الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سوق ذي المجاز:
لهم في تحديدها قولان: أحدهما أنها على فرسخ من عرفة بناحية كبكب، وكبكب جبل بعرفات خلف ظهر الإمام إذا وقف. ذكره ياقوت وغيره، وهو أحد قولين نقلهما الزبيدي. والثاني: أنها موضع بمنى، ومنى بين مكة وعرفات في نصف الطريق تقريبا، والذين نقلوا الأول أكثر عددا وإن كان القول الثاني أدنى إلى القبول.
وسمي ذا المجاز؛ لأن إجازة الحاج كانت منه، ولعل السوق أحيانا تمتد أو يتنقل الناس فيها: يقتربون ويبتعدون حتى تشغل هذه المسافة1. وذو المجاز من ديار هذيل، هم أهلها وجيرانها الأدنون.
يكثر ورود ذي المجاز في شعر العرب، ولا سيما شعراء هذيل؛ لأنها من أسواقهم الكبرى، ومن المواسم أيضا. قال أبو ذؤيب الهذلي:
وراح بها من ذي المجاز عشية
…
يبادر أولى السابقات إلى الحبل
وقال الليثي:
1 وذو المجاز علم أيضا على موضع قريب من العراق، لا شأن لبحثنا به.
للغانيات بذي المجاز رسوم
…
في بطن مكة عهدهن قديم
أما التي ذكرها الحارث بن حلزة في معلقته:
واذكروا حلف ذي المجاز وما
…
قدم فيه العهود والكفلاء
فالغالب أنها التي في شمال الجزيرة؛ لأن مقام قبيلته يشكر والأحداث بينها وبين غيرها كانت هناك.
إذا انقشع الناس عن مجنة حين يهل ذو الحجة، ساروا بأجمعهم إلى هذه السوق، وأقاموا بها حتى اليوم الثامن من ذي الحجة، وهو يوم التروية، سمي بذلك لأنهم كانوا يرتوون فيه من الماء ويملئون أوعيتهم لما بعده، إذ لا ماء بعرفة. وإلى هذه السوق تتقاطر وفود الحجاج من سائر العرب ممن شهد الأسواق قبلها، أو لم يشهدها وأتى للحج خاصة، إذ إن ذا المجاز من مواسم الحج عندهم.
تحفل1 ذو المجاز لوقوعها أيام الحج بجموع العرب وتجارهم
1 خير تعبير عن ازدحام هذه السوق بالناس كلمة فاه بها أبي بن خلف، دلت على أنهم يضربون المثل بمن فيها كثرة، وذلك أنه قصد الرسول ليقتله وهو يقول:"أين محمد؟ لا نجوت إن نجا" فلما دنا تناول الرسول حربة من أحد أصحابه وانتفض بها انتفاضة أطارت من حوله من الأصحاب، ثم استقبل بها أبيا فطعنه طعنة وقع بها عن فرسه فكسر ضلعا من أضلاعه ولم يخرج له دم، فلما رجع أبي إلى قريش قال:"قتلني والله محمد" فقالوا: "ليس عليك بأس، ما أجزعك! إنما هو خدش لو كان بعين أحدنا ما ضره" فقال: "واللات، لو كان الذي بي بأهل ذي المجاز لماتوا أجمعين!! ". انظر شرح الزرقاني للمواهب 2/ 45.
وأشرافهم، وهي تلي عكاظ في الشأن، ويجري فيها ما يجري في هذه من تبايع وتناشد وتفاخر وفداء أسرى وطلب ثأر
…
إلخ، يقصدها صاحب الثأر ليتعرّف فيها واتره، فيتربص به انقضاء الشهر الحرام إن كان من المحرمين، وإلا عاجله فأخذ بثأره، وإليك بعض أحداثها:
"1"
روى الأصفهاني: "أن قيس بن الخطيم لم يزل يلتمس غرة من قاتل أبيه وجده في المواسم، حتى ظفر بقاتل أبيه بيثرب فقتله، وظفر بقاتل جده بذي المجاز، فلما أصابه وجده في ركب عظيم من قومه، ولم يكن معه إلا رهط من الأوس، فخرج حتى أتى حذيفة بن بدر الفزاري فاستنجده فلم ينجده، فأتى خداش بن زهير فنهض معه ببني عامر حتى أتوا قاتل عدي "جد القيس" فإذا هو واقف على راحلته في السوق، فطعنه قيس بحربة فقتله ثم استمر. فأراده رهط الرجل فحالت بنو عامر دونه
…
إلخ".
