المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الضرورة الشعرية ومفهومها لدى النحويين دراسة تطبيقية على ألفية ابن - الضرورة الشعرية ومفهومها لدى النحويين دراسة على ألفية بن مالك

[إبراهيم بن صالح الحندود]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد

- ‌طبيعة الشعر وعلاقته بالضرورة

- ‌ التأليف في الضرائر:

- ‌ مفهوم الضرورة لدى النحويين

- ‌أولاً: رأي سيبويه وابن مالك:

- ‌ثانياً: رأي ابن جني والجمهور:

- ‌ثالثاً: رأي أبي الحسن الأخفش:

- ‌رابعاً: رأي ابن فارس:

- ‌الضرورات الشعرية في ألفية ابن مالك

- ‌مدخل

- ‌خبر "كان" إذا كان ضميراً بين الاتصال، والانفصال:

- ‌الإظهار في موضع الإضمار:

- ‌حذف العائد المجرور مع اختلاف متعلق الجارين:

- ‌تقديم معمول الصلة على الموصول:

- ‌تقديم معمول خبر "ليس" عليها:

- ‌الفصل بين العامل والمعمول بالأجنبي

- ‌تقديم معمول الفعل المؤكد بالنون:

- ‌تقديم النائب عن الفاعل على الفعل:

- ‌قلبُ المعنى:

- ‌تقديم المفعول له على عامله:

- ‌خروج "سوى" عن الظرفية:

- ‌مجيء الحال من المبتدأ:

- ‌مجيء الحال من النكرة بلا مسوغ:

- ‌تقديم الحال على عاملها غير المتصرف:

- ‌تقديم الحال على صاحبها المجرور بحرف:

- ‌تقديم الحال على عاملها المضمن معنى الفعل دون حروفه:

- ‌تفديم الصفة على الموصوف

- ‌تقديم معمول المصدر على المصدر:

- ‌الإخبار عن المصدر قبل تمام عمله:

- ‌تقديم "مِنْ" ومجرورها على أفعل التفضيل:

- ‌تقديم معمول الصفة على الموصوف:

- ‌الفصل بين الصفة والموصوف بما هو أجنبي:

- ‌العطف على الضمير المجرور من غعير إعادة الجار

- ‌صرف ما لا ينصرف:

- ‌حذف أداة الشرط:

- ‌حذف جواب الشرط:

- ‌حذف الفاء من جواب الشرط، وحذف جواب الشرط:

- ‌تقديم معمول الجزاء على الشرط:

- ‌قصر الممدود:

- ‌حذف حرف الصلة للاكتفاء بالحركة منه:

- ‌زيادة ألف الإطلاق في آخر الكلمة:

- ‌قطع همزة الوصل:

- ‌وصل همزة القطع:

- ‌حذف الياء والاستغناء بالكسر عنها

- ‌تخفيفُ الحرفِ المُشَدَّد:

- ‌الخاتمة

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: الضرورة الشعرية ومفهومها لدى النحويين دراسة تطبيقية على ألفية ابن

الضرورة الشعرية ومفهومها لدى النحويين دراسة تطبيقية على ألفية ابن مالك

إعداد

د. إبراهيم بن صالح الحندود رئيس قسم النحو والصرف وفقه اللغة كلية العلوم العربية والاجتماعية بالقصيم فرع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية

بسم الله الرحمن الرحيم

ال‌

‌مقدمة

حمداً لك اللهم لا أُحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد أفضل من أرسل إلى البشرية وخير من نطق بالعربية وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

فإنه لم يبلغ قوم في الحفاظ على لغتهم، والحرص على نقائها، والتفاني في خدمتها ما بلغه المسلمون؛ إذ يسَّر الله عز وجل من هذه الأمة من نذر نفسه لخدمة هذه اللغة في شتى فروعها. وما كثرة المصنفات وتتابع ظهورها حتى اليوم - وما بعده - إن شاء الله تعالى - إلا دليل على ذلك. ولا غرو في هذا فهي لغة القرآن الكريم الذي تكفل الله بحفظه إلى يوم الدين {قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} {إناَّ نَحْنُ نَزَّلْنا الْذِّكْرَ وإنَّا لَهُ لَحافِظُونَ} 2.

وممَّا لقي عناية من علماء العربية لغة النثر والشعر من حيث اتفاقُهما أو اختلافهما في بناء الألفاظ وصياغة العبارات، وكذا الخضوع لقواعد اللغة، والنحو حسب طبيعة كلٍّ منهما.

لقد كانت النظرة في بادئ الأمر إلى فنّيَ الشعر والنثر واحدة من حيث الخصائص التعبيرية في صياغة العبارة وبناء الألفاظ؛ بدليل اشتراكهما في شواهد اللغة والنحو، فلم يفرق علماء العربية بين شاهد المنثور وشاهد المنظوم

1 الآية 28 من سورة الزمر.

2 الآية 9 من سورة الحجر.

ص: 389

في كتبهم، فترى الشاهد من القرآن الكريم جنباً إلى جنب مع الشاهد من الحديث النبوي، والشعر، والمأثور من أقوال البلغاء على الرغم من التفاوت الملحوظ في طريقة الصياغة أو الإعراب. وغاية ما في الأمر أنَّ هذا التغير عندهم يُعدُّ شذوذاً عن القاعدة قد يرقى إلى درجة الجواز إذا جاء في القرآن أو الحديث أو المقبول إذا جاء على لسان شاعر كبير ممن يستشهد بشعرهم1. وما عدا ذلك خطأٌ لا ذكر للضرورة فيه.

وإن المتتبع لسيبويه رحمه الله ليلحظ أنه لم يصرِّح في كتابه بتعريف محدد للضرورة، بل إن لفظ "الضرورة" لم يجر له ذكر عنده على الإطلاق

- على اتساع الكتاب - وإنما كان يكتفي بتعبير يؤدي إلى معناه دون التصريح بلفظه2.

ودخلت الضرورة - فيما بعد - في ميادين البحث اللغويّ، والنقديّ على نطاق واسع.

فدخلت ميدان اللغة؛ لأنها تضطر الشاعر إلى تغيير بناء اللفظ؛ زيادةً أو حذفاً أو خروجاً عن القياس، فتناول اللغويون ذلك بالبحث من خلال معاجم اللغة وأشاروا إلى هذه الضرائر.

ودخلت ميدان النحو لكونها تدفع الشاعر إلى مخالفة القياس في بناء الجملة وفي عمل الأدوات وكذا التغيير في تركيب الجملة3 (من حيث التقديم والتأخير) .

إن قضية الضرورة وما أثارته من اهتمام لدى العلماء تعتبر أحد الموضوعات التي استهوت عدداً غير قليل من الدارسين، وشغلت أذهان الكثير

1 انظر: مقدمة كتاب ما يجوز للشاعر في الضرورة للقزاز 16.

2 انظر: الضرورة الشعرية في النحو العربي ص 132.

3 انظر: في الضرورة الشعرية ص 7.

ص: 390

من القدماء، والمحدثين وذلك للعلاقة المتينة بين اللغة والشعر؛ إذ إن الشعر من المصادر الرئيسة التي استمد منها العلماء قواعد اللغة وأصولها. ولكنهم وجدوا فيه بعض الألفاظ والتراكيب التي تشذ عن هذه الأصول التي استنبطوها منه ومن كلام العرب المحتج بكلامهم فدفعهم ذلك إلى التأمل والتماس العلل.

ولأهمية هذا الموضوع واختلاف أقوال العلماء فيه رأيت أن أدلي دلوي فيه من خلال هذا البحث المقرون بتطبيق الضرورة على ألفية ابن مالك لكونها نظماً تسوغ فيه الضرائر من جهة، وما يعتقده صاحبُها من أن الضرورة (ما لا مندوحة للشاعر عنه بأن لم يمكنه الإتيان بعبارة أخرى) .

ولا أزعم أني أوفيت البحث حقَّه، كما لا أدعي خلّوه من الخطأ والثغرات، ولكن حسبي أني اجتهدت وبذلت وسعي ما استطعت. فإن وفقت للصواب فلله الحمد والمنة على توفيقه، وإن أخطأت أو قصَّرت فأسأله هَدْيَه وتوفيقه.

وفي الختام أتوجه بالشكر إلى الله عز وجل على أن وفقني لإتمام هذا البحث، وأسأله تعالى أن يجعل مابُذل فيه خالصاً لوجهه الكريم وأن ينفع به إنه ولي ذلك والقادر عليه.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

د. إبراهيم بن صالح الحندود

ص: 391

‌تمهيد

‌طبيعة الشعر وعلاقته بالضرورة

التمهيد

أولاً: طبيعة الشعر وعلاقته بالضرورة:

الشعر كلام موزون بأفاعيلَ محصورة في عدد معيّن من الحروف، والحركات، والسكنات1، يستلزم بناؤه على هذه الصورة المقيَّدة بالوزن، والقافية أن يلجأ قائله - أحياناً - إلى الخروج عن القواعد الكلّيّة وارتكاب ما ليس منها؛ إمّا بزيادة اللفظ أو نقصانه أو تغيير في تركيب الجملة من تقديم وتأخير أو فصل بين متلازمين، وغير ذلك مما لا يُستجاز في الكلام مثله2؛ لأن الشاعر غير مختار في جميع أحواله فيفعل ذلك تلافياً لقصور اللفظ الذي يناسب المعنى الذي يريد مع الحفاظ على الوزن وسلامة القافية.

