المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل في نبذة من رسائلي له - العقد المفصل

[حيدر الحلي]

فهرس الكتاب

- ‌بسم الله الرحمن الرحيم

- ‌فصل في نسبه وحسبه وأصله وشرف بيته

- ‌فصل في كرمه وأخلاقه

- ‌فصل في حلمه ونهاه ووقاره وحجاه

- ‌فصل في تجاربه وذكائه

- ‌فصل في فصاحة لسانه وبلاغة بيانه

- ‌فصل في نعت نثره ونظمه

- ‌فصل في إثبات فصول من نثره وعقود من نظمه

- ‌الباب الأوّل في قافية الألف

- ‌وتشتمل على فصول

- ‌فصل في المديح

- ‌الفصل الثاني في الرثاء

- ‌الفصل الثالث في الغزل

- ‌الباب الثاني في قافية الباء

- ‌وفيها فصول

- ‌الفصل الأوّل في المديح

- ‌فصل في التهنية

- ‌فصل في الرثاء

- ‌فصل في الغزل

- ‌الباب الثالث حرف التاء

- ‌وفيه فصول

- ‌فصل في المديح

- ‌الفصل الثاني في الغزل

- ‌الفصل الثالث في شكوى الزمان وعدم نباهة الحظ

- ‌الفصل الرابع في الهجاء

- ‌الباب الرابع في قافية الثاء

- ‌وفيها فصلان

- ‌الفصل الأوّل في المديح

- ‌الفصل الثاني في الإستغاثة

- ‌الباب الخامس في قافية الجيم

- ‌وفيها فصل واحد في المديح

- ‌الباب السادس في قافية الحاء

- ‌وفيها ثلاثة فصول

- ‌الفصل الأوّل في المديح

- ‌فصل في الرثاء

- ‌فصل في الغزل

- ‌فصل في الإستغاثة

- ‌الباب السابع قافية الخاء

- ‌وفيها فصلان المديح والغزل

- ‌أمّا المديح

- ‌وأمّا الغزل

- ‌الباب الثامن حرف الدال

- ‌وفيه فصول

- ‌فصل في المديح

- ‌فصل في الرثاء

- ‌الباب التاسع في قافية الذال

- ‌وفيها فصل واحد وهو في الثناء

- ‌الباب العاشر في قافية الراء

- ‌وفيها خمسة فصول

- ‌الفصل الأوّل في المديح

- ‌فصل في التهاني

- ‌فصل في الرثاء

- ‌فصل في الغزل

- ‌الفصل الخامس في الهجاء

- ‌الباب الثاني عشر في قافية السين

- ‌وفيها فصل في المديح

- ‌الباب الثالث عشر في قافية الشين

- ‌وفيها فصلان

- ‌الفصل الأوّل في المديح

- ‌الفصل الثاني في الرثاء

- ‌الباب الرابع عشر في قافية الصاد

- ‌وفيها فصل في المديح

- ‌الباب الخامس عشر في قافية الضاد

- ‌وفيها فصلان

- ‌الفصل الأوّل في المديح

- ‌الفصل الثاني في التهنية

- ‌الباب السادس عشر في قافية الطاء

- ‌وفيها فصل في المديح

- ‌الباب السابع عشر في قافية الظاء

- ‌وفيها فصل في المديح

- ‌الباب الثامن عشر في قافية العين

- ‌وفيها فصلان

- ‌الفصل الأوّل في المديح

- ‌الفصل الثاني في التهاني

- ‌الفصل الثالث في الحماسة

- ‌الباب التاسع عشر في قافية الغين

- ‌وفيها فصل في المديح

- ‌نبذة من نوادر الحمقاء

- ‌الباب العشرون في قافية الفاء

- ‌وفيها ثلاثة فصول

- ‌الفصل الأوّل في المديح

- ‌الفصل الثاني في التهنئة

- ‌الفصل الثالث في الرثاء

- ‌الباب الحادي والعشرون في قافية القاف

- ‌وفيها فصلان

- ‌الفصل الأوّل في المديح

- ‌الفصل الثاني في التهنئة

- ‌الباب الثاني والعشرون في قافية الكاف

