الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سوق عكاظ:
عكاظ1 هي المعرض العربي العام أيام الجاهلية، معرض بكل ما لهذه الكلمة من مفهوم لدينا نحن أبناء هذا العصر. فهي مجمع أدبي لغوي رسمي، له محكّمون تضرب عليهم القباب، فيعرض شعراء كل قبيلة عليهم شعرهم وأدبهم، فما استجادوه فهو الجيد، وما بهرجوه فهو الزائف. وحول هذه القباب الرواة والشعراء من عامة الأقطار العربية، فما ينطق الحكم بحكمه حتى يتناقل أولئك الرواة القصيدة الفائزة فتسير في أغوار الجزيرة وأنجادها، وتلهج بها الألسن في البوادي والحواضر. يحمل إلى هذه السوق التهامي والحجازي والنجدي والعراقي واليمامي واليمني والعماني، كل ألفاظ حيه ولغة قطره، فما تزال عكاظ بهذه اللهجات نخلا واصطفاء حتى يتبقى الأنسب الأرشق، ويطرح المجفوّ الثقيل.
وهي السوق التجارية الكبرى لعامة أهل الجزيرة، يحمل إليها
1 ورد في "عكاظ" الصرف وعدمه. وقد جرينا على منعه؛ لأنا رأينا المنع هو الأكثر فيها والأشهر.
من كل بلد تجارته وصناعته كما يحمل إليها أدبه، فإليها يجلب الخمر من هجر والعراق وغزة وبصرى، والسمن من البوادي، ويرد إليها من اليمن البرود الموشّاة والأدم، وفيها الغالية وأنواع الطيب وأدوات السلاح.
ويباع فيها الحرير والوكاء والحذاء والمسيّر والعدني، يحملها إليها التجار من معادنها، وفيها من زيوت الشام وزبيبها وسلاحها ما اعتادت قريش أن تحمله في قفولها إلى مكة. ويعرض فيها كثير من الرقيق الذي ينشأ عن الغزو، وسبي الذراري فيباع فيها بيع المتاع التجاري1.
ويبيع فيها كل غازٍ سَلَبه، وكثيرا ما يكون هذا البيع سببا في قتل صاحبه إذا أبصر السلاح أحد من ذوي المقتول فعرفه، فإنه يضمرها في نفسه وينتظر أن يظفر بالرجل ليثأر منه.
1 من ذلك أم عمرو بن العاص، فقد كانت سبية بِيعت في عكاظ، عرفنا أمرها في خبر طريف يقصه ابن عبد ربه: خاطر رجل إلى أن يقوم إلى عمرو بن العاص وهو في الخطبة فيقول: "أيها الأمير، من أمك؟ " ففعل، فقال له:"النابغة بنت عبد الله، أصابتها رماح العرب فبِيعت بعكاظ، فاشتراها عبد الله بن جدعان للعاص بن وائل، فولدت فأنجبت، فإن كانوا جعلوا لك شيئا فخذه! ". العقد الفريد 1/ 63 "سنة 1940".
وقد كانت تجارة فارس يصل منها أشياء إلى عكاظ: فإن النعمان بن المنذر ملك الحيرة كان يبعث إلى سوق عكاظ كل عام لطيمة "وهي في الأصل: العير المحملة مسكا" في جوار رجل شريف من أشراف العرب يجيرها له ويحميها من كل معتدٍ حتى تصل سالمة إلى عكاظ فتباع هناك، ويشرى بثمنها ما يحتاج إليه من أدم "جلود" الطائف وسائر المتاع في عكاظ، من حرير وعصب مسيّر، وبيعت فيها حلة ذي يزن فاشتراها حكيم بن حزام ليهديها رسول الله1، بل إن عكاظ نفسها مشهورة بما يعرض فيها من جلود حتى قالوا:"أديم عكاظي" نسبة إليها.
حتى البضائع المجهولة الأصل المعروضة في عكاظ تجد من شرائع القوم وأعرافهم التي التزموها ما يجعلها كاسدة لا يرغب فيها أحد، فهذا بعض لصوص العرب قرّب إبلا للبيع في سوق عكاظ وكان أغار عليها من كل وجه، فلما عرضها قيل له:"ما نارك؟ ""أي: ما سمة إبلك؟ وكانوا يعرفون علامة كل قوم التي يسمون إبلهم، ويعرفون كرمها من لؤمها"، فلما كثر ذلك عليه أنشأ يقول:
1 انظر تفصيل هذا الخبر في تهذيب تاريخ ابن عساكر ص414، 415.
يسألني الباعة أين نارها
…
إذ زعزعتها فسمت أبصارها
كل نجار إبل نجارها
…
وكل نار العالمين نارها1
وهي معرض لكثير من عادات العرب وأحوالهم الاجتماعية: فههنا "قس بن ساعدة" يخطب الناس، يذكر الخالق ويعظهم بمن كان قبلهم ويأمرهم بفعل الخير2. وهناك خالد بن أرطاة الكلبي تتبعه قبيلته وقد جاء لينافر جرير بن عبد الله البجلي ومع هذا حيه أيضا، وقد ساق كل منهما مالا عظيما ينافر عليه، وعرضا الحكومة على رجالات قريش فأبوا أن يحكموا خوف الفتنة بين الحيين، فالرجلان في عكاظ ينتظران الأقرع بن حابس ليقوم بهذه الحكومة وقد ساقا الرُّهُن فوضعوها عند عتبة بن ربيعة3 دون جميع من شهد على ذلك المشهد. وههنا عمر بن الخطاب في الجاهلية يصارع4، وثمة كاهن
1 ويروى البيتان هكذا:
يسألني الباعة ما نجارها
…
إن زعزعوها فسمت أبصارها
فكل دار لأناس دارها
…
وكل نار العالمين نارها
بلوغ الأرب 2/ 163.
2 زعم أحد الكتاب أنه كان بعكاظ "أسقفية" للنصارى. انظر مجلة المشرق "السنة 35" ص84.
3 انظر تفصيل ذلك في رسائل الجاحظ ص102 "جمع السندوبي"، وبلوغ الأرب 1/ 301-305 وغيرهما.
4 طبقات ابن سعد 1/ 235.
وعراف وعائف وقائف، وقرد، وغنم، وصحيفة وكاتب.
وهناك أناس من غواة الشهرة: هذا يمد رجله وينشد شعرا ويقول: "من كان أعز العرب فليقطع رجلي" وآخر يأتي عكاظ ببناته ترويجا لزواجهن، وأناس قدموها ليختاروا من يتزوجون إليه
…
قال المرزوقي:
"كان في عكاظ أشياء ليست في أسواق العرب: كان الملك من ملوك اليمن يبعث بالسيف الجيد، والحلة الحسنة، والمركوب الفاره، فيقف بها وينادي عليه: "ليأخذه أعز العرب" يريد بذلك معرفة الشريف والسيد، فيأمره بالوفادة عليه ويحسن صلته وجائزته".
وكان كسرى يبعث في ذلك الزمان بالسيف القاطع والفرس الرائع والحلة الفاخرة فتعرض في تلك السوق، وينادي مناديه:"إن هذا بعثه الملك إلى سيد العرب" فلا يأخذه إلا من أذعنت له العرب جميعا بالسؤدد، فكان آخر من أخذه بعكاظ حرب بن أمية، وكان كسرى يريد بذلك معرفة ساداتهم؛ ليعتمد عليهم في أمور العرب، فيكونوا عونا له على إعزاز ملكه وحمايته من العرب
…
1.
1 مثير العزم الساكن في فضائل البقاع والأماكن لابن الجوزي، مخطوطة بدار الكتب الظاهرية "أدب 46" الكراس الخامس عشر.
وهي أيضا ندوة سياسية عامة، تقضى فيها أمور كثيرة بين القبائل؛ فمن كانت له إتاوة على قبيلة نزل عكاظ فجاءوه بها، ومن أراد تخليد نصر لحيه فعل فعل عمرو بن كلثوم فرحل إلى عكاظ وخلده فيها شعرا، ومن أراد إجارة أحد هتف بذلك في عكاظ حتى يسمع عامة الناس، ومن أراد إعلان حرب على قوم أعلنه في عكاظ، حتى "جمعية الأمم" أو "هيئة الأمم المتحدة" وما قامتا به من مجهود "رسمي" في سبيل السلم الخاص، كان لها صورة مصغرة تشبههما بحسب الظاهر "لا في الحقيقة؛ لأن عكاظ لم تكن ترائي فتستغل الدعاية الشريفة لتسيغ للقوي أكل الضعيف"، فقد روى الأصفهاني أنه:"اجتمع ناس من العرب بعكاظ منهم قرة بن هبيرة القشيري والمخبل وهو في جوار قرة، في سنين تتابعت على الناس فتواعدوا وتوافقوا ألا يتغاوروا حتى يخصب الناس"1 ولا يخفى علينا أنه كانت تكون في عكاظ "وقائع مرة بعد مرة"2.
وكانت هذه السوق تقوم من العرب يومئذ مقام الجريدة الرسمية في أيامنا هذه، وقد تقدم آنفا شيء من ذلك في أمر الجوار وأخبار
1 الأغاني 14/ 37.
2 بلوغ الأرب 1/ 368.
الحروب. فمن أتى عملا شائنا تأباه مروءة العربي شهروا أمره بعكاظ، ونصبوا له راية غدر1 فعرفوه فلعنوه واجتنبوه، ومن أراد أن يستلحق امرأ بنسبه استلحقه وأعلن ذلك للناس في عكاظ، ومن أراد التبرؤ من قريب لسبب ما، تبرأ منه علنا، فإذا أتى بعد ذلك جريمة أو خيانة كان المتبرئ -في عرف العرب يومئذ- في حل مما أتى قريبه: ذكروا "أن قيس بن الحدادية من شعراء الجاهلية، كان شجاعا فاتكا صعلوكا خليعا، وقد جر على قومه خزاعة عنتا وإرهاقا كبيرا، فخلعته خزاعة بسوق عكاظ وأشهدت على نفسها بخلعها إياه، فلا تحتمل جريرة له ولا تطالب بجريرة يجرها أحد عليه"2.
وإذا أطلق لقب على أحد في عكاظ عرف صاحبه به، وجرى له مجرى اسمه واسم أبيه: قاتل أبو ربيعة بن المغيرة من قريش يوم
1 لم يقتصر هذا على عكاظ، بل نجد نحوا منه في عامة المواسم ولا سيما مواسم الحج، فإذا غدر الرجل بجاره أوقدوا النار بمنى أيام الحج على أحد الأخشبين ثم صاحوا: هذه غدرة فلان ليحذره الناس. بلوغ الأرب 2/ 162. وهدد زهير بن أبي سلمى بني عبد الله بن غطفان إن لم ينصفوا بقوله:
وتوقد ناركم شررا ويرفع
…
لكم في كل مجمعة لواء
العقد الثمين ص31.
2 الأغاني 12/ 20.
شرب "وهو من أيام عكاظ" برمحين فسمي ذا الرمحين وبه يعرف، وثبت في هذه الحروب من قريش أولاد أمية بن عبد شمس الستة وهم: حرب وأبو حرب وسفيان وأبو سفيان وعمرو وأبو عمرو فسموا "العنابس" والعنبس: الأسد1، وأمثال ذلك.
وغني عن البيان أيضا ما يدخره الصغار الذين يصطحبهم أهلوهم إلى عكاظ من ذكريات عن تلك السوق لا تنسى، هذه خولة بنت ثعلبة2 تستوقف عمر بن الخطاب في خلافته، فيقف لها فتقول:"إيها يا عمر، عهدتك وأنت تسمى عميرا في سوق عكاظ تزع الصبيان بعصاك، فلم تذهب الأيام حتى سميت عمر، ولم تذهب الأيام حتى سميت أمير المؤمنين! "3.
وخير ما يعطينا صورة واضحة عن عكاظ أن نعرض لأهم الأحداث التي جرت فيها، فنتمثل بوساطتها أحوال العرب في هذه السوق الكبرى، في بيعهم وشرائهم وتخاصمهم وتفاخرهم وحربهم
1 القاموس مادة "عنبس".
2 التي سمع الله كلامها من فوق سبع سماوات وأنزل فيها: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ
…
} انظر خبرها في كتابي "الإسلام والمرأة" ص39.