على أنه لا يخرج عن القواعد المذكورة كيفما اتفق، وإنما يسلك طريقة لها وجه في العربية3.

قال سيبويه (180هـ) : "وليس شيءٌ يضطرون إليه إلاّ وهم يحاولون به وجهاً"4 "فإن جهلنا ذلك فإنما جهلنا ما علمه غيرنا، أو يكون وصل إلى الأول ما لم يصل إلى الآخر"5.

1 انظر: شرح ألفية ابن معطي 2/1380.

2 انظر: ما يحتمل الشعر من الضرورة 34، ضرائر الشعر لابن عصفور 13.

3 انظر: شرح ألفية ابن معطي 2/1380.

4 الكتاب 1/13.

5 شرح ألفية ابن معطي 2/1380.

ص: 392

كما ألحقوا الكلام المسجوع في ذلك بالشعر لكون السجع يجري في ذلك مجرى الشعر، بدليل قولهم:"شهر ثرى، وشهر ترى، وشهر مرعى"1 فحذفوا التنوين من "ثرى"، ومن "مرعى" إتباعاً لقولهم:"ترى"؛ لأنه فعل فلم ينوّن لذلك2.

وقالوا: "الضِّيح والريح" فأبدلوا الحاءَ ياءً إتباعاً للريح، والأصل: الضِّحّ3.

وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ارجعن مأزورات غير

مأجورات"4؛ بإبدال الواو ألفاً إتباعاً لمأجورات، والأصل: "موزورات"؛ لأنه من الوزر.

وقد جاء مثل ذلك أيضاً في فواصل القرآن لتتفق. قال عز وجل: {فَأَضَلُّونا السَّبِيلا} 5، وقال سبحانه:{وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا} 6. فإن زيادة الألف في "السبيلا" و "الظنونا" بمنزلة زيادتها في الشعر على جهة الإطلاق7.

1 أي شهور الربيع، أي يمطر أولاً ثم يظهر النبات فتراه، ثم يطول فترعاه الأنعام.

انظر: مجمع الأمثال 1/370.

2 انظر: ضرائر الشعر لابن عصفور 13، 14، والارتشاف 3/268.

3 الضّحّ: ما برز للشمس، والريح: ما أصابته الريح، من قولهم: جاء فلان بالضِّحِّ والريح، أي جاء بما طلعت عليه الشمس وجرت عليه الريح. انظر: مجمع الأمثال 1/161.

4 أخرجه ابن ماجة في كتاب الجنائز (50) ، باب ما جاء في اتباع النساء الجنائز رقم 1578.

5 من الآية 67، من سورة الأحزاب.

6 من الآية 10، من سورة الأحزاب.

7 انظر: ضرائر الشعر لابن عصفور 14، الارتشاف 3/269.

ص: 393

وقد كان النحاة يقفون إزاء الأبيات المخالفة لمذاهبهم وأقيستهم فيعمدون إلى التأويل لإدخالها ضمن هذه الأقيسة، فأصبحت تلك الأبيات الخارجة عن القياس المألوف ميداناً رحباً لتأويلات النحاة وتعليلاتهم، فدخلت بسبب ذلك ضمن الخلاف النحوي؛ إذ كل طرف لا يتردد في إلقاء جملة مما احتج به الطرف الآخر في بحر الضرورة1.

1 انظر: في الضرورات الشعرية 7.

2 انظر: الضرورة الشعرية دراسة نقدية لغوية 191.

3 الأصول 3/435.

ص: 394

ثانياً:‌

‌ التأليف في الضرائر:

لسيبويه رحمه الله جهود في مجال الكتابة عن الضرورة - وإن كانت لفظة "الضرورة" غير مذكورة في كتابه كما سبق - إلاّ أن دراسته لهذه الظاهرة تفتقر إلى المنهجية المحددة القائمة على التقسيم، والتصنيف للمظاهر العامة للضرورة. وهذا لا يلغي سمة التبكير، والريادة في معالجة موضوع متشعب الأطراف. فما كتبه عن الضرورة يعدّ إضاءات موزعة ذات فوائد متفرقة، أفاد منها النحاة في هذا المجال1.

ولعل أبا بكر بن السراج (316هـ) قد سبق في بداية القرن الرابع إلى تثبيت مبادئ التصنيف في الضرائر الشعرية بقوله: "ضرورات الشعر أن يضطر الوزن إلى حذف، أو زيادة، أو تقديم أو تأخير في غير موضعه، وإبدال حرف، أو تغيير إعراب عن وجهه على التأويل، أو تأنيث مذكر على التأويل"2.

هذا النص يمكن عدُّه الأساس التاريخي الأول لحركة التأليف، والكتابة المنهجية عن الضرورة.

1 انظر: الضرورة الشعرية دراسة نقدية لغوية 191.

2 الأصول 3/435.

ص: 394

أما المبكِّر إلى حصر تلك المظاهر حصراً علمياً فهو أبو سعيد السيرافي (368هـ) حيث يقول: "ضرورة الشعر على تسعة أوجه: الزيادة، والنقصان، والحذف، والتقديم، والتأخير، والإبدال، وتغيير وجه من الإعراب إلى وجهٍ آخر على طريق التشبيه، وتأنيث المذكر وتذكير المؤنث"1.

وإنما يُعَدّ هذا النص لشارح "الكتاب" أصلاً لكل ما ورد في فصول النحاة من نصوص، وإشارات إلى أنواع هذه الظاهرة؛ لأن ابن السراج قد اقتصر على سبعة أقسام فقط ولم يشر إلى ما يقع في الشعر من تذكير المؤنث، إلا أن يكون هذا النقص سهواً من ناسخ كتاب "الأصول" أو محققه2.

ويمكن اعتبار تذكير المؤنث الذي لم يذكره أبو بكر داخلاً ضمن الحذف الذي أشار إليه.

أمَّا التطور في تصنيف الضرورات فقد سار - بعد أبي سعيد السيرافي - على مرحلتين:

الأولى: الانتقال من التصنيف السباعي إلى التصنيف الخماسي، كما هو الشأن عند ابن عصفور (669هـ) في "ضرائر الشعر"، و "شرح الجمل"، و "المقرب" وأبي الفضل الصفار القاسم بن علي البَطَلْيوسي (بعد 630هـ) في "شرح كتاب سيبويه". وجرى على هذا أبو حيان (745هـ) ، في "ارتشاف الضرب".

ويتمثل هذا التقسيم في: الزيادة، والنقص، والتقديم والتأخير، والبدل.

الثانية: الانتقال من التصنيف الخماسي المذكور إلى تصنيف آخر ثلاثي يتمثل في الزيادة، والحذف، والتغيير3. وقد بنى الآثاري4 (828هـ)

1 ما يحتمل الشعر من الضرورة 34، 35.

2 انظر: الضرورة الشعرية دراسة نقدية لغوية 192.

3 انظر: الضرورة الشعرية. دراسة نقدية لغوية 193.

4 أبو سعيد زين الدين شعبان بن محمد الآثاري. ولد في الموصل سنة 765هـ، وتوفي بمصر. (الضوء اللامع 3/301 - 303، شذرات الذهب 7/184، الأعلام 3/164) .

ص: 395

سرده للضرورات في منظومته "كفاية الغلام في إعراب الكلام"1 فقال:

ضرورة الشاعر تمحو ما وجبْ

على الذي يتبع أوزان العربْ

وهي ثلاث فاغنم الإفادة

الحذف والتغيير والزيادة

كما أقام على هذا التقسيم أبو المعالي محمود شكري الآلوسي (1342هـ) ترتيب الضرورات في كتابه "الضرائر"، وجرى على هذا جمعٌ غير قليل من العروضيين المعاصرين وغيرهم مفيدين من التصنيفات المذكورة السابقة مع اختلاف يسير2.

فللدكتور عبد الوهاب العدواني كتاب بعنوان "الضرورة الشعرية. دراسة نقدية لغوية"، وللدكتور محمد حماسة عبد اللطيف مصنَّفٌ بعنوان "الضرورة الشعرية في النحو العربي"، كما صنَّف الدكتور خليل بنيان الحسون مصنفاً بعنوان " في الضرورة الشعرية".

على أن أول كتاب يصل إلينا يستقل ببحث الضرورة هو كتاب "ما يجوز للشاعر في الضرورة" لأبي جعفر القزاز3 (412هـ)4.

1 ص14.

2 انظر: الضرورة الشعرية. دارسة نقدية لغوية 194.

3 محمد بن جعفر التميمي القزاز القيرواني. ولد بالقيروان وتوفي بها. يغلب عليه علم النحو واللغة. من مصنفاته: كتاب "الجامع" في اللغة.

(معجم الأدباء 17/105 - 109، وفيات الأعيان 4/374 – 376) .

4 انظر: الضرورة الشعرية في النحو العربي 130.

