الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فلمّا قضينا حجّنا وكررنا راجعين، مررنا بذلك الموضع وقد تضاعفت أنواره وكملت بهجته، فقلت لصاحبي: إمض بنا إلى صاحبتنا لعلّنا نجدها، فلمّا أشرفنا على الخيام ونحن دونها نسير في روضة من تلك الرياض وقد طلعت الغزالة وحباب الطل يغازلها كأعين شرقت بدموعها على قضب زبرجد، فصعدنا رَبوة ونزلنا وهْدةً وإذا بها بين خمسة لا نصلح أن تكون خادمة لإحداهنّ يجتنين من كور ذلك الزهر، ويتقلّبن على ما اعتمّ من عشبه، فلمّا رأينا وقفْن، فقلت: السلام عليكم، فقالت من بينهنّ: وعليك السلام، وقصّت عليهنّ قصّتي، فقلن لها: ويحك ألا رحمتيه وزودتيه شيئاً يتعلّل به من جوى البرحاء؟ قالت: نعم زوّدته يأساً حاضراً ورأياً حائراً، فابتدرت أنظرهنّ خدّاً وأرشقهنّ قدّاً وأبرعهنّ طرفاً فقالت: والله ما أحسنتِ بداً، ولا أجملتِ موعداً، ولقد أسأتِ في الردّ، ولا كافيتيه في الودِّ، وإنّي لأحسبه بك وامقاً، وإلى لقائك شائقاً، فما عليك يا سعافة وإنّ المكان لخال، وإنّ معك من لا ينمّ عليك؟ فقالت: والله ما أفعل من ذلك شيئاً أو تفعليه قبلي وتشركيني في حلوه ومرّه. فقالت لها الأُخرى: تلك قسمة ضيزى، تُعْشَقين أنت فتزَهينَ ويذلّ لك فتمنعين الرّفد، ثمّ تأمرين بما يكون منك لذّةً وشهوةً ومنّي سخرة، ما أنصفتِ في القول ولا أجملتِ في الفعل، ثمّ أقبلن عَلَيّ فقلنَ: إلى مَ قصدت؟ فقلت: تبريد غلّة وإطفاء لوعة أحرقت الكبد وأذابت الجسد. قلن: فهل قلت في ذلك شيئاً؟ قلت: نعم، وأنشدتهنّ:
حججت رجاء الفوز بالأجر قاصداً
…
لحطّ ذنوب من ركوب الكبائر
فآبت كما آب الشقي بخفّتي
…
حنين ولم اوجر بتلك المشاعر
دهتني بعينيها وبهجة وجهها
…
فتاةٌ كضوء الشمس وسنى النواظر
فقلن: اقترِعْنَ، فاقترعْنَ فوقعت القرعة على أملحهنّ، فضرب إزار على باب غار، فعدلت إليه وأبطأن عَلَيّ قليلاً، وأنا أتشوّف واحدة منهنّ إذ دخل عَلَيّ أسود كأنّه ساريه، بيده هراوة وهو منعظ بمثل ذراع البكر، فقلت له: ما تريد؟ قال: أفعل بك الفاحشة، فخفت وصحت بصاحبي وكان أيداً، فخلّصني منه، فخرجت من الغار وإذا بهنّ يتعادين إلى الخيام كأنّهنّ اللئالي ينحدرن من سلك، وهنّ يتضاحكن، ومعهنّ نياط قلبي يجذبنه بينهنّ، فانصرفت بأخزى من ذات النحيين.
أقول: وقد أسهبنا في النقل من هذه الحكايات والنوادر، وفيما ذكرناه كفاية.
