المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سوق المربد: ننتقل من أسواق العرب في الجاهلية إلى أسواقها في - أسواق العرب في الجاهلية والإسلام

[سعيد الأفغاني]

الفصل: ‌ ‌سوق المربد: ننتقل من أسواق العرب في الجاهلية إلى أسواقها في

‌سوق المربد:

ننتقل من أسواق العرب في الجاهلية إلى أسواقها في الإسلام. ونلاحظ أننا لا نرى في هذه الأسواق الشأن الكبير الذي كان لأسواق الجاهلية؛ لأن العرب -كما تقدم- تحضّرت وسكنت الأمصار وكثرت فيها الأسواق الدائمة تحوي كل نوع من أنواع البضائع المعروفة لهم. فلم تستجد في الإسلام سوق لم تكن في الجاهلية، إلا ما كان من أمر المربد1 الذي ورث عكاظ، وقضى على ما كانت تتمتع به من ميزات، منذ عصر الراشدين، وأخذ أمر المربد "عكاظ الإسلام" بالازدياد حين بدأ شأن عكاظ "الجاهلية" بالخمول فالانتقاص فالموت.

نزلت العرب البصرة سنة أربع عشرة، ومصّرتها سنة سبع عشرة على تخطيط وضعه عمر وأرسل من يقف على تنفيذه. وكان المربد على الجهة الغربية من البصرة إلى البادية، ليكون أول ما ينزلون إذا قصدوا البصرة، وآخر ما يتركون إذا رحلوا عنها؛ ليقضوا فيه متاعا لهم ومرافق يتبلّغون بها في ظعنهم وإقامتهم.

1 المربد على وزن منبر، هذا هو المشهور. وكان الأخفش يقول: المربد كمسجد. انظر شرح مقصورة ابن دريد ص41 الطبعة الثانية "مصر 1328هـ". هذا وللكوفة سوق تعرف بـ "الكناسة" ليس لها ذلك الشأن.

ص: 407

معنى المِرْبَد: محبِس الإبل ومربطها. والمربد أيضا: بيدر التمر؛ لأنه يربد فيه فيشمس. والرُّبدة: لون إلى الغبرة.

ومربد البصرة هذا متسع للإبل تربد فيه للبيع. وكان في الأصل سوقا للإبل، حتى إذا كان عهد الأمويين صار سوقا عامة تتخذ فيه المجالس ويخرج إليها الناس كل يوم، كل إلى فريقه وحلقته وشاعره، وتتعدد فيه الحلقات يتوسطها الشعراء والرجاز ويؤمها الأشراف، وسائر الناس يتناشدون ويتفاخرون ويتهاجون ويتشاورون، وقد وجدوا فيه مستجما لأبدانهم وأرواحهم التي نهكتها الفتوحات، وحنت إلى سابق عهدها في عكاظ فجددت منه ما سمح به الدين الجديد. بل غضت النظر فتسامحت أحيانا وأحيت ما أمات الإسلام من حمية جاهلية وإحن وثارات وأثارت عداوات. كان يبعثها الناس من تلقاء أنفسهم، أو بتشجيع خفي من بعض خلفاء الأمويين؛ ليشغلوا الناس بعضهم ببعض عن الخلافة وما يأتي الخلفاء من هنوات.

فالمربد معرض لكل قبيلة تعرض فيه شعرها ومفاخرها كما تعرض عروضها. وهو مجتمع العرب ومتحدثهم ومتنزه البصريين، يؤمه منهم من عاف رخاوة المدن. وما زال يعلو شأنه وتستجيب له أسباب الكمال، حتى اشتد ولوع الناس به وارتيادهم له. ويظهر أن الأمر

ص: 408

زاد على ما نعرف للمنازه اليوم من خطر، فقد بنيت فيه الدور الجميلة، وتفاقم أمره حتى صار من الضروري لكل أحد في عصر العباسيين أن يغشى المربد، إن لم يكن لحاجة فلترويح النفس وتمتيع البصر وترويض البدن، وحتى قال جعفر بن سليمان الهاشمي جملته المشهورة:

"العراق عين الدنيا، والبصرة عين العراق، والمربد عين البصرة، وداري عين المربد"1. وما زال في مجده هذا حتى خرب وخربت البصرة وتقلص العمران بينهما إلى أن صار بين المربد والبصرة ثلاثة أميال خراب على عهد ياقوت2 الذي ذكره في معجمه، فقال:

"مربد البصرة من أشهر محالها. وكان يكون سوق الإبل فيه قديما ثم صار محلة عظيمة سكنها الناس، وبه كانت مفاخرات الشعراء والخطباء. وهو الآن بائن عن البصرة نحو ثلاثة أميال وكان ما بين ذلك كله عامرا وهو الآن خراب، فصار المربد كالبلدة المنفردة في وسط البرية".

نقلت قول ياقوت هذا في البصرة ومربدها؛ لأقول: إن الذي طرأ عليها من الخراب والتأخر طرأ على العراق كله؛ فمن يقرأ وصف العراق وبلدانه وجنانه ونعيمه وسكانه وعمرانه وخيراته

في كتب

1 ثمار القلوب ص128.

2 توفي ياقوت سنة 626هـ.

ص: 409

الأدب، وخاصة في المائة الثانية والثالثة والرابعة للهجرة، ثم يرحل إليه أول هذا القرن، لا يجد وصفا للعراق أصدق من قول ياقوت في تلك الأميال الثلاثة التي كانت عمرانا متصلا بين البصرة ومربدها، وأصبحت على عهده خرابا يبابا أفرد المربد من أمه وكان سوقا من أسواقها، وجعله قرية بائنة لا خطر لها.

ولئن كان لعكاظ ذلك الأثر في اللغة العربية: ألفاظها وأساليبها، فإن المربد كان له أيضا في اللغة أثر بعيد يختلف بعض الاختلاف عن أثر عكاظ؛ لما بين الزمانين والمكانين من التباين، فعكاظ في قلب الجزيرة العربية يحج إليها أشراف العرب وفصحاؤها، لا عجمة فيها ولا أثر لأعجميين البتة. والأمر في المربد على العكس: هو في طرف الجزيرة على الخليج الفارسي، وبينه وبين الفرس قرب قريب. وزاد الإسلام والفتوح اختلاط العرب بالعجم فتطرق إلى اللغة الفساد والعجمة واللحن وغشي هذا الضعف مجالس الخاصة من العرب، وأزرى بلهجات الفصحاء حتى صرت تسمع الأمير على المنبر في المواسم يلحن على ملأ من الأعراب والبلغاء والأشراف، فعِيب على الحجاج لحن وأُثر عن عبيد الله بن زياد مثله، وكذلك نقلت لحنات

ص: 410

عن أشراف العرب1. فكان المربد يعجّ بأعلام اللغة والأدب والشعر والنحو، معهم محابرهم ودفاترهم يكتبون عن فصحاء الأعراب فيه، وهذه الظاهرة لم تكن في عكاظ قط، فهذا أبو عمرو بن العلاء يسأل الأصمعي: "من أين أقبلت؟ " فيجيبه: "جئت من المربد" فيقول: "هات ما معك"، فيقرأ عليه الأصمعي ما كتب في ألواحه، فإذا ستة أحرف "كلمات" لم يعرفها أبو عمرو، فيخرج يعدو في الدرجة ويقول للأصمعي: "شمّرت في الغريب" أي: غلبتني2.

ويشبه المربد عكاظ في أمر الشعر وحلقاته، بل يزيد عليه، فلكل شاعر حلقة، ولكل متهاجيين مجلس، ولكل قبيلة نادٍ وشاعر يذود عنها، ويرد عدوان قريعه من القبيلة الثانية. فللعجاج ولرؤبة حلقة، ولأبي النجم العجلي حلقة، ولجرير والفرزدق وراعي الإبل وذي الرمة، لكل منهم حلقة. وكثر هذا المحصول من الرجز والشعر والنكات الأدبية كثرة ملأت أمهات كتب الأدب بأخبارها، ولا شك في أن المربد في هذا فاق عكاظ مراحل واسعة، وفاته بعدد الشعراء والرجّاز وكثرة الروّاد وطلاب الأدب. وفي المربد أطفئت ثالثة

1 انظر كتابنا في أصول النحو ص8-14 "مطبعة الجامعة السورية" سنة 1957.

2 النوادر للقالي ص182.

ص: 411

جمرات العرب، أطفأها جرير بقصيدته الدمّاغة. كان لكل من الشعراء رواة ينقلون له ما قاله خصمه وينشرون في الناس جواب شاعرهم عليه، وكان اهتمام الناس بالشعر والأدب من أقوى الأسباب العاملة في غزارته، وكثرة المقبلين على تعلمه وروايته.

ويتفرد المربد بأمر علمي محض لم يكن له في عكاظ من أثر، وهو أنه أرفد اللغة بمادة كثيرة، عليها أسس النحاة قواعدهم وأصلحوها، وذلك بما كانوا يقصدون له فصحاء الأعراب يسألونهم فيما فيه يختلفون، ويأخذون عنهم مستفيدين ومتعلمين. وحسبك أن تقرأ أيا شئت من كتب الأدب الأصول كالأغاني والأمالي والبيان والتبيين والكامل و

لتجد أن أكثر مادتها فيما يتعلق بالعصر الأول والثاني للهجرة، كان المربد ميدانه وينبوعه. وخذ إن أردت كتب التاريخ الكبرى كالطبري مثلا ثم أبلغ في فهرس أماكنه إلى المربد، يأخذك العجب من كثرة المواطن التي ورد ذكر المربد فيها مع أن الكتاب كتاب سياسة وأخبار ملوك لا كتاب عامة وأدب.

فمن المربد، وعلى هامشه غُذِّي الأدب بقصص وأساطير كما غذي التاريخ بالأخبار الواقعة، ووضع من وضع من الرواة والأخباريين أحاديث حاكوا بها ما وقع. وفي حلقاته اصطرعت الأهواء المتباينة

ص: 412

والنزعات المتضاربة، استغلها الشعوبيون والمنافحون عن الحقائق على السواء، وشهدت هجوما من أولئك ودفاعا من هؤلاء.