ص: 396

الفصل الأول:‌

‌ مفهوم الضرورة لدى النحويين

‌أولاً: رأي سيبويه وابن مالك:

لم يصرّح سيبويه بتعريف محدد للضرورة، وإنما كان يكتفي ببعض العبارات التي فهم منها بعض شرّاح "الكتاب" ودارسيه مفهوم الضرورة عنده من خلال تناوله لبعض المسائل، وبخاصة الباب الذي عقده في أول الكتاب بعنوان "ما يحتمل الشعر"1.

فمن خلال بعض النصوص حدّد العلماء رأي سيبويه في "الضرورة" وهو أنه يجوز للشاعر ما لا يجوز له في الكلام بشرط أن يضطر إلى ذلك، ولا يجد منه بداً، وأن يكون في ذلك ردُّ فرع إلى أصل، أو تشبيه غير جائز بجائز2.

قال سيبويه - عند قول أبي النجم العجلي -:

قد أصبحتْ أمُّ الخيارِ تدَّعي

عليَّ ذنباً كلُّه لم أصنعِ3

1 انظر: الضرورة الشعرية في النحو العربي 132.

2 انظر: شرح الجمل 2/549، الارتشاف 3/268، الضرورة الشعرية في النحو العربي 134.

3 من "الرجز". وقال بعض المحققين: بهذه الرواية - أي رفع "كل" يتم المعنى الصحيح؛ لأنه أراد التبرؤ من الذنب كله، ولو نصب لكان ظاهر قوله: إنه صنع بعضه. وأمُّ الخيار: زوجته.

الديوان 132، الكتاب 1/69، الخصائص 1/292، 3/61، شرح المفصل 2/30، 6/90.

ص: 397

"هذا ضعيف، وهو بمنزلته في غير الشعر؛ لأن النصب لا يكسر البيت ولا يخل به ترك إظهار الهاء"1.

ولا يبعد مفهوم ابن مالك (ت 672هـ) للضرورة عن مفهوم سيبويه المتقدم وهو أن الضرورة: ما لا مندوحة للشاعر عنه بحيث لا يمكن الاتيان بعبارة أخرى.

صرَّح بهذا في شرح التسهيل وشرح الكافية الشافية.

فوصل "أل" بالمضارع - على سبيل المثال - جائز عنده اختياراً لكنه قليل، فذكر أن قول الفرزدق:

ما أنتَ بالحكمِ التُرضى حكومته

ولا الأصيلِ ولا ذي الرأي والجدلِ2

وقول ذو الخِرَق الطهوي 3:

يقول الخنا وأبغض العجم ناطقاً

إلى ربنا صوت الحمار اليجدعُ4

1 الكتاب 1/44.

2 البيت من "البسيط" من أبيات قالها في هجاء رجل من بني عذرة كان قد فضل جريراً عليه.

والحكم: الذي يحكّمه الخصمان ليفصل بينهما. والأصيل: الحسيب. والجدل: شدة الخصومة والقدرة على غلبة الخصم.

والبيت في: الإنصاف 2/521، المقرب 1/60، شرح شذور الذهب 16، تخليص الشواهد 154، شرح ابن عقيل 1/157، التصريح 1/38، 142، الخزانة 1/32، الدرر 1/274.

3 اسمه خليفة بن حمل بن عامر بن حنظلة. شاعر جاهلي. (المؤتلف والمختلف 109، الخزانة 1/44) .

4 من "الطويل".

الخنا: الفاحش من الكلام. والعجم: جمع أعجم أو عجماء وهو الحيوان؛ لأنه لا ينطق.

اليُجدَّع: هو الذي قطعت أذناه؛ فإن صوت الحمار حالة تقطع أذنه أكثر وأقبح، لما يقاسيه من الألم.

انظر: نوادر أبي زيد 276، أمالي السهيلي 21، المقاصد النحوية 1/467، الهمع 1/294، الخزانة 1/31، 34، 35، 5/482، الدرر 1/275.

ص: 398

غيرُ مخصوص بالضرورة؛ لتمكن قائل الأول من أن يقول:

"ما أنت بالحكم المرضي حكومته"

ولتمكن الآخر من أن يقول:

"إلى ربنا صوت الحمار يُجدعُ"

فإذ لم يفعلا ذلك مع استطاعته ففي ذلك إشعار بالاختيار وعدم الاضطرار1.

وهذا الاتجاه في فهم الضرورة قد نُسب إلى ابن مالك وشُهر به، حتى إن كثيراً ممن خالف هذا المنهج وجّه نقده إلى ابن مالك وحده ولم يتعرّض لسيبويه2، كقول أبي حيان: "لم يفهم ابن مالك معنى قول النحويين في ضرورة الشعر

" إلخ 3.

وإن المتأمل ليستوقفه النظر حيال قبول الناس لهذا الرأي في فهم الضرورة؛ إذ لم يجد كثرة من الأنصار له على الرغم من أن أشهر الذين قالوا به هما سيبويه وابن مالك، والأول كان يعيش في عصر الاستشهاد ويستقي شواهده من المصادر الحية أو ممن سمعها من المصادر الحية، والآخر يعد أمَّة لا في الاطلاع على كتب النحاة وآرائهم فحسب، بل أيضاً في اللغة وأشعار العرب بله القراءات ورواية الحديث النبوي4.

1 انظر: شرح التسهيل 1/202، وانظر كذلك: 1/367، وشرح الكافية الشافية 1/300.

2 انظر: الضرورة الشعرية في النحو العربي 137.

3 التذييل والتكميل ج (1) لوحة 167.

4 انظر: المدارس النحوية لشوقي ضيف 309، 310، وانظر: الضرورة الشعرية في النحو العربي 137.

ص: 399

(ومعنى هذا أنّ رأي هذين الإمامين لما امتازا به من سعة رواية ونفاذ رأي ينبغي أن يكون له وزنه في دراسة اللغة؛ لأنه نابع من فهم لخصائصها أصيل وحسّ بها غير مدخول)1.

لكن هذا الرأي قد تعرَّض لنقد شديد من المتأخرين كأبي إسحاق الشاطبي (790هـ) ، وأبي حيان، وابن هشام (761هـ) ، والشيخ خالد الأزهري (905هـ) ، وعبد القادر البغدادي (ت1093هـ) .

وملخص رد الشاطبي على ابن مالك يتمثل في الآتي:

أولاً: أن النحاة قد أجمعوا على عدم اعتبار هذا المنزع، وعلى إهماله في النظر القياسي جملة، ولو كان معتبراً لنبهوا عليه.

ثانياً: أن الضرورة لا تعني عند النحويين أنه لا يمكن في الموضع غير ما ذكر؛ لأنه ما من ضرورة إلا ويمكن أن يعوض من لفظها غيره، دليل ذلك الراء في كلام العرب، فإنها من الشياع في الاستعمال بمكان لا يُجهل، ولا يكاد ينطق أحد بجملتين تعريان عنها. وقد هجرها واصل بن عطاء2 (131هـ) لمكان لثغته فيها، بل كان يناظر الخصوم ويخطب على المنبر فلا يُسمع في نطقه راءٌ، حتى صار مثلاً. وإن الضرورة الشعرية لهي أسهلُ من هذا بكثير، وإذا كان الأمر هكذا أدى إلى انتفاء الضرورة في الشعر وذلك خلاف الإجماع، وإنما معنى الضرورة أن الشاعر قد لا يخطر بباله إلا لفظة ما اقتضت ضرورة النطق بها في ذلك

1 الضرورة الشعرية في النحو العربي 137، 138.

2 أبو حذيفة واصل بن عطاء الغزّال. رأس المعتزلة. ولد بالمدينة سنة 80هـ، ونشأ بالبصرة.

(أمالي المرتضى 1/163 - 165، وفيات الأعيان 6/7-11، النجوم الزاهرة 1/313، 314) .

ص: 400

الموضع زيادة أو نقص أو غير ذلك، في الوقت الذي قد يتنبه غيره إلى أن يحتال في شيءٍ يزيل تلك الضرورة.

ثالثاً: أنه قد يكون للمعنى الواحد أكثر من عبارة بحيث يلزم في إحداها ضرورة ولكنها هي المطابقة لمقتضى الحال، وهنا يرجع الشاعر إلى الضرورة؛ لأن اعتناء العرب بالمعاني أشد من اعتنائهم بالألفاظ. وإذا تبيَّن في موضع ما أن ما لا ضرورة فيه يصلح هنالك، فمن أية جهة يعلم أنه مطابق لمقتضى الحال؟

رابعاً: أن العرب قد تأبى الكلام القياسي لعارض زحاف فتستطيب المزاحف دون غيره أو بالعكس فتركب الضرورة لذلك1.

ومن أقوال ابن هشام في الرد على ابن مالك قوله: "إذا فُتح هذا الباب - يعني زعم القدرة على تغيير بنية الشعر وألفاظه - لم يبق في الوجود ضرورة، وإنما الضرورة عبارة عما أتى في الشعر على خلاف ما عليه النثر"2.

ومن أقواله أيضاً: إن كثيراً من أشعار العرب يقع عن غير روية، وهو مما يدعو إلى عدم التمكن من تخيّر الوجه الذي لا ضرورة فيه.

كما أن الشعر لمّا كان مظنة للضرورة استُبيح فيه ما لم يُضطرّ إليه، كما أُبيح قصر الصلاة في السفر؛ لأنه مظنة المشقة مع انتفائها أحياناً والرخصة باقية3.