قال الثعالبي: أحسن الكلام ما كان قالباً لأهواء القلوب، ويشهد بهذا المعنى قول مهيار بن مرزويه الديلمي الكاتب:
إقا قال فاعقد خيوط التميم
…
عليك فألفاظه تسحر
وقال أبو عبد الله محمّد بن أحمد الخازن في تهنئة الصاحب بن عباد بمولود ولد له:
وخذْ إليك عروساً بنت ليلتها
…
من حازم مخلص ودّاً ومعتقدا
أهديتها عفو طبعي وانتحيت لها
…
سحراً وإن كنت لم أنفث له عقدا
وقال مهيار أيضاً:
سحرت جودك فاستخرجت كامنه
…
إنّ الكريم ببيت الشعر مسحور
فصل في نعت نثره ونظمه
أمّا نثره: فنثار طل تساقطه الأنداء، ووشي زهر ينمنم به الربيع، ديباجة روضة غناء. وأمّا نظمه: فجان سلك تتمنّى الحور لو زانت به نحورها، ووشحت به الهيف خصورها، إن نسب أغرب، وإن شبب أطرب، فنسيبه الحلو الحلال، وتشبيبه العذب الزلال، بل هو في جميع فنون الشعر طويل الباع، غزير الإطلاع، سمح البديهة، حسن الروية، صادق النظرة، ولود الفكرة، رقيق حاشية النظم، موشي ديباجة النثر.
كم مقامات نهىً حرّرها
…
ليس فيها للحر يرى مقامه
وأنقياتِ بهى لو شامها
…
جوهري الشعر ما سام نظامه
فما أحقّ كلامه بقول القائل:
كلام الإمام إمام الكلام
…
وفوه يفوه بحرّ النظام
مزاج معانيه في نظمها
…
مزاج المدام بماء الغمام
وهذا من قولهم: كلام الملوك ملوك الكلام، وقولهم: عادات السادات سادات العادات.
رجْعٌ إلى وصف كلامه: أقول: كلامه هو الذي ليس به عثار، ولا عليه غبار، قد ولي الفضل تحبيره، وملك العقل رسمه وتصويره، فهو كما قال القائل:
سمع البديهة ليس يمسك لفظه
…
فكأنّما ألفاظه من ماله
هبني وفيت بحمده عن فضله
…
من ذا يفي بالشكر عن إفضاله
بل كما قال هذا القائل:
قد أصبحت ألفاظه صور النُّهى
…
وقوالب الأسماع والألباب
وإذا حللتَ له جناباً واحداً
…
حلَّ المؤمّل منك ألف جناب
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ من الشعر لحكمةً، وإنّ من البيان لسحراً.
وقال علي عليه السلام: خير الشعراء ما كان مَثلاً، وخير الأمثال مالم يكن شعراً.
وقال الخليل بن أحمد: الشعراء أُمراء الكلام، يصرّفونه أنّى شاؤا، جائزٌ لهم فيه ما لا يجوز لغيرهم من إطلاق المعنى وتقييده، ومن تفريق اللفظ وتعقيده، ومدّ مقصوره وقصر ممدوحه، والجمع بين لغاته والتفريق بين صفاته.
وقال السيّد المرتضى في الدرر في أثناء كلام أملاه ردّاً على الآمدي فيما عاب به البحتري: أنّ الشاعر لا يجب أن يؤخذ عليه في كلامه التحقيق والتحديد، فإنّ ذلك متى اعتبر في الشعر بطل جميعه، وكلام القوم مبنيّ على التوسّع والتجوّز والإشارات الخفيّة والإيماء إلى المعاني تارةً بعد أُخرى من قرب، لأنّهم لم يخاطبوا بشعرهم الفلاسفة وأصحاب المنطق وإنّما خاطبوا من يعرف أوضاعهم ويفهم أغراضهم.
وقال الجاحظ في كتاب البيان: كان الشاعر من العرب يمكث في القصيدة الحول، ويسمّون تلك القصائد: الحوليّات والمنقّحات والمحكمات، ليصير قائلها فحلاً خنذيذاً وشاعراً مفلقاً، وفي بيوت الشعراء الأوابد والأمثال ومنها الشواهد والشوارد.
طبقات الشعراء والشعراء أربع طبقات: أوّلهم: الفحل الخنذيذ وهو التام، ودون الخنذيذ: الشاعر المفلق، ودون ذلك: الشاعر فقط، والرابع: الشعرور.
وقال بعضهم: طبقات الشعراء ثلاثة: شاعر، وشويعر، وشعرور.
