الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سوق الحيرة:
لم يذكر هذه السوق أحد ممن تعرض لذكر أسواق العرب مع عظم شأنها، وقصد تجار العرب إليها. وليس من المعقول أن تقصد قريش وأهل الطائف، فارس للتجارة فيها ولا يكون لهم أسواق موسمية في العراق وهي طريقهم وأهلها عرب.
إلا أن في الأغاني ما يدلنا على أن بها سوقا عظيمة موسمية، قال أبو الفرج:
"خرج الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس ومعه عطر يريد الحيرة، وكان بالحيرة سوق يجتمع إليه الناس كل سنة"1.
وبلدة كالحيرة بعيدة الصيت في جزيرة العرب، يتحدثون بخصبها وعظمتها ومنازهها
…
وأحداث ملوكها بني نصر، وعلائقهم مع من جاورهم من العرب، ويتحدثون عن الشعراء العظام الذين قصدوا ملوكها للنوال والهبات كالنابغة الذبياني والأعشى وحسان بن ثابت وغيرهم
…
بلد كهذا لا بد أن يكون مرتبطا بما جاوره من الأقاليم
1 الأغاني 16/ 95.
ارتباطا تجاريا وثيقا، وهي أولى من بصرى وأذرعات بأن يكون فيها للعرب أسواق عامة.
ويطلعنا التعمق في التنقيب على أسواق ثانية تقام في أماكن من العراق ولا تقتصر على العرب وبضائعهم، بل يخالطهم فيها أجانب من فرس وغيرهم، ويحمل إليها متاع الهند وفارس كما يحمل إليها أمتعة الشام واليمن والبحرين. فقد جاء في الطبري عند كلامه على فتوح العراق:
سوق الخَنَافس سوق يتوافى إليها الناس ويجتمع بها ربيعة وقضاعة يخفرونهم
…
قال رجل من أهل الحيرة للمثنى: "ألا ندلك على قرية يأتيها تجار مدائن كسرى والسواد وتجتمع بها في كل سنة مرة، ومعهم فيها الأموال كبيت المال؟ وهذه أيام سوقهم
…
" فصبحهم في أسواقهم فوضع فيهم السيف
…
وأخذوا ما شاءوا. وقال المثنى: "لا تأخذوا إلا الذهب والفضة، ولا تأخذوا من المتاع إلا ما يقدر الرجل منكم على حمله على دابته. وهرب أهل الأسواق وملأ المسلمون أيديهم من الصفراء والبيضاء والحر من كل شيء
…
"1.
1 تاريخ الطبري 1/ 2203 طبع أوروبا.
الحيرة مدينة واسعة الشهرة منذ القديم. ذكروا أن بانيها بختنصر، وأنه بناها لتجار العرب الذين وجدوا بحضرته ثم صارت من بعده عاصمة ملوك العراق، حتى إن الطبري ليذكر أن لها قبل الإسلام أكثر من خمسة قرون1. وموضعها إلى شمال الكوفة على ثلاثة أميال منها. طيبة الهواء كثيرة البساتين. ردد ذكرها الشعراء منذ الجاهلية وفتنوا بها وبخمرها وحاناتها وأديارها، فكانت بحق مقصف العرب عامة. ونسبوا إليها فقالوا:"حاري" على غير القياس، وقالوا:"حيري" على القياس؛ فمن الأول قول عمرو بن معديكرب:
كأن الإثمد الحاريّ منها
…
يسف بحيث تبتدر الدموع2
ومن الثاني قول بعضهم:
فلما دخلناه أضفنا ظهورنا
…
إلى كل حاريّ قشيب مشطب3
ولها تاريخ طويل يدل على قدمها وشهرتها قبل الإسلام، وأنها كانت ميدانا لحوادث جسام ليس هذا مقام سردها، فليرجع إليها في مظانّها.
1 تاريخ الطبري 1/ 748 طبع أوروبا.