- ‌وفيها فصل واحد في المديح

- ‌الباب الثالث والعشرون في قافية اللام

- ‌وفيها فصلان

- ‌الفصل الأوّل في المديح

- ‌الفصل الثاني في التهنية

- ‌الباب الرابع والعشرون في قافية الميم

- ‌وفيها أربع فصول

- ‌الفصل الأوّل في المديح

- ‌الفصل الثاني في التهنية

- ‌الفصل الثالث في الرثاء

- ‌الفصل الرابع في الإعتذار

- ‌الباب الخامس والعشرون في قافية النون

- ‌وفيها ثلاثة فصول

- ‌الفصل الأوّل في المديح

- ‌الفصل الثاني في الرثاء

- ‌الباب السادس والعشرون في قافية الواو

- ‌وفيها فصل واحد في المديح

- ‌الباب السابع والعشرون في قافية الهاء

- ‌وفيها فصل واحد في المدح

- ‌الباب الثامن والعشرون في قافية الياء

- ‌وفيها فصل واحد في المديح

- ‌ خاتمة الكتاب

- ‌وفيها فصول

- ‌فصل في نبذة من رسائلي له

- ‌فصل في رسائله

- ‌فصل في نبذ من فرائد نظمه

- ‌تذييل في ذكر بعض تقريظات الكتاب

- ‌التقريظ الأوّل

- ‌التقريظ الثاني

- ‌التقريظ الثالث

- ‌التقريظ الرابع

- ‌التقريظ الخامس

- ‌التقريظ السادس

الفصل: ‌فصل في نبذة من رسائلي له

والشواهد في هذا النوع كثيرة، وما أحلى قول بعضهم وكان مغرماً بالتضمين:

أُطالع كلّ ديوان أراه

ولم أزجر عن التضمين طيري

أضمّن كلّ بيت فيه معنىً

فشعري نصفه من شعر غيري

تمّت الأبواب بعون الملك الوهّاب، وتتلوها‌

‌ خاتمة الكتاب

.

خاتمة الكتاب

‌وفيها فصول

‌فصل في نبذة من رسائلي له

كتبت إليه بهذه الرسالة جواباً عن رسالة بعث بها إليّ:

في فمي لم يزل لذكرك نشر

طيب واختبر بذاك النسيما

وبمرآة فكرتي لم يزل شخ

صك نصب العينين منّي مقيما

وعلى النحر من علاك ثنائي

ليس ينفك عقده منظوما

لا تظنّ العباد يحجب عنّي

منك ذيّالك المحيّا الكريما

فوشوقي وموقع الودّ منّي

قسماً لا أراه إلاّ عظيما

أنت عندي بالذكر أحضر من قل

بي بقلبي فكن بذاك عليما

لست أقوى لحمل عتبك يا من

حملت فخره المعالي قديما

فاثن من غرب عتبك اليوم عنّي

فيه قد تركت قلبي كليما

إنّي ومن جعلك ريحانة الأديب، وسلوة الغريب، لم أستوجب منك كلّ هذا العتاب، ولم أستجلب بمسائة كلّ هذا الخطاب، وهبني أسأت فأين العفو والكرم، ولعمري لقد تجرّمت عَلَيّ فلا جرم، إنّي أعتذر الآن فأقول ما حلت إزرار جيبها الصبا، ولا فتحت إكمام النور على الربى، بأوقع في النفس، وأشغل للحواس من الخمس، من بديع بيان، كأنّه قطع جنان، يجلو بواضح الإعتذار ظلمة العتب، ويمحو بصادق التنصّل كاذب الذنب، من محبّ صدع التقريع منه الأحشاء، وأرمضت قلبه هواجر الإستجفاء، إلى من حنوت له ولا حنواً المرضعات على العرام، وعذوت له الحبّ ولا غذاء الآباء طرائف الهيام، حتّى شبّ وليد شوقي إليه على الشغف، ونشا طفل ولوعي به في حجر الصبابة والكلف، وحتّى سكنت نفسي إلى هواه، سكون الجفن الساهر إلى كراه، أعني به جوهرة الزمن، وغرّة وجهه الحسن، أنمى الله غصن شبيبته على الفضائل، وشدّ إزر المعروف من عطائه بواصل.