هذا الكلام قاله ابن هشام في رده على ابن مالك إذ زعم أن إيراد الضمير المتصل بعد "إلَاّ" في قول الشاعر4:

1 انظر: شرح الألفية للشاطبي ج2 لوح 57.

2 تخليص الشواهد 82.

3 انظر: المصدر السابق 83.

4 لم أجد من سمَّاه.

ص: 401

وما نبالي إذا ما كنتِ جارتَنا

ألاّ يجاورنا إلَاّكِ ديارُ1

ليس ضرورة، لتمكن قائله من أن يقول:

"ألا يكون لنا خلٌّ ولا جارُ" 2

ثم إن الشاعر قد يتاح له في حرارة التجربة الشعرية غير عبارة عن الفكرة الواحدة، لكنه لا يختار من الألفاظ إلا ما يأنس فيه الملاءمة التامة للمعنى الذي ينشده وإن ساوره قلق فني في دقة لغته، وقدرتها على التعبير عنه. فإذا ثبت هذا وأنه هو واقع الشعر اللغوي فإن التفكير بنفي الضرورة، ومحاولة استبدالها بما لا ضرورة فيه أمرٌ من الصعوبة بمكان على الشاعر، ناهيك عن الناقد اللغوي، والنحوي وذلك لتفاوت القدرات على تخيّل الألفاظ، واستحضارها من المعاجم الذهنية المختلفة في سعتها، وتنوعها، وصفائها3.

وقد حاول بعض المحدثين4 الاعتذار لابن مالك بأنه كان يعمل ثقافته، وفكره حين بيّن رأيه في الضرورة الشعرية. فكان يضع في اعتباره لهجات العرب المتباينة، والقراءات القرآنية، والحديث النبوي الشريف بحيث إذا ورد فيها شيء قال النحاة عن نظيره في الشعر إنه ضرورة لم يعدّه هو كذلك، بل

1 البيت من "البسيط". يقال: ما بها ديَّار، أي ما بها أحد.

والشاهد في قوله: " إلَاّك " حيث أوقع الضمير المتصل بعد "إلَاّ" للضرورة الشعرية، والقياس: إلا إياك والبيت في: الخصائص 1/307، 2/195، المفصل 129، أمالي ابن الحاجب 2/105، المغني 577، التصريح 1/98، 192، شرح الأشموني 1/109، الدرر 1/176.

2 انظر: شرح التسهيل 2/276.

3 الضرورة الشعرية. دراسة لغوية نقدية 147 (بتصرف) .

4 هو الدكتور محمد حماسة عبد اللطيف في كتابه: الضرورة الشعرية في النحو العربي ص141.

ص: 402

يرجع كل ظاهرة إلى أصلها، وأحياناً ينصّ على أنه لهجة قبيلة معينة وضرورة عند غيرهم. فنراه - مثلاً - يقول عن تسكين هاء الغائب واختلاس حركتها:"وقد تسكن أو تختلس الحركة بعد متحرك عند بني عُقَيل، وبني كلاب اختياراً، وعند غيرهم اضطراراً"1.

وقد ذكر في كتاب "التسهيل" جملة من المسائل يعدّها بعضهم ضرورة ولا يراها هو كذلك كحذف نون الوقاية من "ليس"، و "ليت"، و "عن"، و "قد"، و "قط"2، وزيادة "ال" في العلم، والتمييز، والحال3، وإسكان عين "مع"4، والفصل بينها وبين تمييزها5، وتأكيد المضارع المثبت6، ومجيء الشرط مضارعاً، والجواب ماضياً7، وإجراء الوصل مجرى الوقف8.

وفي بعض كتبه الأخرى يشير إلى أن بعض الظواهر تكثر في الشعر دون النثر9.

(ولعله في هذا متأثر بسيبويه. وهذا يشعر بأنهما يدركان أن للشعر نظاماً خاصاً به في صرفه، ونحوه ينبغي أن يدرس وحده منفصلاً عن النثر، ولكن النظرة السائدة إلى وحدة اللغة جعلت هذه الملاحظة تقف عند حدّ الإدراك الذي لم يؤيده التنفيذ العملي)10.

1 التسهيل 24.

2 انظر: المصدر السابق 25.

3 انظر: التسهيل 42.

4 انظر: المصدر السابق 98.

5 انظر: المصدر السابق 124.

6 انظر: المصدر السابق 216.

7 انظر: المصدر السابق 240.

8 انظر: المصدر السابق 331.

9 الضرورة الشعرية في النحو العربي 141، 142 (بتصرف) .

10 المصدر السابق 142.

ص: 403

‌ثانياً: رأي ابن جني والجمهور:

يرى أبو الفتح عثمان بن جني (392هـ) وكثير من النحويين أن الضرورة ما وقع في الشعر سواء كان للشاعر عنه مندوحة أم لا؟ ولم يشترطوا في الضرورة أن يضطر الشاعر إلى ذلك في شعره، بل جوّزوا له في الشعر ما لم يجز في الكلام؛ لأنه موضع قد أُلفت فيه الضرائر. دليل ذلك قول الشاعر1:

كم بجودٍ مقرفٍ نال العلا

وكريمٍ بخله قد وضَعَهْ 2

-في رواية من خفض "مقرف"، حيث فصل بين "كم" وما أضيفت إليه بالجار والمجرور، وذلك لا يجوز إلا في الشعر، ولم يضطر إلى ذلك إذ يزول الفصل بينهما برفع "مقرف" أو نصبه3.

ومما استدل به صاحب هذا المذهب - أيضاً - قول الآخر4:

فلا مزنةٌ ودقت ودقَها-ولا أرضَ أبقلَ إبقالَها 5

1 هو أنس بن زُنَيْم. شاعر صحابي. عاش إلى أيام عبيد الله بن زياد.

(المؤتلف والمختلف 55، الإصابة 1/81، 82، الخزانة 6/473) .

2 البيت من "الرمل" من قصيدة قالها الشاعر لعبيد الله بن زياد بن سميّة.

المقرف: النذل اللئيم الأب. ومعنى البيت: إن الجود قد يرفع اللئيم بينما كريم الأب قد يتضع بسبب بخله.

والبيت في: الكتاب 1/296، المقتضب 3/61، الأصول 1/320، الإنصاف 1/303، شرح المفصل 4/132، شرح شواهد الشافية 53، الدرر 4/49، 6/204.

3 انظر: ضرائر الشعر لابن عصفور 13.

4 هو عامر بن جُوَيْن الطائي. شاعر، فارس، من أشراف طيّىء في الجاهلية.

(رغبة الآمل 6/235، الأزمنة والأمكنة 2/170، الخزانة 1/53) .

5 البيت من " المتقارب " في وصف أرض مخصبة بما نزل بها من الغيث.

المزنة: هي السحابة المثقلة بالماء، والودق: المطر. وقوله: أبقلت إبقالها: أي نبت بقلها.

=انظر البيت في: الكتاب1/240، الخصائص 2/411، المغني 860، 879، أوضح المسالك 2/108، المقاصد النحوية 2/464، التصريح 1/278، الخزانة 1/45، 49،50.

ص: 404

ألا ترى أنه حذف التاء من أبقلت، وقد كان يمكنه أن يثبت التاء وينقل حركة الهمزة فيقول: أبقلت ابقالها1.

قال ابن جني في قول الشاعر2:

فزججتها بمزجة

زجَّ القلوصَ أبي مزاده 3

- (فصل بينهما بالمفعول به)، هذا مع قدرته على أن يقول:

زجّ القلوص أبو مزاده

كقولك: سرَّني أكلُ الخبز زيدٌ

فارتكب هاهنا الضرورة مع تمكنه من ترك ارتكابها4.

1 انظر: شرح الجمل 2/550.

2 لم أقف على اسمه.

3 قال البغدادي: "يقال: زججته زجًّا: إذا طعنته بالزُّجّ - بضم الزاي - وهي الحديدة في أسفل الرمح.

وزج القلوص: مفعول مطلق، أي زجاً مثل زج. والقَلوص - بفتح القاف - الناقة الشابة. وأبو مزادة: كنية رجل".

وقول العيني: الأظهر أن الضمير في زججتها يرجع إلى المرأة؛ لأنه يخبر أنه زج امرأته بالمزجة كما زج أبو مزادة القلوص كلامٌ يُحتاج في تصديقه إلى وحي، وقد انعكس عليه الضبط في "مزجَّة" فقال: هي بكسر الميم، والناس يلحنون فيها فيفتحون ميمها " الخزانة 4/415.

والبيت في: معاني القرآن 1/358، 2/81، وفيه "متمكناً" بدل:"بمزجة"، مجالس ثعلب 1/125، الخصائص 2/406، الإنصاف 2/427، المقاصد النحوية 3/468.

4 الخصائص 2/406.

ص: 405

وإلى هذا المذهب ذهب كل من الأعلم الشنتمري (476هـ) ، والرضي1 (686هـ) ، وأبو حيان، وابن هشام2، والبغدادي، والشيخ محمد الأزهري المعروف بـ "الأمير"(1232هـ) .