2 الإثمد: حجر للكحل. وأسفّ الجرح دواء: أدخله فيه.
3 الحاريّ: السيف، والمعنى: أنهم احتبوا بالسيوف. لسان العرب، مادة "حير".
وذكر ياقوت في سبب بنائها أن: "بختنصر قد جمع من كان في بلاده من العرب بها فسمتها النبط أنبار العرب
…
فصار في الحيرة من جميع القبائل من مذحج وحمير وطيء وكلب وتميم وتنوخ
…
فأهل الحيرة ثلاثة أصناف: فثلث: تنوخ وهم كانوا أصحاب المظال وبيوت الشعر، ينزلون غربي الفرات بين الحيرة والأنبار فما فوقها. والثلث الثاني: العِباد وهم الذين سكنوا الحيرة وابتنوا فيها، وهم قبائل شتى تعبّدوا لملوكها وأقاموا هناك. وثلث: الأحلاف وهم الذين لحقوا بأهل الحيرة ونزلوا فيها". وأشار إلى بعض هؤلاء الشاعر:
وغزا تبع في حمير حتى
…
نزل الحيرة من أهل عدن
واشتهر في ظاهر الحيرة بناءان عظيمان هما: قصر الخورنق وقصر السدير. وبقيت مسكن ملوك العرب من بني نصر ولخم حتى كان آخرهم المناذرة الذين انقضى ملكهم بالإسلام.
ارتباط هذه البلدة بفارس وخضوع أمرائها لهم وكثرة العلائق بين البلدين، وسّع أفقها التجاري، وأكثر فيها الغنى والترف، وأحدث فيها نوعا من الثقافة ليس في غيرها. فقد مر بك أن قريشا تعلمت الكتابة من أهل الحيرة، وأن الذي قرأ صحيفة المتلمس غلام حيري، وأن النضر بن الحارث شيطان قريش تعلم من الحيرة أخبار ملوك
فارس وأحاديث دياناتهم وأساطيرهم، فكان إذا جلس رسول الله يدعو قريشا إلى الإسلام ويحذرهم، خلفه في مجلسه فقص عليهم من أحاديثه التي نقلها من الحيرة، وعلمت أن لقريش رحلات وقوافل تجارية إلى الحيرة، وأن للنعمان ملك الحيرة لطائم يجهزها إلى عكاظ كل سنة. وهذا الاختلاط الشديد بين أهلها والفرس والأنباط جعل أنساب الحيريين في منزلة دون منزلة بقية أنساب العرب، حتى إن من العرب من يعير بالنسب إلى الحيرة. وانظر -إن شئت- ما كان بين قيس بن عاصم وعمرو بن الأهتم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد جاء في الأغاني أن قيس بن عاصم قال في عمرو:"والله يا رسول الله ما هم منا، وإنهم لمن أهل الحيرة!! " وقال فيه:
لولا دفاعي كنتمُ أعبدا
…
مسكنها الحيرة فالسيلحون
فقال عمرو بن الأهتم متأثرا بهذا التعبير الذي لم يجد له ما يفي به، إلا أن ينسب خصمه إلى الروم:"بل هو يا رسول الله من الروم، وليس منا". ثم قال:
إن تبغضونا فإن الروم أصلكم
…
والروم لا تملك البغضاء للعرب1
هذا، وإن نحن استرشدنا بنتف من الأخبار تأتي عرضا في
1 الأغاني 12/ 150.
مطاوي الكلام، عرفنا أن للحيرة شأنا تجاريا ممتازا، وأن عادة العرب جرت منذ القديم بالمتاجرة إلى الحيرة، وأنها كانت تؤمها القوافل الكبرى التي تقصد البر حاملة متاجر الهند من عمان إلى الشام، فكانت الحيرة محطة كبرى لتلك القوافل المحمّلة، وكان أكثر الطُّرَّاء عليها تجارا يختلفون إليها1.