وما أصدق قول القائل:
الشعراء فاعلمنَّ أربعهْ
…
فشاعرٌ يجري ولا يجرى معهْ
وشاعرٌ من حقّه أن ترفعهْ
…
وشاعرٌ من حقّه أن تسمعهْ
وشاعرٌ من حقّه أن تصفعهْ وذكر شارح الكامل: إنّ الحطيئة دخل على سعيد بن العاص وهو يتغذّى، فأكل أكل جايع، فلمّا فرغ من طعامه وخرج الناس أقام مكانه، فأتاه الحاجب ليخرجه فامتنع وقال: أترغب عن مجالستي، فلمّا سمعه سعيد وكان لا يعرفه قال للحاجب: دعه، ثمّ تذاكروا الشعر، فقال الحطيئة: ما أصبتم جيد الشعر ولو أعطيتم القوس باريها بلغتم ما تريدون. وقيل: إنّه أوّل من قال: أعط القوس باريها، فانتسبوه، فانتسب لهم، وذاكروه فقال لسعيد: اسمع ثمّ أنشد:
الشعراء فاعلمنّ أربعهْ
…
فشاعرٌ لا يرتجى لمنفعهْ
وشاعر ينشد وسط المجمعهْ
…
وشاعر آخر لا يجرى معهْ
وشاعرٌ يقال خمرٌ في دعهْ ومعنى قوله: خمر في دعه، غطّ وجهك حياءً من قبح ما أتى به، ثمّ أنشد:
الشعر صعبٌ وطويل سلمهْ
…
إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمهْ
زلّت به إلى الحضيض قدمهْ
…
يريد أن يعربه فيعجمهْ
أقول: حمل لظة يعجمه على القطع والإستيناف كأنّه قال: فإذا هو يعجمه ولم يحمله على الفعل الذي عملت فيه أن، ولو عطفه عليه لبطل المعنى ولم يكن مستقيماً.
وقيل للمفضَّل الضبيِّ: لِمَ لا تقول الشعر وأنت أعلم الناس به؟ قال: علمي به يمنعني عن قوله، وأنشد:
وإنّما الشعر لبّ المرء يعرضه
…
على المجالس إن كيساً وإن حمقا
وإنّ أفضل بيت أنت قائله
…
بيت يقال إذا أنشدته صدقا
وقال بعضهم:
والبيت لا يحسن إنشاده
…
إلاّ إذا أحسن منْ شادَه
وقال الآخر:
لا تعرضنَّ على الرواة قصيدةً
…
مالم تبالغ قبل في تهذيبها
فمتى عرضت الشعر غير مهذّب
…
عدَّوه منك وساوساً تهذي بها
وقال أبوالفضل الميكالي:
يا من يقول الشعر غير مهذَّب
…
ويسومني التعذيب في تهذيبه
لو أنّ كلّ الناس فيك مساعدي
…
لعجزت عن تهذيب ما تهذي به
وما أظرف قول العماد الكاتب في هذا الباب وألطفه:
هي كتبي وليس تصلح من بعدي
…
لغير العطّار والإسكاف
فهي إمّا مزاود للعقاقير
…
وإمّا بطائن للخفاف
وممّن بالغ في هجاء بعضهم على خطله، وبلغ غاية الجدّ في هزله الحسين بن الحجّاج في قوله:
قيل إنّ الوزير قد قال شعراً
…
يجمع الشمل نظمه ويعمهْ
ثمّ أخفاه فهو كالهر يخري
…
في زوايا البيوت ثمّ يطمهْ
ومن الكلم النوابغ: العجب ممّن يكثر غلطه ثمّ يكثر لغطه.