3 اجتماع الجيوش الإسلامية لابن قيم الجوزية ص68.
وسلمهم، فإن في ذلك تفصيل ما أجملت1.
وأشد ما يثير الاستغراب، هذا الشبه الكبير بين عكاظ ومعارض هذا العصر، بل إن عكاظ لأوسع مدى فيما يعرض؛ فإنه لا يقتصر على مواد التجارة والصناعة بل يتعداهما إلى الأدب والشعر والحرب والسلم والعادات
…
فإذا أنا أفضت في وصف عكاظ وما فيها، فإن ذلك إفاضة في وصف سائر أسواق العرب أيضا، فليس فيهن سوق تساميها. وما جرى في عكاظ جرى قريب منه في بقية الأسواق مع مراعاة صغر هذه واقتصارها أحيانا على أهل ناحية واحدة، فليكن تاريخ عكاظ إذًا تاريخا لكل أسواق العرب، وتاريخا لكثير من عاداتهم الاجتماعية أيضا.
1 هذه الأخبار مبثوثة في بطون الأسفار، وقد لقيت في جمعها وتبويبها من المصابرة والعناء نصيبا غير يسير، فإنه ليس لدينا تفصيل جلي عن عكاظ مجموع في موطن واحد، وأوسع فصل عنها هو ما ذكره الألوسي رحمه الله في بلوغ الأرب، ويكاد يقتصر هذا الفصل على ذكر حروب عكاظ ونتف تتعلق بالمفاخرة وهو شيء لا ينقع غلة ولا يكاد يرسم الخطوط الأولى للصورة. ونحن نعلم أن الكلمة والكلمتين والثلاث، والسطر والسطرين
…
مما يكون عرضا في خبر من الأخبار، قد يكون له من البلاء الحسن في الكشف عن الحقائق والدلالة على العادات، ما لا يكون للفصل المطول تقرؤه في موضوع واحد.
عكاظ نخل في وادٍ بين مكة والطائف على مرحلتين من مكة ومرحلة من الطائف، وموقعها جنوب مكة إلى الشرق. هذا زبدة ما يستخلص من تعاريفهم المتضاربة في عكاظ1 تقوم السوق في مكان منه يعرف بالأثيداء فيه مياه ونخل، وهو مستوٍ لا علم فيه ولا جبل إلا ما كان من الأنصاب التي كانت لأهل الجاهلية، وبها من دماء
1 من حسن الحظ أن ذهب فتحرى موضعها بنفسه باحث عربي فوصفه لنا. وهو السيد خير الدين الزركلي الشاعر في كتابه "ما رأيت وما سمعت" ص79 قال: "على مرحلتين من مكة للذاهب إلى الطائف في طريق السيل، يميل قاصد عكاظ نحو اليمين، فيسير نحو نصف الساعة فإذا هو أمام نهر في باحة واسعة الجوانب يسمونها "القانس، بالكاف المعقودة" وهي موضع سوق عكاظ
…
وهذه الباحة هي مجتمع الطرق إلى اليمن والعراق ومكة، وهي مرتفعة تشرف على جبال اليمن
…
والواقف فيها يرى على مقربة منه موضعين مرتفعين أحدهما يسمى الدمة "بكسر ففتح" والآخر البهيتة "بصيغة التصغير" وعكاظ هو الفاصل بين الدمة والوادي الموصل إلى الطريق التي يمر بها سالكو درب السيل
…
وسمعت كثيرا من أهل الطائف يقولون: إن عكاظا كان في مكان يعرف اليوم باسم "القهاوي" في وادي لية من الطائف. غير أن الشيوع يؤيد ما قلناه آنفا من أنه هو "القانس" نفسه وعليه أكثر العارفين من أهل هذه الديار".
هذا، وقد نشر الدكتور محمد حسين هيكل كتابه "في منزل الوحي" بعد صدور الطبعة الأولى من كتابنا هذا بنحو سنة، فإذا فيه بحث عن عكاظ وقد رجح المؤلف أن موضعها جنوب الطائف مستندا إلى قول "ابن رستة" =
البدن كالأرحاء العظام1. كانوا يطوفون حول صخور فيها، وربما
= في الأعلاق النفيسة وإلى أن "مولر" رسم خريطة الإدريسي الغامضة وحل ألغازها، فكانت عكاظ جنوب شرقي الطائف. أما قول ابن رستة فليس فيه تصريح بذلك وأما حل مولر ألغاز خريطة الإدريسي فلن يقف بحال لما تضافر عليه باحثو العرب قدماؤهم ومحدثوهم، وخريطة الإدريسي نفسها حافلة بالأغلاط، ثم ينقل عن المستر فلبي رأيه في أن عكاظ في مكان السيل الصغير ص"380" وقد مضى المؤلف بالسيارة إلى حيث قيل له، ورجح أن السوق كانت في موضع السيل الكبير ص381.
وخلو مصادر الدكتور هيكل من "أسواق العرب" دليل على أن هديتنا إليه لم تصله وقد أرسلناها إليه بعنوان "مجلة السياسة الأسبوعية" قبل صدور كتابه "في منزل الوحي" بعشرة أشهر. وكان الظن بمثله أن يطلع على الكتاب، وقد كتب عنه في المجلات العلمية قبل طبع بحثه المذكور.
وفي شهر رمضان 1370هـ "تموز 1951م" أي: بعد صدور الطبعة الأولى من "أسواق العرب" بـ 14 سنة، نشر في مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق "ص377/ 26" محاولة للسيد حمد الجاسر في تحديد السوق، فإذا به يجعلها شرقي الطائف أي: لا على طريق القاصد من مكة إلى الطائف "في نحو ثلثي الطريق" على ما في تعاريف القدماء. ومع ما بذل من جهد، فإن النفس لا تطمئن إلى مذهبه مع اعترافه بأن أغلب الأعلام التي كانت حول عكاظ لا تعرف اليوم. ومع هذا فقد يوفق باحث في المستقبل إلى الصواب المقنع.
ولما زرت الطائف بعد أيام الحج سنة 1378هـ "1959م" حرصت أن أرجع بما يشفي النفس وتفرجت على المسيل الذي وصفوه، وسألت العارفين وخرجت بصحبة وجيه الطائف السيد محمد صالح نصيف وعرفت منه أن الذي =
1 معجم ما استعجم للبكري 660، ومراصد الاطلاع وياقوت.
كان ذلك شعيرة من شعائرهم، فقد ذكروا أنهم كانوا يحجون إليها. وبالأثيداء كانت أيام الفجار.
والظاهر أن ما يطلق عليه "عكاظ" من الأرض متسع فسيح فيه حرار، وفيه أرضون مسقية ذات نخيل. وقد مر في حروب الفجار أن "شربا" من عكاظ، وأن "العبلاء" إلى جنب عكاظ، وأن "شمطة" موضع في عكاظ، وأن "الحريرة" حرة إلى جانب عكاظ مما يلي مهب جنوبها، وعرفت أن بني نصر صبروا مع ثقيف؛ لأن عكاظ بلدهم وذلك الذي أحماهم.
ولا شك أن أرضا اتسعت بعض أجزائها لمعارك عدة أرض فسيحة واسعة، وبذلك نفهم كيف كانت السوق تتنقل في عكاظ، فلا تلازم بقعة واحدة لا تحيد عنها يمينا ولا شمالا على مدى السنين المتطاولة.
وهي وما جاورها ديار قيس عيلان وهوازن منهم خاصة.
وقد عرفت من حرب الفجار ص170 أن قريشا بادرت من
= استقر عليه رأي الباحث المرحوم السيد رشدي ملحس وابن بليهد وسمو الأمير فيصل في عكاظ: أنها متنقلة على أرض تمتد من جنوبي العشيرة إلى المسيل الصغير و"الحاوية".
وأظن جهدا يبذله الأفاضل العارفون من أهل تلك الناحية موصلا إلى الكشف عن موضع عكاظ بما يزيل كل ريب، إن شاء الله.
عكاظ مسرعة إلى الحرم؛ خوفا من هذه القبائل بعد قتل البراض، إذ كانت عكاظ في ديارهم، وهم بها أكثر ما يكونون منعة وعددا.
أما اشتقاق عكاظ ولِمَ سميت بهذا الاسم، فقد ذهب اللغويون فيه مذاهب، وقلبوا الكلمة على معانيها المختلفة: فالقهر والحبس وردّ الفخر والتجادل والتحاج
…
كل هذا معانٍ للعكظ وكلها صالحة لأن يعلل بها التسمية، فيقول قوم: سميت عكاظ؛ لأن العرب كانت تجتمع فيها فيعكظ بعضهم بعضا في المفاخرة أي: يقهره ويعركه، وقال آخرون: إنها من تعكّظ القوم، إذا تحبسوا لينظروا في أمورهم، وذهب غيرهم إلى أنها من التعاكظ بمعنى التفاخر.
تقوم هذه السوق في ذي القعدة، وللعلماء بعد خلاف في تعيين أيامها من هذا الشهر؛ فالمرزوقي يجعلها تبدأ من نصفه حتى آخره، وآخرون يجعلون وقتها في شوال1، إلا أن الأكثرين على أنها تبدأ من أول ذي القعدة وتستمر حتى العشرين منه؛ إذ تبدأ سوق مجنة فيرتحل إليها الناس وهي أقرب من مكة، فإذا أهل ذو الحجة انقشع الناس من مجنة إلى ذي المجاز قرب عرفة، وبقوا فيها حتى يوم التروية فيبدأ الحج.
1 ذكره صاحب مراصد الاطلاع، وياقوت في إحدى روايتيه.
ويمكن جمع الأقوال المتقدمة بأن عكاظ قد تحفل بالناس في شوال ويتم تقاطرهم إليها في ذي القعدة؛ الزمن الرسمي للسوق. وحين تذهب جماعاتهم إلى مجنة في العشرين من ذي القعدة يتخلف كثير ممن لم يكن أنهى بيعه وشراءه فلا يتم خلو السوق تماما إلا في غرة ذي الحجة عند اقتراب الحج1.
والسوق لقيس بن عيلان وثقيف وهي بمعكد هوازن، وأرضها لنصر، حتى لقد منعت هوازن قريشا مرة من حضور عكاظ، فقد روى الهمداني أنه لما طرد عبد الله بن جدعان القرشي مائة ناقة لكلاب بن ربيعة من هوازن، أرسل هذا إلى قريش:"إن سفيهكم أغار علي فطردنا2 مائة ناقة، فليس لكم أن تشهدوا عكاظ، ولي عليكم ترة، وكان عكاظ في وسط أرض قيس عيلان"3 ونوت قريش قتل ابن جدعان؛ لعدم استغنائها عن حضور السوق.
1 هناك من نقل: أن لعكاظ غير تلك السوق السنوية التي تجتمع بها القبائل، لها أيضا سوق أسبوعية تقوم كل يوم أحد للبيع والشراء. انظر "مدنية العرب في الجاهلية والإسلام" لرشدي ص59.
2 كذا ولعلها "طرد لي".
3 الإكليل ج8 ص184.
ينزل السوق "قريش وهوازن وغطفان وخزاعة والأحابيش وعضل والمصطلق وطوائف من أفناء العرب"1 يؤمونها من العراق والبحرين واليمامة وعمان والشحر واليمن وسائر أطراف الجزيرة.
فهي عامة حتى إنه ليس فيها مكّاس ولا عشّار؛ لأنه لم تكن في ملك أحد من الأمراء. وقربها من مكة ومشاعر الحج ألبسها حرمة تتقصف دونها مطامع الكبراء، ولعل من أهم ميزاتها صفتها العامة هذه، أما الفصل بين الناس فيها فزعم المرزوقي "أن أمر الموسم وقضاء عكاظ كان في بني تميم يكون ذلك في أفخاذهم: الموسم على حدة، وعكاظ على حدة، وكان من اجتمع له ذلك منهم عامر بن الظرب العدواني وسعد بن زيد مناة من تميم، وقد فخر المخبل بذلك في شعره فقال:
ليالي سعد في عكاظ يسوقها
…
له كل شرق من عكاظ ومغرب
ثم وليه "فلان وفلان
…
" حتى جاء الإسلام فكان يقضي بعكاظ محمد بن سفيان بن مجاشع بن دارم، وكان أبوه قاضيها في الجاهلية، فمات فصار ذلك ميراثا لهم، وكان آخر من قضى منهم ووصل إلى الإسلام الأقرع بن حابس".