ولما قتل الشيظم بن الحارث الغساني رجلا من قومه، وهرب إلى الحيرة تظاهر بأنه "رجل من خيبر أقبل إلى هذه البلدة بتجارة"2.
وخرج خمسة نفر من طيء من ذوي الحجا والرأي يريدون سواد بن قارب الدوسي ليمتحنوا علمه
…
"فأهدوا إليه طرفا من طرف الحيرة، فضرب عليهم قبة ونحر لهم
…
"3.
ويذكر أبو الفرج الأصفهاني أن الأعشى باع في سوق الحيرة "كرشا مدبوغة مملوءة عنبرا بثلاثمائة ناقة حمراء"4.
مما تقدم، ومما سنذكره بعد قليل، يتبين أن للحيرة مع شأنها التجاري شأنا صناعيا راقيا حتى صارت طرفها مما يتهادى به، وليس
1 الطبري 1/ 2677.
2 الأمالي: النوادر ص179، طبعة دار الكتب المصرية.
3 المصدر نفسه 2/ 289.
4 الأغاني 9/ 125، دار الكتب.
هذا بغريب؛ فإن اختلاطها الواسع بفارس جعل أهلها يحذقون صناعات كثيرة مما أفادوه من الإيرانيين "والمعروف أن سجاجيد ذات زخارف حيوانية كانت تصنع في الحيرة قبيل الإسلام"1.
يعرض في هذه السوق الأدم والعطر والبرود والجواهر والخيل والأموال، وسائر ما يعرض في بقية أسواق العرب مما يحمل من الشام أو اليمن أو عمان أو الحجاز أو البحرين أو الهند وفارس،
عدا ما يحمل الأعراب إليها من إبل وشياه وقرود أحيانا2.
وفيها أيضا إلى هذا، أدب وشعر وخطابة ومنافرات ومماجدة كما يكون في غيرها من الأسواق، وسنعرض لبعض ما يجري فيها بعد قليل.
فلما كان الإسلام تضاءل شأنها التجاري، وانصرف الناس إلى الفتوحات فلم يمض القرن الأول للهجرة حتى صارت الحيرة ذات لون أخّاذ يفتن الشبان وأهل اللهو والمجون. فطار لها صيت بعيد ساحر في منازهها وخمرها وحاناتها3 وأديارها، وصرنا بعد هذا
1 زكي حسن "مجلة المقتطف، عدد يوليو سنة 1938 ص233".
2 الأمالي 2/ 44. وانظر تاريخ ملوك الحيرة للأعظمي ص136.
3 عقد صاحب مسالك الأبصار فصلا في كتابه عن حانات الحيرة، فارجع إليه في 1/ 389-391 وكذلك فعل في أديارها.
الزمن لا نجد ذكرا للحيرة إلا حيث مجلس شراب، وجماعة قصف وبذخ، وخليفة يخرج للترويح عن النفس، وفتيان سئموا حياة الجد فخرجوا إلى الحيرة فنزلوا أحد أديرتها أو إحدى حاناتها، فذبحوا وطعموا وشربوا وغنوا وأنشدوا. وأثري أصحاب الحانات من وراء ذلك إثراء عظيما، فصاروا يتنافسون بتجويد الخمر، وجذب الزائرين حتى كثر الذين ذهبت ثرواتهم وفدحهم الدين من جراء خمرة الحيرة.
"ولما حرّم بعض أمراء الكوفة بيع الخمر على خماري الحيرة وركب فكسر نبيذهم، جاء بكر بن خارجة يشرب عندهم على عادته، فرأى الخمر مصبوبة في الرحاب والطرق، فبكى طويلا وقال شعرا1. ويظهر أن الأمراء لم يشددوا على الخمارين حتى رأوا من إقبال الفتيان عليهم الشر المستطير، وحتى كان رجال كأبي حية النميري يشربونها في الحيرة بنسيئة، وصارت السكرة في الحيرة إحدى المنى الغالية:
هل إلى سكرة بناحية الحيـ
…
ـرة يوما قبل الممات سبيل؟!