فله أياد لا تزال

سمائها كرماً مخيله

ونقيبة ما غيّرت

في الجود عادتها الجميله

ويد كضرع الغيث

يمخضها الرجا مخض الثميله

أمّا بعد؛ فحين وصلت إليّ عقيلة فكرك، وجميلة نظامك ونثرك، طرحت عنها الإزار، وحللت من غلالتها الإزرار، ثمّ قبلت منها فتاة يزري بفتات المسك خلوقها، وبابنة العنقود راووقها، فشفت بعذب كلامها غلّة صدري، ونفثت بسحر بيانها في عقد صبري، قد نشرت لدي حديث واصل، ثمّ بسطت على لسان عاذل، فأباتني تأنيبها مبيتاً نابغي، وقلّبني توبيخها في مضجع ابن هاني المغربي، بل كلّما ضرب الليل على الأُفق رواقه، وعقد على الشفق إزراره ونطاقه، أمسي وهمومي القارعة، وأفلاذ كبدي الواقعة، وفاتحة الرعد سائغ ريقي، وخاتمة الأعلى في شرايين أوردتي ووشائج عروقي، وآرائي في الشعراء، وأحشائي ما جعله الخليل وسط الأنبياء، تقريباً بلا استثناء، وكلّما فلق الصبح بعموده هامة الغسق، وشهر خاضباً من وريد الظلام سيفه الشفق، أصبح ولسان حالي، يترجم عن لسان مقالي، إذا رأيت قوماً، إنّي نذرت للرحمان صوماً.

فوا عجباه والدهر سلك عجائب، والأيّام مثرية من الغرايب، كيف يتطرّق إلى وهم، أو يتصوّر في خيال أخي وهم، إنّي في تياك المودّة أشقى، بعد ما تمسّكت منها بالعروة الوثقى، لا وعافاك الله من العلل، وبلغك منتهى المجد وقد فعل، لا يلهو عن تلك المحبّة عميدها، ولا يخلق على تعاقب الليالي والأيّام جديدها، وليت شعري اعتاض عنك، بأيّ بدل منك، ولمن أربى مولود الوفاء، وإلى من أزفّ عروس الإخلاص والصفاء، وملتمس الثقة، لا يداع المقه، كالمرتبع بواد غير ذي زرع، والمنتجع في بواد خالية اللمع، والمغترف من الراب الخادع، والقابض على الماء خانته فروج الأصابع، فهم ومن جعلكم جواهر الزمن، حريون بقول المهيار أبي الحسن:

خلق إذا حدّثت عن أخلاقها

فكأنّما كشّفت عن سوآتها

ص: 198

وأمّا وعليا أبيك، وخلاله الصالحة التي اجتمعت فيك، لا أنت على بعدك، يا نسيج وحدك، ثاني النفس لدي، وثالث عيني بل أعزّ منها عَلَيّ، وما تركت المواجهه رغبة عن المشافهه، ولا المراسله رغبة عن المواصلة، كلاّ بل لعوائق طاريه، وشواغل غير متناهيه، تلهي الحليم عن نفسه، وتنسيه يومه فضلاً عن أمسه، ولولاها:

لنثرت حبّات الفؤاد الوكةً

ونظمتها شوقاً إليك قريضا

وكتبت إلى أخيه الحاج محمّد رضا بهذه الرسالة وصدّرتها بهذه الأبيات:

أغضَّ النسيم تحمل سلامي

فحيّ بريّاه دار السلام

سلام محبّ عريق الوداد

غريق الفؤاد ببحر الغرام

يميت بشوق بياض النهار

ويحيي بتوق سواد الظلام

وتهفوا نوازع أشواقه

بلبّ حشاشته المستهام

يطالع بالفكر وجه الحبى

فيحظى برؤية بدر التمام

حبيب أروح قلبي العليل

من ذكره بنسيم المدام

وشوقي إلى درّ ألفاظه

كشوق الرياض لدرّ الغمام

ممّن سكن روحه بمحاني الزوراء، وأقام جسمه بمعاني الفيحاء، إقامة المغترب عن وطنه، اللابث في غير عطنه، لا يملك على الخفوق، أثناء قلبه المشوق، ولا يلقى سمعه إلى نديم، ولو كان من أفصح الأنام، ولا يرتاح إلى مفاكه، ولو كان من ولدان النعيم، عبق الكلام، ولا ينظر إلاّ بعين إنسيّة الأجفان، وحشيّة الإنسان، قد عرفت أماقها الأرق، وأنكرت أحداقها الرفق، لم تفتح على أُناس بصرها، إلاّ استوحشت منه فغضّت عنهم نظرها.

أتأنس في فتح أجفانها

عيوني في غير إنسانها

ويخلص يوماً لنفسي السرور

إذا واصلت غير خلصانها

إذاً كذبت في ادّعاء الوداد

نفسي وما الكذب من شانها

نعم عندها الغدر بعد الوفاء

هو الكفر من بعد إيمانها

على أنّي لم أبرح مسائي وصباحي، وغدوي ورواحي، وعشيّي وإبكاري، وأصيلي وأسحاري، حرج الصدر، متشعّب الفكر، ملوي الحشاشة على حسرات متعاليه، مطوي الجوانح على زفرات إلى التراقي متراقيه، من لوعة غير ماضيه، أقتل من ماضية الحد، وصبابة كأنّها جمرة ذاكية الوقد، فإذا غشيني الدجى بغياهبه، ورقدت الورى أحصيت عدد كواكبه، بعين ابن شوق نسيت أجفانه الكرى، وإذا نضا الليل عنّي ثياب ظلمائه، وألبسني النهار جلباب ضيائه، أقبلت على نفسي أُعلّلها بوشيك التداني، وأسلى غلّة شوقها بسراب الأماني، فتذمّ من أمسها ما استدبرت، وتحمد من يومها ما استقبلت، حتّى يأكل فم الغروب قرص الشمس، ولم تحصل من الرجاء إلاّ على اليأس، ولمّا لم يبق لي في قوس الآمال منزع، ولا في مطمعات الأماني مطمع، سبرت بعين البصيرة والعقل، مذاهب طرق الوصل، فوجدتها على ثلاثة أنحاء، بين أهل المودّة والإخاء، إمّا بمشاهدة العيان على القرب، أو حضور الحبيب في مهجة المحب، أو بثّ الشوق إليه والوجد، بالمراسلة على البعد، فألفيت أوّلها مستحيلا، بعد أن طلبته بكرة وأصيلا، وأمّا الثاني، فما عداني، وحين وصلت بالنظر طريقها الثالث، وقطعت عن أوّلها قرينة البواعث، وجدت نفسي مقصرةً في عدم إتيانه، لاقتدارها عليه مع شدّة إمكانه فلم أزل أوبّخها في ذلك وألومها، وأعذلها والندم فيما هنالك نديمها، إلى أن تمنّت من شدّة الخجل، لو سبق السيف إليها ذلك العذل، وقد أخرسها الذنب، وأفحمها العتب، لأنّها قطعت لسان عذرها، في شباة هجرها، حيث أنّها وإن طلبت من أنواع المواصلة أطيبها، وأكملها لذّةً وأعذبها، إلاّ أنّ ما لا يدرك أجله، لا يترك أقله، ولكن منها هذه الزلّة، صدرت مع ماجد شابه فرعه أصله، ووصف طيب أخلاقه، كريم أعراقه، ولذلك نهضت بعد كبوتها، بأذيال هفوتها، وسلكت إلى المواصلة، بطريق المراسلة، وإلى المخاطبة بالمكاتبة، ومع ذلك فهي تستمدّ اللطف، وترجو الصفح، وتأمّل قبول العذر والسلام.