وكان الناس ينزلونها منحازين على مداعيهم وراياتهم في المنازل،
1 الأزرقي 131.
تضبط أمور كل قبيلة أشرافها وقادتها. ويختلط بعض الناس في بعض إذا هبطوا بطن السوق للبيع والشراء.
تقيم العرب هؤلاء الأيام في عكاظ يتهيئون للحج ويتبايعون ويتناشدون ويتفاخرون ويتقارعون ويتنافرون ويتعاظمون1.
ولم يكن مجمع للعرب أحفل من عكاظ، فكانوا يضربون بكثرة أهلها المثل، وبقيت لها هذه الشهرة بعد الإسلام، فقد جاء في الأمالي: أن عبد الرحمن بن ملجم قاتل علي بن أبي طالب لما سئل عن قتله عليا قال: "ضربته ضربة، لو كانت بأهل عكاظ لقتلتهم"2.
وكما كان يقوم بأمر الحكومة عامة فيها بنو تميم3، كانت الحكومة في الشعر للنابغة الذبياني.
لا عاشر لهذه السوق، وأما بيعهم فيها فهو السرار وجس اليد4.
1 المفاخرة: أن يتحاكم اثنان في أيهما آباؤه أكثر مفاخر. والمنافرة: أن يتحاكما في أيهما أعز نفرا من صاحبه. والمعاظمة: أن يتحاكما في أيهما أعظم مصيبة. والمقارعة شبيهة بالمنافرة. هذا وقد يكتفي المتنافران بالحكم مجردا وقد يجعلان بينهما جُعلا للذي حُكم له بالغلبة، إبلا أو جارية أو مالا
…
2 ج2 ص256.
3 انظر كتاب "المحبر" ص182.
4 انظر فصل "بيوع الجاهلية" من هذا الكتاب ص46.
وإليك الآن مُثُلا مما كان يجري في عكاظ سياسة ومنافرة وفداء أسرى، وأدبا وحربا ومتاجرة:
1-
منافرة:
اجتمع يزيد بن عبد المدان وعامر بن الطفيل بموسم عكاظ، وقدم أمية بن الأسكر الكناني وتبعته ابنة له من أجمل أهل زمانها، فخطبها يزيد وعامر. فقالت أم كلاب امرأة أمية:
"من هذان الرجلان؟ " فقال: "هذا يزيد بن عبد المدان، وهذا عامر بن الطفيل" فقالت: "أعرف بني الديان، ولا أعرف عامرا" فقال: "هل سمعت بملاعب الأسنة؟ " فقالت: "نعم" قال: "فهذا ابن أخيه" وأقبل يزيد يفاخر خصمه فقال:
"يا أمية، إن ابن الديان صاحب الكتيبة ورئيس مذحج ومكلم العُقاب، ومن كان يصوّب أصابعه فتنتطف دما ويدلك راحتيه فتخرجان ذهبا".
فقال أمية: "بخ بخ! مرعى ولا كالسعدان"1،
1 في مجمع الأمثال للميداني: "السَّعْدان: أخثر العشب لبنا، وإذا خثر لبن الراعية كان أفضل ما يكون وأطيب وأدسم. ومنابت السعدان: السهول، وهو من أنجع المراعي في المال، ولا يحسن على نبت كما يحسن عليه". ثم ذكر روايتين في أول من أرسل هذا المثل: الأولى أنه الخنساء الشاعرة، والثانية، رواه عن المفضل: أن قائله امرأة من طيء كان تزوجها امرؤ القيس. وارجع إلى القصة هناك.
"فأرسلها مثلا".
فقال يزيد: يا عامر! هل تعلم شاعرا من قومي سار بمدحة إلى رجل من قومك؟
قال: اللهم لا.
قال: فهل تعلم أن شعراء قومك يرحلون بمدائحهم إلى قومي؟
قال: اللهم نعم.
قال: فهل لكم نجم يمان أو برد يمان أو سيف يمان أو ركن يمان؟
قال: لا.
قال: فهل ملكناكم ولم تملكونا؟
قال: نعم.
فنهض يزيد، وأنشأ يقول مخاطبا أبا البنت:
أميَّ يابن الأسكر بن مدلج
…
لا تجعلنْ هوازنا كمذحج
إنك إن تلهج بأمر تلجج
…
ما النبع في مغرسه كالعوسج
ولا الصريح المحض كالممزج
فزوج أمية يزيد بن عبد المدان ابنته، ثم لج التهاجي بين الرجلين.
2-
في سبيل بغيّ:
وافى معاوية بن عمرو بن الشريد عكاظ في موسم من مواسم العرب، فبينا هو يمشي بسوق عكاظ إذ لقي أسماء المرية وكانت جميلة، وزعم أنها كانت بغيا فدعاها إلى نفسه فامتنعت عليه، وقالت:"أما علمت أني عند سيد العرب هاشم بن حرملة؟ ".
فأحفظته فقال: "أما والله لأقارعنه عنك" قالت: "شأنك وشأنه".
فرجعت إلى هاشم فأخبرته بما قال معاوية وما قالت له، فقال هاشم:
"لعمري، لا نريم أبياتنا حتى ننظر ما يكون من جهده".
ثم مضى عام وأصاب قوم هاشم غرة من معاوية فقتل في خبر طويل، وكان بين الحيين يوم حوزة الأول ويوم حوزة الثاني ويوم ذات الأثل ويوم ملحان وهي من أيام العرب المشهورة الطافحة أدبا وشعرا ورجزا. ولها الفضل في إتحاف اللغة العربية بأكثر قصائد الخنساء؛ لأنها أخت معاوية هذا وأخيه صخر، فلهذه الأيام قالت الخنساء أبلغ الرثاء في الشعر العربي.
3-
خطة غدر:
لقي زرعة بن عمرو بن خويلد النابغة بعكاظ، فأشار عليه أن يشير على قومه بقتال بني أسد وترك حلفهم، فأبى النابغة الغدر، فبلغه أن زرعة يتوعّده فقال من قصيدة:
نبثت زرعة والسفاهة كاسمها
…
يهدي إلي غرائب الأشعار
فحلفت يا زرع بن عمرو إنني
…
رجل يشق على العدو ضراري
أرأيت يوم عكاظ حين لقيتني
…
تحت العجاج فما شققت غباري
أنا اقتسمنا خطتينا بيننا
…
فحملت برة واحتملت فجار1
فلتأتينك قصائد وليدفعن
…
جيشا إليك قوادم الأكوار2
رهط ابن كوز محقبي أدراعهم
…
فيهم ورهط ربيعة بن حذار و..
وبنو جذيمة حي صدق سادة
…
غلبوا على خبت إلى تعشار
متكنفي جنبي عكاظ كليهما
…
يدعو بها ولدانهم عرعار3
…
إلخ.
وهكذا لم يخنع للتهديد قاضي الشعراء في عكاظ، بل التزم
1 برة: اسم عرف للبر، وفجار: اسم للفجور.
2 الكور: رحل الناقة، والقادمة: مقدمته.
3 عرعار: لعبة لصبيان الأعراب، كانوا يتداعون بها ليجتمعوا للعب. يعني: أنهم آمنوا وصبيانهم يلعبون في عكاظ.
الوفاء وشهّر هذا الذي يريد أن يحمله على الغدر تشهيرا يدرك عاره كل من في عكاظ.
4-
معاظمة في المصائب:
أيام حوزة والأثل وملحان، ذهبت بوالد الخنساء عمرو بن الشريد وبأخويها صخر ومعاوية، فطفقت الخنساء تبكي قتلاها ولا تزداد على الأيام إلا إعظاما لمصيبتها، فقرّحت أجفان الناس بما بكت على هؤلاء وخاصة أخاها صخرا.
انحدرت هذه الشاعرة العظيمة إلى عكاظ تسجل فيها رسميا أنها أعظم العرب مصيبة، فليس أحد أصيب بما أصيبت، فكانت تنزل كل عام على هودج سوّمته لتلفت إليها الأنظار، وجرت على هذه العادة أعواما.
ثم كانت وقعة بدر التي انتصف فيها الإسلام من مناوئيه، وقتل فيها من أعدائه صناديد قريش: عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة. "فأقبلت هند بنت عتبة ترثيهم، وبلغها تسويم الخنساء هودجها في الموسم ومعاظمتها العرب بمصيبتها بأبيها عمرو بن الشريد وأخويها صخر ومعاوية، وأنها جعلت تشهد الموسم وتبكيهم وقد
سومت هودجها براية، وأنها تقول:"أنا أعظم العرب مصيبة" وأن العرب قد عرفت لها بعض ذلك، فلما أصيبت هند بما أصيبت به وبلغها ذلك قالت:"أنا أعظم من الخنساء مصيبة". وأمرت بهودج فسوم براية وشهدت الموسم بعكاظ، وجعلت تندب قتلاها بقولها:
من حس لي الأخوين كالـ
…
ـغصنين أو من رآهما
قرمان1 لا يتظالما
…
ن ولا يرام حماهما
ويلي على أبوي والـ
…
ـقبر الذي واراهما
لا مثل كهلي في الكهو
…
ل ولا فتى كفتاهما
…
إلخ.
وقالت: "اقرنوا جملي بجمل الخنساء" ففعلوا. فلما أن دنت منها قالت لها الخنساء: "من أنت يا أخية؟ " قالت: "أنا هند بنت عتبة أعظم العرب مصيبة، وقد بلغني أنك تعاظمين العرب بمصيبتك، فبم تعاظمينهم؟ ".
فقالت الخنساء: "بعمرو بن الشريد وصخر ومعاوية ابني عمرو، وبم تعاظمينهم أنت؟ ".
قالت: "بأبي عتبة بن ربيعة وعمي شيبة بن ربيعة وأخي الوليد بن عتبة".
1 القرم: الفحل، السيد.
قالت الخنساء: "أوسواء هم عندك؟! " ثم أنشدت تقول:
أبكي أبي عمرا بعين غزيرة
…
قليل إذا نام الخلي هجودها
وصنويّ، لا أنسى معاوية الذي
…
له من سراة الحرتين وفودها
وصخرا، ومن ذا مثل صخر إذا غدا
…
بساهمة الآطال قبا يقودها1
فذلك يا هند الرزية فاعلمي
…
ونيران حرب حين شب وقودها
فقالت هند تجيبها:
أبكي عميد الأبطحين كليهما
…
وحاميهما من كل باغ يريدها
أبي عتبة الخيرات ويحك فاعلمي
…
وشيبة والحامي الذمار وليدها
أولئك آل المجد من آل غالب
…
وفي العز منها حين ينمى عديدها
وأمر هند والخنساء هذا في عكاظ، من أغرب ما يؤثر في باب التنافس واعتناء الناس بمصائبهم واهتمامهم بالتنويه بها وتخليدها في آدابهم ومحافلهم العامة. ولعل هذا المنظر، منظر تينك السيدتين بلباسهما الأسود وجمليهما المسومين، أطرف منظر شهدته عكاظ.
1 الساهمة: الضامرة. والآطال: جمع إطل، وهو الخاصرة. والقب: جمع أقب، وهو الدقيق الخصر، الضامر البطن.
5-
الفجار الأول:
جلس بدر بن معشر الغفاري في مجلس له بعكاظ -وكان بدر رجلا حدثا منيعا مستطيلا بمنعته على من ورد عكاظ- فجعل يقول، ورجل على رأسه قائم:
نحن بنو مدركة بن خندف
…
من يطعنوا في عينه لا يطرف
ومن يكونوا قومه يغطرف
…
كأنهم لجة بحر مسدف1
وهو باسط رجله يقول: "أنا أعز العرب، فمن زعم أنه أعز مني فليضرب هذه بالسيف فهو أعز مني" فوثب رجل من بني نصر بن معاوية فضربه على ركبته فأندرها، ثم قال له:"خذها إليك أيها المخندف" وأنشد وهو شاهر سيفه:
نحن بنو دهمان ذي التغطرف
…
بحر لبحر زاخر لم ينزف
نبني على الأحياء بالمعرف
فتحاور الحيان عند ذلك، وثارا حتى كادت تكون فتنة ودماء. ثم تراجعوا ورأوا أن الخطب يسير.
