الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثالث: أسواق العرب
مدخل
…
الباب الثالث أسواق العرب:
أنشأ العرب -ومركزهم التجاري ما قدمنا- أسواقا لهم يتبايعون فيها.
ولعل هذه الكلمة -كما ذكر ابن سيده- اشتقت من سَوْق الناس بضائعهم إليها، ولا يستدعي وجودها في اللغات السامية أن تكون كلمة السوق العربية مأخوذة منها، فلعل الواقع هو العكس. وليس من لزوم في هذا الاستقصاء المتكلف، ما دامت هذه الأخوات من أم واحدة.
فمن هذه الأسواق ما كان يقتصر على ما يجاوره من القرى وما ينزل بساحه من القبائل كسوق هجر وحَجْر اليمامة والشحر وغيرها، ومنها ما كان عاما تفد إليه الناس من أطراف الجزيرة كلها كعكاظ.
ولكل مدينة -بطبيعة الحال- أسواق، وإنما المقصود هنا الأسواق الموسمية منها، التي لها أيام معينة تقوم فيها ويؤمها الناس. فإذا كان لإحدى هذه الأسواق موقع جغرافي ذو بال، كأن تكون على ساحل البحر
مثل سوق عدن وصنعاء وعمان
…
كان شأنها ممتازا من بقية الأسواق التي في قلب الجزيرة كحجر أو كحضرموت؛ لشيوع الاتجار فيها مع الجيران من هند وحبشة وفرس في الأولى، واقتصار الثانية على القبائل المتاخمة لها.
فتتميز الأسواق التي على فُرَض البحر بوجود النزال الأجانب وتأثر أصحابها باختلاطهم بهؤلاء، وما يستتبع ذلك من تغيير في العادات والرقيّ والصبغة، فليس من المعقول أن تكون أحوال سوق صنعاء مثلا مشابهة كل المشابهة الأحوال التي لسوق هجر، أو التي لسوق الجند1 القديمة باليمن، أو سوق الجُرَيب وهي خاصة باليمن أيضا، يتسوقها في موعدها عشرة آلاف2، أو سوق وادي القرى، أو سوق "قُرْح"3 الذي هلك فيه قوم عاد فيما يزعمون.
1 الجند: أول مدن اليمن التي على سمت نجدها، وهي أعظم أقسام اليمن الإدارية الثلاثة على عهد الراشدين؛ اختارها معاذ بن جبل حين ولي اليمن لرسول الله، واختطّ فيها مسجده. ونقل ياقوت أن الناس فيما بعد صاروا يحجون إلى هذا المسجد، ولها ماضٍ قديم جدا، إليه أشار الشاعر بقوله:
الغدر أهلك عادا في منازلها
…
والبغي أفنى قرونا دارها الجند
ونص الهمداني في كتابه "صفة جزيرة العرب" على أنها من أسواق العرب القديمة. انظر الإكليل 10/ 57 وحواشيها.
2 المصدر السابق ص86.
3 انظر "قرح" في معجم البلدان، ولسان العرب.
كان يلي أمر الناس، والنظر في شئونهم التجارية في بعض هذه الأسواق أمراء يعشرون الناس كأكيدر في دومة الجندل والمنذر بن ساوى في سوق حَجْر، وهناك رؤساء يهبطون الأسواق لجمع الإتاوة وأشراف يتوافون بتلك السوق التي هي في الغالب تحت سيطرة أمير من الأمراء؛ ليستوفوا نصيبهم من الربح الذي جعله لهم ذلك الأمير
…
بل إن بعض الأسواق كانت تقع إلى سلطان دولة أجنبية كسوق المشقَّر الذي تحكم كسرى بأهله وتجارته، وسيأتي تفصيل ذلك عند الكلام على الأسواق سوقا فسوقا.
أما عروض التجارة التي كانت تُحمل إلى الأسواق، فأكثرها لا يتعدى التمر والزبيب والزيت والسمن والأدم والورس والغالية والبرود، وبعض ضروب الحيوان كالمواشي والأنعام والخيل حتى القرود أحيانا.
وكانت هجر أشهر البلدان بتمرها، وعمان يحمل إليها الورس ويعالج فيها. وكانت لطائم النعمان تسير إلى عكاظ، ولطائم كسرى إلى المشقر، تأتي كل سنة فتباع ويشترى بأثمانها الأدم والتمر. وكان يقوم بحمايتها عرب الحيرة ما دامت في مناطق نفوذهم، فإذا فصلت نحو عكاظ كان لا بد لها من حامٍ منيع الجانب، عزيز القبيلة ليجيزها على عامة
القبائل، وقد استفاد العرب من هذه الحماية فوائد مادية جلّى.
تلك الأسواق في الجزيرة، وما إليها كانت تلبية لضرورات محلية اقتضتها معيشة العرب وطبيعة توزعهم في أرضيهم، وليست شيئا مجلوبا حاكوا به غيرهم كما يتكلف بعض المتعرضين لهذا البحث1.
حملت هذه الحركة التجارية كثيرا من ألوان الترف إلى العرب وكان لا عهد لهم بمثلها، فتغالى أشرافهم بالثياب والبرود والسلاح والطيب، بل إن الرواة ليذكرون أن خمرا حملت من بصرى وغزة من بلاد الشام إلى سوق مجنة قرب مكة. ويظهر أن العرب اعتادت استجادة الخمر والافتنان بشربها واستطابتها من معادنها المشهورة كالبلدتين المذكورتين وأذرعات وأندرين وغيرها، شاع ذلك في الرجال والنساء. وسيمر بك عند الكلام على عكاظ أن امرأة أرسلها زوجها إلى عكاظ بسمن ومعها راحلتان، فشربت الخمر بثمن السمن فاستطابتها ثم باعت راحلتيها، فشربت بثمنهما، ثم رهنت ابن الرجل وشربت أيضا2.