قال الأعلم: "والشعر موضع ضرورة يحتمل فيه وضع الشيء في غير موضعه دون إحراز فائدة ولا تحصيل معنى وتحصينه، فكيف مع وجود ذلك"

وقال أبو حيان - في التذييل والتكميل -: "لا يعني النحويون بالضرورة أنه لا مندوحة عن النطق بهذا اللفظ، وإلا كان لا توجد ضرورة؛ لأنه ما من لفظ أو ضرورة إلا ويمكن إزالتها ونظم تركيب آخر غير ذلك التركيب، وإنما يعنون بالضرورة أن ذلك من تراكيبهم الواقعة في الشعر المختصة به، ولا يقع ذلك في كلامهم النثريّ، وإنما يستعملون ذلك في الشعر خاصة دون الكلام"4.

أما البغدادي فيقول عن الضرورة: "والصحيح تفسيرها بما وقع في الشعر دون النثر سواء كان عنه مندوحة أوْ لا"5.

وخالف الأمير قول ابن مالك بحجة أنه - كما يقول -: "يسد باب الضرورة، فإن الشعراء أمراء الكلام قل أن يعجزهم شيء. على أنه لا يلزم الشاعر وقت الشعر استحضار تراكيب مختلفة"6.

وما احتج به أصحاب هذا الرأي لم يسلم من المعارضة من قبل أنصار الرأي الأول كاعتراضهم على الاحتجاج بقول الشاعر:

1 انظر: الخزانة 1/33.

2 انظر: تخليص الشواهد 82.

3 تحصيل عين الذهب 86.

4 التذييل والتكميل ج2 لوحة 37. وانظر: الهمع 5/332.

5 الخزانة 1/31.

6 حاشية الأمير على المغني 1/48.

ص: 406

بأنه يحتمل أن يكون الذي اضطره إلى حذف التاء أنه ليس من لغته النقل، فلو قال: أبقلت ابقالها من غير نقل على لغته لم يصل للوزن1.

ولعل أهم ثمرة للخلاف بين الجمهور من جهة، وسيبويه وابن مالك من جهة أخرى؛ أن الضرورة واسعة المدلول حسب رأي الجمهور؛ فهي تشتمل كل ما ورد في الشعر، أو كَثُر فيه سواء أكانت له نظائر في النثر أم لا. فكثرت أنواع الضرائر نتيجة لهذا؛ لأنهم لا يريدون تمزيق القاعدة، أو الإكثار من القواعد فاستندوا إلى هذا الحكم (الضرورة في كل بيت يخالف القاعدة. وأما على رأي سيبويه، وابن مالك فإن ما يجد الشاعر عنه بدلاً لا يعدُّ ضرورة، بل نوع من التغيير يجوز في الشعر والنثر على حد سواء)2.

1 انظر: شرح الجمل 2/550.

2 انظر: الضرورة الشعرية في النحو العربي 152، 153.

ص: 407

‌ثالثاً: رأي أبي الحسن الأخفش:

يرى أبو الحسن الأخفش (215هـ) أن الشاعر يجوز له في كلامه وشعره ما لا يجوز لغيره في كلامه؛ لأن لسانه قد اعتاد الضرائر، فكثيراً ما يقول: جاء هذا على لغة الشعر، أو يحمل على ذلك قوله تعالى:{قَوارِيراً مِنْ فِضَّةٍ} 1في قراءة من قرأ2 بصرف "قوارير"3.

1 من الآية 16 من سورة الإنسان.

2 قرأ أبو جعفر ونافع والكسائي وأبو بكر عن عاصم: (قواريراً. قواريراً مِنْ فِضَّةٍ (بالتنوين فيهما في الوصل. ووقفوا عليهما بالألف. (السبعة 663، المبسوط 454، النشر 2/395) .

قال ابن عصفور: (وهذا لا حجة فيه لاحتمال أن يكون التنوين في قوله: " قواريراً" بدلاً من حرف الإطلاق، فكأنه في الأصل " قواريرا" وحرف الإطلاق يكون في الشعر وفي الكلام المسجوع إجراءً له مجرى الشعر، فأجريت رؤوس الآي مجرى الكلام المسجوع في لحاق حرف الإطلاق فيكون مثل قوله تعالى:{وتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا} ، و {فَأَضَلُّونا السَّبِيلا} . شرح الجمل 2/550.

3 انظر: شرح الجمل 2/550.

ص: 407

وقال تعالى: {وتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا} 1، و {فَأَضَلُّونا السَّبِيلا} 2 بزيادة الألف لتتفق الفواصل، كزيادة الألف في الشعر للإطلاق3.

وهذا الاتجاه في الرأي يقلل من وجود ما يسمى بالضرورة من قبل أنه يبيح للشاعر في كلامه المعتاد ما لا يباح لغيره إلا في الاضطرار لاعتياد لسانه الضرائر على حدِّ تعبيره4.

ويعترف أبو الحسن من جانب آخر بتأثير هؤلاء الشعراء في غيرهم بوصفهم طبقة ذات مكانة اجتماعية تقلدها العامة وتقتدي بها وبذلك تشيع الظاهرة في الشعر، والنثر على السواء، وعليه فلا محل إذن للقول بأنها ضرورة5.

1 من الآية 10 من سورة الأحزاب.

2 من الآية 67 من سورة الأحزاب.

3 انظر: معاني القرآن 1/241، 2/660، والارتشاف 3/378.

4 انظر: الضرورة الشعرية في النحو العربي 155.

5 انظر: المصدر السابق 155.

ص: 408

‌رابعاً: رأي ابن فارس:

يختلف موقف أحمد بن فارس (395هـ) من ضرائر الشعر عن موقف النحويين جميعهم؛ إذ لا يكاد يعترف بما يسميه النحاة ضرورة، فيتعيّن على الشاعر أن يقول بما له وجه في العربية، ولا ضرورة فيه حينئذٍ. فإن لم يك ثمت وجه منها رُدَّ وسمّي باسمه الحقيقي وهو الغلط أو الخطأ، ولا داعي للتكلف واصطناع الحيل للتخريج1.

قال في كتابه الصاحبي: "وما جعل الله الشعراء معصومين يُوَقُّون الخطأ والغلط، فما صحَّ من شعرهم فمقبول، وما أبته العربية، وأصولها فمردود"2.

1 انظر: المصدر السابق 157.

2 الصاحبي 469.

ص: 408

وقد ألف ابن فارس مصنفاً لهذا الغرض سمَّاه "ذمُّ الخطأ في الشعر" ولخَّص فيه موقفه من الضرورة الشعرية. ومن جملة ما قاله:

"إنَّ ناساً من قدماء الشعراء ومن بعدهم أصابوا في أكثر ما نظموه من شعرهم وأخطأوا في اليسير من ذلك، فجعل ناس من أهل العربية يوجهون لخطأ الشعراء وجوهاً، ويتمحلون لذلك تأويلات حتى صنعوا فيما ذكرنا أبواباً، وصنفوا في ضرورات الشعر كتباً"1.

ويرى أنه لا فرق بين الشاعر، والخطيب، والكاتب، فالشعراء يخطئون كما يخطىء سائر الناس، ويغلطون كما يغلطون، ولا يعدو أن يكون ما ذكره النحويون في إجازة ذلك والاحتجاج له ضرباً من التكلف2.

ويعرّض ابن فارس بما استشهد به سيبويه3 من قول الشاعر4:

فلست بآتيه ولا استطيعه

ولاكِ اسقني إن كان ماؤك ذا فضلِ5

فيتساءل: لم لا يجوز لواحد منا - إذن - أن يقول للآخر: لست أقصدك ولاك اقصدني أنت6؟

1 ذم الخطأ في الشعر 17، 18.

2 انظر: المصدر السابق 23.

3 انظر: الكتاب 1/9.

4 هو النجاشي الحارثي قيس بن عمرو بن مالك من بني الحارث بن كعب. يكنى أبا الحرث وأبا محاسن. كان فاسقاً رقيق الإسلام. (الشعر والشعراء 1/329 - 333، الإصابة 3/551، 552) .

5 البيت من "الطويل" من كلمة قالها الشاعر في وصف ذئب حين استضافه للطعام والشراب فقبل الذئب الشراب إن كان فاضلاً عن الحاجة، واعتذر عن عدم قبوله الطعام.

انظر: المعاني الكبير 1/207، سر الصناعة 2/440، المنصف 2/229، الأزهية 296، أمالي المرتضى 2/211، الإنصاف 2/684، المغني 384، الخزانة 5/265، 10/418، 419.

6 انظر: ذم الخطأ في الشعر 21.

ص: 409

ولكن الملاحظ أن ابن فارس في كتابه "الصاحبي" على الرغم من إعادته، وتكريره بعض ما قاله في "ذم الخطأ في الشعر" - يبدو أكثر رفقاً وأقل حدة في موقفه من الضرورة فهو قد أكّد عدم عصمة الشعراء من الخطأ1. ولكنه لم ينكر الضرورة على الإطلاق، فما عدّه النحاة ضرورة قسّمه ابن فارس في هذا الكتاب إلى ثلاثة أقسام2:

الأول: ما يباح للشعراء دون غيرهم كقصر الممدود، والتقديم، والتأخير، والاختلاس، والاستعارة. فأما اللحن في الإعراب أو إزالة كلمة عن نهج الصواب فليس لهم ذلك3.