وهذا الذي هاج أول أيام الفجار بين كنانة وهوازن.
1 الغطرفة: الخيلاء والعبث، والمسدف: المظلم.
6-
إتاوة:
كان لزهير بن جذيمة العبسي إتاوة على هوازن، وكان إذا كانت أيام عكاظ أتاها زهير ويأتيها الناس من كل وجه، فتأتيه هوازن بالإتاوة التي كانت له في أعناقهم، فيأتونه بالسمن والأقط والغنم
…
ثم إذا تفرق الناس عن عكاظ نزل زهير بالنفرات.
أتت زهيرا يوما عجوز من هوازن بسمن في نحي، واعتذرت إليه وشكت السنين التي تتابعن على الناس، فذاقه زهير فلم يرض طعمه، فدعسها "طعنها" بقوس في يده عطل في صدرها، فاستلقت على قفاها فانكشفت وبدت عورتها، فغضبت من ذلك هوازن واضطغنتها عليه، مع ما كان في صدرها من الغيظ والحسد. فتذامرت عامر بن صعصعة يومئذ، وتألى خالد بن جعفر "من سراة هوازن" وقال:"والله لأجعلن ذراعي في عنقه حتى يُقتل أو أُقتل" وجعلوه من شأنهم في حروب وأيام حتى ظفروا به فقتلوه.
7-
ظفر بثأر:
"أقبل شأس بن زهير العبسي من عند النعمان بن المنذر، وكان قد حباه بحباء جزيل، وكان فيما حباه قطيفة حمراء ذات هدب، وطيلسان، وطيب، فورد منعجا "وهو ماء لغني" فأناخ راحلته إلى جانب الردهة، وعليها خباء لرياح بن الأسل الغنوي، وجعل يغتسل، فناداه الغنوي: "استتر" فلم يحفل بما قال، فقال: استتر ويحك، البيوت بين يديك، فلم يحفل، وامرأة رياح تنظر إليه وهو مثل الثور الأبيض، فانتزعه رياح بسهم فقتله ونحر ناقته، فأكلها وضم متاعه وغيّب أثره.
فُقد شأس بن زهير، ومكث قومه كذلك ما شاء الله حتى رأوا امرأة رياح هذه باعت بعكاظ قطيفة حمراء أو بعض ما كان من حباء الملك، فعرفوها وعلموا أن رياحا صاحب ثأرهم. فغزت بنو عبس غنيا قبل أن يطلبوا قودا أو دية، وهرب رياح منهم، وكان لعكاظ الفضل في معرفة القاتل؛ إذ عملت في ذلك عمل رجال التحري اليوم.
بقي قوم شأس ووالده زهير خاصة يكثرون القتل في غني
ولا يشتفون، وضرب الزمان ضرباته فالتقى خالد بن جعفر بن كلاب، هو ووالد شأس القتيل العبسي في عكاظ في الشهر الحرام، فقال خالد لزهير:"لقد طال شرنا منك يا زهير، أما آن لك أن تشتفي وتكف؟ " قال زهير: "أما والله ما دامت لي قوة أدرك بها ثأرا فلا انصرام له". وأغلظ له زهير وحقره. وكان ذلك الكلام بينهما أمام رجال من قريش كانوا في عكاظ، فلما حقره زهير وسبه قال خالد:
"اللهم أمكن يدي هذه الشقراء القصيرة من عنق زهير بن جذيمة، ثم أعنى عليه".
فقال زهير: "اللهم أمكن يدي هذه البيضاء الطويلة من عنق خالد ثم خل بيننا".
فقالت قريش: "هلكت والله يا زهير". فقال: "إنكم -والله- الذين لا علم لكم".
وكانت هوازن تؤتي زهير بن جذيمة الإتاوة كل سنة بعكاظ، وهو يسومها الخسف، وفي أنفسها منه غيظ وحقد.
ومضى الرجلان وتفرق الجمع عن عكاظ، وبقي خالد وقومه يتربصون بزهير حتى وجدوا منه غرة فقتلوه.
وفي ذلك يقول خالد بن جعفر بن كلاب:
بل كيف تكفرني هوازن بعدما
…
أعتقتهم فتوالدوا أحرارا
وقتلت ربهم زهيرا بعدما
…
جدع الأنوف وأكثر الأوتارا
وجعلت مهر نسائهم ودياتهم
…
عقل الملوك هجائنا وبكارا
8-
سيف يثأر لصاحبه:
قُتل الحارث بن ظالم -وكان أحد الجبارين الفتاكين الذين أضرموا الجزيرة فتنا ودماء- قتله ابن الخس التغلبي؛ ثأرا بأبيه الذي كان كاهن يزيد بن عمرو الغساني، أمره بقتله الملك في خبر طويل
…
فأخذ ابن الخس سيف الحارث بن ظالم، فأتى به عكاظ في الأشهر الحرم، فجعل يعرضه على البيع ويقول:"هذا سيف الحارث بن ظالم" فاشتراه قيس بن زهير بن جذيمة، فأراه إياه فعلاه به حتى قتله ثم أنشد قيس يرثي الحارث:
وما قصرت من حاضن دون سترها
…
أبر وأوفى منك حار بن ظالم
أعز وأحمى عند جار وذمة
…
وأضرب في كاب من النقع قاتم1
1 حار في البيت الأول مرخم حارث. وكبا الغبار: علا.
9-
شريف غير مقنّع:
كانت الفرسان إذا كانت أيام عكاظ في الشهر الحرام وأمن بعضهم بعضا تقنعوا كيلا يعرفوا، وكذلك كان حال الشرفاء، فإنه لا يوافي عكاظ شريف إلا على وجهه برقع؛ مخافة أن يؤسر يوما فيكبر فداؤه، وكان طريف بن تميم العنبري من مشهوري شجعان العرب وفرسانهم، لا يتقنع كما كانوا يتقنعون.
فوافى عكاظ يوما وقد قتل رجلا من بني شيبان، وتطوع منهم رجل للأخذ بثأره من طريف، فقال لقومه:"أروني طريفا". فأروه إياه، فجعل كلما مر به تأمله ونظر إليه فأمعن النظر، ففطن طريف فقال:"ما لك تنظر إلي؟ " فقال: "أتوسمك لأعرفك، فلله علي إن لقيتك يوما أن أقتلك".
فقال طريف في ذلك:
أوكلما وردتْ عكاظ قبيلة
…
بعثوا إلي عريفهم يتوسم
فتوسموني إنني أنا ذلكم
…
شاكي سلاحي في الحوادث معلم
تحتى الأغر، وفوق جلدي نثرة
…
زغف ترد السيف وهو مثلم1
1 النثرة: الدرع الواسعة. والزغف: الدرع اللينة أو الرقيقة، الحسنة السلاسل. والشانئ: الكاره.
حولي أسيد والهجيم ومازن
…
وإذا حللت فحول بيتي خضم1
ولكل بكري لدي عداوة
…
وأبو ربيعة شانئ ومحلّم
فمضى لذلك ما شاء الله، ثم ظفر الرجل بطريف في يوم من أيام العرب، فقتله ثأرا لقتيله.
10-
تأديب سفيه:
كان عبد الله بن جعدة سيدا مطاعا، وكانت له إتاوة بعكاظ يؤتى بها؛ يأتيه بها هذا الحي من الأزد وغيرهم، فجاء سُمَير بن سلمة القشيري وعبد الله جالس على ثياب قد جمعت له من إتاوته، فأنزله عنها وجلس مكانه، فجاء رياح بن عمرو بن ربيعة بن عقيل -وهو الخليع، سمي بذلك لتخلعه عن طاعة الملوك لا يعطيهم الطاعة- فقال للقشيري:"ما لك ولشيخنا تنزله عن إتاوته ونحن ههنا حوله؟! ".
فقال القشيري: "كذبت، ما هي له" ثم مد القشيري رجله فقال: "هذه رجلي فاضربها إن كنت عزيزا" قال: "لا، لعمري لا أضرب رجلك" فقال له القشيري: "فامدد لي رجلك حتى
1 قبيلة العنبر بن عمرو بن تميم، والجمع الكثير من الناس. وانظر تفصيل هذا الخبر ومقتل طريف في يوم مبايض في العقد الفريد 5/ 208 "طبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر سنة 1365هـ" وبلوغ الأرب 1/ 368.
تعلم أأضربها أم لا؟ " فقال: "ولا أمد لك رجلي، ولكن أفعل ما لا تنكره العشيرة، وما هو أعز بي وأذل لك" ثم أهوى إلى رجل القشيري فسحبه على قفاه ونحّاه، وأقعد عبد الله بن جعدة مكانه.
11-
إغاثة:
أغار قيس بن عاصم المنقري على بني مرة بن عوف بن ذبيان، فأسر أحد رجلين من هوازن جاورا في بني مرة. ففدى كل قوم أسيرهم من قيس بن عاصم، وتركوا الهوازني فاستغاث أخوه بوجوه بني مرة فلم يغيثوه.
ركب الهوازني إلى موسم عكاظ، فأتى منازل مذحج ليلا، فنادى يذكر أسيره ومن استغاث بهم فردوه:
دعوت سنانا وابن عوف وحارثا
…
وعاليت دعوى بالحصين وهاشم
أعيذهم في كل يوم وليلة
…
بترك أسير عند قيس بن عاصم
حليفهم الأدنى وجار بيوتهم
…
ومن كان عما سرهم غير نائم
فصمّوا وأحداث الزمان كثيرة
…
وكم في بني العلات من متصامم
فيا ليت شعري من لإطلاق غمة
…
ومن ذا الذي يحظى به في المواسم
فسمع صوتا من الوادي، ينادي بهذه الأبيات:
ألا أيهذا الذي لم يُجَبْ
…
عليك بحي يجلّي الكرب
عليك بذا الحي من مذحج
…
فإنهم للرضى والغضب
فنادِ يزيد بن عبد المدان
…
وقيسا وعمرو بن معديكرب
يفكوا أخاك بأموالهم
…
وأقلل بمثلهم في العرب
أولاك الرءوس فلا تعدهم
…
ومن يجعل الرأس مثل الذنب؟
فاتبع الصوت فلم ير أحدا. فغدا على المكشوح قيس بن عبد يغوث المرادي فقص عليه قصته، وأمر الأبيات التي سمعها ثم قال له:"بدأت بك لتفك أخي" فقال المكشوح: "والله إن قيس بن عاصم لرجل ما قارضته معروفا قط ولا هو لي بجار، ولكن اشتر أخاك منه وعلي الثمن، ولا يمنعك غلاؤه" ثم أتى عمرو بن معديكرب فقال له مثل ذلك وسأله: "هل بدأت بأحد قبلي؟ " قال:
"نعم، بقيس المكشوح" قال: "عليك بمن بدأت به" فتركه وأتى يزيد بن عبد المدان فقال: "يا أبا النضر، إن من قصتي كذا وكذا
…
" فقال له: "مرحبا بك وأهلا، أبعث إلى قيس بن عاصم، فإن هو وهب لي أخاك شكرته، وإلا أغرت عليه حتى يتقيني بأخيك، فإن نلتها وإلا دفعت إليك كل أسير من بني تميم بنجران فاشتريت به أخاك" فقال أخو الأسير:"هذا الرضى" فأرسل يزيد إلى قيس بن عاصم بهذه الأبيات:
يا قيس أرسل أسيرا من بني جشم
…
إني بكل الذي تأتي به جازي
لا تأمن الدهر أن تشجى بغُصّته
…
فاختر لنفسك إحمادي وإعزازي
فافكك أخا منقر عنه وقل حسنا
…
فيما سئلت وعقّبه بإنجاز
فبلّغه الرسول ذلك، وقال: إن يزيد بن عبد المدان يقرأ عليك السلام، ويقول لك:"إن المعروف قروض ومع اليوم غد، فأطلق لي هذا الجشمي فقد استعان بأشراف بني جشم، فلم يصب حاجته فاستجار بي. ولو أرسلت إلي في جميع أساري مضر بنجران لقضيت حقك". فقال قيس بن عاصم لمن حضره من تميم:
"هذا رسول يزيد بن عبد المدان سيد مذحج وابن سيدها ومن لا يزال له فيكم يد، وهذه فرصة لكم فما ترون؟ " قالوا: "نرى أن نُغليه عليه ونحكم فيه شططا، فإنه لن يخذله أبدا ولو أتى ثمنه على ماله كله" فقال قيس:
"بئسما رأيتم، ألا تخافون سجال الحروب، ودول الأيام، ومجازاة القروض؟! " فأبوا عليه فقال: "بيعونيه" فاشتطوا بالثمن فتركه بأيديهم واعتذر إلى يزيد قائلا: "إن الأسير بيد رجل من سعد وقد اشتطوا في ثمنه". فأرسل يزيد إلى السعدي وقال له: "احتكم"
فقال: "مائة ناقة ورعاؤها معها" فقال يزيد: "إنك لقصير الهمة، قريب الغنى، جاهل بأخطار بني الحارث، أما والله لقد غبنتك يا أخا بني سعد، ولقد كنت أخاف أن يأتي ثمنه على جلّ أموالنا، ولكنكم يا بني تميم قوم قصار الهمم" وأعطاه ما احتكم، وفك الأسير الذي بقي هو وأخوه مجاورين لمن فكه حتى ماتا بنجران.