ذكرت بقول الحطيئة: الشعراء فاعلمنّ أربعة ما حكاه الثعالبي قال: قال لي سهل بن مرزبان يوماً: إنّ من الشعراء من شلشل، ومنهم من سلسل، ومنهم من قلقل، ومنهم من بلبل. فقلت: أخاف أن أكون رابع الشعراء، وأردت قول الشاعر: وشاعر من حقّه أن تصفعه، الأبيات المتقدّمة. قوله: ومنهم من بلبل أراد قول الثعالبي:
وإذا البلابل أفصحت بلغاتها
…
فانف البلابل باحتساء بلابل
والأعشى هو المعني بقوله: ومنهم من شلشل، لقوله:
وقد غدوت على الحانوت يتبعني
…
شاو مشل شلول شلشل شول
والمعني بقوله: ومنهم من سلسل، مسلم بن الوليد، لأنّه القائل:
سلت وسلت ثمّ سلّ سليلها
…
فأتى سليل سليلها مسلولا
وأبوالطيب المتنبي هو المعني بقوله: ومنهم من قلقل، وذلك حيث يقول:
وقلقلت بالهم الذي قلقل الحشا
…
قلاقل عيس كلّهنّ قلاقل
وإنّما عيب عليهم ذلك لتكرير اللفظ الواحد في البيت لغير تجنيس بحيث صار مستثقلاً إلاّ أنّ بيت الثعالبي وإن وقع التجنيس في لفظته المكرّرة إذ المراد بالاُولى جمع بلبل؛ وهو طائر معروف، وبالثانية الهموم، وبالثالثة قناة الكوز التى نصب الماء، والبلبلة الكوز الذي فيه بلبل إلى جنب رأسه، ولكنّه صار مستثقلاً للتكرير الذي فيه ولهذا تراه أخف في الجملة من الأبيات الآخر، وقد تفنّن الشعراء في وصف الشعر، فمنهم من عدّه لنفسه شرفاً وفخراً، واستطال به جلالة وقدراً كأبي الطيب المتنبي في قوله:
لا تحسب الفصحاء تنشد هاهنا
…
بيتاً ولكنّي الهزبر الباسل
وقوله:
لا بقومي شرفت بل شرّفوا بي
…
وبجدّي فخرت لا بجدودي
وبهم فخر كلّ من طق الضاد
…
وعوذ الجاني وغوث الطريد
أنا ترب الندى وربّ القوافي
…
وسمام العدى وغيظ الحسود
وقوله:
خليلَيّ مالي لا أرى غير شاعر
…
فلمْ منهم الدعوى ومنّي القصائد
وقوله:
أفي كلّ يوم تحت ضبعي شويعرٌ
…
ضعيفٌ يقاويني قصير يطاول
وكالبحتري في قوله:
فإذا ما بنيت بيتاً تبخترت
…
كأنّي بنيت ذات العماد
وقوله:
ويكسد مثلي وهو تاجر سؤدد
…
يبيع ثمينات المكارم والحمد
وتلطّف ما شاء بقوله:
لا تخف عيلتي وهذي القوافي
…
بيت مال ما إن أخاف ذهابه
وقول المعرّي:
وإنّي وإن كنت الأخير زمانه
…
لآت بما لم تستطعه الأوائل
وقول مهيار:
وما الشعر إلاّ النسر بُعداً وصورةً
…
فلو شاء لم يطمع يداً فيه رافع
وقد أفلَ النجمان منه فلا يفت
…
على عين راء ثالث منه طالع
بقيت لكم وحدي وإن قال معشر
…
وفي القول ما تنهاك عنه المسامع
ولو شئتُ لي أخفى زهير ثنائه
…
على هرم أيّام تجري الصنائع
وكان غبيناً في أُميّة من شرى
…
مديح عتاب وهو مغل فبايع
على كلّ حال أنت مُعط وكلّهم
…
على سعة الأحوال مُعط ومانع
وقد وهبوا مثل الذي أنت واهب
…
فما سمعوا بعض الذي أنت سامع
قوله: ثالث منه طالع يعني نفسه لقوله بعده: بقيت لكم وحدي، ويُشير بقوله: وقد أفل النجمان إلى ابننباته والسيّد الرضي، وكنّى بالاُفول عن موتهما، وكان لا يرى غيرهما متقدّماً في هذا الفن، ورثاهما معاً، قال في رثاء ابن نباته من قصيدة جليلة أوّلها:
حملوكَ لو علموا من المحمول
…
فارتاض معتاص وخفَّ ثقيل
واستودعوا بطن الثرى بك هضبةً
…
وأقلّها أنّ الثرى لحمول
منها:
يا ناشد الكلم الغرائب أعوصت
…
منها فليس لآيها تأويل
قف ناد في النادي هل ابن نباتة
…
أُذن فيسمع أو فم فيقول
منها في وصف شعره:
وإذا وسمن على لئيم عرضه
…
عاراً فليس لما علطنَ نصول
ويظللن يوماً بالملوك حوالياً
…
يحفى لهنّ الشمّ والتقبيل
أبكارهنّ المطمعات نواشز
…
وإناثهنّ المغزلات فحول
من كلّ بيت أمره بك نافذ
…
وعلى اشتطاطك حكمه مقبول
قال الثعالبي: وهذا ابن نباته هو أبو نصر عبد العزيز بن عمر ابن نباته السعدي، كان من محاسن الدهر، لا يُعاب إلاّ بعدم من لا يعرف قدره.