والغريب أن هذا المربد لم يكتف بأن يستأثر بكل ميزة كانت لعكاظ، بل جمعها وضم إليها ميزات جديدة أفادها من خصائص عصره وطبيعة اجتماعه، فإن كانت في عكاظ حروب موضعية بين قبيلتين، فإن المربد كان ميدانا لأكبر فتنة وأشد حرب داخلية وقف فيها المسلم أمام المسلم يكافحه بسيفه ويشرع إليه رمحه. كان المربد ميدانا لإحدى مواقع الجمل، أول حرب فرقت كلمة هذه الأمة المخيفة وجعلت بأسها بينها، وكانت حلقة أولى في هذه السلسلة الطويلة التي نخرت الجسم الإسلامي ومكنت عدوه منه، وكانت أفتك به من كل حرب صليبية وغارة تترية ووحشية أوروبية.

فلأعرض على القارئ مشهدا صغيرا مما جرى في المربد من هذه الحرب، ليحمل باقي المشاهد عليه:

خرجت السيدة عائشة مطالبة بدم عثمان، ناقمة على خلافة علي، ومعها مشيخة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرين وأنصارا، منهم الزبير وابنه، وطلحة وابنه، ونفر من بني أمية فيهم مروان بن الحكم، وآخرون غير هؤلاء، فقصدت البصرة لأن لها فيها نفرا على رأيها.

ص: 413

وكان على البصرة عثمان بن حنيف واليا لعلي، وقد مهدت لأمرها بكتب أرسلتها إلى رؤساء البصرة وساداتها، فأجابها قليل ورد عليها قوم وحايد قوم. بعد هذا التمهيد القصير أنقل وصف هذا المشهد، معتمدا على ما جاء في تاريخ الطبري:

"أقبلت عائشة فيمن معها حتى إذا انتهوا إلى المربد ودخلوا من أعلاه، أمسكوا ووقفوا وتلقاهم الناس حتى لو رموا بحجر ما وقع إلا على رأس إنسان. وخرج عثمان أمير البصرة لعلي فيمن معه، ولحق بعائشة من أهل البصرة من شاء حتى غصّ المربد بالناس واحتلّ طلحة والزبير وجموعهما ميمنة المربد واحتل عثمان بمن معه ميسرته، فوقف طلحة يتكلم فأنصتوا له:

فحمد الله وأثنى عليه وذكر عثمان رضي الله عنه وفضله والبلد وما استحل منه بقتل عثمان الخليفة، وعظم ما أُتي إليه. ودعا إلى الطلب بدمه وقال: إن في ذلك إعزازا لدين الله عز وجل وسلطانه، وأما الطلب بدم الخليفة المظلوم فإنه من حدود الله، وإنكم إن فعلتم أصبتم وعاد أمركم إليكم، وإن تركتم لم يقم لكم سلطان ولم يكن لكم نظام. وتكلم الزبير بمثل ذلك، فقال من بميمنة المربد وكانوا يحطبون في حبل الخارجين على عليٍّ: "صدقا وبرا وقالا الحق وأمرا

ص: 414

بالحق". وقال من في ميسرته: "فجرا وغدرا وقالا الباطل وأمرا به، قد بايعا ثم جاءا يقولان ما يقولان" وتحاثى الفريقان وتحاصبوا وأرهجوا1.

فتكلمت عائشة وكانت جهورية يعلو صوتها كثرة كأنه صوت امرأة جليلة، فحمدت الله وأثنت عليه وقالت: "كان الناس يتجنون على عثمان رضي الله عنه ويُزرون على عماله ويأتوننا بالمدينة فيستشيروننا فيما يخبروننا عنهم ويرون حسنا من كلامنا في صلاح بينهم، فننظر في ذلك فنجده بريئا تقيا وفيا ونجدهم فَجَرَة غَدَرَة كَذَبَة، يحاولون غير ما يظهرون. فلما قووا على المكاثرة كاثروا، فاقتحموا عليه داره واستحلوا الدم الحرام والمال الحرام والبلد الحرام بلا ترة ولا عذر.

ألا إن مما ينبغي -ولا ينبغي لكم غيره- أخذ قتلة عثمان رضي الله عنه وإقامة كتاب الله عز وجل وتلت: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ} 2".

1 تحاثى: ترامى، والحثى: التراب. تحاصبوا: تراموا بالحصبة، وهي الحجارة. وأرهجوا: أثاروا الرهج وهو الغبار.

2 سورة آل عمران: الآية 23.

ص: 415

فماج الناس، وافترق أصحاب عثمان بن حنيف بعد سماعهم ما تقدم فرقتين، فقالت فرقة:"صدقت والله وبرت، وجاءت والله بالمعروف" وقال الآخرون: "كذبتم، والله ما نعرف ما تقولون" فتحاثوا وتحاصبوا وأرهجوا

أوقعت هذه الخطب الانقسام في جماعة عثمان نفسه، ولما رأت عائشة ذلك انحدرت وانحدر أهل الميمنة مفارقين لعثمان حتى وقفوا من المربد في موضع الدباغين. وبقي أصحاب عثمان على حالهم يتدافعون حتى تحاجزوا ومال بعضهم إلى عائشة وبقي بعضهم مع عثمان. وأتى عثمان فيمن معه حتى إذا كانوا على فم السكة سكة المسجد عن يمين الدباغين استقبلوا الناس، فأخذ عليهم بفمها.

كاد الأمر يقف عند هذا، فإن أصحاب عائشة ما أرادوا حينئذ قتالا، ولكن جماعة في أصحاب عثمان -ولعل أكثرهم ممن اشترك في دم الخليفة الشهيد- تعجلوا الحوادث وأرادوا بدء القتال، وكان حكيم بن جبلة على الخيل وهو أول من أقبل ينشب القتال، وأشرع أصحاب عائشة رضي الله عنها رماحهم، وأمسكوا ليمسك أصحاب عثمان، فلم ينته حكيم ولم يُثْنَ، وقاتلهم، وأصحاب عائشة كافّون، إلا ما دفعوا عن أنفسهم، وحكيم

ص: 416

يُذَمِّر1 خيله ويركبهم بها، ويقول:"إنها قريش، ليُرْدِيَنّها جبنها والطيش" واقتتلوا على فم السكة. وأشرف أهل الدور -والموقعة بجوارهم، والمربد يومئذ سوق داخلة في البلد حولها البيوت- ممن كان له في واحد من الفريقين هوى، فرموا الآخرين بالحجارة. وأمرت عائشة أصحابها فتيامنوا حتى انتهوا إلى مقبرة بني مازن، فوقفوا بها طويلا وثار إليهم الناس حتى حجز الليل بينهم"2.

هذا حادث من حوادث كثيرة وقعت في المربد، واستمرت حتى انتهت حرب الجمل باندحار أصحاب عائشة. ذكرته ليقف القارئ على صورة من هذه المأساة الفادحة التي كانت وما بعدها سببا في فُرقة المسلمين وحدوث طوائف ونحل يلعن بعضها بعضا ويحمل بعضها على بعض، تتناكر وتتقاذف وترى كل منها أن غير المسلم أقرب إليها من أهل الطائفة الثانية. وكثيرا ما استعان بعضها على بعض بالأجنبي عدوهما معا، بل كثيرا ما عمل الدخيل على توسيع الشقة بينهما وقوّى بعضا على بعض وأمد الفريقين من وراء وراء، بالسلاح والمال ليفنيا جميعا.

1 التذمير: الحث والحض.

2 ارجع في تفاصيل هذه الموقعة ومعرفة أسبابها ومسببها الحقيقيين إلى كتابي "عائشة والسياسة"، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، سنة 1947هـ.

ص: 417

وتمضي عشرات السنين ويصلى العراق بسطوة الحجاج وإرهابه، وتشتد الوطأة فلا يكون المتنفس إلا في المربد، حيث يخطب الناسَ الزعيمُ الثائر عبد الرحمن بن الأشعث قائلا:

"أيها الناس! إنه لم يبق من عدوكم إلا كما يبقى من ذَنَب الوَزَغة، تضرب به يمينا وشمالا فلا تلبث أن تموت" فتقوى بهذا الكلام نفوس الثائرين إلا رجلا من بني قشير لا يعجبه كلام ابن الأشعث فيقول:

"قبّح الله هذا، يأمر أصحابه بقلة الاحتراس من عدوهم ويعدهم الغرور"1 فيكون أشد على الحجاج من ابن الأشعث، إذ أراد التي هي أحزم.

كان في المربد إذن أدب وتجارة وحرب2 وسياسة كما كان في عكاظ. وأستطيع أن أقسم الكلام على المربد أقساما ثلاثة كان

1 الكامل للمبرد 1/ 159.

2 ثم كان مسرحا لفتن قبلية، يذكر إحداها الفرزدق مفتخرا:

عشية سال المربدان كلاهما

عجاجة موت بالسيوف الصوارم

والمربد واحد لا اثنان، وإنما أراد الفرزدق: المربد وما يليه مما جرى مجراه، والعرب تفعل هذا في الشيئين جريا في باب مجرى واحدا. الكامل للمبرد ص82 طبعة ليدن.

ص: 418

شأنه في كل منها مختلفا.

أما الأول فعلى عهد الراشدين، إذ كان يقتصر أمره على التجارة غالبا وإن لم يعدم يوما أن كان ساحة حرب ومسرح مآسٍ. وقد عرفنا مما ذكر الطبري أن به موضعا للدباغين. فالمربد إذن سوق البصرة أيام الراشدين وأغلب ما يتاجر فيه التمر وما إليه والإبل والسلاح والغنائم مما كان يقسم على المحاربين، فيبيعه هؤلاء في المربد.

ثم يأتي العهد الثاني أيام الأمويين وقد اتسعت السوق وكثر قاصدوها من الأطراف، وازدهت بالشعراء والأدباء والعلماء ووفود القبائل، مما لم يكن في العهد الأول؛ لانشغال الناس آنئذ بالجهاد والفتوح، وعدم فراغ لهذه الألوان من الأدب التي لا تغزر وتتهيأ إلا بعد استتباب حال الدولة، ولم نعهد حركة أدبية نشأت إبان الفتوح حين تتأسس الدول.

وازدان هذا العهد بأفحل رجاز وشعراء أخرجهم العهد الأموي، وأخص بالذكر جريرا والفرزدق والأخطل والبعيث وراعي الإبل وذا الرمة، ومن الرجاز رؤبة وأباه العجاج وأبا النجم العجلي وهذا الفريق.