1 قال أحدهم: "ومن غريب ما ورثه العرب عن الحمورابيين، ونقلوه إلى شبه جزيرتهم أيضا إقامة الأسواق والمجتمعات للعلم والتجارة والمنافرة، فكانت أشبه بالمجامع العلمية والمعارض العمرانية" مجلة المجمع العلمي العربي 1/ 100. قلت: والظاهر العكس؛ فإن الحمورابيين عرب نزحوا إلى العراق من شبه الجزيرة، فحملوا معهم كثيرا من طرق معايشهم السابقة ومن نظمهم وأعرافهم.
2 وأبعد من هذا الخبر في الغرابة والطرافة، ما رواه القالي في أماليه "1/ 150" =
ونحن نعلم أن كثيرا من الشعراء والفتيان كانوا يتمدحون بالإنفاق على الخمر والتردد على أصحاب الحوانيت والجلوس إليهم، واذكر إن شئت أبيات عنترة:
ولقد شربت من المدامة بعدما
…
ركد الهواجر بالمشوف المعلم
= قال: اشترى أعرابي خمرا بجزة صوف فغضبت عليه امرأته، فأنشأ يقول:
غضبت علي لأن شربت بصوف
…
ولئن غضبتِ لأشربنْ بخروف
ولئن غضبتِ لأشربنّ بنعجة
…
دهاء مالئة الإناء سَحوف
ولئن غضبت لأشربن بناقة
…
كوماء نامية العظام صَفوف
ولئن غضبت لأشربن بواحدي!
…
ولأجعلن الصبر منه حليفي
الدهاء: شقراء خفيفة الشقرة إلى سواد. والسحوف: التي لها طبقتان من الشحم. والكوماء: الناقة العظيمة السنام. ونامية العظام: سمينتها. والصفوف: التي تصف رجليها عند الحلب. والسابح: الفرس.
فيذكر ابن الأنباري -في إحدى رواياته- أن امرأته أشفقت على وحيدها وخففت من غلوائها، وأباحته أن يتلف في الخمر ما شاء إلا ولدها، قالت له:
ما إن عتبت لأن شربت بصوفة
…
أو أن تلذ بلقحة وخروف
فاشرب بكل نفية أو تيتها
…
وملكتها من تالد وطريف
وارفع بطرفك عن بني فإنه
…
من دونه شغب وجدع أنوف
انظر شرح شواهد المغني ص207 "المطبعة البهية بمصر". وفي حاشية الدسوقي على المغني أن من الأبيات الأولى:
ولقد شربت الخمر في حانوتها
…
صفراء صافية بأرض الريف
ولقد شهدت الخيل تقرع بالقنا
…
فأجبت صوت الصارخ الملهوف
بزجاجة صفراء ذات أسرة
…
قرنت بأزهر في الشمال مفدَّم
فإذا شربت فإنني مستهلك
…
مالي وعرضي وافر لم يكلم
…
1
أو قول الأعشى:
"وقد غدوت إلى الحانوت يتبعني
…
إلخ".
والظاهر أن حب الخمرة تغلغل في نفوس عامة العرب وغمرت بحوانيتها أسواقهم، وعكفوا عليها حتى ما يستطيعون لها تركا. وإن الأعشى الشاعر هذا، أراد أن يقصد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة فيسلم، وأشفق مشركو مكة من هذا السلاح أن ينضم للإسلام فصدوه عن وجهه ذاك، وكان أقوى عامل في رده ما أخبروه من أن الإسلام يحرم الخمرة، ولم يكن بالشاعر قدرة على تركها فصرفه ذلك عن قصده وقفل راجعا، فأدركته المنية ولم يكتب له الإيمان2. وخير ما نستدل به على استفاضتها في أسواقهم، وإدمانهم لها أن الأخباريين يعدون في الجاهلية
1 الهواجر: جمع هاجرة، وهي حر نصف النهار. والمشوف: الإناء المجلو. والمعلم: ما عليه علامة. والأزهر: الأبيض، ويعني به الإبريق. المفدم: ما عليه الفدام، وهي المصفاة.
2 فكان الظرفاء من الفتيان إذا أرادوا الشراب خرجوا إلى قبره وأدار الساقي عليهم الكأس، وجعل قبر الأعشى أحد الشراب، فكان إذا بلغه أراق الكأس عليه يصبون الخمر على قبره، إذ قال لما أخبره أبو سفيان بأن محمدا يحرم عليه الخمر:"أرجع إلى اليمامة فأشبع من الخمر". انظر الأغاني 9/ 127.