الثاني: ما يُعدُّ من خصائص العربية، ومظهراً من مظاهر الافتنان فيها، ويسميه ابن فارس بأسماء مختلفة كالبسط، والقبض، والإضمار. ولعله في مثل هذا ينظر إلى اللهجات المختلفة. وهذا ما دعاه إلى عدم القول بأنها ضرورة أو من خصائص الشعر. كقول الشاعر4:

محمد تفد نفسك كل نفس-إذا ما خفت من أمرٍ تَبالا5

وهذا مما يعدّه النحاة ضرورة.

1 انظر: الصاحبي 469.

2 انظر: الضرورة الشعرية في النحو العربي 158-162.

3 انظر: الصاحبي 469.

4 اختُلف في قائله؛ إذ نسبه الرضي إلى حسان بن ثابت، ونسبه ابن هشام في شرح شذور الذهب 211 إلى أبي طالب، كما نُسب إلى الأعشى. ولم أجده في دواوين الثلاثة.

5 البيت من " الوافر ". والتبال: الإهلاك، وأصله: الوبال - بالواو - فأبدلت الواو تاءً. والمعنى: إذا خفت وبال أمرٍ أعددت له.

والبيت في: الكتاب 1/408، المقتضب 2/132، اللامات 96، أسرار العربية 319، أمالي ابن الشجري 2/150، 151، شرح المفصل 7/60، 9/24، شرح التسهيل 4/60.

ص: 410

الثالث: ما يُعدَّ خطأ وغلطاً عنده، كقول الشاعر1:

ألم يأتيك والأنباء تنمي

بما لاقت لبونُ بني زيادِ2

والراجح عندي هو ما ذهب إليه جمهور النحويين من أن الضرورة ما وقع في الشعر سواء أكان للشاعر عنه مندوحة أم لا؛ لأن الشعر كلام موزون بأفاعيل محصورة يستلزم بناؤه على هذه الصورة المقيدة بالوزن، والقافية، أن يلجأ قائله أحياناً إلى الضرورة.

صحيح أنه ما من ضرورة إلا ويمكن أن يعوض من لفظها غيره لكن الشاعر غير مختار في أموره كلها، فقد لا يخطر بباله في ذلك الموضع إلا هذه اللفظة المؤدية إلى الضرورة. وكثير من أشعار العرب يقع في غير روية، وهو مما يدعو إلى عدم التمكن من تخير الوجه الذي لا ضرورة فيه، ولا يلزم الشاعر - وقت الإنشاد - استحضار التراكيب المختلفة ليوازن بينها ويختار منها ما خلا من الضرورة ويبتعد عما سواه.

1 هو قيس بن زهير العبسى. كان سيد قومه ويلقب بـ"قيس الرأي " لجودة رأيه. وهو صاحب "داحس" وهي فرسه. راهن حذيفة بن بدر الفزاري فصار آخر أمرهما إلى القتال والحرب.

(معجم الشعراء 322، الكامل لابن الأثير 1/336، 337) .

2 البيت من "الوافر" من قصيدة قالها الشاعر فيما كان قد شجر بينه وبين الربيع بن زياد العبسي من أجل درع أخذها الربيع من قيس فأغار قيس على إبل الربيع وباعها في مكة.

الأنباء: الأخبار. وتنمي بمعنى تبلغ. واللبون من الشاء والإبل: ذات اللبن.

والمراد بزياد هو زياد بن سفيان بن عبد الله العبسي.

ويروى البيت: "ألا هل اتاك" مكان "ألم يأتيك" ولا شاهد فيه على هذه الرواية.

والبيت في: الكتاب 2/59، معاني القرآن 1/161، أمالي ابن الشجري 1/126، 127، 328، الإنصاف 1/30، المقرب 1/50، 203، ضرائر الشعر 45، شرح شواهد الشافية 408.

ص: 411

الضرورة لا تنحصر بعدد معيّن:

لعل أقرب تعريف يمكن إطلاقه على الضرورة الشعرية هو: الخروج على القواعد النحوية، والصرفية؛ لإقامة الوزن وتسوية القافية1.

والضرورة بابها الشعر، وشعر العرب لم يحط بجميعه كما روي عن أبي عمرو بن العلاء (154هـ) أنه قال: ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلَاّ أقله، ولو جاءكم وافراً لجاءكم علم وشعر كثير2.

وإذا كان الأمر هكذا فإنه لا يمكن حصر الضرائر بعدد دون آخر، فلا يلتفت إلى من حصر الضرائر في عشرٍ ولا مائة3.

والشاعر غير مقيّد بحدود ما يجده لدى الشعراء الآخرين من ضرورات فيزيد في المواضع التي زادوا فيها ويحذف حيث حذفوا، أو يغيّر على نحو ما غيروا، فقد يعترض في بعض نظمه الكثير مما لا يجد له نظيراً عند غير4.

ومما ساعد على وجود الضرائر وكثرتها اختلافُ نظرة العلماء إلى مصادر الاستشهاد، ومواقفهم المختلفة منها.

واختلفت نظرتهم كذلك إلى مدلول الضرورة الشعرية ذاتها فسلكوا في فهمهم لها وجهات متباينة فصارت الظاهرة الواحدة ضرورة شعرية على رأي في حين أنها لا تُعدُّ كذلك في رأي مغاير5.

الضرورة تنقسم إلى حسنة وقبيحة:

الحكم النحوي ينقسم إلى رخصة وغيرها، والرخصة هاهنا ما جاز للشاعر استعماله للضرورة التي تتفاوت حسناً وقبحاً. فالضرورة المستحسنة هي التي لا

1 انظر: الضرورة الشعرية في النحو العربي 13.

2 انظر: الضرائر للآلوسي 24.

3 انظر: المصدر السابق 24، 25.

4 انظر: في الضرورات الشعرية 14.

5 انظر: الضرورة الشعرية في النحو العربي 128.

ص: 412

تستهجن ولا تستوحش منها النفس، كتسكين العين في جمع فَعْلَة بالألف والتاء حيث يجب الإتباع، كقول الشاعر1:

علَّ صروفَ الدهرِ أو دُولاتِها

يُدِلْننا اللمة مِنْ لماتِها

فتستريحَ النفسُ من زَفْراتِها2

وهذا من أسهل الضرورات.

ومن الضرائر المستحسنة: صرف ما لا ينصرف، وذلك أن أصل الأسماء كلها الصرف. ومنه قول النابغة الذبياني:

فلتأتينك قصائدٌ وليركبن

جيشٌ إليك قوادم الأكوارِ3

1 لم أقف على اسمه.

2 أبيات من مشطور الرجز. وقوله: "صروف الدهر" أي نوائبه. و "الدولة": التغير والانتقال من حال إلى آخر. يدلننا: ينصرننا. و "اللمة": الشدة. ونصبها هنا على نزع الخافض، أي: على اللمة.

انظر: معاني القرآن 3/9، 235، اللامات 135، سر الصناعة 1/407، الخصائص 1/316، الإنصاف 1/220، لمع الأدلة 82، رصف المباني 322.

3 البيت من "الكامل". من قصيدة يتوعد فيها الشاعر زُرْعة بن عمرو الكلابي؛ يتهدده بقصائد الهجو وبالحرب. "القوادم": جمع قادمة، والقادمة: مقدم الرّحْل. و "الأكوار": جمع كور، وهو رحل الناقة.

يقول: واللَّه لأغيرنّ عليك بقصائد الهجو ورجال الحرب. وجعل الجيش يدفع القوادم؛ لأنهم كانوا يركبون الإبل في الغزو حتى يحلوا بساحة العدو فينزلون عنها إلى الخيل، فجعل الجيش هو المزعج للإبل المتحركة، الدافع لها. والبيت في: الديوان 99، الكتاب 2/150، المقتضب 1/143، الأصول 3/436، المنصف 2/79، الخصائص 2/347، الإنصاف 2/490.

ص: 413

وقصر الجمع الممدود تشبيهاً بحذف الياء من "فعاليل" ونحوه، كقول الشاعر1:

فلو أنَّ الأطبا كانُ حولي

وكان مع الأطباءِ الأُساةُ2

ومدّ المقصور كقول الشاعر3:

سيُغنيني الذي أغناك عني

فلا فقرٌ يدومُ ولا غِناءُ4

وأما الضرورة المستقبحة فمثل عدل الأسماء عن وضعها الأصلي بتغييرٍ ما فيها من زيادة أو نقص يترتب عليه التباس جمع بجمع مثلاً كرد "مطاعم" إلى مطاعيم أو عكسه، فإنه يؤدي إلى التباس "مطعم" بـ "مطعام".

وكالنقص المجحف كما في قول لبيد بن ربيعة:

درس المنا بمُتالعٍ فأبانِ

فتقادمت بالحَبْسِ فالسُّوبانِ5

1 لم أجد من سماه.

2 البيت من "الوافر". والأُساة: جمع آسٍ كقضاة: جمع قاضٍ.

انظر البيت في: معاني القرآن للفراء 1/91، مجالس ثعلب 1/88، الكشاف 3/42، الإنصاف 1/385، شرح المفصل 7/5، 9/80، المقاصد النحوية 4/551، الهمع 1/201، الخزانة 5/229، 231، الدرر 1/178.

3 لم أقف على قائله.