12-
حروب الفجار:
اختلاط أحياء العرب بعضها ببعض، وجمع عكاظ للأعداء المتنافرين في صعيد واحد، وتحريمها قتال بعضهم بعضا في أيامها التي هي في الأشهر الحرم، لم يمنع الشغب بين الناس ولا الخصومة والنضال بالكلام أو الشعر. وكثيرا ما كان يهان أحد أفراد قبيلة بكلمة يثلبه بها خصمه من القبيلة المعادية فينادي: يالَ فلان، وينادي الآخر: يالَ فلان، ويهيج الشر بين القبيلتين. وكم جرّ من حروب على الحي سفهاؤه، وما أكثر ما ألقى أراذل قوم كلمات غير مبالين، فجرت من أجلها الدماء حتى أشرف الحيان على الفناء والهلكة. وهذا ما وقع في أكثر أيام الفجار وهي حروب كانت في عكاظ بين قريش وكنانة من
جهة، وهوازن من الجهة الثانية. وقد تعددت الوقائع فيها مرة بعد مرة؛ ولذلك يقول دريد بن الصمة:
تغيبت عن يومي عكاظ كليهما
…
وإن يك يوم ثالث أتغيب
وإن يك يوم رابع لا أكن به
…
وإن يك يوم خامس أتجنب1
تعرف كتب الأدب والتاريخ من أحداث الفجار أربعة، فأما الرابع الذي هو أهمها وأكبرها فقد تقدم الكلام عليه في فصل مخصوص أول الكتاب ص162.
ونتكلم هنا عن أيام الفجار الثلاثة الأولى، وهي جميعا لم تنته بحروب وإن كادت تشرف عليها؛ لأن أسبابها تافهة ولأن عقلاء الفريقين حالوا دون الشر، وبذلك نلم بأحوال سوق عكاظ إلماما شافيا.
الفجار الأول: تقدم آنفا، وهو حادث بدر بن معشر الغفاري "ص300".
الفجار الثاني: كان بين قريش وهوازن2، وكان الذي هاجه
1 بلوغ الأرب 1/ 368.
2 العقد الفريد.
أن فتية من قريش جلسوا في سوق عكاظ إلى امرأة وضيئة من بني عامر بن صعصعة، وقيل: بل أطاف بها شباب من بني كنانة لا من قريش، وعليها برقع وهي في درع فضل، فأعجبهم ما رأوا من هيئتها فسألوها أن تسفر عن وجهها فأبت عليهم. فأتى أحدهم من خلفها فشد ذيلها بشوكة إلى ظهرها وهى لا تدري. فلما قامت تقلص الدرع من خلفها، فضحكوا وقالوا:"منعتنا النظر إلى وجهها فقد رأينا خلفها"، فنادت المرأة:"يا آل عامر! " فتحاور الناس وكان بينهم قتال ودماء يسيرة فحملها حرب بن أمية وأصلح بينهم.
الفجار الثالث: "وهو بين كنانة وهوازن، وكنانة هم حلفاء قريش. وكان الذي هاجه أن رجلا من بني كنانة كان عليه دين لرجل من بني نصر بن معاوية. وكان الكناني فقيرا، فرآه دائنه النصري بسوق عكاظ، ومع النصري قرد وافى به السوق. فوقف في السوق ونادى: "من يبيعني مثل هذا القرد بمالي على فلان الكناني؟ " وجعل يعيد النداء حتى أكثر، تعييرا للكناني ولقومه. فمر به رجل من بني كنانة فسمعه، فحمي وضرب القرد بسيفه فقتله. فهتف النصري: يا آل هوازن! وهتف الكناني: يا آل كنانة! فتهايج الناس حتى كاد
يكون بينهم قتال. ثم رأو أن الخطب أيسر مما تكلفوا له، فتراجعوا ولم يفقم الشر بينهم".
13-
واعظ:
احتشد الناس في ناحية من عكاظ يتوسطهم شيخ وقور، على وجهه سمات اليقين والخير، وهو على جمل أورق، قد أرهف الناس إليه آذانهم مصغين، وأعينهم إلى وجهه، وقد شدهتهم الحيرة من ألفاظ تجري على لسانه من خبر السماء وما بعد الممات، وعظات لا عهد لهم بمثلها في أحيائهم النائية وأوطانهم الشاحبة، وإذا هو يخطبهم ويقول:
"أيها الناس، اسمعوا وعوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آتٍ آت، ليل داج ونهار ساج، وسماء ذات أبراج، ونجوم تزهر، وبحار تزخر، وجبال مرساة، وأرض مدحاة، وأنهار مجراة. إن في السماء لخبرا وإن في الأرض لعبرا، ما بال الناس يذهبون ولا يرجعون؟! أرضوا فأقاموا أم تركوا فناموا؟!
يقسم قس بالله قسما لا إثم فيه: إن لله دينا هو أرضى لكم وأفضل من دينكم الذي أنتم عليه. إنكم لتأتون من الأمر منكرا:
في الذاهبين الأوليـ
…
ـن من القرون لنا بصائر
لما رأيت مواردا
…
للموت ليس لها مصادر
ورأيت قومي نحوها
…
تمضي الأكابر والأصاغر
أيقنت أني لا محا
…
لة حيث صار القوم صائر".
سمع الناس هذا ثم أخذت أبصارهم أولئك الذين يطوفون حول الصخور في السوق، فانصرفوا حيرى، في أنفسهم شيء. وكان بين المنصرفين غلام حدث، هو صاحب الشريعة الإسلامية صلى الله عليه وسلم. بقي يذكر هذا المشهد حتى بعد أربعين سنة وقد طبقت الجزيرة دعوة الإسلام فأغارت وأنجدت، وقدمت على صاحبها وفود الأقطار بالطاعة والإجابة، وكان منهم وفد من إياد قوم قس، وفدوا على رسول الله فسمع منهم وقال لهم:"ما فعل قس بن ساعدة"؟ قالوا: "مات يا رسول الله" قال:
"كأني أنظر إليه بسوق عكاظ على جمل له أورق، وهو يتكلم بكلام عليه حلاوة، ما أجدني أحفظه".
فقال رجل من القوم: "أنا أحفظه يا رسول الله". فتلاه عليه، فلما انتهى قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"يرحم الله قسا، إني لأرجو أن يبعث يوم القيامة أمة وحده"1.
14-
تنافس شعراء:
كان نابغة بني ذبيان تضرب له قبة من أدم بسوق عكاظ؛ يجتمع إليه فيها الشعراء. فدخل إليه حسان بن ثابت وعنده الأعشى قد أنشده شعره وحكم له، ثم أنشدته الخنساء قولها:
قذى بعينك أم بالعين عوار
…
.....................
حتى انتهت إلى قولها:
وإن صخرا لتأتمّ الهداة به
…
كأنه علم في رأسه نار
وإن صخرا لكافينا وسيدنا
…
وإن صخرا إذا نشتو لنحّار
فقال النابغة: لولا أن أبا بصير "كنية الأعشى" أنشدني قبلك لقلت: إنك أشعر الناس، أنت والله أشعر من كل ذات مثانة، قالت:"والله، ومن كل ذي خصيتين".
فقال حسان: "أنا والله أشعر منك ومنها" قال: "حيث تقول ماذا؟ " قال: حيث أقول:
1 قال الجاحظ في كتاب البيان والتبيين: "لقس ولقومه فضيلة ليست لأحد من العرب؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم روى كلامه وموقفه على جمله بعكاظ وموعظته، وعجب من حسن كلامه وأظهر تصويبه. وهذا شرف تعجز عنه الأماني، وتنقطع دونه الآمال".
لنا الجفنات الغرّ يلمعن بالضحى
…
وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
ولدنا بني العنقاء وابني محرق
…
فأكرم بنا خالا وأكرم بنا ابنما
فقال النابغة: "إنك لشاعر لولا أن قللت عدد جفانك، وفخرت بمن ولدت ولم تفخر بمن ولدك! "1.
15-
ترويج بنات:
كان الأعشى يوافي سوق عكاظ في كل سنة، وكان المحلّق الكلابي مئناثا مملقا، فقالت له امرأته:"يا أبا كلاب، ما يمنعك من التعرض لهذا الشاعر؟ فما رأيت أحدا اقتطعه إلى نفسه إلا وأكسبه خيرا"
قال: "ويحك، ما عندي إلا ناقتي وعليها الحمل".
قالت: "الله يخلفها عليك" قال: "فهل له بد من الشراب والمسوح؟ ".
1 وفي رواية ثانية: "إنك قلت: "الجفنات" ولو قلت: الجفان لكان أكثر، وقلت: "يلمعن في الضحى" ولو قلت: يبرقن بالدجى لكان أبلغ في المديح؛ لأن الضيف بالليل أكثر طروقا، وقلت: "يقطرن من نجدة دما" فدللت على قلة القتلى ولو قلت: يجرين لكان أكثر لانصباب الدم، وفخرت بمن ولدت ولم تفخر بمن ولدك" فقام حسان منكسرا. وأي الروايتين كانت، فإن حكم عكاظ خليق بنفوذ البصر وصحة النظر وقوة البديهة، فما عن قليل رضيته العرب يحكم في شعراء عكاظ.
قالت: إن عندي ذخيرة لي ولعلي أن أجمعها".
مر الشاعر فتلقاه المحلق قبل أن يسبق إليه أحد، وابنه يقوده، فأخذ الخطام فقال الأعشى:"من هذا الذي غلبنا على خطامنا؟ " قال: "المحلق" قال: "شريف كريم".
ثم سلمه إليه فأناخه فنحر له ناقته، وكشط له عن سنامها وكبدها ثم سقاه، وأحاطت بنات به يغمزنه ويمسحنه، فقال:"ما هذه الجواري حولي؟ " قال المحلق: "بنات أخيك، وهن ثمانٍ شريدتهن1 قليلة".
ثم خرج الأعشى من عنده ولم يقل فيه شيئا.
فلما وافى المحلق عكاظ، إذا هو بسرحة قد اجتمع الناس عليها، وإذا الأعشى ينشدهم قصيدته التي مطلعها:
أرقت وما هذا السهاد المؤرّق
…
وما بي من سقم وما بي تعشق
ولكن أراني لا أزال بحادث
…
أغادي بما لم يمس عندي ويطرق
ومنها:
لعمري لقد لاحت عيون كثيرة
…
إلى ضوء نار باليفاع تحرق
تشب لمقرورين يصطليانها
…
وبات على النار الندي و"المحلق"
1 أي: بقية أموالهن.
رضيعي لبان ثدي أم تقاسمها
…
بأسحم داج عوض لا نتفرق1
ترى الجود يجري ظاهرا فوق وجهه
…
كما زان متن الهندواني رونق
يداه يدا صدق: فكف مبيدة
…
وكف إذا ما ضُن بالمال تنفق
ومنها:
أبا مسمع سار الذي قد فعلتمُ
…
فأنجد أقوام به ثم أعرقوا2
…
إلخ.
فما أتم الأعشى قصيدته إلا والناس ينسلون إلى المحلق يهنئونه.
ثم أتى المحلق الأعشى فسلم عليه، فقال الأعشى:
"مرحبا بسيد قومه" ثم نادى: "يا معشر العرب، هل منكم مذكار يزوج ابنه إلى الشريف الكريم؟ ".