كلها أشخاصا لا يبلغون العشرين حرّموا على أنفسهم الخمر1، فتميزوا
1 روى القالي في أماليه "1/ 204 ":
"حرّم رجال الخمر في الجاهلية تكرما وصيانة لأنفسهم، منهم عامر بن الظرب بن
…
بن قيس بن عيلان، وقال في ذلك:
سآلة للفتى ما ليس في يده
…
ذهابة بعقول القول والمال
أقسمت بالله: أسقيها وأشربها
…
حتى يفرّق ترب القبر أوصالي
مورثة القوم أضغانا بلا إحن
…
مزرية بالفتى ذي النجدة الحالي
وحرم قيس بن عاصم الخمر، وقال في ذلك:
لعمرك إن الخمر ما دمت شاربا
…
لسالبة مالي ومذهبة عقلي
وتاركتي من الضعاف قواهم
…
ومورثتي حرب الصديق بلا تبل
وحرم صفوان بن أمية الكناني الخمر في الجاهلية، وقال في ذلك:
رأيت الخمر صالحة وفيها
…
مناقب تفسد الرجل الكريما
فلا والله أشربها حياتي
…
ولا أسقي بها أبدا سقيما
وحرم عفيف بن معديكرب عم الأشعث بن قيس الخمر، وقال:
وقائلة هلمّ إلى التصابي
…
فقلت: عففت عما تعلمينا
وودعت القداح وقد أراني
…
بها في الدهر مشغوفا رهينا
وحرمت الخمور عليّ حتى
…
أكون بقعر ملحود دفينا
وقال أيضا:
فلا والله لا ألفي وشربا
…
أنازعهم شرابا ما حييتُ
أبى لي ذاك آباء كرام
…
وأخوال بعزهم ربيت
وحرم سويد بن عدي الطائي ثم المعني الخمر وأدرك الإسلام، فقال:
تركت الشعر واستبدلت منه
…
إذا داعي منادي الصبح قاما
كتاب الله ليس له شريك
…
وودعت المدامة والندامى
وحرمت الخمور وقد أراني
…
بها سدكا وإن كانت حراما" ا. هـ.
=
بهذا الوصف من سائر العرب، ولم يكن لتميزهم هذا من قيمة لولا فشوّها في قبائل العرب فشوّا قويا جعلها في حكم الضرورة التي لا مندوحة عنها.
يغشى هذه الأسواق عامة العرب؛ لما تقدم من أن شغل أكثرهم التجارة، ومن لم يتاجر قصدها للكسب والشراء حتى صار غشيان السوق والمشي فيها، هما والاتجار ألفاظ مترادفة، ففي البخاري:
"استأذن أبو موسى على عمر فلم يؤذن له فرجع، ففرغ عمر فقال: "ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس؟ ائذنوا له" قيل: "قد
= النيل: الثأر. وقوله: أقسمت بالله أسقيها، يريد: لا أسقيها. وكذلك فلا والله أشربها أي: لا أشربها. والملحود: القبر.
والسدك: المولع بالشيء.
ويزيد السيوطي على هؤلاء: عبد المطلب بن هاشم، وعبد الله بن جدعان، وشيبة بن ربيعة، وورقة بن نوفل، والوليد بن المغيرة، وعفيف بن معديكرب ويقال: هو أول من حرّمها، وقيل:"أولهم: عامر بن الظرب" وعباس بن مرداس، وأبا بكر، وعثمان بن عفان، وعثمان بن مظعون، وعبد الرحمن بن عوف. شرح شواهد مغني اللبيب ص44.
هذا، وقد جاء في الأغاني "8/ 332 دار الكتب" ما يأتي:
"ما مات أحد من كبراء قريش في الجاهلية إلا ترك الخمر استحياء مما فيها من الدنس".
وهذا نص في أن كبراء قريش في الجاهلية كانوا يشربونها جميعا.
رجع". فدعاه فقال "أبو موسى": "كنا نؤمر بذلك". فقال عمر: "تأتيني على ذلك بالبينة". فانطلق "أبو موسى" إلى مجلس الأنصار فسألهم فشهد أبو سعيد الخدري، فقال عمر: "أخفي هذا علي من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ألهاني الصفق في الأسواق؟! " يعني: الخروج إلى التجارة1.
وكان في جملة ما احتج به المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم قولهم: "
…
فإذا لم تفعل هذا لنا فخذ لنفسك، سل ربك
…
فليجعل لك جنانا وقصورا وكنوزا من ذهب وفضة يغنيك عما نراك تبتغي، فإنك تقوم بالأسواق كما نقوم، وتلتمس المعاش كما نلتمس
…
إلخ"2. وحكى الله عنهم قولهم هذا فقال:
{وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ} 3 وقال في المرسلين: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَاّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ
…
} 4، فكنى بالمشي في الأسواق عن التجارة، ووُصف صلى الله عليه وسلم بأنه ليس بفظّ ولا غليظ ولا سخّاب في الأسواق5. ولأن العرب لا تحتشد لشيء
1 صحيح البخاري، طبع ليدن، كتاب البيوع:8.
2 سيرة ابن هشام 1/ 269.
3 سورة الفرقان: 7.
4 سورة الفرقان: 20.
5 البخاري، كتاب البيوع "22". والسخاب: كثير اللغط والجلبة.
احتشادها في هذه الأسواق، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقصدها أول دعوته، ويعرض نفسه على القبائل في هذه المواسم.
كان أعظم ما يحدو العرب في الجاهلية على قصد تلك الأسواق ما قدمت لك من قيام كثير منها في الأشهر الحرم، ولشيوع الأمن حرمة للشهر، ولأن مواسم بعض الأسواق كعكاظ ومجنة وذي المجاز تقع في أيام حجهم وهي أعمر أسواق العرب بمختلف القبائل يأتونها من كل أوب ومعهم خيرات بلادهم، وتلك ميزة لا تتمتع بها بلدة غير مكة ولا قوم غير قريش، وقد امتن الله عليهم بذلك فقال:
{أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} 1.
وقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} 2.