4 البيت من " الوافر ".

الإنصاف 2/747، ضرائر الشعر 40، أوضح المسالك 4/297، التصريح 2/293، شرح الأشموني 4/110، الاقتراح 159.

5 البيت من " الكامل ".

درسُ المنازل: عفاؤها وانمحاؤها. ومُتالع: اسم موضع، وقيل: اسم جبل بنجد.

وأبان: اسم جبل، والحبس والسوبان: اسما موضعين. والفاء بمعنى الواو كما في:

بين الدخول فحومل

والبيت في: الديوان 138، اللسان (تلع 8/37، (أبن 13/5، المقاصد النحوية 4/246، التصريح 2/180، الهمع 5/334، شرح الأشموني 3/161، الدرر 6/208.

ص: 414

يريد: المنازل1. فرخَّمه في غير النداء بحذف حرفين منه هما الزاي واللام.

وكقول العجاج:

واطناً مكةَ من وُرْقِ الحمَي 2

يريد: الحمام.

فلا يحسن بالشعراء الأخذ بمثال هذه الضرورات لقبحها، حتى وإن ارتكزت على شواهد معتبرة؛ لأن بتر اللفظ على هذا النحو يمسخ صورته المألوفة. كما أن الأخذ بمثل هذه الضرائر يفضي إلى اختلاط الصيغ وعدم وضوح القصد، وابتعاد الذهن عن الوصول إلى اللفظ بحدوده المعروفة.

فالأولى اقتصار الشاعر على الأخذ بالحسن من الضرورات، وهي التي يكون فيها الحذف أو الزيادة، أو التغيير الذي يطرأ ضمن القياس المعروفة نظائره، والذي يهدي فيه التركيب إلى المراد بسهولة لكثرة شواهده وأمثلته3.

ثم إنه لا يجوز للشاعر أن يلحن لتسوية قافية ولا لإقامة وزن بأن يرفع منصوباً أو ينصب مخفوضاً، أو يحرك مجزوماً، ويسكن معرباً. وليس له أن يُخرج شيئاً عن لفظه إلا أن يكون يخرجه إلى أصل قد كان له فيرده إليه؛ لأنه كان حقيقته، ومتى وجد هذا في شعر كان خطأً ولحناً ولم يدخل في ضرورة الشعر4.

1 انظر: الاقتراح للسيوطي 21، 42.

2 البيت من "الرجز". القواطن: جمع قاطنة وهي المقيمة، من قطن المكان يقطنه إذا أقام فيه.

و"الوُرْق": جمع ورقاء، وأراد الحمام الأبيض الذي يضرب لونه إلى السواد.

و"الحمي" - بفتح الحاء وكسر الميم - يريد: الحمام فغيّرها إلى الحمي، فاقتطع بعض الكلمة للضرورة، وأبقى بعضها لدلالة المبقّى على المحذوف منها:

والرجز في: الديوان 295، الكتاب 1/8، 65، ما ينصرف وما لا ينصرف 51،الخصائص 3/235، شرح المفصل 6/75، التصريح 2/189، الدرر 3/49.

3 انظر: في الضرورات الشعرية 6، 7.

4 انظر: الأصول 3/436، ما يحتمل الشعر من الضرورة 34.

ص: 415

الفصل الثاني: الضرورات الشعرية في ألفية ابن مالك

ربما ورد في ألفية ابن مالك بعض التجاوزات غير الإعرابية، كأن يقع الناظم في عيب من عيوب الشعر، أو يتجوَّز في بعض الألفاظ، أو يجمع بين متنافيين، وهذه الأشياء لم أُعن بها في هذا البحث، من قبل أنها لا تدخل في نحو ولاصرف، ولكني مضطر لذكر بعض النماذج المثبتة لذلك:

فمن عيوب الشعر قول الناظم - في باب "إنَّ" وأخواتها -:

وتصحبُ الواسطَ معمولَ الخبرْ

والفَصْلَ واسماً حلَّ قبله الخبرْ1

حيث تكرَّر لفظ القافية ومعناها واحد، وهو من عيوب القافية، المسمى

بـ"الإيطاء"2، كما قال امرؤ القيس في قافية:

سرحةُ مرقبِ

فوق مرقبِ3

وذلك قوله:

على الأيْنِ جيَّاشٍ كأنَّ سراتَه

على الضُّمرِ والتعداءِ سرحةُ مَرقَبِ

له أيْطلا ظبيٍ وساقا نعامةٍ

وصَهوةُ عَيْرٍ قائمٍ فوقَ مَرْقَبِ

وإذا اتفقت الكلمتان في القافية واختلف معناهما لم يكن إيطاءً4.

1 الألفية ص20.

2 انظر: حاشية ابن حمدون على شرح المكودي 1/111، فتح الرب المالك 273.

3 الديوان 46، 47.

4 انظر: العمدة لابن رشيق 1/169، 170، الكافي في العروض والقوافي 162.

ص: 417

ومنه ما جاء في باب "الضمير" حين كان يتحدث عن نون الوقاية فقال:

وليتني فشا وليتي ندرا

ومع لعلَّ اعكس وكن مخيّرا

في الباقي ات واضطراراً خَفَّفا

منيِّ وعنيِّ بعضُ من قد سلفا1

فقوله: "في الباقيات" متعلق بـ"مخيرا"، واتصال آخر الكلمة من البيت بأول كلمة من البيت الذي بعده يُسمَّى تضميناً، وهو قبيح في الشعر2.

ومثله قوله في باب "الإبدال":

والواوُ لاماً بعد فتح يا انقلبْ

كالمعطيانِ يُرْضَيانِ.ووجبْ

إبدالُ واوٍ بعد ضمٍ من ألفْ-ويا كموقن بذا لها اعتُرفْ3

وإنما سُمي هذا بالتضمين، لأنك ضمَّنت البيت الثاني معنى الأول، لأن الأول لا يتم إلا بالثاني، كقول النابغة الذبياني:

وهُمْ وردوا الجفارَ على تميمٍ

وهم أصحابُ يومِ عكاظ إنِّي

شهدتُ لهم مواطنَ صالحاتٍ

وثقت لهم بحسن الظن مني4

وكلما كانت اللفظة المتعلقة بالبيت الثاني بعيدةً من القافية كان أسهل عيباً5.

ومن التجوّز في الألفاظ ما يلي:

1 -

قال في باب " الابتداء ":

وبعد " لولا " غالباً حذفُ الخبرْ

حتمٌ، وفي نصِّ يمينٍ ذا استقرْ6

1 الألفية ص13.

2 انظر: تمرين الطلاب في صناعة الإعراب 16، حاشية الصبان 4/306.

3 الألفية ص68.

4 الديوان 123.

5 انظر: العمدة 1/171، الكافي في العروض والقوافي 166، مفتاح العلوم للسكاكي 576.

6 الألفية ص17.

ص: 418

فجمع بهذا بين متباينين هما قوله: "حتم" و"غالباً"، فأشكل الجمع بينهما من قبل أن حتمية الحذف تقتضي عدم الانفكاك، وغالبيته تقتضي خلاف ذلك1.

2 -

تجوَّز الناظم في تسمية ما بعد " بل ولكن "معطوفاً إذ قال في باب "كان وأخواتها":

ورفعَ معطوفٍ بلكنْ أو ببلْ

من بعد منصوبٍ بما الزم حيثُ حلْ2

وفي الواقع أن ما بعدهما غير معطوف، وإنما هو خبر لمبتدأ محذوف. فإذا قيل: ما زيدٌ قائماً بل قاعدٌ، وما عمرو منطلقاً لكن مقيمٌ، فإن التقدير: بل هو قاعد، ولكن هو مقيم. و"بل"، و"لكن" حرفا ابتداء3.

3 -

قال في باب "إن وأخواتها":

وإنْ تُخفَّفْ أنَّ فاسمها استكنْ

والخبرَ اجعلْ جملةً من بعد أنْ4

فتجوَّز في قوله: "استكن"، لأن الضمير المنصوب لا يستكن، كما أن الحرف لا يُستكن فيه الضمير، وإنما هو محذوف لامستكن. قاله بدر الدين المرادي5 (749هـ) .

4 -

قال في باب " الاشتغال ":

وبعد عاطفٍ بلا فصل على

معمول فعل مستقر أوّلا6

1 انظر: فتح الرب المالك 215.

2 الألفية ص18.

3 انظر: توضيح المقاصد 1/315، شرح المكودي 41، شرح الأشموني 1/250.

4 الألفية ص20.

5 انظر: توضيح المقاصد 1/355.

6 الألفية ص25.

ص: 419

فتجوَّز في قوله: "على معمول فعل"، لأن العطف حقيقة إنما هو على الجملة الفعلية1.

يعني أن الاسم المشتغل عنه إذا وقع بعد عاطف تقدمته جملة فعلية ولم يُفصل بين العاطف والاسم اختير نصبه نحو: قام زيدٌ وعمراً أكرمتُه، وذلك طلباً للمناسبة بين الجملتين، لأن مَنْ نَصَبَ فقد عطف فعلية على فعلية، ومن رفع فقد عطف اسمية على فعلية، وتناسب المتعاطفين أولى من تخالفهما2.