أما في العهد الثالث، أي: بين آخر العصر الأموي والقرن الثاني

ص: 419

للهجرة، فقد نضجت حركة المربد الأدبية والعلمية نضجا يتسق هو وما وصلت إليه الدولة من حسن الحال وسعة الأفق ومرافق الحضارة وبسطة العلم وسعة السلطان. وكان من أبطال المربد أكابر النحاة ورواة الشعر والأدب والشعراء. والذي كان جديدا في هذا العهد ولم يكن قبل، الناحية العلمية، وأعني بها ما كان يصنعه أبو عمرو بن العلاء والأصمعي وقبيلهما من غشيان لفصحاء1

1 كان المربد مدرسة عملية تعلم الفصاحة، ويُهرع إليه طلابها من كل وجه ونبغ منهم عدد غير قليل، والنظام والجاحظ من مشهوريهم، فقد ذكر المؤرخون أن الثاني تلقف الفصاحة شفاها بالمربد. وأهل البصرة في الجملة من أفصح أهل الأمصار، بل إن الجاحظ ليذهب أبعد من ذلك، فيزعم أنهم أفصح أهل الأمصار عامة، ولسنا نستطيع أن ننسب هذا منه إلى عصبية لبلده. جاء في كتابه البيان والتبيين "1/ 33 السندوبي":

"قال أهل مكة لمحمد بن مناذر الشاعر: "ليست لكم -معاشر أهل البصرة- لغة فصيحة، إنما الفصاحة لنا أهل مكة" فقال ابن مناذر: "أما ألفاظنا فأحكى الألفاظ للقرآن، وأكثرها له موافقة، فضعوا القرآن بعد هذا حيث شئتم:

أنتم تسمون القدر: بُرمة، وتجمعون البرمة على برام، ونحن نقول: قدر ونجمعها على قدور، وقال الله عز وجل:{وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} [سبأ: 13] .

وأنتم تسمون البيت إذا كان فوق البيت علية، وتجمعون هذا الاسم على علالي ونحن نسميه غرفة ونجمعها على غرفات وغرف، وقال الله تبارك وتعالى:{غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ} [الزمر: 20] وقال: {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سبأ: 37] .

وأنتم تسمون الطلع: الكافور والإغريض، ونحن نسميه الطلع، وقال الله عز وجل:{وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ} [الشعراء: 148]" فعدّ عشر كلمات، ولم أحفظ أنا منها إلا هذا".

ص: 420

الأعراب وصبر على لوثتهم وجفائهم، وتلقف لما ينطقون به وإثبات له في الصحف، يروونه ليبنى عليه الأساس في وضع القواعد العربية.

قال صاحب ضحا الإسلام "2/ 80" وفي قوله إجمال ما قدمت:

كان المربد في عصر الخلفاء الراشدين والأمويين مركزا سياسيا وأدبيا، نزلت فيه عائشة أم المؤمنين بعد مقتل عثمان تطالب بدمه وتؤلِّب الناس على علي، وكان المربد مركزا للمهاجاة بين جرير والأخطل والفرزدق، وأنتج ذلك نوعا من أقوى الشعر الهجائي كالذي نقرؤه في النقائض، وكان لكل من هؤلاء الشعراء حلقة ينشد فيها شعره، وحوله الناس يسمعون. جاء في الأغاني "وكان لراعي الإبل والفرزدق وجلسائهما حلقة بأعلى المربد في البصرة".

واستمر المربد في العصر العباسي، ولكنه كان يؤدي غرضا

ص: 421

آخر غير الذي كان يؤديه في العهد الأموي؛ ذلك أن العصبية القبلية ضعفت في العصر العباسي بمهاجمة الفرس للعرب، وأحس العرب بما هم فيه جميعا من خطر من حيث هم أمة لا فرق بين عدنانيهم وقحطانيهم، ولكنهم لم يستطيعوا المقاومة، فقوي نفوذ الفرس وغلبوا العرب على أمرهم، وبدأ الناس في المدن كالبصرة يحيون حياة اجتماعية هي أقرب إلى حياة الفرس منها إلى حياة العرب، وانصرف الخلفاء والأمراء عن مثل النزاع الذي كان يتنازعه جرير والفرزدق والأخطل، وظهرت العلوم تزاحم الأدب والشعر، وفشا اللحن بين الموالي الذين دخلوا في الإسلام، وأفسدوا حتى على العرب الخالصة لغتهم، فتحول المربد يؤدي غرضا يتفق "هو" وهذه الحياة الجديدة.

أصبح المربد غرضا يقصده الشعراء لا ليتهاجوا، ولكن ليأخذوا عن أعراب المربد الملكة الشعرية يحتذونهم ويسيرون على منوالهم، فيخرج إلى المربد بشار وأبو نواس وأمثالهما، ويخرج إلى المربد اللغويون يأخذون عن أهله ويدوّنون ما يسمعون. روى القالي في الأمالي عن الأصمعي قال:"جئت إلى أبي عمرو بن العلاء فقال لي: "من أين أقبلت يا أصمعي؟ " قلت: "جئت من المربد"، قال: "هات ما معك" فقرأت عليه

ص: 422

ما كتبت في ألواحي، فمر به ستة أحرف لم يعرفها، فخرج يعدو في الدرجة وقال:"شمّرت في الغريب" أي: غلبتني.

والنحويون يخرجون إلى المربد يسمعون من أهله ما يصحح قواعدهم ويؤيد مذاهبهم؛ فقد اشتد الخلف بين مدرسة البصرة ومدرسة الكوفة في النحو وتعصب كل لمذهبه، وكان أهم مدد لمدرسة البصرة هو المربد1. وفي تراجم النحاة نجد كثيرا منهم كان يذهب إلى المربد يأخذ عن أهله. ويخرج الأدباء إلى المربد يأخذون الأدب، من جمل بليغة وشعر رصين وأمثال وحكم، مما خلفه عرب البادية وتوارثوه عن آبائهم، كما فعل الجاحظ: إن الجاحظ أخذ النحو عن الأخفش، وأخذ الكلام عن النظّام، وتلقّف الفصاحة من الأعراب شفاها بالمربد" ا. هـ.

وكما كانت عكاظ يؤمها كل من أراد أن يفتخر أو يعلن أمرا تفرد به أو يشيع في الناس مأثرة أو خبرا، كان المربد كذلك

1 قلت: أقام الكوفيون "سوق كُناسة" بالكوفة؛ لتقوم لهم بما يقوم المربد للبصريين، فلم يفلحوا ولم تذكر سوقهم قط ولا قصدها مثل من يقصد البصرة من فصحاء العرب وخطبائهم وشعرائهم ورجازهم، بل كانت إلى إفساد اللغة أقرب. انظر كتابي "في أصول النحو" ص190 "طبعة ثانية".

ص: 423

منشرة للمحامد والمساوئ، مسرة الصديق وغيظ العدو، فكل من أراد أن يكبت خصما أو يحقر قبيلة أو يشهر محمدة طلب لها المربد يجعلها فيه؛ لتكون أشيع وأسير وأبلغ في الإرضاء والإغاظة. وقد كان المربد مسرحا لدعوات سياسية ودينية واستغاثات وشكوى ورثاء وفخر كما كانت عكاظ. وأحفل ما كان المربد، في النصف الثاني لعهد الأمويين والثلث الأول لعهد العباسيين. فلأشرع في عرض مناظر تكمل الصورة التي وصفت ليكون القارئ ملما بجميع ما يعرض ويجري في المربد على اختلاف المناحي والغايات، وقد تقدمت صورة على عهد الراشدين وهي حرب الجمل. ولا ريب في أن المربد لم يستفحل أمره وتتعدد مقاصده إلا فيما بعد، في الزمن الذي ذكرت لك من أيام بني أمية وبني العباس:

1-

عوذ بقبر:

عبد مكاتَب لبني مِنْقَر، ضاقت حاله ولم يقدر على حيلة يجمع بها المال لسيده حتى يعتقه، فلما عيّ بالأمر أتى قبر غالب أبي الفرزدق، فضرب قبة عليه علامة الاستعاذة والاستغاثة، فقدم الناس فأخبروا الفرزدق أنهم رأوا بناء على قبر غالب أبيه.

قصد المكاتب المربد وتقصى الحلقات حلقة حلقة، حتى وقف على حلقة الفرزدق حيث يجلس، فقال:

ص: 424

بقبر ابن ليلى غالب عذت بعدما

خشيت الردى أو أن أرد على قسْر

فخاطبني قبر ابن ليلى وقال لي:

فكاكك أن تلقى الفرزدق بالمصر

فقال له الفرزدق: "صدق أبي، أَنِخْ أَنِخْ". ثم طاف على الناس حتى جمع له كتابته وفضلا فضل للمكاتَب، فانصرف وقد أنجح مسعاه.

2-

مجنون في حب:

كان بالبصرة مجنون قاعد على ظهر الطريق بالمربد، فكلما مر به ركب قال:

ألا أيها الركب اليمانون عَرِّجوا

علينا فقد أمسى هوانا يمانيا

نسائلكم: هل سال نعمان بعدكم

وحبّ إلينا بطن نعمان واديا

فسألت عنه، فقيل: هذا رجل من البصرة، كانت له ابنة عم يحبها، فتزوجها رجل من أهل الطائف فنقلها، فاستوْله عليها1.

3-

إنهاب مال:

كان زياد قد نهى أن يُنهب أحد مال نفسه، وكان الفرزدق أنهب ماله بالمربد. وذلك أن أباه بعث معه إبلا ليبيعها فباعها وأخذ ثمنها، فعقد عليه مطرف خز كان عليه، فقال قائل:"لشد ما عقدت على دراهمك هذه، أما والله لو كان غالب ما فعل هذا الفعل! ".

فحلها الفرزدق ثم أنهبها، وقال:"من أخذ شيئا فهو له".

وبلغ ذلك زيادا فبالغ في طلبه فهرب، فلم يزل زياد في طلبه، قد بلغ منه كل مبلغ ليعاقبه على ما صنع، وقد نهى زياد في ذلك ألا يفعله أحد.

1 الأمالي 2/ 126. والوله: ذهاب العقل من حزن، والحيرة والخوف.

ص: 425

وكان زياد إذا قال شيئا وفى به. فلم يزل في هربه ذلك يطوف في القبائل والبلاد حتى مات زياد1.