وافقت هذه المواسم زمن الحج3، واختلط أمرها بشعائره "فمنى
1 سورة القصص: 57.
2 سورة العنكبوت: 67.
3 ما زال الحج الموسم الأكبر للتجارة في الأقطار العربية الكبرى، في أيامه تنشط الحركة التجارية ويكثر البيع والشراء وتستنفد المخازن العربية بضائعها يستهلكها الحجاج الذين يقصدونها من القاصية أجناسا شتى، فصينيون وأتراك وبخاريون وفرس وهنود وأفغان وقفقاسيون ومغاربة و
…
وتعظم =
وعرفة وعكاظ ومجنة وذو المجاز مواعيدها مواسم الحج" فإذا انفضّوا من ذي المجاز تروّوا من الماء ونادى بعضهم بعضا: "ترووا من الماء"؛ لأنه لا ماء بعرفة يومئذ ولا بالمزدلفة، ولهذا سمي اليوم الثامن من ذي
= منهم الأرباح وتفيض على البلاد عامة سحائب خير وسعة من العام إلى العام. تستوي في ذلك جميع البلدان العربية، فمصر كالشام والعراق كالحجاز لوقوع الأولى على طريق الحاج المغربي، ولأن الشام والعراق طريق الحاج المشرقي. ولا تسأل عن البحبوحة التي يرتع فيها أهل الحجاز في موسم الحج؛ إذ تتقاطر عليه كل تلك الأمم، ويربح أهله في هذه الأيام القلائل معاش سنتهم كلها.
بقي الأمر على هذا حتى عهد قريب، إذ انقطع بحلول المحنة الكبرى ببلاد العرب، فوزعت بين الفرنجة، وانحجز الحجاج عن ورود هذه الأقطار؛ لأن الحاج المغربي أو المشرقي يمر على دول كثيرة قبل أن يصل إلى الحجاز. فإن كان معه فضل من مال استنزفته تلك الدول فلا يصل إلى الحجاز إلا ببلغة لا تكاد تكفيه وحده، فيضطرّ المسكين إلى أن يسلم أمره إلى الشركات الأجنبية التي نصبتها دولها تمتص دم الحجاج وتسلبهم أموالهم وتذيقهم الموت ألوانا. فحرمت بذلك بلادنا من موارد وأرزاق عدا ما خسرت من المنافع الاجتماعية. فمات العراق كما مات الحجاز، وماتت الشام منذ نضب هذا المعين. ثم عكف الأجنبي على ما بقي في البلاد من أثارة خير يتمششها ويتعرقها حتى جردت الأرض وصوّح النبت، فما ثمة من قائم ولا حصيد:
أكلتم أرضنا فجردتموها
…
فهل من قائم أو من حصيد
كتبنا هذا في الطبعة الأولى سنة 1936م، أما الآن وقد انقضت خمس وعشرون سنة وأجلى الله العدو عن بلاد الشام ومصر والأمل كبير في تحرر بقية الأقطار، فعسى أن يعود للبلاد العربية ازدهارها ورخاؤها ووحدتها، فيضرب في أقطارها حجاج جميع الأمم والشعوب آمنين مطمئنين، فيعود لها رونقها ونشاطها الاقتصادي.
الحجة بيوم التروية. وكانوا في الجاهلية لا يتبايعون في منى ولا في عرفة، يخصون هذين المكانين بالحج الخالص، لا يخلطونه ببيع ولا شراء؛ فلما جاء الإسلام فكأنهم تأثّموا أن يتجروا في المواسم، فأنزل الله تعالى قوله:
{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} 1.
وزاد ابن عباس في قراءته: "في مواسم الحج" والفضل هو الرزق والكسب والاتجار، وكذلك كان يتلوها أبي تلاوة2.
والغريب أن هذه الأسواق، كما يقصدها طالب الربح والشراء،
1 سورة البقرة: الآية 198.
2 انظر البخاري، كتاب البيوع 5 وكتاب الحج، ومعجم الطبراني الكبير، المجلد الثالث، وأخبار مكة للأزرقي ص130، وتفسير الخازن. نقل في هذا التفسير عن أبي أمامة التميمي قال:
كنت أكري في هذا الوجه، وكان الناس يقولون لي:"إنه ليس لك حج" فلقيت ابن عمر فقلت له: "إني رجل أكري في هذا الوجه، وإن أناسا يقولون لي: ليس لك حج" فقال ابن عمر: "أليس تحرم وتلبي وتطوف بالبيت، وتفيض من عرفات وترمي الجمار؟ " فقلت: "بلى" قال: "فإن لك حجا: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن مثل الذي سألتني عنه، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلت هذه الآية: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} الآية" فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرأها عليه وقال: "لك حج" ا. هـ.
يقصدها طالب الأمن والفداء، فكم أوى إليها من خائف يطلب من يجيره فيجده ويلجأ إليه ويأمن، وكم من رجل حمل معه فداء أسيره ففكه من آسره، وكم من سادات تحملوا ديات ودماء فكانوا سبب الصلح بين قبيلين كبيرين، بل إنا لنسمع فيها منادين ينادون ذوي الحاجات لتقضى حاجاتهم، كما نرى فيها أمراء ورسل ملوك يقصدونها لأخذ ما لهم على بعض القبائل من إتاوات وغرامات كل سنة، فموعدهم بها أيام المواسم.