5 -

وقال في باب "إعراب الفعل":

وإن على اسمٍ خالصٍ فعلٌ عُطفْ

تنصبُهُ " أنْ " ثابتاً أو منحذفْ 3

فجعل الفعل هو المعطوف، والمعطوف في الحقيقة إنما هو المصدر4، أي المؤول من "أنْ" والفعل، كما في قول الشاعرة5:

ولبسُ عباءةٍ وتقرَّ عيني

أحبُّ إليَّ من لُبْسِ الشُّفوفِ6

1 انظر: توضيح المقاصد 2/42، شرح الأشموني 2/79.

2 انظر: شرح الأشموني 2/79.

3 الألفية ص52.

4 انظر: توضيح المقاصد 4/222.

5 هي ميسون بنت بحدل الكليبية. زوج معاوية بن أبي سفيان. شاعرة بدوية. توفيت نحو (80هـ) . (الكامل لابن الأثير 3/261، الخزانة 8/505، 506) .

6 من "الوافر" من جملة أبيات قالتها الشاعرة في الحنين إلى أهلها وإلى حالتها الأولى والتذمر من الحاضرة.

" الشفوف ": جمع شَِفّ - بكسر الشين وفتحها -: ثياب رقاق تصف البدن.

والبيت في: الكتاب 1/426، المقتضب 2/27، الأصول 2/124، الصاحبي 146، الاقتضاب 115، الجنى الداني 157، التصريح 2/244.

ص: 420

فالواو في "وتقر" واو العطف، و" تقر" فعل مضارع منصوب بـ"أنْ" مضمرة جوازاً بعد الواو العاطفة على اسم صريح، أي خالص من التأويل بالفعل.

6 -

وقال في باب "جمع التكسير":

في نحو رامٍ ذو اطِّرادٍ فُعَلَهْ

وشاع نحوُ: كاملٍ وكَمَلَهْ1

ومقصوده أن من أمثلة جمع الكثرة "فُعَلَة" وهو مطرد في كل وصف على "فاعل" معتل اللام لمذكر عاقل نحو: رامٍ ورُماة وقاضٍ وقُضاة.

ومنها كذلك "فَعَلَة" وهو مطرد في كل وصف على "فاعل" صحيح اللام لمذكر عاقل نحو: كاملٍ وكَمَلَة وكاتبٍ وكتَبَة.

فالاطراد كائن في الوصفين إلا أن الناظم استعمل مع الأول الاطراد واستعمل مع الثاني الشِّياع والشياع لا يلزم منه الاطراد مع أنه مطرد نحو: ساحر وسَحَرة وبارٍّ وبَرَرَة. ولذلك فإنه لو قال:

في نحو رامٍ ذو اطراد فُعَلَهْ

كذاك نحو: كامل وكَمَلَهْ

لكان أنصّ، لأن الشياع لا يقتضي بالضرورة الاطراد مع أنه مطرد كما تبين2.

7 -

ولعله يدخل فيما نحن فيه ما يرد في بعض عبارات الألفية من قصور، كقوله في باب "لا النافية للجنس":

وركب المفرد فاتحاً كلا

حولَ ولا قوة

... 3

1 الألفية ص58.

2 انظر: توضيح المقاصد 5/50.

3 الألفية ص21.

ص: 421

قال المرادي: "وفي عبارته هنا قصور حيث قال: "فاتحاً"، بل الصواب: على ما ينصب به

، ولو قال وركب المفرد كالنصب لأجاد"1.

والقصور الذي أشار إليه المرادي حاصل من عدم شمول عبارة الناظم المثنى وجمع المذكر السالم، لأنهما يُبنيان على الياء، وكذا جمع المؤنث السالم لبنائه على الكسر.

كذلك لم أُعْن بما يحتمل وجهين أحدهما ضرورة، فإذا حُمل على الآخر لم يعد كذلك، كقوله في باب "الابتداء":

وبعد " لولا " غالباً حذفُ الخبرْ

حتمٌ، وفي نصِّ يمينٍ ذا استقرْ2

فقوله: "استقر" في محل رفع خبر المبتدأ الذي هو قوله: "ذا"، وإظهار "استقرَّ" هنا للضرورة 3، كما في قول الشاعر4:

لكَ العِزُّ إنْ مولاك عزَّ وإن يَهُنْ

فأنت لدى بحبوحةِ الهونِ كائنُ 5

1 توضيح المقاصد 1/365.

2 الألفية ص17.

3 الأصل عند الجمهور أن الخبر إذا كان ظرفاً أو جاراً ومجروراً أن يكون كل منهما متعلقاً بكون عام واجب الحذف، فإن كان متعلقهما كوناً خاصاً وجب ذكره إلاّ أن تقوم قرينة تدل عليه إذا حذف، فيجوز ذكره وحذفه. انظر: شرح ابن عقيل 1/250، الهمع 2/40.

4 لم أقف على اسمه.

5 من " الطويل ".بحبوحة كل شيء: وسطه. والهون: الذل والهوان.

والشاهد فيه: التصريح بالخبر " كائن " الذي تعلق به الظرف " لدى " وهو شاذ، والقياس حذفه.

والبيت في: المغني 582، شرح ابن عقيل 1/211، المقاصد النحوية 1/544، الهمع 2/22، 5/135، شرح شواهد المغني 2/847، الدرر 2/18، 5/313.

ص: 422

أعرب المكودي قوله: "اعتقد" معطوفاً على "يجب"، وجاز عطف الفعل "اعتقد" - مع كونه طلباً - على الفعل "يجب" مع كونه خبراً، لأن يجب في معنى أوجب1.

وألزمه الأزهري حذف الجواب مع كون الشرط مضارعاً، ووقوع ما هو بمعنى الطلب خبراً، والأول ممتنع إلا في الضرورة، والآخر خلاف الأكثر.

قال: ولو جعل "يجب" جواب الشرط، والشرط وجوابه خبر المبتدأ لسلم من هذا. وعطفُ الإنشاء على الأخبار أجازه الصفار2 (63هـ) وجماعة3، ومنعه ابن مالك في شرح التسهيل4 تبعاً للبيانيين5.

وقال في باب "جمع التكسير":

وزائدَ العادي الرباعي احذفْهُ ما

لم يكُ ليناً إثرَهُ اللَّذ خَتَما6

فقوله: "اللَّذْ" لغة في "الذي" وهو مبتدأ مؤخر، وجملة "ختما" إمّا أن يكون الفعل فيها مبنياً للمفعول فتكون الجملة صلة المصول، والعائد محذوف مجرور بالباء - وإن لم تتوافر شروط الحذف - للضرورة، والتقدير: خُتم به7.

1 انظر: شرح المكودي 80.

2 أبو القاسم قاسم بن علي بن محمد البَطَلْيوسي، الشهير بالصفَّار. صاحب ابن عصفور والشلوبيني. شرح كتاب سيبويه شرحاً حسناً.

(البلغة 173، 174، بغية الوعاة 2/256، كشف الظنون 2/1428) .

3 انظر: المغني 627، الهمع 5/273.

4 انظر: 2/250.

5 انظر: تمرين الطلاب في صناعة الإعراب 56.

6 الألفية ص60.

7 انظر: تمرين الطلاب في صناعة الإعراب 129.

ص: 424

‌الضرورات الشعرية في ألفية ابن مالك

‌مدخل

لكونه كوناً مطلقاً.

ويمكن حمل بيت الألفية على وجه آخرَ هو أن يراد بالاستقرار الثبوت، وكذا يحمل الكون في قول الشاعر على الثبوت وعدم التزلزل والانفكاك فيصير كوناً خاصاً ويخرج من بيت الضرورة، لأنه حينئذٍ يجوز ذكره، وحذفه.

ونظير هذا ما قاله أبو البقاء العكبري1 وغيره2 في قوله تعالى: {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ} 3: إن الاستقرار في الآية معناه الثبوت، وعدم التحرك، لا مطلق الوجود والحصول، فهو كون خاص4.

وقال في باب "لا النافية للجنس":

ومفرداً نعتاً لمبنيٍّ يلي

فافتح أوِ انصبَنْ أو ارفع تَعْدِلِِ5

فإن قوله: "ومفرداً نعتاً" مفعول مقدم لقوله: "افتح أو انصب أو ارفع" من باب التنازع مع تأخر العوامل. وقد قدَّم "مفرداً" على "نعتاً" وحقه التأخير، لأنه وصف له لأجل الضرورة.

ويجوز نصبه - أعني "مفرداً" - على الحالية، لأنه وصفٌ لنكرة تقدم عليها6. وعليه فلا ضرورة في البيت.

وقال في باب "المفعول معه":

والنصبُ إنْ لم يجزِ العطفُ يجب

أو اعتقد إضمارَ عاملٍ تُصِبْ7

1 قال العكبري: " مستقراً " أي ثابتاً غير متقلقل، وليس بمعنى الحصول المطلق، إذ لو كان كذلك لم يذكر". التبيان 2/1009.

2 انظر: الدر المصون 8/616، الفتوحات الإلهية 3/315.

3 من الآية 40 من سورة النمل.

4 انظر: تمرين الطلاب في صناعة الإعراب 28، وانظر: المغني 581.

5 الألفية ص21.

6 انظر: شرح المكودي 51.

7 الألفية ص28.

ص: 232