أما بساتين الحيرة فحدث ولا حرج عما فيها من منازه نضرة وفتنة تحير اللب وتأسر العقل، وحسبك أن تعلم أن إبراهيم الموصلي
1 الأغاني 20/ 87.
خرج في ركب الرشيد إلى الحيرة، فلما نام الرشيد اغتنم غفلته فركب يدور في ظهر الحيرة، فنظر إلى بستان فقصده، فإذا على بابه شاب حسن الوجه
…
وإذا جنة من الجنان في أحسن تربة وأغزرها ماء.. فقال فيه:
جنان شمارى ليس مثلك منظر
…
لذي رمد أعيا عليه طبيب
ترابك كافور ونورك زهرة
…
لها أرج بعد الهدو يطيب
ثم صنع فيه لحنا وغناه الرشيد، فأعطاه ثمن البستان أربعة عشر ألف دينار.
لم نهتد إلى الزمن الذي تقوم فيه هذه السوق. أما ريع الطريق فقد جعله النعمان طعمة لبني لام من طيء؛ لأنهم أصهاره1. ونظرا لوقوع هذه السوق في سلطة المناذرة كانت عشورها إليهم لأنهم هم المسيطرون عليها. والأمر فيها على كل حال أكمل وأتم من بقية الأسواق من حيث النظام والأمن؛ لأنها في أرض مملكة.
وإليك الآن مشاهد مما كان يجري في تلك السوق على سبيل المثال، ولا تعجب إذا كان أكثرها في الخمرة؛ لأن الخمرة والنضرة والعزف والشعر والغناء هن الطابع الخاص للحيرة:
1 المصدر نفسه 16/ 95.
1-
منافرة حامية:
خرج الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، ومعه عطر يريد الحيرة، وكان بالحيرة سوق يجتمع إليها العرب كل سنة. فمر بحاتم بن عبد الله الطائي، فسأله الجوار في أرض طيء حتى يصير إلى الحيرة، فأجاره. ثم أمر حاتم بجزور فنحرت، وطبخت أعضاء فأكلوا.
ومر حاتم بسعد بن حارثة بن لام "وكان النعمان جعل ريع الطريق لبني لام؛ لأنهم أصهاره" وليس من بني أبيه غير ابن عمه ملحان، فوضع حاتم سُفْرَته وقال:"اطعموا حياكم الله" فقالوا: "من هؤلاء معك يا حاتم؟ " قال: "هؤلاء جيراني" قال له سعد: "أفأنت تجير علينا في بلادنا؟ " قال له: "أنا ابن عمكم وأحق من لا تخفرون ذمته" فقالوا: "لست هذاك" وأرادوا أن يفضحوه كما فُضح عامر بن جوين قبله، فوثبوا إليه، فتناول أحدهم حاتما فأهوى له حاتم بالسيف فأطار أرنبة أنفه، ووقع الشر حتى تحاجزوا، فقال حاتم:
رددت -وبيت الله- لو أن أنفه
…
هواء كما مت المخاط عن العظم
ولكنما لاقاه سيف ابن عمه
…
فآب ومر السيف منه على الخطم1
فقالوا لحاتم: "بيننا وبينك سوق الحيرة، فنماجدك ونضع الرهن".
ثم نفذوا ما قالوا، فوضعوا تسعة أفراس رهنا على يد رجل من كلب، ووضع حاتم فرسه ثم خرجوا حتى انتهوا إلى الحيرة.
وسمع بذلك إياس بن قبيصة الطائي، فخاف أن يعينهم النعمان ويقويهم بماله وسلطانه للصهر الذي بينهم وبينه، فجمع إياس رهطه من بني حية وقال:
1 الخطم: الأنف.