وإذ إن أكثر هذه الأسواق حولية تقوم أياما معلومات في كل عام، كان من المعقول أن تكون ميدانا لغير البيع والشراء، كان فيها تناشد أشعار، وكان فيها تفاخر وتكاثر، وتنافر ومقارعة ومعاظمة
…
فيفوز في هذا أقوام ويخسر آخرون، وتحتفل العرب لها الاحتفال اللائق بها. وكان لهم حكام معلومون يفضّون المشاكل بين القبائل1، ولهم محكِّمون يحتكم إليهم الناس في مفاخراتهم وأشعارهم، كما لهم في هذه الأسواق خطباء.
1 قال الفيروزآبادي: "حكام العرب في الجاهلية: أكثم بن صيفي وحاجب بن زرارة والأقرع بن حابس وربيعة بن مخاشن وضمرة بن ضمرة لتميم، وعامر بن الظرب وغيلان بن سلمة لقيس، وعبد المطلب وأبو طالب والعاصي بن وائل والعلاء بن حارثة لقريش، وربيعة بن حذار لأسد، ويعمر الشداخ وصفوان بن أمية وسلمى بن نوفل لكنانة" ا. هـ. انظر في القاموس وشرحه، مادة "حكم".
يغشى الناس الأسواق إذًا لمآرب شتى، وغايات متباينة؛ فمن طالب قاتل أبيه يريد ليعرفه حتى يتربص به السوء فيما بعد، ومن ملتمس حماية شريف من عدو ألد، ومن باغٍ زوجا، أو مستطيل بعز ومنعة، أو جالس ليأتيه أتباعه بإتاوة، ومن عارض سلَب قتيل ليبيعه فيظفر به أهل القتيل، ومن فرسان يتقنعون، بعضهم حذرا من غدر أهل التارات، وآخرون يردون مقنعين خوفا من العين وحذرا على أنفسهم من النساء لجمالهم1، ومن بغايا ضرب عليهن القباب، وشبان يتعرضون للمتبرقعات من النساء
…
إلى آخر ما هناك مما سيمر بك مفصلا، وخاصة عند الكلام على عكاظ.
ولا يقل شأنًا عن النشاط التجاري في أسواقنا تلك، أثر هذا الاختلاط في اللغة والدين والعادات، فإن قيام قريش عليها الأعوام الطويلة قبل البعثة، مكّنها من أن تتبوّأ في اللغة المكان الأعلى؛ لأن لغات القبائل عامة يمنيها وعمانيها وشاميها وعراقيها ونجديها وتهاميها، تطرق مسامعها على الدوام فتختار منها ما يحسن، وتنفي ما يقبح. وقامت على هذا الاصطفاء زمنا كافيا حتى خلصت لها هذه اللغة الممتازة،
1 عدّ أبو الفرج الأصفهاني من هؤلاء: وضاح اليمن والمقنع الكندي وأبا زبيد الطائي. الأغاني 6/ 31 طبعة الساسي.
وتهيأت لينزل بها القرآن الكريم على أفصح وجه، وأبلغه وأتمه كمالا وسلاسة وجمالا.
وكان الشعراء الذين ينظمون لينشدوا بعكاظ، يتوخون اللغة المجمع على فصاحتها، والتي صار لها من النفوذ والشيوع ما للغات العامة اليوم، فكأن لهجة قريش هي اللهجة الرسمية بين لهجات الجزيرة كلها، حتى اليمن والحيرة وغسان1.
أما العادات فما أمرها بالذي يحتاج إلى شرح وتبيين، فإن كل اختلاط بين فريقين لا بد أن ينتهي بأثر في كل منهما؛ فاليمني يقبس شيئا من أخلاق الحجازي، والنجدي يحمل ألوانا من عادات العماني أو الحيري
…
وهلم جرا.
وكذلك قل في الدين، بل إن أثر هذا الاختلاط في الدين أبلغ؛ لقيام الجميع بمناسك واحدة يؤمهم فيها قريش أهل الحرم2.
1 لكن هناك أسواقا على الحدود في شمال الجزيرة كانت مسارب لكثير من الدخيل والمعرب، ثم لفساد اللغة حول عهد الفتوح كسوق الأبلة وسوق الأنبار وسوق الحيرة.
2 ليست هذه الظاهرة "الجمع بين الأهداف الدينية والتجارية" قاصرة على أهل الجزيرة ولا على زمن الجاهلية، بل تكاد تكون سمة عامة في الحضر والبدو حتى هذه الأيام. فازدهار القدس في أعياد الميلاد بالزوار والتجار، ومواسم =
فأعظم آثار الأسواق قبل البعثة هو هذا التوحيد الذي جرى بين القبائل العربية من عامة الأقطار. وأريد أن أنبه بصورة خاصة إلى التوحيد اللغوي، الذي كان للشعراء والحكام فيه على مدى سنين متطاولة أبلغ الأثر، في انتقاء الألفاظ والأساليب وشيوعها بوساطة الرواة في القبائل. وإذا شئت أن أختصر ذلك كله بكلمة واحدة قلت: إن نهضة الشعر مدينة للأسواق، بل مدينة لعكاظ خاصة. عرف لها هذا الأمر منذ الجاهلية وحتى اليوم.