وكتبت إليه هذه الرسالة أيضاً:

فما روضة مرشوفة عن عبيرها

تحدّثن أنفاس الصبا والجنائب

بأطيب عرفاً من سلام بنشره

يعطّر فاه كلّ راو وخاطب

ص: 199

ترفعه عوامل شوق تنازعت خلدي، وجلبت السقم في تصرّفها إلى كبدي، فنسخت جميل صبري، وأطالت اشتغال فكري، إلى حضرة من نصب الله على التمييز علم فخره، فانخفضت بالإضافة إلى عزّه جميع أبناء دهره، وجزمت بنوا الدنيا أنّه في السماحة البحر المحيط، إذ بسط لها بالعطاء كفّاً استغرق وافر جودها ما حوته دائرة البسيط، فأقال به من كبوة الجدّ عثارها، حتّى سلمت له بالفضل إقرارها، فهو في أصله الذي عرقت به العلياء، كما قلت فيه مخاطباً له بهذه الثناء:

يا أمجد الناس فرعاً

ينمى لأكرم أصل

وقاتل المحلّ جوداً

في كلّ أزمة محل

وابن القرى ولعمري

أبوك زاد المقلّ

لا يستشار سواه

في كلّ عقد وحلّ

الموقد النّار ليلاً

للطارق المستدلّ

مرفوعة وعليها

مراجل الزاد تغلي

يمتدّ منها لسان

إلى السّماء متجلّي

حتّى يضيء سناه

في كلّ حزن وسهل

يدعوا الضيوف هلمّوا

إلى القرى لمحلّي

فيهتدي بسناه

إليه كلّ مضلّ

أكرم به من كريم

له انتهى كلّ فضل

والخلق منك ومنه

مثلان من غير مثل

هذا مجاجة مسك

وذاك شهدة نحل

يفدي علاك ابن خفض

ساع برجل ابن ذل

يبغي العلى وهو شيخ

همّ بهمّة طفل

وهل تنال الثريّا

عفواً بباع أشل

وماله في طريق

العلياء موطىء نعل

ولا له حوض جود

يرجى لعل ونهل

إلاّ حقيقة بخل

تبدو بصورة بذل

ولعمري كيف ينالها، وهي علاء ماجد تفرع من دوحة ضربت في طينة المجد أرومها، وأخذ بأطراف الشرف حديثها وقديمها، فهو ينتمي منها إلى نسب كريم الطرفين، وحسب لم يزن معشار فخره فخار الثقلين، ذاك صفوة المكارم، من أبنائها الأكارم، رفع الله قواعد مجده، وخفّض حواسد جدّه، وجعل كوكب سعده طالعاً في سماء الفخار، ما استدار الفلك الدوّار.

دعاء إخلاص إذا رفعته

قال الحفيظان معي آمينا

أمّا بعد؛ فالغرض من توشيع هذه الألوكة وتسهيمها، وترصيف منثورها ومنظومها، بثُّ وجد حركت ساكنه الذكرى، وترويح كبد أرمضتها هواجر البعد فغودرت حرّى، وتعليل نفس لم تزل من ثنايا الشوق إليكم متطلّعه، ولأخباركم من فم الصادر والوارد لم تزل منتجعه، ليرد عليها في ارتيادها، ما يجلب المسرّة إلى فوآدها، من صحّة أجسادكم التي هي لجسم الزمان أرواح تدبّره، وصفاء أيّامكم التي هي أوضاح هذا الدهر وغرره، وصّل الله عزّكم بيمن إقبالها، وقرن لكم بعمر الدهر غضارة اقتبالها، فلست أسأل غيرك من محقّق الحقائق، في كلّ غاسق وشارق، والسلام عليكم، ما رفّ فوآدي بأجنحة الشوق إليكم.