وقال مهيار أيضاً في رثاء السيّد الرضي، وهو دليل على ما ذكرناه:
ولقولة عوصاء ارتجّ بابها
…
ففلجتها لمّا ولجت خصامها
وقلائد قذفت بحارك درّها
…
وقضى لسانك وصفها ونظامها
هي آية العرب التي انفردت بها
…
راعيت فيها عهدها وذمامها
كم معجز منها ظهرت بفضله
…
سنن الرجال فلم تجد أفهامها
وغريبة مسحت يداك موآنساً
…
منها الثغور ومفصحاً أعجامها
حمست حتّى قيل صبَّ دمائها
…
وغزلت حتّى قيل صبّ مدامها
ماتت بموتك غير ما أودعته
…
في الصحف أو أمددته أقلامها
رجْعٌ إلى ما كنّا فيه: وممّن عدّ الشعر فخراً القاضي الأرجاني في قوله - وأبدع فيما قال وأغرب -:
وأحقّ من عني الملوك به
…
مَنْ سار فيما قال ذكرهم
لولا زهير والمديح له
…
لم يدر هذا الناس مَنْ هرم
وأنا الذي لم يسخ بي أحد
…
إلاّ غدا ونديمه الندم
وقال أيضاً أبو سعيد الرستمي:
من الناس من يعطي المزيد على الغنا
…
ويحرم ما دون الغناء شاعرٌ مثلي
كما لحقت واوٌ بعمر زيادةً
…
وضويق بسم الله في ألف الوصل
وقال الأرجاني:
لو كان بالفضل التقدّم يقتنى
…
ما كان "لا" في أوّل التوحيد
وأجاد مهيار متظلماً بقوله:
مالي ولم أسبق إلى الغنم
…
قسم الرجال وأغفلوا سهمي
الحقّ لي والحظّ عندهم
…
أظمي ويروى معشر باسمي
وممّن عدّ الشعر منقصةً في شرفه ومزاياه الموروثة عن سلفه أبوالحسن الشريف الرضي في قوله:
مالكَ ترضى أنْ تكون شاعراً
…
بُعداً لها من عدد الفضائل
وقوله في مدح أبيه:
أمعثر الأحداث في أذيالها
…
وأفاك مدحي والجدود عواثر
إنّي لأرضى أن تعيش ممدَّحاً
…
وعلاك لا يرضى بأنّي شاعر
ومنهم أبوطالب المأموني حين وفد على الصاحب ابن عباد فأعجب به وبالغ في إكرامه على حسن نظامه، فحسد بعض حاشية الصاحب ودبّت عليه عقارب كيدهم وطفقوا يركبون فيه الصعب والذلول ويرمونه بما يصرف وجه الصاحب عنه وإسقاط منزلته عنده، فقال في ذلك قصيدةً يستأذنه فيها للرحيل، وأحببت إيرادها لحسنها ولأنّ كلّ بيت منها نادرة باهرة، وبديعة سائرة، وهي:
يا ربع لو كنت دمعاً فيك منسكباً
…
قضيتُ نحبي ولم أقض الذي وجبا
لا ينكرنّ ربعك البالي بلى جسدي
…
فقد شربت بكأس الحبّ ما شربا
ولو أفضت دموعي حسب واجبها
…
أفضت من كلّ عضو مدمعاً سربا
عهدي بربعك للذّات مرتبعاً
…
فقد غدا لغوآدي السحب منتحبا
فيا سقاك أخو جفني السحاب حياً
…
يحبو ربى الأرض من نور الرياض حبا
ذو بارق كسيوف الصاحب انتضيت
…
ووابل كعطاياه إذا وهبا
ومنها:
وعصبة بات فيها الغيظ متّقداً
…
إذْ شدت لي فوق أعناق العدى رتبا
ومن يرد ضياءَ الشمس إن شرقت
…
ومنْ يسدَّ طريق الغيث إن سكبا
فكنت يوسف والأسباط هم وأبو
…
الأسباط أنت ودعواهم دماً كذبا
قد ينبح الكلب مالم يلق ليث شرىً
…
حتّى إذا ما رأى ليثاً مضى هربا
أرى مأربكم في نظم قافية
…
وما أرى لي في غير العلا إربا
عدّوا عن الشعر إنّ الشعر منقصة
…
لذي العلاء وهاتوا المجد والحسبا