"يا بني حية، إن هؤلاء القوم أرادوا أن يفضحوا ابن عمكم في مجاده" فقال رجل منهم: "عندي مائة ناقة سوداء، ومائة ناقة حمراء أدْماء" وقام آخر فقال: "عندي عشرة حصن، على كل حصان منها فارس مدجج، لا يرى منه إلا عيناه".
وقال حسان بن جبلة الخير:
"قد علمتم أن أبي قد مات وترك مالا كثيرا، فعلي كل تمر أو لحم أو طعام ما أقاموا في سوق الحيرة! ".
ثم قام إياس فقال: "علي جميع ما أعطيتم كلكم".
وكان حاتم لا يعلم بشيء مما فعلوا، فذهب إلى مالك بن جبار ابن عم له بالحيرة كان كثير المال، فقال:"يابن عم، أعنِّي على مخايلتي "مفاخرتي"" فقال مالك: "ما كنت لأخرب نفسي ولا عيالي وأعطيك" فانصرف عنه.
ثم أتى حاتم ابن عم له يقال له: وهم بن عمرو، وكان حاتم يومئذ مصارما له لا يكلمه، فقالت له امرأته:"أَيْ وهم! هذار الله أبو سَفَّانة حاتم، قد طلع" فقال: "ما لنا ولحاتم، أثني النظر" فقالت: "حاتم! " قال: "ويحك، هو لا يكلمني، فما جاء به إلي؟! " فنزل حتى سلّم عليه فرد سلامه وحياه ثم قال: "خاطرت على حسبك وحسبي" قال: "في الرحب والسعة، هذا مالي "وعِدّته يومئذ تسعمائة بعير" تأخذها مائة مائة حتى تذهب الإبل، أو تصيب ما تريد".
فقالت له امرأته: "أنت تخرجنا عن مالنا وتفضح صاحبنا "تعني زوجها"؟ " قال:
"اذهبي عني، فوالله ما كان الذي غمّك ليردني عما قبلي".
ثم إن إياس بن قبيصة قال: "احملوني إلى الملك" وكان به نقرس، فحمل حتى أدخل عليه فقال:"أنعم صباحا أبيت اللعن" فقال النعمان: "وحياك إلهك" فقال إياس:
"أتمد أختانك بالمال والخيل، وجعلت بني ثعل في قعر الكنانة؟ 1 أظن
1 الأختان: الأصهار. والكنانة: جعبة السهام.
أختانك أن يصنعوا بحاتم كما صنعوا بعامر بن جوين، ولم يشعروا أن بني حية بالبلد؟! فإن شئت والله ناجزناك حتى يسفح الوادي دما، فليحضروا لمجادهم غدا مجمع العرب".
فعرف النعمان الغضب في وجهه، وقال له:
"يا أحلمنا لا تغضب، فإني سأكفيك".
وأرسل النعمان إلى سعد بن حارثة وإلى أصحابه: "انظروا ابن عمكم حاتما فأرضوه، فوالله ما أنا بالذي أعطيكم مالي تبذرونه، وما أطيق بني حية".
فخرج بنو لام إلى حاتم فقالوا له: "أعرض عن هذا المجاد" وتركوا أرش أنف صاحبهم وأفراسهم وقالوا:
"قبحها الله وأبعدها، فإنما هي مقاذيف".
فغدا إليها حاتم فعقرها، وأطعمها الناس1.
2-
حرمة شاعر في ولده:
قدم لبطة بن الفرزدق الحيرة، فمر بقوم من بني تغلب فاستقراهم فقروه، ثم قالوا له:"من أنت؟ " قال: "ابن شاعركم ومادحكم، أنا ابن الذي يقول:
أضحى لتغلب من تميم شاعر
…
يرمي الأعادي بالقريض الأثفل2
1 الأغاني 16/ 95. والأرش: الدية.
2 ثفله: نثره بمرة واحدة. وثفل الرحى: وضع تحتها ما يقيها من الأرض، ولا يثفلون الرحى إلا إذا كانت طاحنة.
