الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخاتمة
لا يسعني بعد هذا التطواف، وفي ختام هذا البحث إلا أن أقدم خلاصة موجزة له مشتملة على أهم النتائج فأقول:
أولاً: لقد كانت النظرة في بادئ الأمر إلى الشعر، والنثر واحدةً من حيثُ الخصائصُ التعبيرية في صياغة العبارة، وبناء الألفاظ. يقوِّي ذلك اشتراك الفنَّيْن في شواهد اللغة، والنحو على الرغم من التفاوت الملحوظ في طريقة الصياغة، والإعراب.
ثم دخلت الضرورة - فيما بعدُ - في ميادين البحث اللغوي، والنقدي على نطاق واسع.
ثانياً: لسيبويه رحمه الله جهود في مجال الكتابة عن الضرورة - وإن كانت لفظة "الضرورة" غير مذكورة في كتابه - إلَاّ أن دراسته لهذه الظاهرة تفتقر إلى المنهجية المحددة القائمة على التقسيم، والتصنيف. فما كتبه عن الضرورة لا يعدو أن يكون إضاءاتٍ موزعة ذات فوائد متفرقة أفاد منها النحاة في هذا المجال.
يمكن اعتبار ما كتبه أبو بكر بن السراج الأساسَ التاريخي الأول لحركة التأليف والكتابة المنهجية عن الضرورة. وأمّا المبكر إلى حصر تلك الظاهرة حصراً علمياً فهو أبو سعيد السيرافي.
ثالثاً: لم يصرّح سيبويه بتعريف محدَّد للضرورة، وإنما كان يكتفي ببعض العبارات التي فهم منها بعض شراح "الكتاب" وغيرهم مفهوم الضرورة عنده، وهو أنه يجوز للشاعر ما لا يجوز له في الكلام بشرط أن يضطر إلى
ذلك ولا يجد منه بدّاً، وأن يكون في ذلك ردُّ فرع إلى أصل أو تشبيه غير جائز بجائز.
وقد نُسب هذا الاتجاه في فهم الضرورة إلى ابن مالك أيضاً وشُهر به حتى إن كثيراً ممَّن خالف هذا المنهج وجَّه نقده إلى ابن مالك وحده ولم يتعرض لسيبويه.
ولم يجد هذا الرأي قبولاً لدى كثير من العلماء، على الرغم من شهرة، ومكانة من قال به؛ حيث لقي نقداً شديداً من المتأخرين كالشاطبي، وأبي حيان، وابن هشام، والأزهري، والبغدادي.
وأمَّا عند أبي الفتح عثمان بن جني، وكثير من النحويين فالضرورة ما وقع في الشعر مطلقاً سواء كان للشاعر عنه مندوحة أو لا؛ إذ لا يشترط في الضرورة أن يضطر الشاعر إلى ذلك في شعره؛ لأن الشعر موضعٌ قد ألفت فيه الضرائر.
ويتعدى أبو الحسن الأخفش ذلك فيقول: إن الشاعر يجوز له في كلامه وشعره ما لا يجوز لغيره في كلامه؛ لأن لسانه قد اعتاد الضرائر.
وأما أحمد بن فارس فيختلف موقفه عن موقف النحويين؛ إذ لا يكاد يقرّ بما يسميه النحاة ضرورة، حيث يتعيّن على الشاعر أن يقول بما له وجه في العربية - ولا ضرورة فيه حينئذٍ - فإن لم يك ثمَّت وجه فيها رُدَّ وسُمِّي باسمه الحقيقي وهو الغلط أو الخطأ، ولا داعي للتكلف واصطناع الحيل للتخريج، ويرى أنه لا فرق بين الشاعر، والخطيب، والكاتب، فالشعراء يخطئون كما يخطئ سائر الناس، ويغلطون كما يغلطون.
رابعاً: إن أقوى هذه الآراء أن الضرورة ما وقع في الشعر سواء كان للشاعر عنه مندوحة أولا؛ لأن الشعر كلام موزون بأفاعيل محصورة يستلزم
بناؤه على هذه الصورة المقيَّدة بالوزن، والقافية أن يلجأ قائله أحياناً إلى الضرورة.
خامساً: أنه لا يمكن حصر الضرائر بعدد معيّن من قِبَل أن الشاعر غير مقيّد بحدود ما يجده لدى الشعراء الآخرين من ضرورات، فيزيد في المواضع التي زادوا فيها ويحذف حيث حذفوا، أو يغيّر على نحو ما غيروا، فقد يعترض في بعض نظمه الكثير مما لا يجد له نظيراً عند غيره.
سادساً: مما ساعد على وجود الضرائر وكثرتها اختلاف نظرة العلماء إلى مصادر الاستشهاد ومواقفهم المختلفة منها، واختلاف نظرتهم إلى مدلول الضرورة الشعرية ذاتها، فصارت الظاهرة الواحدة ضرورة على رأي، في حين أنها لا تُعدُّ كذلك في رأي مغاير.
سابعاً: أن الضرورة تنقسم إلى حسنة لا تستهجن النفس منها، ولا تستوحش كصرف ما لا ينصرف، وقصر الجمع الممدود، ومدّ الجمع المقصور، وإلى ضرورة مستقبحة كعدل بعض الأسماء عن وضعها الأصلي بتغيير مَّا فيها من زيادة أو نقص يترتب على أحدهما التباسٌ وعدم وضوح القصد، وابتعاد الذهن عن الوصول إلى اللفظ بحدوده المعروفة.
على أنه لا يجوز للشاعر أن يلحن لتسوية قافية أو إقامة وزن كأن يرفع منصوباً أو ينصب مخفوضاً، ومتى وجد هذا في شعر كان خطأً ولحناً لا يدخل في ضرورة الشعر.
ثامناً: أنه قد وقع لابن مالك في ألفيته كثير من المخالفات التي يمكن إدراجها ضمن الضرورة الشعرية. وإذا ما أريد تطبيق رأيه في الضرورة على هذه المخالفات فإن هذا ليس في صالح ابن مالك نفسه؛ لأن له في هذه المواضع أو معظمها مندوحة.
وكما يقول أبو حيان: ما من كلمة إلا ويمكن استبدالها بأخرى.
وعلى سبيل المثال فإن ابن مالك قد اضطر إلى تقديم الصفة على الموصوف لإقامة الوزن حين قال:
وابْنِ المعرَّفَ المنادى المفردا
…
على الذي في رفعه قد عُهدا
وأصل الكلام: وابن المنادى المعرَّفَ المفرد.
مع أنه يمكن السلامة من ذلك لو قال:
وابن المنادى المفرد المعرَّفا
هذا. والله أسأل أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم.
والحمد لله أولاً وآخِراً، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.