"2"
حالف أبو الأزيهر الدوسي -وكان عظيم الشأن في الأزد- أبا سفيان بن حرب عظيم بني أمية، وكان بين أبي الأزيهر هذا وبني الوليد بن المغيرة محاكمة في مصاهرة، فإن أبا الأزيهر لقاعد في مقعد أبي سفيان بسوق ذي المجاز، إذ جاء هشام بن الوليد فضرب عنقه في مقعده ذاك بذي المجاز، وانتظر الناس أن يأخذ أبو سفيان بثأر حليفه من هشام فلم يفعل ولم يدرك به عقلا ولا قودا من بني المغيرة، وتحدث بذلك أهل السوق من قبائل العرب وراجت في الناس حتى عيروا بها أبا سفيان، وحتى قال حسان بن ثابت فيها:
غدا أهل حضني ذي المجاز بسحرة
…
وجار ابن حرب لا يروح ولا يغدو
كساك هشام بن الوليد ثيابه
…
فأبلِ وأخلق مثلها جددا بعد1
"3"
كثيرا ما يغير قوم على قوم فيسبون من ذراريهم فيستعبدونهم؛ فينشأ هؤلاء الذراري أرقاء في غير قومهم، فيباعون في الأسواق أيام المواسم، فكانت الجواري والأطفال من جملة العروض التي
1 رسائل الجاحظ "جمع السندوبي" ص76 بتصرف يسير.
يقتنيها العربي في الجاهلية ويبيعها ويشتريها كما يفعل بالتمر والثياب والسلاح، حتى جاء الإسلام فأبطل سبي العربي. جاء في الأغاني "11/ 75":
"أن أبا وجزة لحق أباه عبيدا -وهو صبي- سباء في الجاهلية، فبيع بسوق ذي المجاز، فابتاعه رجل من سعد واستعبده، فضرب عبيد هذا يوما ضرع ناقة لمولاة فأدماه، فلطم المولى وجه العبد، فخرج عبيد إلى عمر مستعديا فلما قدم عليه قال: "يا أمير المؤمنين! أنا رجل من بني سليم ثم من بني ظفر أصابني سباء في الجاهلية كما يصيب العرب بعضها من بعض، وأنا معروف النسب، وقد كان رجل من بني سعد ابتاعني فأساء إلي وضرب وجهي، وقد بلغني أن لا سباء في الإسلام" فما فرغ من كلامه، حتى كان مولاه قد أتى عمر على أثره فقال: "يا أمير المؤمنين! هذا غلام قد ابتعته بذي المجاز، وقد كان يقوم في مالي فأساء، فضربته ضربة والله ما أعلمني ضربته غيرها قط، وإن الرجل ليضرب ابنه أشد منها فكيف بعبده، وأنا أشهدك أنه حر لوجه الله" فقال عمر لعبيد: "إنه لا سباء على عربي، وإن هذا الرجل قد امتن عليك، وقطع عنك مئونة البينة، فإن أحببت فأقم
معه فله عليك منة، وإن أحببت فالحق بقومك". فأقام عبيد مع السعدي وانتسب في بني سعد بن بكر بن هوازن" ا. هـ.
وعمر نفسه اشترى خادمه "أسلم" من سوق ذي المجاز، وكان أسلم هذا حبشيا أسود مشرطا1.