فلما كان الإسلام ضعُف الشعر، وانصرف العرب إلى الفتوح، واشتغلوا بالقرآن والسنة وفهم أحكام الشريعة، فضؤل أمر عكاظ وخمل ذكرها، وانقضى عصر الفتوح وليس لعكاظ عُشر شأنها
= العبادة والتجارة معا في الحجاز أيام الحج أشهر من أن يخفى. بل قرأت عن أسواق "جواتيمالا" الآن بما يشبه ما كان يجري في أسواق العرب في الجاهلية "فقد جعل يوم الأحد فيها هو يوم السوق، ويؤمها الهنود في ذلك اليوم من الجهات المجاورة حتى مسافة خمسين ميلا؛ من أجل التجارة والعبادة في وقت واحد" ويقول المشاهد: "إن يوما واحدا تقضيه في هذا المكان حيث تلتقي التجارة والعبادة في صعيد واحد، سيكسبك إحساسا وفهما للتاريخ البشري أكثر مما تجنيه من مطالعة مائة مجلد في علم حياة الإنسان". من مقال "تقرير عن الفردوس" فيه وصف مسهب لأسواق جواتيمالا، نشرته مجلة المختار "الترجمة العربية، عدد ديسمبر 1944".
الأول
…
حتى إذا أُنشئ المربد استمر أمر عكاظ على التناقص، وأخذ مربد البصرة يحل مكانها ويتمم رسالتها في الأدب والشعر، بل زاد عليها بما استجدّ الإسلام وحالة العرب الاجتماعية المتحضرة، من صنوف في الأدب وألوان في المعاش والاجتماع.
وأصبح المربد مرتادا لعلوم الأدب والنحو واللغة والأخبار والنوادر و
…
يأخذون عن أعرابه الذين لم تخالطهم لوثة العجمة، ما يجعلون منه مادة علمهم وينبوع ثقافتهم.
ولما رسخت قدم المسلمين في المدينة، وتمت لهم المدن الكبرى والعواصم العظيمة المتناهية في الحضارة، أفل نجم هذه الأسواق إذ لم يعد لها من داعٍ، وكانت لم تزل قائمة في الإسلام وعاشت ما يزيد على مائتي سنة. فعكاظ التي أنشئت قبل الهجرة بأكثر من سبعين عاما، أهملت سنة 129 للهجرة، وآخر ما انقرض من الأسواق سوق حباشة؛ تركت عام 197 للهجرة.
وقد آن لنا بعد هذه المقدمة أن نعرض لك معلومات عن أشهر الأسواق في الجاهلية والإسلام، متوسعين ما أمكننا التوسع في الكلام على عكاظ في الجاهلية وعلى المربد في الإسلام؛ إذ هما أعظم سوقين قامتا للعرب. في الأولى ترى أحوال الجاهلية من عامة نواحيها؛
في بيعها وشرائها ودينها واجتماعها وسياستها وحربها وسلمها، وفخرها وأدبها ولغتها وشعرها وعاداتها. وقد حرصت على أن أحافظ على عبارة كبار المؤلفين الذين استقيت هذه المعلومات من كتبهم كالأصفهاني والطبري وابن عبد ربه وابن سعد وابن هشام
…
إلا ما رأيت أن الحاجة تضطرني فيه إلى شيء من التعديل يسير، وفي الثانية ترى كذلك أحوال العرب في الإسلام بالتفصيل المتقدم. واعلم أن حوادث المربد التي سأعرضها عليك يختلف زمن وقوعها بين سنة ست وثلاثين للهجرة وأواخر القرن الثاني الهجري.
لسنا نجد اتفاقا بين قدامى المؤلفين في عدد هذه الأسواق ولا في تحديد أزمنتها؛ فبينا نرى القلقشندي "في صبح الأعشى" يعدها ثمانيا "1/ 410" نرى اليعقوبي في تاريخه "1/ 313، 314" والبغدادي في خزانته "4/ 360 السلفية" يعدانها عشرا، ثم يختلفان عليها فيذكر كل منهما بعضا ويترك بعضا. وجعلها التوحيدي في "الإمتاع والمؤانسة 1/ 85" إحدى عشرة، بينا نراها عند المرزوقي تبلغ سبع عشرة سوقا "الأزمنة والأمكنة"، ثم يأتي الألوسي فيذكر منها في بلوغ الأرب أربع عشرة.
وأقدم المؤلفين وهو محمد بن حبيب، المتوفى سنة 268هـ صاحب
كتاب "المحبَّر" عدّ منها اثنتي عشرة1.
أما الهمداني فنحن معه في حيرة؛ لأنه يقول في كتابه صفة جزيرة العرب "ص179": أسواق العرب القديمة وقد ذكرناها: عدن، مكة، الجند، نجران، ذو المجاز، عكاظ، بدر، مجنة، منى، حجر اليمامة، هجر البحرين، الروض، روضة دعمي، روضة الأجداد
…
إلخ، ثم يسرد أعلاما تبلغ الخمسين.
فطالعت الكتاب المطبوع كله، فلم أجد للأسواق التي قال: إنه ذكرها، ذكرا أبدا.
ولما رجعت إلى ياقوت في كثير من هذه الأعلام لم أجد لها ذكرا البتة. فأيقنت في نفسي أن في هذه الطبعة تشويشا، فإن عده الأسواق ينتهي في السطر الثاني عند قوله "هجر البحرين" ثم يستأنف كلاما
1 نشر هذا الكتاب بعد صدور طبعتنا الأولى بسنوات، وكان الفضل في اطلاعي على فصل أسواق العرب من كتابه المحبر حين صدور الطبعة الأولى من كتابنا هذا، لصديقي المستشرق المرحوم "كرنكو"، إذ أرسل إلي الفصل مصورا سنة 1937م، ففقد مني ثم أرسله إلي بخطه بعد أن نشره بمطبعة حيدر آباد سنة 1361هـ/ 1942م. ولم يبعد صديقي حين كتب إلي يقول:"إن أصل هذه الأخبار "يعني: أخبار أسواق العرب" كلها باب في كتاب المحبر لمحمد بن حبيب في النسخة الوحيدة المحفوظة في المتحف البريطاني" و"لا شك بأن المرزوقي سرق عباراته منه، فزاد أشياء غير مهمة".