فتسابق الأشراف إليه جريا، يخطبون بناته لمكان شعر الأعشى. فما قام من مقعده وفيهن مخطوبة إلا وقد زوجها، ولم تمس واحدة منهن إلا في عصمة رجل خير من أبيها وأفضل.
1 اليفاع: الأرض المرتفعة. تشب النار: تضرم. والمقرور: من أصابه البرد. وتقاسما: حلفا الأيمان. والأسحم: الأسود. والداجي: المظلم "يعني بالأسحم الداجي: الليل". عوض: ظرف لاستغراق الزمن المستقبل.
2 الكف المبيدة: المهلكة، التي لا تبقي على مال. أنجد: أتى نجدا. أعرق: سار إلى العراق.
فما قولك بفطنة امرأة المحلق، وحسن دعاية الأعشى، وهذا النوع من البضاعة التي روجتها عكاظ.
16-
منحة محررة:
حضر عكاظ من سراة الناس في أحد المواسم عمرو بن الشريد السلمي، وابناه معاوية وصخر أخوا الخنساء الشاعرة، وحضرها معمر بن الحارث جد جميل الشاعر الغزِل. فلما نظر معمر إلى عمرو صافنه "قام حذاءه" وأمر ولده أن يخدموه ففعلوا.
فلما تقوضت السوق دعا عمرو بن الشريد ابنيه معاوية وصخرا، فقال لهما:
"إن معمرا قد طوقني ما لم يطوقني أحد من العرب، وقد أحببت أن أكافيه" فقالا: "افعل ما بدا لك" فدعا بكاتب وصحيفة، فكتب:
"هذا ما منح عمرو بن الشريد السلمي، معمر بن الحارث العذري":
منحه ماله بالوحيدة من أخلاف يثرب، أطلال ذاك ومغانيه ورسومه وأعراصه ودواويه وزحاليفه وقريانه وبراذعه وقسوره
وعجرمه وبشامه وينعه وتاليه وحماطه وشبحه وأراكه وأحزته وحذاريه وآكامه وبرقه وعلجانه، وكل ما صاء وصمت فيه، وبكت السماء عليه وضحكت الأرض عنه فهو لمعمر دون عمرو. وممنوح به من نيات الصدر، لا يشوبه كدر الامتنان ولا أمارات الامتهان، مستنزل من هضاب الجندل وجرثومة ود بعيد المحل، لا تخلق الأيام جدته ولا يركد لمتنسم بارحه ما دام الزمان، وتوقد الحران وسمر ابنا سمير وأقام حراء وثبير1.
1 الوحيدة: من أعراض المدينة بينها وبين مكة. الخلف: ما أنبت الصيف من العشب، والجمع أخلاف. الأطلال: جمع طلل، وهو ما شخص من آثار الدار. والمغنى: المنزل الذي غني به أهله ثم ظعنوا. والرسم: ركية تدفنها الأرض، وما لا شخص له من الآثار. والأعراص: جمع عرضة، وهي كل بقعة بين الدور واسعة ليس فيها بناء. الدوية: الأرض غير الموافقة، والدو والدوية والداوية: الفلاة. والزحاليف: جمع زحلوفة، وهي "هنا" المكان المنحدر المملس. والقري: مسيل الماء من التلاع، ومدفعه من الربو إلى الروضة، والقرو: حوض طويل ترده الإبل والأرض لا تكاد تقطع، ومسيل المعصرة، وأسفل النخلة ينقر فينتبذ فيه والجمع: قريّ. والبراذع: جمع برذعة، وهي الأرض لا غليظة صلبة ولا سهلة. والقسورة: نبات سهلي، والجمع قسور، وقسور النبت: كثر. والعجرم: جمع عجرمة، وهي شجر. والبشام: شجر عطر الرائحة يسوّد الشعر، ويستاك بقضيبه. والينع: جل الشجر. والحماط: جمع حماطة، شجر شبيه بالتين أحب شجر إلى الحيات أو التين الجبلي أو الأسود الصغير =
وكتب لخمسة وثلاثين عاما خلت من عام الفيل.
ثم بعث بالكتاب مع طرف من طرائف اليمن وعدد إلى معمر.
قال الأصمعي: فهي باقية إلى الآن يفيض على ولده دخلها، وذلك في أيام الرشيد رحمه الله1.
وهذا سند تمليك محرر، صدر عن عكاظ ليعرفنا كم تهز الأريحية من نفوس الكرام.
= أو الجميز. الشبح: الباب العالي البناء، وأشباح المال: ما يعرف من الإبل والغنم وسائر المواشي. والأراك: القطعة من الأرض، وشجر من الحمض يستاك به. والأحزة: جمع حزيز، وهو الموضع الغليظ المنقاد، كثرت حجارته وغلظت كأنها سكاكين. والحذاري: جمع حذرية، وهي الأكمة الغليظة، والقطعة الغليظة من الأرض، وحرة لبني سليم وهم قوم عمرو صاحب هذا القول. والبرق: جمع برقة، غلظ من الأرض فيه حجارة ورمل وطين مختلطة، وبرق: ديار العرب تنيف على مائة، ذكر صاحب القاموس كثيرا منها فارجع إليه. والعلجان: كل شجر ذي شوك، وكل عظيم طويل من الشجر. وما صمت من المال: الذهب والفضة. وما صاء منه: الإبل وما إليها. وود: الوتد، واسم جبل، واسم صنم معروف. والبارح: الريح الحارة في الصيف. وابنا سمير: الليل والنهار، تقول: لا أفعله ما سمر السمير وابن سمير وابنا سمير أي: ما اختلف الليل والنهار.
1 الأزمنة والأمكنة 2/ 168.
17-
صفقة خاسرة "أخسر صفقة من شيخ مهو":
كانت إياد تُسبّ بالفسو وتُعيَّر به، فقام رجل من إياد بسوق عكاظ ومعه بردا حبرة فقال:
"من يشتري مني عار الفسو بهذين البردين؟ ".
فقام عبد الله بن بيدرة أخو مهو "ومهو حي من عبد القيس" فقال:
"هاتهما، واشهدوا أني اشتريت عار الفسو من إياد لعبد القيس بهذين البردين".
فلما أتى رحله، وسئل عن البردين قال:"اشتريت لكم بهما عار الدهر" فوثبت عبد القيس وقالت:
إن الفساة قبلنا إياد
…
ونحن لا نفسو ولا نكاد
وتفرق الناس عن عكاظ بابتياع عبد القيس عار الفسو حتى قال الشاعر:
يا من رأى كصفقة ابن بيدرة
…
من صفقة خاسرة مخسرة
المشتري الفسو ببردي حبرة
…
شلت يمين صافق ما أخسره
وسارت هذه الصفقة الخاسرة مثلا بين الناس.
قال ابن دارة:
وإني إن صرمت حبال قيس
…
وحالفت المزون على تميم
لأخسر صفقة من شيخ مهو
…
وأجور في الحكومة من سدوم1
وتلك غريبة في بابها بين جميع مآتي القوم في عكاظ.
18-
فتنة جمال:
زعموا: "أن جارية بن سليط كان أحسن الناس وجها وأمدهم جسما، وأنه أتى عكاظ فأبصرته امرأة من خثعم فأعجبها، وتلطفت له حتى وقع عليها، فلما فرغ قالت: "إنك قد أتيتني على طهر، وإني لا أدري لعلي سأعلق لك ولدا، فموعدك فصال ولدي إن حملت لك" فسمى لها اسمه.
ثم وافى عكاظ لرأس ثلاثة أحوال، وأقبلت المرأة مع أمها وخالتها يلتمسنه بعكاظ حتى رأته المرأة فعرفته، وقالت لأمها:"هذا جارية" قالت أمها: "بمثل جارية فلتزن الزانية، سرا أو علانية".
1 ثمار القلوب للثعالبي ص82 في الأصل: "ضربت حبال قيس".
ووجد الرجل أن المرأة قد ولدت غلاما وفطمته. ثم دفعن إليه الغلام فسماه عوفا، فشرف وساد قومه، وهو عوف الأصم1.
19-
راية غدر:
والذي يثلج الصدر ويشفي النفس من مآثر عكاظ، مشهد نستطيع أن نفيد فيه درسا بليغا، ومثالا فعالا، وأسلوبا ناجحا في محاربة الخائنين، ووددت -والله- لو أخذنا به في أيامنا العصيبة هذه، واحتذينا مثاله، إذًا لبقي كل ساعٍ في فساد يذوق الموت ألوانا حتى يلاقي ربه بالموت المريح. قال المرزوقي:
"كانوا إذا غدر الرجل أو جنى جناية عظيمة، انطلق أحدهم حتى يرفع له راية غدر بعكاظ، فيقوم رجل فيخطب بذلك الغدر فيقول: "ألا إن فلان بن فلان غدر، فاعرفوا وجهه ولا تصاهروه ولا تجالسوه ولا تسمعوا منه".
فإن أعتب وإلا جعل له مثل مثاله في رمح، فنصب بعكاظ فلعن ورجم!! وهو قول الشماخ:
ذعرت به القطا ونصبت عنه
…
مقام الذئب كالرجل اللعين"
1 أمثال الضبي ص18.
وهي خطوة حاسمة موفقة في السياسة السلبية لمحاربة الرذائل، ما أظن أن أحدا اهتدى إليها قبل العرب ولا بعدهم.
لم يغفل العرب في عكاظ أن يرفعوا مقابل ذلك راية وفاء لمن أتى مكرمة كلفته المغارم ثم مضى فيها ولم ينكص، فقد ذكروا: أن عامر بن جوين رفعت له كندة راية غدر في صنيعه بامرئ القيس بن حجر في وجهه إلى قيصر، ورفعت له فزارة راية وفاء في صنيعه بمنظور بن سيار حيث أقحمته فصار بماله وإبله وأهله إلى الجبلين، فأجاره عامر ووفى له، وصار الناس بين حامد له وذام1.
20-
داعية الإسلام:
وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد مبعثه بثلاث سنين في عكاظ، يدعو الناس إلى الخير والهدى والسعادة. وقد لزمه منذ قيامه بالدعوة حزن عميق على قومه الذين كفروا بنعمة الله، وآلمه ألا يراهم مسارعين إلى ما به صلاحهم، فعزم ليقصدن المواسم وليأتين فيها القبائل، كل قبيلة بمنزلها، وكل جماعة في حيهم، يعرض عليهم هذا
1 انظر كتاب الأزمنة والأمكنة 2/ 170.
الدين الجديد. ولقد حرص الحرص كله على أن يهتدوا، وكان أسفه يشتد كلما ألحّ قومه بالصدّ، قام في عكاظ يقول:
"يا أيها الناس، قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا وتنجحوا" ويتبعه رجل له غديرتان كأن وجهه الذهب، وهو يقول:
"يا أيها الناس، إن هذا ابن أخي، وهو كذاب فاحذروه".
فعرف الناس أن هذا "الصادّ عن سبيل الله" هو عمه أبو لهب بن عبد المطلب، يكذبه كلما قال كلمة الحق.
عاود الدعوة مرارا فلم يُجَب ولم ييأس، ورجا أن يجد فيهم الحامي والمجير على الأقل إذ لم يجد المجيب، فكان يقول للحي في موسم عكاظ:
"لا أكره منكم أحدا على شيء. من رضي الذي أدعوه إليه قبله، ومن كرهه لم أكرهه. إنما أريد أن تحوزوني مما يراد بي من القتل، فتحوزوني حتى أبلغ رسالات ربي ويقضي الله لي ولمن صحبني بما شاء"1.
كان الناس يعجبون من أمره وأمر عمه، وهم بين راضٍ وغاضب
1 دلائل النبوة ص102.
ومتعجب يرى بعينه ثم يمضي كأن الأمر لا يهمه، ومنهم من لا ينكر ما يسمع ومنهم من يرد أقبح الرد، ومنهم من يقول: قومه أعلم به.
كان هذا دأبه أبدا يوافي به القبائل سنة بعد سنة، حتى إن منهم من قال له:"أيها الرجل، ما آن لك أن تيأس؟ " من طول ما يعرض نفسه عليهم.