وكتبت إليه بهذه الرسالة أيضاً:

نسخت ولم يحص اشتياقي ولو له

جميع الذي قد ضمّه الكون ناسخ

لقد دان قلبي في شريعة حبّكم

فليس له حتّى القيامة ناسخ

سلام فتقت نور زهره صبا الحب، وأعربت أنفاس نشره عن طي سريرة الصب، ورقّت ألفاظه حتّى سرق النسيم طبعه من رقّتها، ونفحت بريا الإخلاص فقراته حتّى استعار العنبر المحض طيبه من نفحتها، وما هي فقرات في الطروس قد رسمت، بل روح محب أذابها الشوق وفي قالب الألفاظ تجسّمت، فلو نشق أرواح عرفها من غشيته سكرات الموت لصحا، ولو سرح النظر في لؤلؤ ألفاظها ذوالطبع السليم لسحرت عقله ماس منها مرحا.

عرائس لفظ حكى مسكها

على الطرس أنفاس ريح الصبا

رقاق كرقّة قلب المحب

وخدّ الحبيب بعصر الصبا

حكت في العذوبة أخلاق من

له أهديت وإليها صبا

ص: 200

من محبّ قطع قلبه الشوق الملح، وبرح به الغرام المبرح، وحال من البعاد بينه وبين حبيبه، ما أوقد في أحشائه سعير وجد إذا انحنت عليه أضلاعه تجافت عن لهيبه، وغودر جنباه من تلهّب أنفاسه الحرار، يرسل عليهما شواظ من نار، وكاد في تصاعد حريق زفرته، يضرم الهواء ناراً في كرّته، وحشدت جحافل الغرام في منحني ضلوعه، وانتجعت سفح عقيق دموعه، فهي تستدير عينه دموعها في كلّ آن، فتنبعث كأنّهنّ الياقوت والمرجان، وأوطنت الصبابة في غوير لبّه، وقوّض السلو عن غضا قلبه، وحال من مترادفات الأشجان، بينهما برزخ لا يبغيان، وأوشك الفراق أن ينسف طود حلمه بريح عقيم، ما تذر من شيء أتت عليه إلاّ جعلته كالرميم، فلا يتناهى في تحرير نعنت شوقه الكلام، ولو أنّ ما في الأرض من شجرة أقلام، إلى من حلقت به قدامي شرفه، فقصّر كلّ محلق عن شأو علاه التي أحرزها عن سلفه، وغذي بلبان العلياء إلى أن بحجرها نشا، وارتشف مدامة حبّها إلى أن انتشى، وطابت منه الخليقة، فكانت بما قلت فيها خليقة.

يا طيب أخلاق كريم روى

السامع عنها ما رأى المبصر

بأنّها أطيب من روضة

طينتها مازجها العنبر

لو مزج الماء بها شارب

ما شكَّ فيه أنّه الكوثر

ندب له في حلبات العلى

دون الأنام الورد والمصدر

كأنّ من يأوي إلى بشره

من وحشة في روضة يحبر

معارج العلياء مرصودة

ليس عليها غيره يظهر

الفصيح الذي عقدت عليه الفصاحة حبك نطاقها، والبليغ الذي مدّت فوق البلاغة رفيع رواقها، والماجد الذي سمح الدهر بجوده، فدلّ على نفي بخل الدهر وإثبات جوده، وأحيى به روضة الأدب بعد ما ذوت، وأجدّ به ربوع الفضل بعد ما عفت، ورفع به سماء المجد بعد هبوطها، واقام به أعمدة السؤدد بعد سقوطها، وأقرّ عيون السماح منه بإنسانها، ووصل بيمين المعروف منه ببنانها، ونشر به جميع ما طوى من المحاسن العجيبه، وأظهر به ما أخفى من بدايع الكلمات الغريبه، فهو من أهل زمانه بمنزلة الروح من الجسد، والواسطة من العقد المنضّد، فأكرم به من ماجد بهيج تعشوا من ضوء صباح محيّاه نواظر الرائين إذا ملأت من نوره البصر، وأعجب به من فطن تعشوا في ظلام الأشكال إلى مصباح ذكاه بصائر ذوي النظر، لا زالت شمس إقباله طالعة في أعلى بروج المراتب، وكوكب سعده ثاقباً في سماء شرفه التي يتمنّى أن يحلّ فيها سعد الكواكب، ولا برح طائر اليمن له مزجورا، وروض مسرّته غضّاً مونقاً نضيرا، بمحمّد وآله المبرّئين من الزلل، وصحبه الذين مالهم في التقى من مثل.