4-

غلام يخجل الفرزدق:

كان الفرزدق ينشد شعره بالمربد والناس مجتمعون حوله، إذ مر به الكميت وهو غلام فوقف، فقال له الفرزدق:"ليسرك أني أبوك؟ " فقال الغلام: "أما أبي فلا أريد به بديلا، ولكن يسرني لو كنت أمي ليذوق أبي عُسَيْلتك" فقال الفرزدق: "اكتمها على عمك يابن أخي، فما مر بي مثلها! "2.

5-

تهديم دور الهجائين:

كان للبصرة والٍ متنسك يروى عنه الفقه، اسمه الحارث بن عبد الله المخزومي ولقبه القُباع3. بلغه ما يكون في المربد من الشر بين جرير والفرزدق وبين حييهما بسببهما. ولما رأى أنهما غير منتهيين عن ذلك، أراد أن يخطو الخطوة الحاسمة بحزم، فأمر بالدار التي ينزلها جرير في المربد والدار التي ينزلها الفرزدق في المقبرة فهدمتا.

وكان القباع قد أراد هدم دار الفرزدق قبل هذه المرة أيضا في شيء بلغه، ثم إنه كُلِّم فيه وهرب الفرزدق.

1 النقائض ص607.

2 المستجاد من فعلات الأحواد ص246. العسيلة: ماء الرجل، أو حلاوة الجماع.

3 القباع: المكيال الضخم. ولُقب الحارث بن عبد الله والي البصرة بالقباع؛ لأنه اتخذ ذلك المكيال لهم، أو لأنهم أتوه بمكيال لهم حين وليهم فقال:"إن مكيالكم هذا لقباع" القاموس.

ص: 426

ويظهر أن هذا الجزاء كان شديدا قد بلغ من نفسي الشاعرين مبلغا، حتى إن الفرزدق بعدها خنع وتملق فقال:

أحارثُ داري مرتين هدمتَها

وكنتَ ابن أخت لا تُخاف غوائلُهْ

وأنت امرؤ بطحاء مكة لم يزل

بها منكم معطي الجزيل وفاعله

فقلنا له: لا تشمتن عدونا

ولا تنس من أصحابنا من نواصله

فقبلك ما أعييتُ كاسر عينه

زيادا فلم تقدر علي حبائله

فأقسمت لا آتيه سبعين حجة

ولو نشرت عين القباع وكاهله

وقال جرير في ذلك:

أحارثُ خذ من شئت منا ومنهمُ

ودعنا نقسْ مجدا تعد فواضله

فما في كتاب الله تهديم دورنا

بتهديم ماخور خبيث مداخله

5-

هجاء إبليس:

كان الفرزدق قد أكثر من هجاء "باهلة" حتى عيّت هذه القبيلة بأمرها، وكان مما قال فيهم:

أباهلُ لو أن الأنام تنافروا

على: أيهم شر قديما وألأم

لفاز لكم سهما لئيم عليهم

ولو كانت العجلان فيهم وجرهم

وقال أيضا:

ألا كيف البقاء لباهلي

هوى بين الفرزدق والجحيم

ألست إذا نسبت لباهلي

بألأم من تركّض في المشيم1

وهل يسطيع أبكم باهلي

زحام الهاديات من القروم2

فلا يأت المساجد باهلي

وكيف صلاة مرجوس رجيم

إلخ.

1 المشيم: محل الولد في الرحم.

2 الهادي: المتقدم، والهوادي من الإبل: أول رعيل يطلع منها. والقروم: الفحول.

ص: 427

إلا أن الله أراد أن يرحمهم، فساق الفرزدق يوما إلى المربد، فلقي رجلا يقال له: حِمام من موالي باهلة، ومعه نِحْيٌ من سمن يبيعه.

فسامه الفرزدق إياه، فقال له:"أدفعه إليك، وتهب لي أعراض قومي! " فقبل وقال: يهب له أعراض قومه ويهجو إبليس:

ألا بشرا من كان لا يملك استه

ومن قومه بالليل غير نيام

يخافون مني أن يصك أنوفهم

وأقفاءهم إحدى بنات صمام1

لعمري لنعم النحي كان لقومه

عشية عبّ البيع نحي حمام2

أطعتك يا إبليس سبعين حجة

فلما انتهى شيبي وتم تمامي

فررت إلى ربي وأيقنت أنني

ملاق لأيام المنون حمامي

ألا طالما قد بت يوضع ناقتي

أبو الجن إبليس بغير خطام

يظل يمنّيني على الرحل واركا3

يكون ورائي مرة وأمامي

وما أنت يا إبليس بالمرء أبتغي

رضاه ولا يقتادني بزمام

سأجزيك من سوءات ما كنت سقتني

إليه جروحا فيك ذات كلام4

وإن ابن إبليس وإبليس ألبنا

لهم بعذاب الناس كل غلام5

هما تفلا في فيّ من فمويهما

على النابح العاوي أشد رجام6

1 الصمام: الداهية الشديدة. يقال: صمي صمام أي: زيدي يا داهية.

2 النحي: الزق، وقيل: ما كان للسمن خاصة. والعب: الكرع وتتابع الشرب.

3 الوارك: المعتمد على وركه، والورك: ما فوق الفخذ.

4 الكلام: الجروح.

5 لبن القوم: سقاهم اللبن، وألبن القوم: كثر عندهم اللبن، ومن المجاز: لبنه بالعصا والحجر: ضربه.

6 الرجام: الحجارة.

ص: 428

6-

جرير يهجو قبيلته:

بنو العم قبيلة ليست من صميم العرب "نزلوا ببني تميم في أيام عمر بن الخطاب، فأسلموا وغزوا مع المسلمين وحسن بلاؤهم، فقال الناس: "أنتم وإن لم تكونوا من العرب إخواننا وأهلنا، وأنتم الأنصار والإخوان وبنو العم" فلقبوا بذلك وصاروا في جملة العرب. إلا أن الاسم الذي سموا به يحمل في تضاعيفه سمة قوم لصقاء، فكان فيه بعض الغضّ منهم وكانوا يضربون مثلا في رقة النسب وضعف الوشيجة، حتى قال كعب بن معدان يهجو بني ناجية ويُعرّض بنسبهم في قريش:

وجدنا آل سامة في قريش

كمثل "العم" بين بني تميم

حضرت هذه القبيلة المربد وقد تواقف للهجاء جرير والفرزدق، يرد هذا على ذلك ووراء كل قبيلته وحزبه، فهاج الشر واقتتلت القبيلتان: بنو يربوع قوم جرير، وبنو مجاشع قوم الفرزدق، فأمدت بنو العم بني مجاشع وجاءوهم وفي أيديهم الخشب فطردوا بني يربوع" فقال جرير:"من هؤلاء؟ " قالوا: "بنو العم" فقال جرير يهجوهم ويعرض بالفرزدق وأنصاره الوضيعين هؤلاء:

ما للفرزدق من عز يلوذ به

إلا بني العم في أيديهم الخشب

سيروا بني العم فالأهواز داركم

ونهر تيرى ولم تعرفكم العرب1

7-

والفرزدق لعبة:

جرير والفرزدق ملآ المربد بأشعارهما ونقائضهما، وظلا حديث أهلها ما عاشا. لا يألو أحدهما جهدا في خلق ما يعير صاحبه به، فهما أبدا

1 الأغاني 3/ 257 "دار الكتب". الأهواز: سبع كور بين البصرة وفارس، لكل كورة منها اسم ويجمعها الأهواز. ونهر تيرى من نواحي الأهواز.

ص: 429

دائبان في أن يجدا من كل شيء موضوعا للهجاء، ألف منهما ذلك أهل المربد عامة. وكانت لكل حلقة يملأ فيها ماضِغَيْهِ فخرا بقبيله وهجاء لقبيل خصمه، وكانت عبقريتهما البعيدة الغور تفتق لهما من الشعر ألوانا تشغل بها السامعين من البدو والحضر.

هذا جرير، وقف بالمربد وقد لبس درعا وسلاحا تاما وركب فرسا، أعاره إياه أبو جهضم عباد بن حصين الحبطي. فبلغ ذلك الفرزدق فلبس ثياب وشي وسوارا وقام في مقبرة بني حصن ينشد بجرير، والناس يسعون فيما بينهما بأشعارهما. فقال الفرزدق وقد وجد في لباس جرير السلاح والدرع، مادة لهجائه:

وإن كليبا إذ أتتني بعبدها

كمن غره حتى رأى الموت باطلهْ

رجوا أن يردوا عن جرير بدرعه

نوافذ ما أرمي وما أنا قائله

عجبت لراعي الضأن في حطمية

وفي الدرع عبد قد أصيبت مقاتله

وهل تلبس الحبلى السلاح وبطنها

إذا انتطقت عبء عليها تعادله

أفاخ وألقى الدرع عنه ولم أكن

لألقي درعي من كمي أقاتله

تركنا جريرا وهو في السوق حابس

عطية: هل يلقى به من يبادله؟

فقالوا له: رد الحمار فإنه

أبوك لئيم رأسه وجحافله

وأنت حريص أن يكون مجاشع

أباك ولكن ابنه عنك شاغله1

وما ألبسوه الدرع حتى تزيلت

من الخزي دون الجلد منه مفاصله

ولما بلغ جريرا أن الفرزدق في ثياب وشي اهتبلها فرصة، فقال:

لبست سلاحي والفرزدق لعبة

عليه وشاحا كرج وجلاجله2!

1 النقائض صفحة 623. الحطمية: الدرع. أفاخ: تفاجّ وفتح فخذيه وفسا. وعطية: أبو جرير. والجحافل للخيل والبغال والحمير بمنزلة الشفة.

2 الكرج: المهر "معرب".

ص: 430

فعرف كيف يصوّب السهم ويُحكِم الضربة ويفوز بإضحاك الناس من خصمه الفرزدق: اللعبة.

8-

ضحية بين فحلين:

حاجى جرير ثمانين شاعرا، وكان عمر بن لجأ أحدهم، وكان جرير قد هجاه بقوله:

يا تيم تيم عدي لا أبا لكم

لا يقذفنكم في سوءة عمر

أحين صرت سماما يا بني لجأ

وخاطرت بي عن أحسابها مضر1

فبينا جرير واقف بالمربد وقد ركبه الناس، وعمر بن لجأ مواقفه يتهيأ للرد عليه ببيتيه، هدأت الضجة فقال عمر هذين البيتين، وكان قد رفده بها الفرزدق:

لقد كذبت وشر القول أكذبه

ما خاطرت بك عن أحسابها مضر

ألبست فروة خوّار على لؤم

لا يسبق الحلبات اللؤم والخور

سمعهما جرير ففكر ثم فطن للأمر، فقال:"قبحا لك يابن لجأ، أهذا شعرك؟ كذبت والله ولؤمت، هذا شعر حنظلي، هذا شعر العزيز "يعني: الفرزدق"" فأبلس عمر وما رد جوابا.