إن غاب كعب بني جعيل عنهم
…
وتنمّر الشعراء بعد الأخطل
يتباشرون بموته ووراءهم
…
من لهم قطع العذاب المرسل"
فقالوا له: "أنت ابن الفرزدق إذن؟ " قال: "أنا هو" فتنادوا: "يا آل تغلب، اقضوا حق شاعركم والذائد عنكم في ابنه".
فجعلوا له مائة ناقة وساقوها إليه، فانصرف بها1.
3-
حلق لمة:
شرب طخيم الأسدي بالحيرة، فأخذه العباس بن معبد المري وكان على شُرَط يوسف بن عمر، فحلق رأسه، فقال:
وبالحيرة البيضاء شيخ مسلط
…
إذا حلف الأيمان بالله برت
لقد حلقوا منا غدافا كأنها
…
عناقيد كرم أينعت فاسبطرّت2
يظل العذارى حين تحلق لمتي
…
على عجل يلقطنها حين جزت3
4-
خمارة وشرطي:
كان الأقيشر الشاعر يكتري بغلة أبي المضاء المكاري فيركبها إلى الخمارين بالحيرة، وكان لا يسأل أحدا أكثر من خمسة دراهم؛ يجعل درهمين في كري بغل إلى الحيرة ودرهمين للشراب ودرهما للطعام
…
فيقال: إنه دفع ثمن البغل في الكراء4.
1 الأغاني 19/ 13.
2 الغداف الأسود: يعني شعره. واسبطرت: طالت وامتدت.
3 الأغاني 8/ 179 "دار الكتب". واللمة: الشعر المجاوز شحمة الأذن. وجز الشعر: قصّه.
4 الأغاني: 10/ 81.
شرب يوما في بيت خمار بالحيرة، فجاء شرطي من شرط الأمير ليدخل عليه، فغلّق الباب دونه، فناداه الشرطي:"اسقني نبيذا وأنت آمن" فقال: "والله ما آمنك، ولكن هذا ثقب في الباب فاجلس عنده، وأنا أسقيك منه". ثم وضع أنبوبا من قَصَب في الثقب وصب فيه نبيذا من داخل، والشرطي يشرب من خارج الباب حتى سكر، فقال الأقيشر:
سألني الشرطي أن نسقيه
…
فسقيناه بأنبوب القصب
إنما نشرب من أموالنا
…
فسلوا الشرطي ما هذا الغضب1
5-
مسخ:
قد جرت الطير أيامنينا
قالت، وكنت رجلا فطينا:
هذا ورب البيت إسرائينا2
قال أبو بكر في كتاب المتناهي في اللغة: "هذا أعرابي أدخل قردا إلى سوق الحيرة ليبيعه، فنظرت إليه امرأة فقالت: "مسخ" فقال هذه الأبيات".
1 الأغاني 10/ 86. هذا، وقد قال عبد الملك بن مروان للأقيشر: "أنشدني أبياتك في الخمرة" فأنشده:
تريك القذى من دونها وهي دونه
…
لوجه أخيها، في الإناء قطوب
كميت إذا فضت في الكأس وردة
…
لها في عظام الشاربين دبيب
فقال: "أحسنت، ولقد أجدت وصفها، وأظنك قد شربتها! " فقال: "والله يا أمير المؤمنين، إنه ليريبني منك معرفتك بهذا!! ".
والقذى: الوسخ في الشراب. والكميت: الأشقر.
2 الأمالي 2/ 44 وإسرائين: إسرائيل، أوردها القالي في فصل "ما تتعاقب فيه اللام والنون".
6-
وطنية صادقة:
أختم الكلام عن الحيرة بهذا الدرس البليغ الذي ألقاه علينا أحد فتيان الحيرة منذ ثلاثة عشر قرنا في حب الوطن ونصرته. وهو درس عملي يخلق بقادة الفكر وزعماء العرب أن يستفيدوا منه فيكونوا قدوة في الوطنية العملية الحقيقية.