أمّا بعد؛ فإنّي لم أزل فيك للغرام نديماً، وعلى الصبابة حيثما رحلت مقيماً، تذهب بي الأشواق كلّ مذهب، وطرف عيني لم يزل في آفاق السماء مقلب، فكأنّ عيني وقد نبت عن إغضائها، ووكلت بعدّ النجوم وإحصائها.

أنا أحصي النجوم فيك ولكن

لذنوب الزمان لست بمحصي

غير أنّي كلّما ألحّ على قلبي الجوى فأضناه، روّحته بذكراك فتنتعش بعد الضعف قواه، وبينا أعلّل نفسي بذكر الوصال، وهي من شدّة الشوق تتمثّل بذكر من قال:

ولم أر مثل قطع الشوق قلبه

على أنّه يحكي قساوته الصخر

إذ وردت منك إليّ رسالة بديعة الكلام، حسنة النسق والإنسجام، قد افتتحت بزهر السلام روضة كلماتها، وختمت بمسك الثناء عقود فقراتها، فنشقت منها نسيم المودّة حين نشرت لدي، واقتطفت منها نور المحبّة حين قُرئت عَلَيّ، وهزّني إليها الطرب، وملكني بها العجب، ولمّا استوقفت النظر فيها، وأجلت الفكر في ألفاظها ومعانيها، سكرت من كؤس ألفاظها ولا جام، بمدامة معانيها ولا مدام، قد ابتدأت برفع خبر الشوق نحوالخليل، وأنهت إليه الجزم بتمييزه فيما بنيت عليه من مضمر الحب وظاهر المدح الجليل، وأنبأت فيما أكّدت من الشوق أن لا بدل من الصب عند صبّه، وأن لا عوض عنه حين نعتت من اشتغال قلب الحبيب بمحبّه، وإنّ هوى الخليل مقصور على خليله في كلّ أحواله، بالإضافة إلى عدم الإستثناء في حذف عذاله، وصرحت عن إلغاء مقالة الحسّاد، وإثبات ما راموا نفيه من المحبّة والوداد، فطفقت أكسوها من استبرق المدائح برداً أحكم فكري نسجه، وأحلّيها بعقود الثناء، وإن لم تزد حسنها بهاء وبهجه.

أطرسك أم خدُّ عذراء بكر

وذا درُّ لفظك أم لفظ در

ص: 201

سحرت غداة فضضت الختام

عنه كأنّ لفظه نفث سحر

وشكّكني حسن تنميقه

أوشي بنانك أم وشي زهر

فناهيك بها من مبلغة أوعزت فأوجزت، ومفصحة لما فيه لكلّ منطيق أعجزت، قد حملت جزيل الحمد من مبادر بشكره، إلى من تقدّم إليه بمدح مجده وتنويه قدره، فنسأل الله سبحانه أن يجعل عزّكم ملازماً للدوام ما بقي الدهر، ويصل بالبقاء ما خلع عليكم من مطارف الوقار والفخر، إنّه على كلّ شيء قدير، وبالإجابة جدير.