وكان في الحلقة غنيم بن أبي الرقراق، فطار حتى أتى الفرزدق فضحك له وأخبره الخبر، فاستلقى الفرزدق يضحك حتى فحص الأرض برجليه، وقال في ساعته يريد عمر بن لجأ، هذا الذي دخل بين فحلين فسقط مطرّحا بين أقدامهما:

1 السمام: جمع سم. وخاطر: راهن. والحسب: مفاخر الآباء.

ص: 431

وما أنت إن قرما تميم تساميا

أخا التيم إلا كالوشيظة في الغرم1

فلو كنت مولى الظلم أو في ثيابه

ظلمت ولكن لا يدي لك في الظلم

ويرجع الخبر بذلك إلى جرير، فتنبسط أساريره ويعلوه البشر، إذ سمع هذين البيتين، ورأى لأول مرة كلمة إنصاف من ذلك الذي ملأ عليه الأرض هجاء وشرا، فيقول:

"ما أنصفني في شعر قط قبل هذا" يعني قوله: "إن قرما تميم تساميا".

9-

الحكم في تنافر شاعرين:

"لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، قتلت بنو سليم وهم من قيس مقتلة من بني فهر وبني كنانة.

فلما وجه معاوية في خلافته بسر بن أرطاة الفهري لقتل شيعة علي، نهضت وجوه قيس إلى معاوية وقالوا:

"نسألك بالله والرحم ألا تجعل لبسر على قيس سلطانا، فيقتل قيسا بمن قتلت بنو سليم من بني فهر وبني كنانة يوم فتح مكة" فقال معاوية: "يا بسر، ليس لك سلطان على قيس".

سار بسر حتى أتى الطائف، فقالت له ثقيف:"ما لك علينا سلطان، نحن من قيس". فسار حتى أتى همدان وهم في جبل لهم يقال له: شبام، فتحصنت فيه همدان ثم نادوا:"يا بسر نحن همدان، وهذا شبام" فلم يلتفت إليهم، حتى إذا اغتروا ونزلوا إلى قراهم أغار عليهم فقتل، وسبى نساءهم فكن أول مسلمات سبين في الإسلام. ومر بحي من بني سعد نزول بين ظهري بني جعدة

1 الوشيظة: قطعة عظم تكون زيادة في العظم الصميم، وهم وشيظة في قومهم: حشو فيهم، والدعي لا يدخلونه عادة في الغرم.

ص: 432

بالفلج "موضع لبني جعدة بنجد" فأغار بسر على الحي السعديين، فقتل منهم وأسر، فقال أوس بن مغراء في ذلك:

مشرين ترعون النجيل وقد غدت

بأوصال قتلاكم كلاب مزاحم1

فقال النابغة الجعدي يجيبه:

متى أكلت لحومكم كلابي

أكلت يديك من جرب تهام

وهاج الشر بين الشاعرين؛ لما كان بين القبيلتين من ذحول وعداوة، ولم يكن أوس مثل النابغة ولا قريبا منه في الشعر. فقال النابغة:"إني وإياه لنبتدر بيتا، أينا سبق إليه غلب صاحبه". فلما بلغه قول أوس:

لعمرك ما تبلى سرابيل عامر

من اللؤم ما دامت عليها جلودها

قال النابغة: "هذا البيت الذي كنا نبتدر إليه" فغُلِّب أوس عليه".

كان مفهوما أن يناضل كل شاعر عن حيه ويدفع عنه ما يلصقه خصمه به، فتأرّث الهجاء بين النابغة وأوس، واستطال أوس بنسبه إلى معد، ثم كانت الحكومة بين الشاعرين في المربد، سوق العرب في الإسلام. وهذه رواية الأغاني في القضاء بينهما:

اجتمع النابغة الجعدي وأوس بن مغراء في المربد، فتنافرا وتهاجيا، وحضرهما العجّاج والأخطل وكعب بن جعيل، فقال أوس:

لما رأت جعدة منا وردا

وَلَّوْا نعاما في البلاد ربدا2

إن لنا عليكم معدا

كاهلها وركنها الأسدا

فقال العجاج:

كل امرئ يعدو بما استعدا

1 المشر: الباسط ثوبه في الشمس. والنجيل: جنس من الحمض.

2 الورد: الجيش. والربد: جمع ربداء، وهي النعامة المختلطة السواد.

ص: 433

وقال الأخطل يعين أوس بن مغراء، ويحكم له:

وإني لقاضٍ بين جعدة عامر

وسعد قضاء بين الحق فيصلا

أبو جعدة الذئب الخبيث طعامه

وعوف بن كعب أكرم الناس أولا

وقال كعب بن جعيل:

إني لقاضٍ قضاء سوف يتبعه

من أم قصدا ولم يعدل إلى أود1

فصلا من القول تأتم القضاة به

ولا أجور ولا أبغي على أحد

"نالت" بنو عامر سعدا وشاعرها

كما "تنال" بنو عبس بني أسد2

وهكذا باء النابغة على فحولته بشر ما يبوء امرؤ إلى أهله، وفاز أوس بحكومة هؤلاء القضاة غير العادلين.

10-

نقد سخف:

تكوّف جماعة بمربد البصرة على الشاعر ذي الرمة، وهو قائم وعليه برد قيمته مائتا دينار. فاجتمعوا إليه وهو ينشد، ودموعه تجري على لحيته حزنا وأسفا على عهد صاحبته خرقاء:

ما بال عينك منها الدمع ينكسب

إلخ.

بينا ذو الرمة بالمربد والناس مجتمعون إليه، إذا هو بخياط يقف ويقول:"يا غيلان""اسم ذي الرمة":

أأنت الذي تستنطق الدار واقفا

من الجهل: "هل كانت بكن حلول؟ "

فقام ذو الرمة وفكر زمانا ثم عاد فقعد في المربد ينشد، فإذا بالخياط قد

1 أم: قصد، الأود: العوج والميل.

2 الأغاني 4/ 131، وفيها كلمة قبيحة مكان "نالت"، "تنال".

ص: 434

وقف عليه، وكان ذو الرمة قد قال في خرقاء صاحبته هذين البيتين المشهورين:

أيا ظبية الوعساء بين جلاجل

وبين النقا أأنت أم أمّ سالم

هي الشبه، لولا مدرياها وأذنها

سواء وإلا مشقة في القوائم1

فقال الخياط يعرّض بهذين البيتين، ويسخر من تشبيهه هذا:

"أأنت الذي شبهت عنزا بقفرة

لها ذنب فوق استها أم سالم

وقرنان إما يلزقانك يتركا

بجنبك يا غيلان مثل المواسم

جعلت لها قرنين فوق شواتها2

ورابك منها مشقة في القوائم"

فخجل ذو الرمة وبهت، وقام فذهب. ولم ينشد بعدها في المربد حتى مات الخياط3.

11-

إعدام قبيلة:

كان لراعي الإبل والفرزدق وجلسائهما حلقة بأعلى المربد بالبصرة يجلسون فيها، وكان الراعي قد ضخم أمره، وكان من شعراء الناس، فدخل في المنافرة بين جرير والفرزدق وقضى على الأول للثاني، وكان فيما قاله:

يا صاحبيّ دنا المسير فسيرا

غلب الفرزدق في الهجاء جريرا

وقال:

رأيت الجحش جحش بني كليب

تيمّم حوض دجلة ثم هابا

1 الوعساء: رابية من رمل لينة، تنبت أحرار البقول. والنقا من الرمل: القطعة تنقاد محدودبة. المشقة: التفريج في قوائم ذات الحافر. المدرى: القرن، والمشط.

2 الشوى: قحف الرأس.

3 الأغاني 16/ 114.

ص: 435

فلما أكثر الراعي من ذلك، قال جرير لرجال من قومه:"هلّا تعجبون لهذا الرجل الذي يقضي للفرزدق علي، وهو يهجو قومه وأنا أمدحهم".

"1"

ثم خرج جرير ذات يوم يمشي ولم يركب دابته لئلا يعلم به أحد، فتعرض للراعي يريد أن يلقاه من حيال حيث كان يمر إذا انصرف من مجلسه بالمربد. فمر الراعي على بغلته وابنه جندل يسير وراءه على مهر له أحوى، وإنسان يمشي معه يسأله عن بعض الأمر. فلما استقبل جرير الراعي قال له:"مرحبا بك يا أبا جندل" وضرب بشماله على معرفة بغلته، ثم قال:"يا أبا جندل، إنك شيخ مضر وشاعرها وقد بلغني أنك تفضل علي الفرزدق تفضيلا قبيحا وهو ابن عمي دونك، فإن كان لا بد من تفضيل فأنا أحق به لمدحي قومك وذكري إياهم. ويكفيك من ذاك إذا ذكرنا أن تقول: كلاهما شاعر كريم ولا تحتمل مني ولا منه لائمة". فبينا جرير كذلك أقبل ابن الراعي جندل، حتى ضرب عجز دابة جرير حتى كاد يقطع إصبع رجله، وقال لأبيه:"لا أراك واقفا على كلب من بني كليب كأنك تخشى منه شرا أو ترجو منه خيرا" وضرب البغلة ضربة، فرمحت جريرا رمحة وقعت منها قلنسوته، قال جرير:"فوالله لو عرّج علي الراعي لقلت: سفيه غوي "يعني جندلا ابنه" ولكن لا والله ما عاج، فأخذت قلنسوتي فمسحتها، تم أعدتها على رأسي".

فانصرف جرير غضبان حتى إذا صلى العشاء بمنزله في علية له قال: "ارفعوا لي باطية من نبيذ وأسرجوا لي" ففعلوا، فجعل يهمهم، فسمعت صوته عجوز في الدار، فاطلعت في الدرج حتى نظرت إليه، فإذا هو يحبو في الفراش عريانا، لما هو فيه، فانحدرت فقالت: "ضيفكم مجنون، رأيت منه كذا وكذا

" فقالوا لها: "اذهبي لطيتك،

ص: 436

نحن أعلم به وبما يمارس.". فما زال كذلك حتى كان السحر، ثم إذا هو يكبّر، قد قالها ثمانين بيتا في نمير، فلما ختمها بقوله:

فغُض الطرف إنك من نمير

فلا كعبا بلغت ولا كلابا

كبّر ثم قال: "أخزيته ورب الكعبة".