انتهى رسول الله في تطوافه على القبائل في عكاظ إلى بني محارب بن خفصة. فوجد فيهم شيخا ابن عشرين ومائة سنة، فكلمه ودعاه إلى الإسلام وأن يمنعه حتى يبلّغ رسالة ربه، فقال الشيخ: أيها الرجل قومك أعلم بنبئك، والله لا يئوب بك رجل إلى أهله إلا آب بشر ما يئوب به أهل الموسم، فأغْنِ عنا نفسك" وإن أبا لهب لقائم يسمع كلام المحاربي. ثم وقف أبو لهب على المحاربي فقال:"لو كان أهل الموسم كلهم مثلك لترك هذا الدين الذي هو عليه، إنه صابئ كذاب" قال المحاربي: "أنت والله أعرف به، هو ابن أخيك ولحمتك". ثم قال المحاربي: "لعل به يا أبا عتبة لمما، فإن معنا رجلا من الحي يهتدي لعلاجه" فلم يرجع أبو لهب بشيء1.
1 دلائل النبوة ص101.
روى عبد الرحمن العامري عن أشياخ من قومه قالوا:
"أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بسوق عكاظ فقال: "ممن القوم"؟ قلنا: "من بني عامر بن صعصعة" قال: "من أي بني عامر"؟ قلنا: "بنو كعب بن ربيعة" قال: "كيف المنعة فيكم"؟ قلنا: "لا يرام ما قبلنا ولا يصطلى بنارنا" فقال:
"إني رسول الله، فإن أتيتكم تمنعوني حتى أبلغ رسالة ربي ولم أُكره أحدا منكم على شيء"؟ قالوا: "ومن أي قريش أنت؟ " قال: "من بني عبد المطلب" قالوا: "فأين أنت من بني عبد مناف؟ " قال: "هم أول من كذبني وطردني" قالوا: "ولكننا لا نطردك ولا نؤمن بك، ونمنعك حتى تبلغ رسالة ربك".
فنزل إليهم والقوم يتسوقون، إذ أتاهم بجرة بن قيس القشيري فقال:"من هذا الذي أراه عندكم أنكره؟ " قالوا: "هذا محمد بن عبد الله القرشي" قال: "وما لكم وله؟ " قالوا: "زعم لنا أنه رسول الله، يطلب إلينا أن نمنعه حتى يبلغ رسالة ربه" قال: "فماذا رددتم عليه؟ " قالوا: "قلنا: في الرحب والسعة، نخرجك إلى بلادنا ونمنعك مما نمنع به أنفسنا" قال بجرة: "ما أعلم أحدا من أهل هذه السوق يرجع
بشيء أشر من شيء ترجعون به، بدأتم لتنابذكم الناس وترميكم العرب عن قوس واحدة، قومه أعلم به، لو آنسوا منه خيرا لكانوا أسعد الناس به، تعمدون إلى رهيق قوم قد طرده قومه وكذبوه فتؤوونه وتنصرونه؟ فبئس الرأي رأيتم". ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"قم، ألحق بقومك، فوالله لولا أنك عند قومي لضربت عنقك".
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ناقته فركبها، فغمز الخبيث بجرة شاكلتها فقمصت برسول الله فألقته. وعند بني عامر يومئذ ضباعة بنت عامر بن قرط، كانت من النسوة اللاتي أسلمن مع رسول الله بمكة، جاءت زائرة إلى بني عمها فقالت:"يال عامر ولا عامر لي! أيصنع هذا برسول الله بين أظهركم لا يمنعه أحد منكم؟! ".
فقام ثلاثة نفر من بني عمها إلى بجرة، وثلاثة أعانوه، فأخذ كل رجل منهم رجلا فجلد به الأرض ثم جلس على صدره ثم علقوا وجوههم لطما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اللهم بارك على هؤلاء، والعن هؤلاء".
فلما صدر الناس رجعت بنو عامر إلى شيخ لهم قد كان أدركته السن، حتى لا يقدر أن يوافي معهم الموسم، فكانوا إذا رجعوا إليه
حدثوه بما يكون في ذلك الموسم، فلما قدموا عليه سألهم عمن كان في الموسم فقالوا:
جاءنا فتى من قريش ثم حدث أنه أحد بني عبد المطلب، يزعم أنه نبي، يدعونا إلى أن نمنعه ونقوم معه ونخرج به معنا إلى بلادنا".
فوضع الشيخ يده على رأسه ثم قال:
"يا بني عامر! هل لها من تلاف؟ هل لذناباها من تطلّب؟ فوالذي نفس فلان بيده، ما تقوّلها إسماعيلي قط، ألا إنها الحق، فأين كان رأيكم؟!! ""1.
21-
خمر:
بعث رجل من بني جشم امرأته -واسمها عبلة بنت عبيد بن خالد
…
بن حنظلة- إلى عكاظ بأنحاء سمن تبيعها له فيها، فباعت السمن وراحلتين وشربت بثمنها الخمر، فلما نفد الثمن رهنت ابن أخيه وهربت، فطلقها، فقالت في شربها الخمر:
شربت براحلتي محجن
…
فيا ويلتي، محجن قاتلي
وبابن أخيه على لذة
…
ولم أحتفل عذلة العاذل
1 دلائل النبوة ص100.
وتزوجها عبد شمس بن عبد مناف فولدت له أمية الأصغر وعبد أمية ونوفلا، وهم العبلات.
22-
تلقيب:
ساوم ربيعة بن عمرو بقدح في عكاظ فاستصغره، فقال لصاحبه:"لو وضعت فيه حوثرتي "حشفتي" لملأته" فسمي حوثرة بذلك.
23-
تصاريف القدر:
وهذا غلام وقع في الأسر وبِيع في عكاظ، وكان له في هذا البيع وذلك الأسر كل الخير، إذ افتتح لنفسه صفحة في التاريخ مجيدة فأصبح من أعلامه، ولنترك الطبري يقص كيف بدأ أمره في عكاظ في مواسم الحج:
زارت أم زيد بن حارثة قومها من بني معن بن طيء وزيد معها، فأغارت خيل لبني القين بن جسر في الجاهلية، فمروا على أبيات بني معن رهط أم زيد، فاحتملوا زيدا وهو يومئذ غلام يفعة قد أوصف، فوافوا به سوق عكاظ فعرضوه للبيع، فاشتراه منهم حكيم بن حزام لعمته خديجة بنت خويلد بأربعمائة درهم، فلما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم-
وهبته له، فقبضه رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، وقد كان أبوه حارثة بن شراحيل حين فقده قال:
بكيت على زيد ولم أدر ما فعل
…
أحي فيرجى أم أتى دونه الأجل
فوالله ما أدري وإن كنت سائلا
…
أغالك سهل الأرض أم غالك الجبل
فيا ليت شعري هل لك الدهر رجعة
…
فحسبي من الدنيا رجوعك لي بجل
تذكرنيه الشمس عند طلوعها
…
وتعرض ذكراه إذا قارب الطفل
وإن هبت الأرواح هيجن ذكره
…
فيا طول ما حزني عليه وما وجل
سأعمل نص العيس في الأرض جاهدا
…
ولا أسأم التطواف أو تسأم الإبل
حياتي أو تأتي علي منيتي
…
وكل امرئ فانٍ وإن غره الأمل
وأوصي به عمرا وقيسا كليهما
…
وأوصي يزيدا ثم من بعدهم جبل
قال: "يريد جبلة بن حارثة أخا زيد، وكان أكبر من زيد، ويعني بيزيد أخا زيد لأمه، وهو يزيد بن كعب بن شراحيل".
وحج ناس من كلب فرأوا زيدا فعرفهم وعرفوه، فقال: أبلغوا أهلي هذه الأبيات، فإني أعلم أنهم قد جزعوا علي، وقال:
ألكني إلى قومي وإن كنت نائيا
…
بأني قطين البيت عند المشاعر
فكفوا من الوجد الذي قد شجاكم
…
ولا تعملوا في الأرض نص الأباعر
فإني بحمد الله في خير أسرة
…
كرام معد كابرا بعد كابر
فانطلق الكلبيون فأعلموا أباه، فقال: ابني ورب الكعبة، ووصفوا له موضعه وعند من هو، فخرج حارثة وكعب ابنا شراحيل بفدائه وقدما مكة، فسألا عن النبي صلى الله عليه وسلم فقيل: هو في المسجد، فدخلا عليه فقالا: يابن عبد الله يابن عبد المطلب يابن هاشم يابن سيد قومه! أنتم أهل حرم الله وجيرانه وعند بيته تفكون العاني وتطعمون الأسير، جئناك في ابننا عندك فامنن علينا وأحسن إلينا في فدائه، فإنا سنرفع لك في الفداء" قال:"من هو"؟ قالوا: "زيد بن حارثة" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فهلا غير ذلك"؟ قالوا: وما هو؟ قال: "أدعوه فأخيره، فإن اختاركم فهو لكما بغير فداء، وإن اختارني فوالله ما أنا بالذي أختار على من اختارني أحدا" فقالا: قد زدتنا على النصف وأحسنت
…
فاختار زيد محمدا وقال: "إني قد رأيت من هذا الرجل شيئا ما أنا بالذي أختار عليه أحدا أبدا". فلما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرجه إلى الحجر فقال: "يا من حضر، اشهدوا أن زيدا ابني أرثه ويرثني" فلما رأى ذلك أبوه وعمه طابت أنفسهما وانصرفا1.
1 المنتخب من "ذيل المذيل من تاريخ الصحابة والتابعين" للطبري ص3-5.
24-
نداء:
وهذا منادي عامر بن الطفيل وهو واحد من منادين كثيرين، قائمين وطوافين، نستمع إليه فإذا هو يقول:
"هل من راجل فنحمله، أو جائع فنطعمه، أو خائف فنؤمنه
…
"1.
25-
منهب المعزى:
في ناحية من عكاظ، وقف شيخ هِمّ حطمته السنون فلا يكاد يستقل واقفا، ومن ورائه معزى كثيرة تكاد تملأ السهل، وأسارير الشيخ ناطقة بالغضب وحرج الصدر، وإن الناس يتساءلون، وقد عرفه بعض وجهله بعض: ما باله؟
فيجيب المجيب: "ذلك سعد بن زيد مناة بن تميم الملقب بـ "الفزر" أكثر قومه مالا وولدا"، ويجتمع عليه الناس وقد علموا أن له لشأنا، فإذا به يقول:
"أيها الناس، ألا إن هذه معزاي، فلا يحل لرجل أن يدع أن يأخذ منها شاة، ولا يحل لرجل أن يجمع منها شاتين".
1 تاريخ دول العرب والإسلام لمحمد طلعت حرب 1/ 99.
فاندفع الناس على الغنم ينتهبونها ويذهب كل لطيته، فما هو أن يسأل سائل عما حمل سعدا على إنهاب معزاه حتى يعلم أنه طلب يوما إلى ابنه هبيرة أن يسرح في معزاه فيرعاها، فأجاب هبيرة:"والله لا أرعاها سن الحسل"1، فنادى سعد ولده الآخر صعصعة قائلا:"يا صعصعة، اسرح في غنمك".
قال: "لا والله لا أسرح فيها، ألوة1 الفتى هبيرة".
فغضب سعد وسكت على ما في نفسه، حتى إذا أصبح ساق المعزى كلها إلى عكاظ، فكان منه ما رأى الناس.
سار هذا الحدث في عكاظ بين العرب واشتهر حتى صار مثلا يضرب، إذا أراد أحدهم قطع أمل صاحبه من أمر قال: لا أفعله "حتى يجتمع معزى الفزر" وأصبحت هذه القولة من أمثال العرب.
قال شبيب بن البرصاء:
ومرة ليسوا نافعيك ولن ترى
…
لهم مجمعا حتى ترى غنم الفزر1
1 انظر أمثال الضبي ص22 طبعة الجوائب. الحسل: ولد الضب ولم توجد دابة قط أطول عمرا منه، وسن كل دابة يسقط إلا سن الحسل، والمعنى: لا أرعاها أبدا. ألوة. يمين، قسم.