فالشعر أقصر من أنْ يستطال به
…
إن كان مبتدعاً أو كان مقتضبا
أسير عنك ولي في كلّ جارحة
…
فمٌ بشكرك يجري مقولاً ذربا
إنّي لأهوى مقامي في ذراك كما
…
تهوى يمينك في العافين إن تهبا
لكن لساني يهوى السير عنك لأن
…
يطبق الأرض مدحاً فيك منتخبا
أظنّني بين أهلي والأنام هم
…
إذا ترحّلت عن مغناك مغتربا
وقول الآخر:
ولست أعدَّ الشعر فخراً وإنّني
…
لأنظم منه ما يفوق الدراريا
ولكنّني أحمي حماي وأتّقي
…
عداي وأرمي قاصداً من رمانيا
وقولي في هذا المعنى في رثاء عمّي المهدي وفيه تلميح إلى قوله تعالى: (وَكُلَّ إنسان أَلْزَمْناهُ طائرَهُ في عُنُقِهِ) لأنّه أوصى إليّ في بعض قصائد كان نظمها في مدح جدّه وعترته أن أجعلها معه في كفنه.
وأرى القريض وإن ملكت زمامه
…
وجريت في أمد إليه بعيد
لم ترض منه غير ما ألزمته
…
من مدح جدّك طائراً في الجيد
ومنهم من بالغ بالوصيّة في التحفّظ على الشعر ووضعه في موضعه كالأعشى بقوله:
والشعر قلّدته سلامة ذا
…
فائش والشيء حيثما جعلا
وكالرستمي في قوله:
بناتي عن أيدي اللئام أصونها
…
وغير عجيب أن أصون بناتي
وكالمهيار في قوله:
والشعر صنه فالشعر يحتسب الله إذا لم يصنْ على الشاعرغالِ به واستم المهور الثقيلات وصاهر أكفائه صاهرواحن عليه فإنّه ولد
…
أبوه فكر وأُمّه خاطر
صرّفه فيما ترضى العلاء به
…
وبعمر العرض بيته العامر
لا تمتهنه في كلّ سوق فقد
…
تربح حيناً وبيعك الخاسر
أُنظر إلى مَن وفى مدائح مَن
…
أنت وقد بات نائماً ساهر
إختر وَلوداً للفهم منجبةً
…
ما كثر الفهم محمق عاقر
أُمّاً لفخر يصدق النسب الحرَّ
…
ويحيي ذكر الأب الداثر
أوّلاخ يشفع الوداد له
…
يرضيه منه بالفذ والنادر
أو ملك رحت منه في نعم
…
أنت لها لا محالةً شاكر
وممّن أسف على جعل الشعر في غير موضعه الحطيئة، قيل: إنّه لمّا حضرته الوفاة اجتمع إليه قومه، فقالوا: يا أبا مليكة أوصِ، فقال: ويل للشعر من رواية السوء. فقيل: أوصِ يرحمك الله، فقال: من ذا الذي يقول:
إذا نبض الرامون عنها ترنّمت
…
ترنّم ثكلىً أوجعتها الجنائز
قيل له: الشمّاخ. قال: بلّغوا غطفان أنّه أشعر العرب. قالوا: ويحك ما هذه وصيّة، أوصِ، قال: بلّغوا أهل ضابي أنّه شاعر حيث يقول:
لكلّ جديد لذّة غير أنّني
…
وجدت جديد الموت غير لذيذ
قالوا: أوصِ ويحك بما ينفعك، قال: بلّغوا أهل امرء القيس أنّه أشعر العرب حيث يقول:
فيالك من ليل كأنَّ نجومه
…
بكلّ مغار الفتل شدّت بيذيل
قالوا: اتّق الله ودع عنك هذا، قال: بلّغوا الأنصار أنّ صاحبهم أشعر العرب حيث يقول:
يغشون حتّى ما تهرّ كلابهم
…
لا يسئلون عن السواد المقبل
فقالوا: إنّ هذا لا يغني عنك فقيل غير ما أنت فيه، فقال: الشعر صعب وطويل سلّمه، الأبيات التي مرّت. فقالوا: يا أبا مليكة ألك حاجة؟ قال: لا ولكن أجزع على المديح الجيّد يُمْدَحُ به من ليس له أهلاً.