"2"

ثم أصبح، حتى إذا عرف أن الناس قد جلسوا في مجالسهم بالمربد، وكان يعرف مجلسه ومجلس الفرزدق دعا بدهن فادهن، وكف رأسه، وكان حسن الشعر ثم قال:"يا غلام أسرج لي" فأسرج له حصانا، ثم قصد مجلسهم، حتى إذا كان موقع السلام قال:"يا غلام" ولم يسلم "قل لعُبَيْد: أبعثك نسوتك تكسبهن المال بالعراق؟ أما والذي نفس جرير بيده لترجعن إلى أهلك بمير يسوءهن ولا يسرهن، أما أنا فقد بعثني أهلي لأقعد على قارعة هذا المريد، فلا يسبهم أحد إلا سببته. وإن علي نذرا: إن جعلت في عيني غمضا حتى أخزيك". ثم اندفع جرير في قصيدته:

أقلي اللوم عاذل والعتابا

وقولي إن أصبت لقد أصابا

فأنشدها فنكّس الفرزدق وراعي الإبل، وأزمّ القوم، حتى إذا بلغ قوله:

بها برص بجانب إسكتيها

وضع الفرزدق يده على فيه، وغطى عنفقته لئلا يفطن جرير فيخزيه في مجلسه ذاك، ففطن لها جرير فأتم البيت هكذا وكأن الفرزدق لقنه إياه:

ص: 437

بها برص بجانب إسكتيها

كعنفقة الفرزدق حين شابا1

ولعله في الأصل على غير ذلك. فانصرف الفرزدق وهو يقول: "اللهم أخزه، والله لقد علمت حين بدأ بالبيت أنه لا يقول غير هذا، ولكن طمعت بالسلامة فغطيت وجهي فما أغناني ذلك شيئا".

واسترسل جرير في الإنشاد، حتى بلغ قوله مخاطبا الراعي:

فغض الطرف إنك من نمير

فلا كعبا بلغت ولا كلابا

فأسقط في يد الراعي وبني نمير عامة. وقال الفرزدق: "غضه والله فلا يجيبه، ولا يفلح بعدها أبدا"2.

وسرعان ما تناقل هذا البيت أهل المربد، وانفضّ المجلس عليه. وسار الراعي فوجد البيت سبقه إلى أهله وقومه فاستحيا ورحل.

وهكذا انطفأت قبيلة نمير آخر جمرات العرب في المربد، أمام هذا المحفل الحاشد، على يد جرير الشاعر.

12-

رد عدوان:

قدم معن بن أوس المزني "البصرة" فقعد ينشد في المربد، فوقف عليه الفرزدق وأراد العبث به فقال: "يا معن، من الذي يقول:

لعمرك ما مزينة رهط معن

بأجفان تطاق ولا سنام3؟ ".

1 الإسكة: جانب فرج المرأة، وهما إسكتان. والعنفقة: شعرات بين الشفة السفلى والذقن.

2 الأغاني 7/ 47.

3 من معاني الجفن: الشجر الطيب الريح.

ص: 438

فقال معن: "أتعرف يا فرزدق من الذي يقول:

لعمرك ما تميم أهل فلج

بأرداف الملوك ولا كرام1؟ ".

فرآه الفرزدق صلبا فتنصل وقال له: "حسبك إنما جربتك" فأجابه معن بلهجة الحازم: "قد جربت وأنت أعلم" فانصرف وتركه.

13-

سلاطة:

كان المربد إلى ذلك يفسح مجالا لمتعصبة الشعوبية وأراذلهم، فينالون من الحسب الزاكي والأصل الكريم ويتطاولون، وكانوا يدسّون سمومهم في أفكار الموالي والعبيد. قال الأصفهاني:

وقف رجل من بني زيد شريف، لا أحب أن أسميه، على بشار فقال له:"يا بشار، قد أفسدت علينا موالينا، تدعوهم إلى الانتفاء منا وترغبهم في الرجوع إلى أصولهم وترك الولاء، وأنت غير زاكي الفرع ولا معروف الأصل" فقال له بشار:

"والله لأصلي أكرم من الذهب، ولفرعي أزكى من عمل الأبرار، وما في الأرض كلب يود أن ننسبك له بنسبه. ولو شئت أن أجعل جواب كلامك شعرا لفعلت، ولكن موعدك غدا بالمربد". فرجع الرجل إلى منزله وهو يتوهم أن بشارا يحضر معه المربد ليفاخره، فخرج من الغد يريد المربد فإذا رجل ينشد:

شهدت على الزيدي أن نساءه

...................

"وأفحش بشار في تتمة البيت" فارتاع الشريف وسأل عمن قال هذا

1 الردف: الرديف، وكل ما تبع شيئا فهو ردفه.

ص: 439

البيت فقيل له: "هذا لبشار فيك" فرجع إلى منزله من فوره ولم يدخل المربد حتى مات.

فانظر في بضاعة المربد هذه، واعجب كيف ينقبض فيه الأخيار ويتسلط الأشرار!

14-

معركة الرجاز:

نترك حلبة الشعراء إلى حلبة أخرى أطرف وأظرف؛ لأن أصحابها ذوو أصول بدوية مقيمون في الحضر. تلك هي حلبة الرجاز: أبي النجم العجلي ورؤبة وأبيه، فننظر كيف يتنافس هؤلاء، حتى إذا سكنت الريح بينهم أتت قبائلهم فأثارتها وكدّرت ما بينهم حتى يعود الشر جَذَعَة1 كما كان بدأ، ولعل المنظر الذي سنعرضه بعد قليل أروع منظر شهده المربد.

قال فتيان من عجل لأبي النجم: "هذا رؤبة بالمربد يجلس فيسمع الناس شعره، وينشد الناس ويجتمع إليه فتيان من بني تميم، فما يمنعك من ذلك؟ " فقال: "أرتحبون هذا؟ " قالوا: "نعم" قال: فأتوني بعُسّ2 من نبيذ، فأتوه به فشرب ثم نهض وقال:

إذا اصطبحت أربعا عرفتني

ثم تجشمت الذي جشمتني

وأقبل إلى المجلس بالمربد، فلما رآه رؤبة أعظمه وقام له عن مكانه وقال:"هذا رجاز العرب" وسألوه أن ينشدهم، فأنشدهم أرجوزته التي أولها:

الحمد لله الوهوب المجزل

1 أصل الجذع: ولد الشاة في السنة الثانية، والأنثى جذعة. وطفئت حرب بين قوم، فقال أحدهم: إن شئتم أعدناها جذعة؛ يريد: من أول.

2 العس بالضم: القدح الكبير.

ص: 440

وكان إذا أنشد أزبد ووحش1 بثيابه وكان من أحسن الناس إنشادا، فلما فرغ منها قال رؤبة: هذه أم الرجز.

إلا أن هذا الصفاء بين الرجازيْنِ واعتراف رؤبة وإقراره بفضل أبي النجم ورضى هذا عن رؤبة لم يدم طويلا، فسرعان ما أهاج الشر بينهما غواة الرجز، فما لبثا أن فسد ما بينهما واشتدت المنافسة إلى الغاية. وأنت إذا أردت أن تستمع وتتسلى وتستفيد، فأَثِرْ خصومة أو منافسة، أو هِجْ شرا بين أديبين أو شاعرين أو عالمين، تجد متعة وطرافة تنعم بهما من حيث سقي الرجلان. هذا ما صنع قوم أبي النجم لما رأوا العجاج "أبا رؤبة وقريع أبي النجم" خرج محتفلا، عليه جبة خز وعمامة خز، على ناقة له قد أجاد رحلها حتى وقف بالمربد والناس مجتمعون، فأنشدهم قوله:

"قد جبر الدينَ الإلهُ فجبر"

فذكر فيها ربيعة قوم أبي النجم وهجاهم. فانطلق رجل من الناس من بكر بن وائل يشتد عدوا إلى أبي النجم في بيته، فقال له يستحثه وهو يلهث:"أنت جالس وهذا العجاج يهجونا بالمربد، قد اجتمع عليه الناس؟! " فتحرك أبو النجم وقال: "صف لي حاله وزيه الذي هو فيه" فوصف له، فقال:"ابغني جملا طحانا قد أكثر عليه من الهناء"2 فجاء إليه بجمل كله قروح وقطران، فأخذ أبو النجم سراويل له فجعل إحدى رجليه فيها واتزر بالأخرى وركب الجمل ودفع خطامه إلى من يقوده. فانطلق حتى أتى المربد وقد لحقه ما لا يحصى لما رأوا من الهيئة الغريبة، حتى دنا من العجاج في حلقته فقال لقائد جمله: اخلع خطامه، فخلعه

1 أي: رمى بها.

2 هنأ الإبل: طلاها بالهناء وهو القطران، يضعونه منها مواضع الجروح.

ص: 441

وأخذ أبو النجم ينشد أرجوزته:

"تذكر القلب وجهلا ما ذكر"

والعجاج على ناقته يسمع، ونفسه تحدثه بشر يصيبه. وجعل جمل أبي النجم يدنو من ناقة العجاج يتشممها، والعجاج يتباعد عنه لئلا يفسد ثيابه الخز ورحله الثمين الثقيل، بالقطران. وما زال الجمل يتقرب من الناقة والعجاج يتقهقر حتى وصل أبو النجم في إنشاده إلى قوله:

"شيطانه أنثى وشيطاني ذكر"1

فثارت عاصفة من الضحك والاستحسان من كل صوب وضج بها المربد، وتعلق الناس هذا البيت وهرب العجاج عنه.

15-

صحابي بكتاب نبوي:

وهذا رجل من ضرب آخر قديم، أفلت منذ قرن، ليكون في المربد كما تكون العاديات في المعارض أو دور الآثار والمصانع:

روى الأصمعى عن يزيد بن عبد الله قال: بينما نحن بهذا المربد جلوس، إذ أتى علينا أعرابي أشعث الرأس فوقف علينا فقلنا:"والله لكأن هذا الرجل ليس من أهل البلد" قال الأعرابي: "أجل والله". وإذا معه قطعة من جراب أو أديم فقال: "هذا كتاب كتبه لي محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم" فأخذناه فقرأناه، فإذا فيه:

"بسم الله الرحمن الرحيم

هذا كتاب من محمد رسول الله لبني زهير "حي من عكل":

إنكم إن شهدتم أن لا إله إلا الله وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وفارقتم

1 الأغاني 9/ 74.