جديدا عن الرياض بادئا بروضة دعمي، ثم ينتقل خلاله إلى المياه، وجميع هذه في الكتاب المطبوع ذكرت تحت عنوان "أسواق العرب"، وكان على الناشر "المستشرق الأوروبي" أن يتنبه إلى تغير البحث فيفرد كل بحث تحت عنوان خاص، ولا يحشرها جميعا في جريدة الأسواق.
وسنذكر لك في هذا الكتاب الأسواق المهمة التي ترحل إليها العرب، حاذفين منها ما لا خطر له، وقد بلغنا بها العشرين سوقا.
نستطيع أن نقسم هذه الأسواق أقساما ثلاثة:
1-
أسواق خاضعة لنفوذ أجنبي تدار بنظم خاصة، وتتضاءل فيها الصبغة العربية كما نرى في الحيرة وهجر البحرين وعمان وغيرها من المواطن التي ترين عليها السيطرة الفارسية، وكما نرى في بصرى وأذرعات وغزة وأيلة وغيرها مما يدار بالإدارة الرومانية. والذي ينظر في هذه الأسواق عمال عرب يعينهم ولاة الفرس وولاة الرومان، وهؤلاء العمال الذين يتولون السوق هم الذين إليهم أعشار أهلها.
2-
أسواق أنشأها العرب أنفسهم بحكم الحاجة، فصارت مع الزمن تمثلهم أصدق تمثيل في عاداتهم في البيع والشراء والخصام والدين والزواج والحقوق
…
ولا يشرف عليها إلا سراة أهلها. وهي مرآة العرب في الجاهلية، وبها نستطيع أن نعرف ما كان عليه العرب تقريبا في
معاملتهم وعلائقهم بعضهم ببعض، وهي في أماكن لا أثر للنفوذ الأجنبي عليها، ونمثل لهذا القسم بعكاظ. ولا عاشر في هذا القسم فهو منطقة حرة، والعرب يتبايعون فيه ببيوع خاصة بهم.
3-
أسواق ذات صبغة مختلطة؛ نظرا لموقعها الجغرافي، وهي التي تكون على البحر كعدن وصحار ودبى
…
وفي هذه يجتمع تجار الحبشة والهند والصين وفارس، ويضؤل فيها الطابع القومي بمقدار ما يقوى شأنها التجاري.
ومن الواجب أن ننبه هنا إلى أن أسواقا كثيرة كانت ولم يذكرها المؤلفون؛ لأنهم اقتصروا على الأسواق الموسمية التي تكون من العام إلى قابل، والتي تقصد من بعيد؛ إذ من البديهي أن كل بلدة لها سوق ولها متاع أو محصول تختص به. ومن القريب جدا أن يكون لكل قبيلة أو قبائل متجاورة سوق محلية1 تقوم في وقت معين، فكثيرا ما نجد حول كل ماء سوقا صغيرة يقيمها الضاربون حوله كما نجد مثل
1 مثل "بدر" حيث وقعت غزوة بدر الكبرى، فبدر هذه موسم من مواسم العرب المحلية، تقوم السوق قرب ماء هناك. ونحن نجد في كتب السيرة أن أبا سفيان واعد المسلمين عقب غزوة أحد أن يوافيهم ببدر من العام المقبل، فلما كان الموعد حضر المسلمون ونكل المشركون وبقي الرسول ينتظرهم ثمانية أيام، فأقام المسلمون موسما تجاريا ببدر وربحوا ثم عادوا إلى المدينة فرحين بانتصارهم، إذ خافهم عدوهم فلم يحضر، وبربح تجارتهم فأصبحوا غانمين مهيبين.
ذلك في المحطات الصغرى التي تكون بين البلد والبلد، وكما نجد أيضا في كل مكان يسميه العرب روضة.
وإنما عُني العلماء بالأسواق الكبرى العامة ولم يأبهوا لتلك الأسواق الضئيلة، بل إنهم أهملوا أسواقا كبرى تكون في المدن؛ لأنها لا يرحل إليها إلا القليل منهم من صاحب حاجة، أو غرض خاص. فنجدهم أغفلوا مثلا ذكر "دارين" وهي فرضة بالبحرين، بها سوق يحمل المسك من الهند إليها. واشتهرت هذه شهرة فائقة بتجارة العطر حتى صار معنى الداري "نسبة إلى دارين" هو العطار نفسه، وحتى جاء في الحديث: $"مثل الجليس الصالح مثل الداري، إن لم يحذك "يعطك" من عطره علقك من ريحه" قالوا: "الداري: العطار". وقال الشاعر:
فلما اجتمعنا في العلالي بيننا
…
ذكي أتى من أهل دارين تاجره
وهناك أمتعة اشتهرت بتجويدها قرى مخصوصة كردينة، وهي قرية على شط البحر في المشرق تنسب إليها الرماح، فيقال: الردينيات للرماح المصنوعة هناك، كما يقال للرماح المصنوعة في الخط بالبحرين:"الخطية".
فلا شك أن مثل هذه الأماكن المشهورة يقصدها تجار هذا الصنف أو الراغبون فيه، وتقوم له شبه أسواق دائمة إلا أنها غير عامة
وهي قاصرة على ضرب واحد فقط؛ فلهذا لم يعبأ بها المؤلفون.