26-
منهب الرزق:
أما هذا ففتى المشرق نهيك بن مالك "قدم مكة بطعام ومتاع للتجارة، فرآهم مجهودين، فأنهب العير بما عليها" وها هم أولاء الناس يتهافتون على أرزاقه في عكاظ، يأخذ كل ما يقشع به عن نفسه وأهله الجوع والفقر. فلما انكشف الناس ولم يبقوا في أرض عكاظ من مال نهيك شيئا، وكان الخبر قد طار في أقطار عكاظ، أقبل خاله عليه يعاتبه على إنهاب ماله، فقال نهيك:
يا خالُ ذرني ومالي ما فعلت به
…
وما يصيبك منه، إنني مودي
إن نهيكا أبى إلا خلائقه
…
حتى تبيد جبال الحرة السود
فلن أطيعك إلا أن تخلدني
…
فانظر بكيدك هل تسطيع تخليدي
الحمد لا يشترى إلا له ثمن
…
ولن أعيش بمال غير محمود1
27-
فرسان العرب:
"اجتمع العكاظيون على أن فرسان العرب ثلاثة:
ففارس تميم عتيبة بن الحارث بن شهاب أحد بني ثعلبة بن يربوع بن حنظلة، صياد الفوارس وسم الفرسان.
1 الإصابة 6/ 84 آخر الترجمة 8911.
وفارس قيس عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر بن كلاب، وفارس ربيعة بسطام بن قيس
…
بن بكر بن وائل".
"ثم اختلفوا فيهم، حتى نعوا عليهم سقطاتهم"1.
28-
ما رأيت شيخا أكذب:
مر المستوغر بن ربيعة، شاعر معمر، بعكاظ يوما وعلى ظهره ابن ابنه شيخا هرما، فأعيا من حمله فوضعه بالأرض وقال:"عنيتني صغيرا وكبيرا" فسمعه رجل فساءه ذلك، فالتفت إليه ناصحا:
يا عبد الله، أتقول هذا لأبيك؟! أحسن إليه فطالما أحسن إليك.
قال: أوتدري من هو؟!
قال: نعم، هو أبوك أو جدك.
قال: هو والله ابن ابني.
قال الرجل: ما رأيت شيخا أكذب، لو كنت المستوغر بن ربيعة ما زدت. قال: فأنا المستوغر بن ربيعة! 2.
1 هذا قول أبي عبيدة. الكامل للمبرد ص89 طبعة ليدن.
2 عمّر طويلا جدا وأدرك صدر الإسلام، ولقد بالغوا في عمره حتى بلغوا به "320" سنة، ورووا قوله: =
الآن وقد استعرضت هذه المشاهد، وذكّرتك هذه الفقرات جوا خاصا تتصوره لعكاظ كلما مرت بك في نقلة من نقل الأدب أو التاريخ، الآن تستطيع أن تفهم: لم يعد مؤرخو الأدب عكاظ في أول ما وحّد لهجات القبائل العربية قبل نزول القرآن الكريم بأكثر من قرن، وهيأ لقريش خاصة تلك الزعامة والتحكم في اللغة والانتقاء، فسلمت من عيوب اللهجات؟ وعرفت أيضا أن عكاظ دنيا تعج بالقاصدين من كل فج عميق، وأن فيها الخطباء المصاقع يخطبون، والشعراء الفحول ينشدون، والأعزة والأشراف يتفاخرون
=
مائة أتت من بعدها مائتان لي
…
وازددت من عدد الشهور سنينا
وقد سئم حياته حين كان أحفاده صغارا، ووصف حاله بقوله:
إذا ما المرء صم فلم يناجى
…
ولم يك سمعه إلا ندايا
ولاعب بالعشي بني بنيه
…
كفعل الهر يحترش العظايا
فذاك الهم ليس له دواء
…
سوى الموت المنطق بالمنايا
العظايا: جمع عظاية وعظاءة؛ دابة على خلقة سام أبرص، أعظم منه قليلا. المنطق: المحاط في موضع النطاق.
انظر: معجم الشعراء للمرزباني ص213، والشعر والشعراء ص344، ومختلف تأويل الحديث لابن قتيبة ص360.
ويتنافرون ويتسابقون1، والموتورين يؤمونها للبحث عن واتريهم، ومن له أسير سعى إلى عكاظ في فكاكه، ومن أراد أن يأتي عملا تعرفه له العرب عامة أتاه في عكاظ، ومن أتى مكرمة في قطر فأحب أن تخلد جاء إلى عكاظ، فشهر فيها أمره.
قال أبو ذؤيب:
إذ بني القباب على عكاظ
…
وقام البيع واجتمع الألوف
وقال آخر يضرب بها المثل:
فإنك ضحاك إلى كل صاحب
…
وأنطق من قس غداة عكاظها
وهجا أمية بن خلف الخزاعي حسان وأراد إيلامه، فعنونها إلى عكاظ فقال:
ألا من مبلغ حسان عني
…
مغلغلة تدب إلى عكاظ
1 جلس القلمّس في عكاظ يسابق بين ابنتي الخُس قائلا: "إني سائلكما لأعلم أيكما أبسط لسانا وأظهر بيانا وأحسن للصفة إتقانا"، ثم كانت الأسئلة لكل منهما حول الإبل والخيل والمعزى والسحاب والرجال والنساء:"أيها أحب إليك؟ " ثم: "أيها أبغض إليك؟ " ثم استنشدهما فأنشدتاه في الحكم وتجارب الحياة، في حوار طريف وحديث مسهب. ثم ختم المجلس بقوله:"أحسنتما وأجملتما فبارك الله فيكما" ووصلهما وحباهما. وانظر المجلس بطوله في "بلاغات النساء" ص 58-64 فهو قيم حافل.
أليس أبوك فينا كان قينا
…
لدى القينات فسلا في الحفاظ
يمانيا يظل يشد كيرا
…
وينفخ دائما لهب الشواظ1
…
إلخ.
فيجيبه حسان:
أتاني عن أمية زور قول
…
وما هو بالمغيب بذي حفاظ
سأنشر ما حييت لهم كلاما
…
ينشّر بالمجامع من عكاظ2
فأنت إذ تجول في عكاظ، يتقسّم سمعك خطب وقصائد ومفاخرات ومنافرات وخصومات وأنماط من البيع لا تتشابه، وأزياء في اللبس والتكلم والمراكب
…
تجمعت من كل صوب.
ولما قال عمرو بن كلثوم قصيدته:
ألا هي بصحنك فاصبحينا
…
في العراق، أحب أن تسير في الناس ويكتب لها الخلود، فسعى إلى عكاظ في الموسم، فقام بهذه القصيدة خطيبا ثم قام بها أيضا في موسم مكة.
وكذلك قل في بقية القصائد الطوال التي يسمونها "المعلقات"،
1 المغلغلة: الرسالة السريعة. والقين: الحداد. والفسل: الرذل الساقط.
2 ديوان حسان ص241، وتاريخ النقائض ص97، وبعده:
قوافي كالسلام إذا استمرت
…
من الصم المعجرفة الغلاظ
فما كان الإجماع ليعقد على أنها أجود الشعر لولا أن المحكّمين في عكاظ شهدوا لها بذلك، وأقر السامعون بتفوقها.
تلك مشاهد عامة مما كان يجري في عكاظ، وكأن العرب الذين عرضوا في هذه السوق متاجرهم وأموالهم وأنعامهم، وعرضوا فيها أدبهم وشعرهم، أبوا إلا أن يعرضوا بقية مقوماتهم، فرأينا مشاهد عن سياستهم وصلحهم وحربهم. ولو كان لعربي أن يصبر على ضيم قريب أو بعيد لصبر هؤلاء الجيران في هذه السوق العامة، ولكن طرح الخسف ورد الضيم في نفس العربي هو قبل التجارة والأدب، ورفع الذل عنده أهون وسائله إهراق الدماء وقطع وريد الحياة؛ لأنه لا يفقه عيشا بقيد ولا يتصور حياة بذل.
والظاهر أن احتفال الناس بعكاظ لم يكن واحدا دائما، فقد كان في بعض السنين يربي على الغاية في الازدحام والحركة، حتى تضيق السوق بمن فيها، وحتى يربح التاجر والجالب إليه ربحا عظيما لا يتأتى إلا في الفرط النادر. قال المرزوقي: "فلما دخلت سنة خمس وثلاثين من عام الفيل، حضر السوق من نزار واليمن ما لم يروا أنه حضر مثله في سائر السنين، فباع الناس ما كان معهم من إبل وبقر ونقد، وابتاعوا أمتعة مصر والعراق والشام
…
".
هي إذًا معرض عام للجزيرة العربية: فيها عرض لتجارات جميع الأقطار وعرض للبيوع وعرض للعادات والأديان واللغات والآداب، وللسياسة
…
وفيها لجان رسمية على نحو ما نألف في معارضنا اليوم، تحكم للمتفوق بتفوقه حكما نافذا من أقصى الجزيرة إلى أقصاها. وتزيد على معارضنا بميزة جليلة، وهي صهرها لعادات القبائل ولغاتها ومواضعاتها لتنتقي منها أحسنها وأخلقها بالبقاء.
لسنا نعلم لهذه السوق بداية محدودة إلا أنا نرجح وجودها قبل القرن السادس الميلادي1، ولما جاء الإسلام وتوطدت أركانه في
1 في بعض المراجع القديمة والحديثة تخبّط في تعيين سنة افتتاحها وتناقض ظاهر. خذ لك مثلا هذه المصادر: بلوغ الأرب للألوسي، دائرة معارف وجدي، الوسيط للأستاذين الإسكندري والعناني، فإنها اتفقت على أن عكاظ افتتحت بعد عام الفيل بخمس عشرة سنة مع أن هناك حديثا صحيحا يفيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينبل على أعمامه في حروب الفجار وعمره أربع عشرة سنة أي: بعد الفيل بأربع عشرة سنة، فتكون الفجار ونبل الرسول فيها قبل وجود عكاظ بسنة وهو تناقض بيّن. والغريب حقا أن ينقل صاحبا الوسيط -وهما ما هما فضلا وتحقيقا- هذا التحديد عن بلوغ الأرب على علاته في الطبعة الخامسة للوسيط ص12 ثم ينقضاه هما نفساهما ص27 من الكتاب المذكور، فيذكرا نبل الرسول وعمره أربع عشرة كما فعل الألوسي تماما. ولو نجا أحد من زلل، لنجا هؤلاء الأفاضل الثقات.
أما دائرة معارف وجدي فمع ارتكابها الخطأ نفسه، فقد عزّزته بثانٍ فقالت: =
الجزيرة والعراق والشام بدأ شأنها يضؤل، ولم تزل قائمة إلى أن خرجت الخوارج الحرورية مع المختار بن عوف بمكة سنة "129" للهجرة، فنهبوها فتركت إلى الآن.
وعلى هذا، تكون هذه السوق قد عمرت أكثر من قرنين ونصف القرن.
= "عكاظ اتخذت سوقا بعد الفيل بخمس عشرة سنة، أي: سنة "540" ميلادية"؟ وهذا غير صحيح؛ لأن حادث الفيل كان سنة "570-571م". ولعل الألوسي رحمه الله أراد: "قبل الفيل بـ 15 سنة" فغيرت في الطبع كلمة "قبل" بـ "بعد" ثم تابعه على الخطأ من بعده.
ثم اطلعنا بعد صدور الطبعة الأولى بسنة، فإذا الدكتور محمد حسين هيكل يقول في كتابه "في منزل الوحي ص364 الطبعة الأولى": أدق ما يروى"! " أنها اتخذت بعد الفيل بـ 15 سنة، وقد عرفت آنفا مبلغ هذا النقل في الدقة.
وإذا تأملت أحداث عكاظ التي عرضنا لها، عرفت أن بعضها يرتفع إلى ما قبل جميع هذه التواريخ التي ذكروها: فالمرأة التي باعت أنحاء السمن بعكاظ وتزوجت بعد ذلك بعبد شمس، وعمرو بن كلثوم الذي أنشد قصيدته في عكاظ عاش حول سنة "500م". وإذا أضفت إلى هذا ما فطن له الأستاذ أحمد أمين "الرسالة، السنة الأولى، العدد 13 ص25" في بحوثه عن عكاظ والمربد، من أن المرزوقي عد عشرة ولوا القضاء بعكاظ قبل الإسلام، استظهرت أن السوق مضى على إنشائها زمن قبل أن تصير فيه هذه الأحداث كلها. من كل ذلك تعرف صحة ما ذهبنا إليه من أنها كانت قبل سنة "500م" حتما.