ص: 442

المشركين وأعطيتم الخمس من الغنائم وسهم النبي والصفي، فأنتم آمنون بأمان الله وأمان رسوله، لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم".

فقال القوم، وقد تكاثروا حوله:"حدثنا -أصلحك الله- بما سمعت من رسول الله" قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "صوم شهر الصبر، وصوم ثلاثة من كل شهر، يذهبن وَحَر الصدر" ".

فقال له القوم: "أنت سمعت هذا من رسول الله؟ " فأثاره شكهم هذا وأغضبه فقال: "أراكم تخافون أن أكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا حدثتكم حديثا". ثم أهوى إلى الصحيفة وانصاع1 مدبرا.

قال المحدث: فقيل لي لما تولى: هذا النمر بن تولب العكلي2 الشاعر!

16-

من محن السياسة:

أترك معركة الرجاز تلك، وأترك أبا النجم في زهو ظفره ونشوة

1 انصاع: انفتل راجعا مسرعا.

2 كان النمر يسمى الكيس لحسن شعره. وهو جاهلي أدرك الإسلام، وهو القائل لرسول الله صلى الله عليه وسلم:

إنا أتيناك وقد طال السفر

نقود خيلا ضمرا فيها عسر

نطعمها الشحم إذا قل الشجر

والخيل في إطعامها اللحم ضرر

عاش إلى أن خرف وأهتر، وكان هجيراه أن يقول:"أصبحوا الركب، أغبقوا الركب" كعادته التي كان عليها. ومن شعره قوله:

لا تغضبن على امرئ في ماله

وعلى كرائم صلب مالك فاغضب

وإذا نصبك خصاصة فارج الغنى

وإلى الذي يعطي الرغائب فارغب

وقوله:

واعلم أن ستدركني المنايا

فإلا أتبعها تتبعني

أهتر: خرف، وهجيراه: دأبه وعادته. انظر طبقات الشعراء لابن سلام.

ص: 443

انتصاره وقد سره أن يولي العجاج مدحورا مقهورا، وأن يسري خبر ما صنع واخترع في أسواق البصرة كلها سريان الكهرباء، وأجوز مشهد النمر بن تولب الأعرابي الغريب الزي، وأقف بالقارئ على مشهد آخر يبعث العبرة، ويهيج من النفس مكامن الثورة فيها والمقت للسياسة، وما تجره من ويلات:

أوقع الخليفة أبو جعفر المنصور بالخراسانية إذ قتل يعسوبها أبا مسلم، وخلص من عمه الذي ناوأه، وبقي عليه أن يستأصل شأفة العلويين الذين لهم في النفوس المكانة البعيدة والتجلَّة والاحترام، فشدد عليهم وقيدهم وحبس منهم وقتل.

ونحن الذين رأينا بالمربد، صورة من كل ما يجري فيه حينئذ من دين وأدب، ومعرضا لعادات اجتماعية وأساليب تجارية، سنرى فيه أيضا صدى لما يتردد في أمصار الإسلام إذ ذاك من شدة على العلويين وتضييق وأخذ بالخناق.

في مربد البصرة سليمان بن علي من رءوس بني العباس الذين أوقعوا بالعلويين، وحوله جماعة من أشراف الناس. فإنه لجالس مجلسه، وإذ بكبير العلويين إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب، شيخ عليه أمارات الحزن والمهابة والوقار معا، وإلى جنبه المفضل الضبي، ويمشي مع الشيخ صبيان من ولده قد ضمتهم إليه.

لمح إبراهيم مكان سليمان بن علي فوقف على رأسه وأمامه أطفاله، وقال بصوت متهدج تخنقه العبرة وأشار إلى سليمان:

"هؤلاء منا ونحن منهم، إلا أنهم فعلوا بنا وصنعوا

"وذكر كلاما يعتد عليهم فيه بالإساءة"

" قال هذا، فتحركت الرحمة في نفوس السامعين جميعا لما آل إليه أمر بني علي، وحدثتهم أنفسهم بشيء على بني العباس وقسوتهم،

ص: 444

على أبناء عمومتهم. ثم توجه الرجل لوجهه وتمثل بهذه الأبيات:

مهلا بني عمنا ظلامتنا

إن بنا سورة من القلق

لمثلكم تحمل السيوف ولا

تغمز أحسابنا من الرقيق

إني لأنمى إذا انتميت إلى

عز عزيز ومعشر صدق

بيض سباط كأن أعينهم

تكحل يوم الهياج بالعلق1

فقال له المفضل وهو يتبعه: ما أفحل هذه الأبيات، فلمن هي؟ قال:"لضرار بن الخطاب الفهري قالها يوم الخندق وتمثل بها علي بن أبي طالب يوم صفين والحسين بن علي يوم قتل، وزيد بن علي".

ثم لحق القوم فلم يمض قليل حتى أتاه نعي أخيه محمد، قتله رجال أبي جعفر، فتمثل إبراهيم:

نبئت أن بني ربيعة أجمعوا

امرا خلالهم لتقتل خالدا

إن يقتلوني لا تصب أرماحهم

ثأري ويسعى القوم سعيا جاهدا

أرمي الطريق وإن صددت بضيعة

وأنازل البطل الكمي الجاحدا

فسأله المفضل: لمن هذه الأبيات؟ فقال: للأحوص بن جعفر بن كلاب تمثل بها يوم شعب جبلة. ثم لم يلبثا أن أقبلت عساكر أبي جعفر واقتتلت مع أصحاب إبراهيم هذا. وقتل من الفريقين من قتل وكاد يكون الظفر لإبراهيم2.

1 سورة الغضب: وثوبه وحدته. والغمز: العيب. والسباط: الحسان القد والاستواء. والعلق: الدم.

2 الأغاني ج17 صفحة 109.

وتتمة رواية المفضل هذه: "فلما رأى البياض يقل والسواد يكثر قال لي: "يا مفضل، حركني بشيء يهون علي بعض ما أرى" فأنشدته:

ألا أيها الناهي فزارة بعدما

أجدت بسير إنما أنت حالم

=

ص: 445

17-

حل سلمي:

قتل بعض بني تميم مسعود بن عمرو العتكي فنهض أخوه زياد بن عمرو لثأره، فحشد الحشود في المربد وجعل في الميمنة بني بكر بن وائل وفي الميسرة بني عبد القيس وبقي هو في القلب.

بلغ ذلك الأحنف بن قيس سيد بني تميم فقال: "هذا غلام حدث شأنه الشهرة، وليس يبالي أين قذف بنفسه" ثم ندب أصحابه، فجاءه حارثة بن بدر الغُداني وقد اجتمعت بنو تميم، فجعلوا سعدا والرباب في القلب ورئيسهم عبس بن طلق الطعان المعروف بأخي كهمس، فجعل في القلب بحذاء الأزد، وجعل حارثة بن بدر في بني حنظلة بحذاء بكر بن وائل، وجعلت عمرو بن تميم

=

أبى كل حر أن يبيت بوتره

ويمنع منه النوم إذ أنت نائم

أقول لفتيان العشي: تروحوا

على الجرد في أفواههن الشكائم

قفوا وقفة: من يحي لم يخز بعدها

ومن يخترم لا تتبعه اللوائم

وهل أنت -إن باعدت نفسك منهم

لتسلم- فيما بعد ذلك سالم؟

فقال لي: "أعد" فتنبهت وندمت، فقلت:"أوغير ذلك؟ " فقال: "لا، أعدها" فأعدتها، فطال على سرجه، وتمطى في ركابه حتى خلته قد قطعها، ثم حمل فطعن رجلا وطعنه آخر، فقلت:"أتباشر الحرب بنفسك والعسكر منوط بك؟ " فقال: "إليك عني يا أخا بني ضبة، كأن عويفا أخا بني فزارة نظر في يومنا هذا حيث يقول:

ألمت خناس وإلمامها

أحاديث نفس وأسقامها

يمانية من بني مالك

تطاول في المجد أعمامها

وإن لنا أصل جرثومة

ترد الحوادث أيامها

يرد الكتيبة مغلولة

بها أفنها وبها ذامها"

ثم حمل حملة جاءه فيها سهم عاشر، فشغله عني وكان آخر العهد به" ا. هـ.

ويخترم: يمت شابا. والأفن: ضعف العقل. والذام: الذم.

ص: 446

بحذاء عبد القيس، فذلك حيث يقول حارثة بن بدر للأحنف:

سيكفيك عبس أخو كهمس

مقارعة الأزد بالمربد

إلخ.

وكان المجتمعون من تميم وباديتها وحلفائها من الأساورة والزط والسبابجة وغيرهم زهاء سبعين ألفا، وفي ذلك يقول جرير:

سائل ذوي يمن ورهط محرق

والأزد إذ ندبوا لنا مسعودا

فأتاهم سبعون ألف مدجج

متسربلين يلامقا1 وحديدا

فلما توافقوا بعث إليهم الأحنف:

"يا معشر الأزد وربيعة من أهل البصرة، أنتم -والله- أحب إلينا من تميم الكوفة، وأنتم جيراننا في الدار ويدنا على العدو، وأنتم بدأتمونا بالأمس ووطئتم حريمنا وحرّقتم علينا فدفعنا عن أنفسنا، ولا حاجة لنا في الشر ما أصبنا في الخير مسلكا، فتيمموا بنا طريقة قاصدة".

فوجه إليه زياد بن عمرو:

"تخير خلة من ثلاث: إن شئت فانزل أنت وقومك على حكمنا، وإن شئت فخل لنا عن البصرة وارحل أنت وقومك إلى حيث شئتم، وإلا فدوا قتلانا واهدروا دماءكم، وليُودَ مسعود أخي دية المشعرة" أي: عشر ديات، كما يودى أبناء الملوك في الجاهلية.

فبعث إليه الأحنف: "سنختار فانصرفوا في يومكم".