بلغ العرب في الاعتماد على أنفسهم والاقتصار على صناعاتهم في جميع شئونهم أمرا عجيبا، حتى إن بلدة كالحيرة ليست من البلدان الكبرى حينئذ في الأقطار الإسلامية، استطاع أهلها أن يعتمدوا على محصول بلدتهم ويكتفوا به في كل حاجاتهم حتى الكمالية منها. نرى ذلك في هذا الخبر الطريف الذي سنرويه لك عن الأغاني، ونود لو جرؤنا على تقليد أسلافنا في مكرمتهم تلك، إذًا لكنا حذفنا درسا في الإخلاص الصادق للوطن، ولما استعبدتنا أموال الغرب وشركاته، ولما كنا جميعا رجالا ونساء وأطفالا، جنودا لهم -على رغم أنوفنا- نوطد أقدامهم في بلادنا بما نتهافت على استهلاكه من بضائعهم، وبما يطير من جيوبنا إلى خزائنهم ومصانع أسلحتهم من أموال باهظة، لا داعي إلى تبذيرها إلا التقليد الأعمى وقشور التمدن السخيف والترف الكاذب، وإليك هذه الطرفة الثمينة.
كان بعض ولاة الكوفة يذم الحيرة أيام بني أمية، فقال له رجل من أهلها وكان عاقلا ظريفا:"أتعيب بلدة بها يضرب المثل في الجاهلية والإسلام؟! ".
قال: "وبماذا تمدح؟ " قال: "بصحة هوائها وطيب مائها ونزهة ظاهرها، تصلح للخف والظلف. سهل وجبل، وبادية وبستان، وبر
وبحر. محل الملوك ومزارهم ومسكنهم ومثواهم، وقد قدمتها -أصلحك الله- مخفا فرجعت مثقلا وزرتها مقلا فأصارتك مكثرا" قال:"فكيف نعرف ما وصفتها به من الفضل؟ " قال: "بأن تصير إلي ثم ادع ما شئت من لذائذ العيش، فوالله لا أجوز بك الحيرة فيه! ".
قال: "فاصنع لنا صنيعا واخرج من قولك" قال: "أفعل".
فصنع لهم طعاما وأطعمهم من خبزها وسمكها، وما صِيد من وحشها؛ من ظباء ونعام وأرانب وحبارى، وسقاهم ماءها في قلالها، وخمرها في آنيتها، وأجلسهم على رقمها "وكان يتخذ بها من الفرش أشياء ظريفة". ولم يستخدم لهم حرا ولا عبدا إلا من مولديها ومولداتها من خدم ووصائف كأنهم اللؤلؤ، لغتهم لغة أهلها. ثم غناهم حنين "الحيري" وأصحابه في شعر عدي بن زيد شاعرهم وأعشى همدان، لم يتجاوزهما، وحياهم برياحينها، ونقلهم على خمرها، وقد شربوا بفواكهها. ثم قال له:"هل رأيتني استعنت على شيء مما رأيت وأكلت وشربت وافترشت وشممت وسمعت بغير ما في الحيرة؟ ".
قال: "لا والله، ولقد أحسنت صفة بلدك ونصرته فأحسنت نصرته والخروج مما تضمنته، فبارك الله لكم في بلدكم"1.
الأغاني 2/ 351 "دار الكتب".
الظلف للبقر كالخف للبعير وكالحافر للفرس. والحبارى: طائر طويل العنق رمادي اللون، في منقاره بعض طول. والرقم: ضرب مخطط من الوشي أو الخز. والوصائف: جمع وصيفة، وهي الجارية البالغة حد الخدمة، وكذلك الوصيف. ونقلهم: أطعمهم النقل، والنقل: ما يتنقل به على الشراب من فستق وتفاح وغيرهما.