ولمّا قدم قطب دائرة الوزراء والي بغداد المعظم أحمد مدحت باشا نظم بيتين يتخمّس بهما وهما قوله:

فلا والقنا والمرهفات البواتر

فلا ترة أبقيت لي عند واتر

أيذهب خصم في دم لي مضيّع

ولست أذيق الخصم طعم البواتر

فكتب إليّ الحاج مصطفى إلى الحلّة يستجثني بعد الإلتماس على تشطيرهما وتخميسمها وإن أنثر مع ذلك نبذة في مدح الوالي المشار إليه، وأن أنظم من الشعر ما يحسن به الثناء عليه، وذكر أنّه حضر في بعض تلك المجالس وجرى ذكر البيتين فضمن التشطير والتخميس ثمّ ألزمني بذلك وحثّني على الإستعجال فأجبته وقلت مصدّراً للنثر بهذين البيتين مورياً فيهما باسم الوالي المقدم ذكره:

لي قواف في جنبها البحر رشحه

سلسلتها روية لي سمحه

مدح الدهر حسنها غير أنّي

لست أرضى بها لأحمد مدحه

ذاك من ألحف بيضة الإسلام جناح ظلّه، وأقام دون حوزة الملك سرّاً من زبر آرائه ونصله، ومدَّ غطاء الأمن على الدين، وبسط العدل بين جميع المسلمين، قد اصطفاه حضرة مصدر التأمير للرياسة، وأرسله على حين فترة من التدبير والسياسة، فجاء بعد ما غاضت بحيرة البراعة، وخمدت نيران البأس والشجاعة، جامعاً بين آية النصل، ومعجز المقال الفصل، تنفجر من بنانه ينابع الكرم، وتفرق عن بيانه جوامع الحكم، حتّى هتف لسان العراق، الآن برزت شمس العدل باهرة الإشراق، ودرّ حلب البراعة، ونطق بعد الإفحام لسان البراعة، واستطيبت نفحات غوالي الفضل، بعد ما منع من شمّها زكام الجهل، وقام وزن الآداب بعد كا كسدت منها البضايع، حين نجم مشتري زهرة الكمال في حضرةِ فلكيّة المطالع، كما قلت فيها:

حضرة مولىً سواه ليس يرى

في غير هذا الزمان إنسان

مذ شبّ يكسي العلى ومرهفه

شاب به الدهر وهو عريان

فأرض أفنيتها الشرف، ونديم أنديتها الظرف، وخلّتاها الشجاعة والكرم، وخادماها السيف والقلم، وسفيراها العلاء والمجد، وسميراها الثناء والحمد، والهيبة حاجب طراقها، والعزّة خفير رواقها، ويحقّ هاهنا الإنشاء، وإن كان قاصراً لسان الهيبة والثناء:

رواقك ذالا بل وليجة خادر

بل الليث يخطو دونه خطو قاصر

لك العسكر الجرّار والهيبة التي

مخافتها تكفيك جرّ العساكر

خطبت الوغى بالرمحوالسيف شاغلا

لسانيهما بين الكلا والمغافر

فسيفك فيها ناثر غير ناظم

ورمحك فيها ناظم غير ناثر

وكم من عدوّ قد خلقت لقلبه

جناحين من ذعر ورعب مخامر

فهابك حتّى ساعة السلم لم يكن

ليلقاك إلاّ في حشىً منك طائر

وخافك حتّى حين يخلو بسرّه

كأنّ رقيباً منك خلف السرائر

طلعت ثنيّات التجارب كلّها

فصرت ترى بالورد ما بالمصادر

رويد الأعادي إنّ حزمك عوده

على الغمز يوماً لا يلين لهاصر

وإن جهلت يوماً حسامك فلتسل

به هامها عن عهده بالمغافر

لك القلم النفّاث في عقد النهى

بديع بيان من معان سواحر

فوالله ما أدري أهل نثر ساحر

على الطرس يبدو منه أم سحر ناثر

وفكرك يوحي أيّ نظم وإنّها

لقول كيم جلّ لا قول شاعر

هذا ولقد رغدت سماء ذلك الفكر المدار، فقرعت سمع الأعداء بصاعقتين يخطب منهم برقهما القلوب والأبصار، قد أوشكت أن تطلع على نفوسهم منهما الآجال، إذ تحمّس بهما فقال:

فلا والقنا والمرهفات البواتر

فلا ترةً أبقيت لي عند واتر

أيذهب خصم في دم لي مضيّع

ولست أذيق الخصم طعم البواتر

ص: 202