ثم نجدهم أغفلوا مواضع مهمة تقوم فيها أسواق ربما لا تقل شأنا عن التي أفردوها بالذكر، كالطائف وكأسواق العراق وكالسوق التي يقيمها النبط في المدينة أحيانا. فإنا نعلم أن الطائف مدينة قديمة جاهلية وهي "بلد الدباغ يدبغ بها الأهب الطائفية المعروكة" ولأهلها زراعة وتجارة وغنى، وربما قاربوا قريشا في شأنها التجاري. أما العراق فالظاهر أن للعرب فيها أسواقا1 يرحلون إليها كما يرحلون إلى التي في الشام، وخصوصا الحيرة، فإن شهرتها في تاريخ العرب وأدبهم تنم عن مكانتها التجارية. ولقريش رحلات إلى سوق الحيرة وفيها تعلموا الكتابة ومنها انتشرت في العرب. وصاحبها النعمان يجهز سنويا لطائمه إلى عكاظ وإلى اليمن. حتى إنا لنجد في بعض النصوص ما يدل على أن ضرائب منظمة تستوفى في أسواق العراق مما يباع، قال الشاعر:
1 نرى في المصادر القديمة ذكرا لسوق بغداد أيام الفتح الإسلامي، ولعل المدينة أنشئت حيث تقام هذه السوق أو بالقرب منها ثم حملت اسم السوق القديمة "بغداد". فقد ذكر الطبري في حوادث سنة "76" أن شبيبا الخارجي أقبل "حتى قطع دجلة عند الكرخ، وبعث إلى سوق بغداد فآمنهم، وذلك اليوم يوم سوقهم، وكان بلغه أنهم يخافونه فأحب أن يؤمنهم، وكان أصحابه يريدون أن يشتروا من السوق دواب وثيابا وأشياء ليس لهم منها بد" ثم أخذ بهم نحو الكوفة
…
إلخ. تاريخ الطبري 7/ 230، 231 الطبعة الأولى بالمطبعة الحسينية.
أفي كل أسواق العراق إتاوة
…
وفي كل ما باع امرؤ مكس درهم
قال صاحب المخصص1: "المكس: انتقاص الثمن في البياعة، ومنه أخذت المماكسة لأنه يستنقصه". وقيل: "المكس: دراهم كانت تؤخذ من بائع السلع في أسواق الجاهلية، ويقال للعشار: صاحب المكس". ا. هـ.
أهملوا كل هذا، كما أهملوا أسواقا ثانوية تقام في نجران وبدر ومنى وأمثالها كثير؛ لما قدمنا من فقدان الصبغة العامة فيها.
وهذه جرائد بأسماء الأسواق وترتيبها عند كل من المؤلفين الثمانية الذين أشرت إليهم آنفا2، وكلها تبدأ بسوق دومة الجندل في ربيع الأول، مع ذكر مواقيتها إن كان لها مواقيت وذكر عاشرها الذي يجبي الضرائب فيها إن كان لها عاشر.
1 12/ 153.
2 لابن الكلبي، كتاب أسواق العرب. انظر ص77 من كتابه "الأصنام"، طبع دار الكتب المصرية.
3-
صفة جزيرة العرب للهمداني، المتوفى سنة 334هـ:
السوق الزمن العاشر
1-
عدن
2-
مكة
3-
الجَنَد
4-
نجران
5-
ذو المجاز
6-
عكاظ
7-
بدر
8-
مجنة
9-
منى
10-
حجر اليمامة
11-
هجر البحرين
فهذه ست وعشرون سوقا، فإذا حذفنا منها خمسا انفرد بها الهمداني وهي: بدر والجَنَد ومكة ومنى ونجران، واثنتين انفرد بإحداهما المرزوقي وهي الأسقى والثانية شاركه فيها التوحيدي وهي سوق أدم، وأضفنا لها سوقا مهمة أغفلها كلهم وهي سوق الحيرة، وأضفنا كذلك السوق التي أنشئت في الإسلام وهي المربد، بقي لنا إحدى وعشرون سوقا سنتعرض لها جميعا بما تقتضيه مكانتها. أما الأسواق الضئيلة الشأن فهي صورة مختصرة عما سنتحدث عنه، وأما الخطيرة كمكة والمدينة فهي دائمية وليست بموسمية، وفي ذكر الأسواق المتاخمة لها غنى عن التعرض لها.
هذا، ولعل السبب في اختلافهم في تاريخ قيام الأسواق أن العرب لم يكونوا يلتزمون كل سنة يوما معينا لإقامة السوق ويوما لتقويضها، بل يتقدم هذا اليوم في بعض السنين ويتأخر في بعض، وقد يهرع أقوام إلى السوق قبيل ميعادها وقد يتخلف آخرون بعد انقضائها إذا لم تنته أعمالهم، وقد تختلف العادة سنة عن سنة، فمن هنا كان هذا التفاوت اليسير.
ثم قد نصّ محمد بن حبيب صاحب المحبر، وهو أقدم المؤلفين وأدقهم وأنا إلى أرقامه أكثر اطمئنانا، نصّ على أن سوقين تقومان في زمن واحد، وهما سوق الرابية بحضرموت وسوق عكاظ، فيأخذ بعض العرب إلى الأولى وبعض آخر إلى الثانية1.
1 انظر "المحبر" ص267 "مطبعة حيدر آباد الدكن سنة 1942م".