هذه الأسواق الثلاث: عكاظ ومجنة وذو المجاز التي كانت تقوم في أيام الحج ويؤمها العرب قاطبة من كل حدب وصوب، شهدت إلى جانب مناظر البيع والشراء، والمفاخرة والإنشاد، مشهدا من أفظع مشاهد الجفاء والتنكر والأذى لصاحب الشريعة الإسلامية صلى الله عليه وسلم وابتلعت تلك الأسواق بضجيجها وما كانت تعج به من حوادث، صوت الدعوة الإسلامية فيما ابتلعت من دعوات، وغاب صوت صاحبها في ذلك الرُّغاء والصخب والزحام. فلقد مكث الرسول بمكة مستخفيا ثلاث سنين ثم أعلن في الرابعة، ودعا الناس إلى الإسلام عشر سنين يوافي فيهن المواسم كل عام؛ يتبع الحاج في منازلهم بعكاظ ومجنة وذي المجاز،
1 تهذيب تاريخ ابن عساكر 3/ 7 و"أسلم" هذا أروى الناس لسيرة عمر رضي الله عنه وكان ابن عمر يعظمه. ومن طريف ما يذكر ابن عساكر عنه أن "أسلم" وعاصم بن عمر حكما عمر في: أيهما أحسن غناء!
يدعوهم أن يمنعوه حتى يبلغ رسالات ربه، فلا يجد أحدا ينصره أو يجيبه، حتى إنه ليسأل عن القبائل ومنازلها قبيلة قبيلة فيردّون عليه أقبح الرد، ويؤذونه ويقولون له:"قومك أعلم بك"1.
كان قاصد هذه الأسواق أيام الحج، موزع السمع بين داعٍ إلى ثأر وناشد ضالة، ومنشد قصيدة، وخطيب، وعارض بضاعة، وحامل مال لفك أسير، وقاصد شريف لإجازة أو حمالة، وداعٍ إلى عصبية، وآمر بمنكر
…
فيجد شيئا معروفا قد ألفه منذ عقل وأبصر الدنيا. لكنه بعد عام الفيل بثلاث وأربعين سنة يجد أمرا لم يألفه قط، ولا سمع بمثله: رجلا كهلا وضيئا عليه سمات الوقار والخير، يسأل عن منازل القبائل قبيلة قبيلة؛ هذه بنو عامر بن صعصعة، وهذه محارب، وتلك فزارة، والرابعة غسان، وهناك مرة وحنيفة، وسليم وعبس، وهنا بنو نصر، وكندة، وكعب، وعذرة، وهؤلاء الحارث بن كعب وأولئك الحضارمة
…
إلخ.
يؤم منازل كل قبيلة، ويقصد إلى شريفها يدعوه بالرفق إلى الله،
1 شرح المواهب 1/ 309. وانظر تهذيب تاريخ ابن عساكر 4/ 415.
وفعل الخير، فيتجهم له هذا، ويعبس ذاك، ويجبهه ذلك ويحقره آخر
…
فيلقى من الصد ألوانا يضيق ببعضها صدر الحليم، فلا يؤيسه ما لقي، ولا يكفه ما أوذي، فيمضي متئدا حزينا إلى قبيلة أخرى وشريف آخر، يعرض نفسه عليهم ويقول:"هل من رجل يحملني إلى قومه؟ فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي" فلا يجد مجيبا، حتى تدارك الله نبيه بوفد الأنصار.
هذا ما حفظته لنا كتب السير والأدب من مشاهد مؤثرة، فرأينا أن تلك الأسواق لم تخل من دعوة إلى خير؛ فقد تردد في أجوائها الصوت الضعيف الخافت، يطلب حماية وإجابة. ولئن صدف عنه الناس وازورّوا في أسواق الجاهلية فلقد ملأ هذا الصوت فيما بعد ما بين المشرق والمغرب، وطبق الخافقين بآثاره التي بثها في العالمين رحمة وعدلا وعلما وإنسانية وسعادة ومُثُلا عليا. وما زال يستجيب لهذا الصوت كل يوم، أفواج من أمم الحضارة والعرفان، في آسيا وأوروبا وأمريكا، وصد عنه قديما أجلاف البادين، وهرع إليه اليوم زمر المتحضرين من كل عالم ومخترع ومصلح وأديب وسياسي ومفكر يستضيء بعلمه وفكره الملايين من الخلائق.
فلنأخذ من هذه الأسواق العبرة، ولنحتفظ بهذا الدرس، فإن الحق مهما بدا ضعيفا وبدا خصيمه الباطل قويا صائلا، لا بد أنه ظافر في النهاية عليه. ولنعلم أن اليأس لا ينبغي أن يجد سبيلا إلى قلب المؤمن، وأنه:
{لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} .