "لا، إلا أن تقول: سمعت حسان ينشدها رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله جالس" فأبى علي وأبيت عليه، فأقمنا لذلك لا نتكلم عدة ليالٍ، فأرسل إلي فقال: قل أبياتا تمدح بها هشاما -يعني: جده ابن المغيرة- وبني أمية. فقلت: "سمهم لي" فسماهم وقال: "اجعلها في عكاظ واجعلها لأبيك" فقلت:
"ألا لله
…
الأبيات"
ثم جئت فقلت: "هذه قالها أبي" فقال: "لا، ولكن قل: قالها ابن الزبعرى"، قال: فهي إلى الآن منسوبة في كتب الناس إلى ابن الزبعرى. وقيل: هن لعمر بن أبي ربيعة، والله أعلم.
السابقون. فاقتتلوا قتالا شديدا كان شؤما على قريش وأحلافها، قتل فيه من كنانة ثمانية نفر، وقتل أبو سفيان بن أمية أخو حرب جد معاوية. وكان يوما لهوازن فخره ونصره. فلعلع صوت شاعر هوازن بهذه الصاعقة المجلجلة:
إني من النفر المحمرّ أعينهم
…
أهل السوام وأهل الصخر واللوب1
الطاعنين نحور الخيل مقبلة
…
من كل سمراء لم تغلب، ومغلوب
وقد بلوتم فأبلاكم بلاؤهم
…
يوم الحريرة ضربا غير مكذوب
لاقتهم منهم آساد ملحمة
…
ليسوا بدارعة عوج العراقيب
فالآن إن تقبلوا نأخذ نحوركم
…
وإن تباهوا فإني غير مغلوب
وقال الحارث بن كلدة الثقفي:
تركت الفارس البذاخ منهم
…
تمجّ عروقه علقا عبيطا
دعت بنانه بالرمح حتى
…
سمعت لمتنه فيه أطيطا
لقد أرديت قومك يا صخر
…
وقد جشمتهم أمرا شطيطا
وكم أسلمت منكم من كمي
…
جريحا قد سمعت له غطيطا2
1 اللوب: جمع لابة، وهي الحرّة.
2 البعير البذّاخ: الهدّار المخرج لشقشقته، والبذخ في الأصل: الكبر والعلوّ. العلق العبيط: الدم المتجمد. دعس: طعن. الأطيط: صوت. الغطيط للبعير: هديره، وللنائم: صوته.
ثم كان الرجل منهم بعد ذلك يلقى الرجل، والرجلان يلقيان الرجلين فيقتل بعضهم بعضا. فلقي ابن محمية بن عبد الله الديلي زهير بن ربيعة أبا خراش، فقال زهير:"إني حرام جئت معتمرا" فقال له: "ما تُلقَى طوال الدهر إلا قلت: أنا معتمر" ثم قتله.
انقضت هذه الأيام الخمسة في أربع سنين، ثم تداعى الفريقان إلى السلم على أن يذروا الفضل في الدماء والأموال، ويتعاهدوا على الصلح.
عقدوا على ذلك المواثيق وبقيت هذه الأحداث للذكرى والفخر، يتمجد كل شاعر قوم بما فعل قومه، ويتغنى بما كان لهم من محامد. وانظر إن شئت أن ترى آثار ذكرها في مثل قول عبد الله بن الزبعرى السهمي:
وإن قصيا أهل عز ونجدة
…
وأهل فعال لا يرام قديمها
هم منعوا يومي عكاظ نساءنا
…
كما منع الشول الهجان قرومها1
أو قول بعضهم:
نحن كنا الملوك من آل نجد
…
وحماة الذمار عند الذمار
1 الشول: النوق التي أتى عليها من حملها أو وضعها سبعة أشهر فجف لبنها، الواحدة: شائلة. والهجان: الإبل الكرام. والقروم: الفحول. بلوغ الأرب 3/ 84.
ومنعنا "الحجون" من كل حي
…
ومنعنا الفجار يوم الفجار
وقول خداش بن زهير:
فلا توعديني بالفجار فإنه
…
أحل ببطحاء "الحجون" المخازيا1
أو قول عاتكة بنت عبد المطلب، تخلد نصر قومها في هذه المقطوعة الرائعة:
سائل بنا في قومنا
…
وليكف من شر سماعه
قيسا وما جمعوا لنا
…
في مجمع باقٍ شناعه
فيه السنور والقنا
…
والكبش ملتمع قناعه
بعكاظ يعشي الناظريـ
…
ـن -إذا هم لمحوا- شعاعه
فيه قتلنا مالكا
…
قسرا وأسلمه رعاعه
ومجدلا غادرنه
…
بالقاع تنهسه ضباعه
هكذا كانت تجارة العراق في عكاظ وما يفيده من يجيرها من أرباح مادية ومعنوية هو وقبيلته، سببا مغريا في هذه الحروب. وأي بدع في هذا؟! فإنا ما نزال إلى اليوم نرى أكثر الحروب في حقيقتها تطاحنا على النفوذ الاقتصادي، وتكاد أحداث القرن العشرين كلها تكون حول التنافس التجاري إن لم يكن بصورة جلية، فمن وراء الستار.
1 مروج الذهب 2/ 167.