فهز القوم راياتهم وانصرفوا. فلما كان الغد بعث إليهم:

"إنكم خيرتمونا خلالا ليس فيها خيار: إما النزول على حكمكم فكيف يكون والكلم يقطر دما؟! وإما ترك ديارنا فهو أخو القتل، قال الله عز وجل: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ

1 دروعا لامعات.

ص: 447

مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} ولكن الثالثة إنما هي حمل على المال، فنحن نبطل دماءنا وندي قتلاكم، وإنما مسعود رجل من المسلمين، وقد أذهب الله أمر الجاهلية".

فاجتمع القوم على أن يقفوا أمر مسعود، ويغمد السيف، ويودى سائر القتلى من الأزد وربيعة. فتضمن ذلك الأحنف ودفع إياس بن قتادة المجاشعي رهينة حتى يؤدى هذا المال، فرضي به القوم.

فخر الفرزدق بهذا، وعرّض بقوم جرير فقال:

ومنا الذي أعطى يديه رهينة

لغاريْ معد يوم ضرب الجماجم

عشية سال المربدان كلاهما

عجاجة موت بالسيوف الصوارم

هنالك لو تبغي كليبا رأيتها

أذل من القردان تحت المناسم1

1 الكامل للمبرد 1/ 81-83. الغاران: القبيلتان العظيمتان، وأراد بالمربدين المربد وما حوله.

وتتمة الخبر طريفة حقا بما فيها من نبل ومروءة خالصين، يرويها بطل السلام نفسه الأحنف قال:

"فكثرت علي الديات فلم أجدها في حاضرة تميم، فخرجت نحو "يبرين" فسألت عن المقصود هناك فأرشدت إلى قبة، فإذا شيخ جالس بفنائها مؤتزر بشملة محتبٍ بحبل، فسلمت عليه وانتسبت له، فقال: "ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ " فقلت: "توفي صلوات الله عليه" قال: "فما فعل عمر بن الخطاب الذي كان يحفظ العرب ويحوطها؟ " فقلت له: "مات رحمة الله تعالى" قال: "فأي خير في حاضرتكم بعدهما؟ " فذكرت له الديات التي لزمتنا للأزد وربيعة فقال لي: "أقم"، فإذا راع قد أراح ألف بعير، فقال لي: "خذها"، ثم أراح عليه آخر مثلها فقال: "خذها" فقلت: "لا أحتاج إليها".

فانصرفت بالألف عنه ووالله ما أدري من هو إلى الساعة!! ".

ص: 448

18-

عرض الأمم:

إذا كانت المعارض اليوم تزخر بالناس من مختلف الأمم، فإن المربد اقتصر على العرب والفرس فقط. وكان مضى على هذين الجنسين أكثر من قرن وهما يتمازجان دما وطبائع وعادات، حتى تعلم كثير من الفرس النازلين في بقاع أغلب أهلها عرب، اللغة العربية وثقفوها وأحسنوا التكلم بها نظما ونثرا. ولم يخل المربد من هذه الطبقة المولدة الجديدة، فقد كانت تغشاه، وتضيف إلى ما به من ألوان لونا حديثا لا عهد للناس بمثله.

وقد رُوي أن أديب العرب وفارس عبد الله بن المقفع، دعا جماعة بالمربد ناحية وطرح عليهم هذا السؤال:"أي الأمم أعقل؟ " فكانت الأجوبة مختلفة، وعرض المجيبون أحوال من يعرفون من الأمم، فلا علينا وقد شهدنا مشاهد النضال في المربد من حروب وهجاء، أن نشهد مجلسا علميا هادئا يضم نخبة من ذوي العقول الراجحة والآراء الحصيفة:

قال شبيب بن شيبة أحد بلغاء العرب وجليس الملوك:

كنا وقوفا بالمربد، وكان المربد مألف الأشراف، إذ أقبل ابن المقفع فتبشبشنا به وبدأناه بالسلام، فرد علينا السلام ثم قال:"لو ملتم إلى دار نيروز وظلها الظليل، وسورها المديد، ونسيمها العجيب، فعودتم أبدانكم تمهيد الأرض، وأرحتم دوابكم من جهد الثقل، فإن الذي تطلبونه لم تفلتوه، ومهما قضى الله لكم من شيء تنالوه".

فقبلنا وملنا. ولما استقر بنا المكان قال لنا:

"أي الأمم أعقل؟! ".

فنظر بعضنا إلى بعض! فقلنا: لعله أراد أصله من فارس، فقلنا:"فارس".

ص: 449

فقال: "ليسوا بذلك، إنهم ملكوا كثيرا من الأرض، ووجدوا عظيما من الملك، وغلبوا على كثير من الخلق، ولبث فيهم عقد الأمر، فما استنبطوا شيئا بعقولهم ولا ابتدعوا باقي حكم في نفوسهم".

قلنا: "فالروم".

قال: "أصحاب صنعة

".

قلنا: "فالصين".

قال: "أصحاب طُرْفة".

قلنا: "فالهند".

قال: "أصحاب فلسفة".

قلنا: "فالسودان".

قال: "شر خلق الله".

قلنا: "فالترك".

قال: "كلاب مختلسة".

قلنا: "فالخزر".

قال: "بقر سائمة".

قلنا: "فقل".

قال: "العرب" فضحكنا.

فقال: "أما إني ما أردت موافقتكم، ولكن إذ فاتني حظي من النسبة فلا يفوتني حظي من المعرفة. إن العرب حكمت على غير مثال مثّل لها ولا آثار أثرت، أصحاب إبل وغنم وسكان شعر وأدم. يجود أحدهم بقوته، ويتفضّل بمجهوده، ويشارك في ميسوره ومعسوره، ويصف الشيء بعقله فيكون قدوة، ويفعله فيصير حجة، ويحسّن ما شاء فيحسن، ويقبّح ما شاء فيقبح. أدبتهم أنفسهم ورفعتهم هممهم، وأعلتهم قلوبهم وألسنتهم. فلم يزل حباء الله فيهم، وحباؤهم في أنفسهم حتى رفع لهم الفخر، وبلغ بهم أشرف الذكر، وختم لهم بملكهم الدنيا على الدهر، وافتتح دينه

ص: 450

وخلافته بهم إلى الحشر، الخير فيهم ولهم. قال سبحانه:

{إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} 1.

فمن وضع حقهم خسر، ومن أنكر فضلهم خُصم، ومن دفع الحق باللسان أكبت للجنان".

19-

إعلان مجلجل:

وإليك بعد أن استمتعت بعلم ابن المقفع وأدبه، صراعا يخيل إليك إذ تقرؤه أنه كان في الأولمبياد، لأحد أبطال يونان، أو أنه جرى على غرار ما يجري في بلاد الإسبان، على يد مصارعي الثيران، بطله فارس عربي شجاع شاعر شديد البأس والبطش، على خلاف ما تعهد في الشعراء. هو هلال بن الأسعر أحد الجبّارين العمالقة الضخام، كأنه من قوم عاد. كان هلال هذا أعظم الناس غناء في حرب، يرد مع الإبل فيأكل كل ما وجد عند أهله ثم يرجع لا يذوق فيما بين ذلك طعاما ولا شرابا. عُمِّر طويلا ومات بعد بلايا عظام مرت على رأسه.

كان يوما في إبل له وذلك عند الظهيرة في يوم شديد وقع الشمس، محتدم الهاجرة، وقد عمد إلى عصاه فطرح عليها كساءه ثم أدخل رأسه تحت كسائه من الشمس، فبينما هو كذلك إذ مر به رجلان: أحدهما من بني نهشل والثاني من بني فقيم، كانا أشد تميميين في ذلك الزمان بطشا، يقال لأحدهما: الهيّاج، وقد أقبلا من البحرين ومعهما أنواط2 من تمر هجر، وكان هلال بناحية الصعاب، فلما انتهيا إلى الإبل، ولا يعرفان هلالا بوجهه

1 سورة الأعراف: 127.

2 النوط: لحلة الصغيرة فيها تمر، والجمع: أنواط.

ص: 451

ولا يعرفان أن الإبل له، ناديا:"يا راعي، أعندك شراب تسقينا؟ " وهما يظنانه عبدا لبعضهم. فناداهما هلال ورأسه تحت كسائه: "عليكما الناقة التي صفتها كذا في موضع كذا، فأنيخاها فإن عليها وطبين من لبن، فاشربا منهما ما بدا لكما" فقال أحدهما: "ويحك، انهض يا غلام فأت بذلك اللبن" فقال لهما: "إن تك لكما حاجة فستأتياها فتجدا الوطبين فتشربا" فقال أحدهما: "إنك يابن اللخناء لغليظ الكلام، قم فاسقنا". ثم دنا من هلال وهو على تلك الحال. فقال لهما هلال: "أراكما والله ستلقيان هوانا وصغارا" فسمعا ذلك منه، فدنا أحدهما فأهوى له ضربا بالسوط على عجزه وهو مضطجع، فتناول هلال يده فاجتذبه إليه ورماه تحت فخذه ثم ضغطه ضغطة، فنادى صاحبه: ويحك أغثني قد قتلني. فدنا صاحبه منه، فتناوله هلال أيضا فاجتذبه فرمى به تحت فخذه الأخرى. ثم أخذ برقابهما فجعل يصك برءوسهما بعضا ببعض، لا يستطيعان أن يمتنعا منه. فقال أحدهما:"كن هلالا ولا نبالي ما صنعت" فقال لهما: "أنا والله هلال، ولا والله لا تفلتان مني حتى تعطياني عهدا وميثاقا لا تخيسان به. لتأتيانّ المربد إذا قدمتما البصرة ثم لتناديانّ بأعلى أصواتكما بما كان مني ومنكما". فعاهداه وأعطياه نوطا من التمر الذي معهما، وقدما البصرة فأتيا المربد، فناديا بما كان منه ومنهما، وكان إعلان طنان دوى في فضاء المربد.

وهكذا جمع المربد بطولة القوة والصراع والجبروت البدني، إلى جانب بطولة الشعر والأدب والخطابة، فكان معرضا تام الأداة وافي الفروع. وتم لأسواق العرب به خاتمة المزايا والكمال، وأصبح في وسع من شاء الاستمتاع بأكثر عادات العرب وأخلاقهم ودينهم وسياستهم وحربهم وأدبهم وسباقهم وصراعهم، أن يفوز بأمنيته من أقصر طريق، إذا استذكر ما كانت عليه أسواقهم في الجاهلية والإسلام.

ص: 452