وعلى قول حسان: يغشون حتّى ما تهرّ كلابهم، البيت، ذكرت ما حُكي عن بعض الشعراء قال: قلت بيتاً هو أشعر من بيت حسان، قيل له: وكيف؟ قال: قال حسان:
يغشون حتّى ما تهرّ كلابهم
…
لا يسئلون عن السواد المقبل
وقلت أنا:
يغشون حتّى ما تهرّ كلابهم
…
أحداً ولا يسلون من ذاالمقبل
فقيل له: هو بيت حسان إلاّ أنّك أفسدته.
ونظير هذا الأخذ قول أبى محمّد الخازن: قل لباغي الندى خف الله لا تسئله عمراً فإنّه موهوبأخذه من قول أبى تمام:
ولو لم يكن في كفّه غير نفسه
…
لجاد بها فليتّق الله سائله
وأقبح من هذا الأخذ ما اتّفق لبعض شعراء عصرنا وذلك أنّه عزّى الحاج محمّد صالح عن كريمة له توفّيت فرثاها بقصيدة سرقها من مهيار الديلمي إلاّ أنّه أفسدها إفساداً قبيحاً، ولولا أنّ العلاّمة الماجد المعنيّ في هذا الكتاب عزم عَلَيّ في إثباتها برمّتها لما أثبتّها على أنّ عدم التنبّه لها يدلّ على خلو عصرنا من أهل الإطلاع على مثل ذلك مع أنّ إنشادها في مثل ذلك النّادي المعظم وقاحة شديدة، قال الشيخ السارق:
لكم البقا يا آل بيت محمّد
…
إنّ السلوَّ بغيركم لم يحمد
حزتم محامد لا تقاس بغيرها
…
فمحمّد ينمى لخير محمّد
لكم ولي والناس طرّاً سلوٌ
…
بالوالد البرّ الرؤف محمّد
هو صالح الأعمال بل هو منتهى
…
الآمال شمس هداية المسترشد
هو خير من صحّت مآثر مجده
…
هو خير من بردا المكارم مرتدي
هو خير من ألقى النزيل رحاله
…
بفنائه من خائف أو مجتدي
هو ملجأٌ للخائفين وعصمة
…
ومعرَّس للطالبين ندي اليد
لا قبل نائله إذا سئل الندى
…
وعدٌ ولا قبل اللقاء بموعد
قال مهيار:
لا قبل نائله إذا سئل الندى
…
وعد ولا قبل اللقاء وعيد
أُنظر كيف سرق هذا البيت سرقة قبيحةً وأفسد الأخذ من حيث لم يفهم معنى بيت مهيار، لأنّه أطرى هذا الملك بالكرم والشجاعة وبالغ في ذلك فجعل كرمه لمجتديه لا يسبقه وعد ولا لقائه لعدوّه لا يسبقه وعيد وهذا مقصد جليل من مقاصد الشعراء، قال مهيار:
غضبان يسبق بطشه أخباره
…
حتّى يغامر في الرعيل الأوّل
وقال أبو فراس الحمداني:
ويا ربّ دار لم تخفني منيعة
…
طلعت عليها بالردى أنا والفجر
وقال الطغرائي:
هجوم على الأعداء من صوب أمنهم
…
متى ما يشأ يعمي النواظر بالكحل
وهو كثير جدّاً فأخذه الشيخ برمّته ومدح به الحاج محمّد صالح إمّا لظنّه أنّ البيت كلّه مدح بالسخاء أو لجهله وعدم معرفته بأنّ مثله لا يُمْدَح بشجاعة ولا هيجاء، وقال الشيخ المذكور:
ومع الحفيظة قسوة وفضاضة
…
حتّى كأنّ فؤاده من جلمد
وقال مهيار:
لك من خلائقه إذا مارسته
…
جنبان ذا سهل وذاك شديد
فمع المروّة هزّة وتعطّف
…
فتقول غصن البانة الأملود
ومع الحفيظة قسوة وفضاضة
…
حتّى كأنّ فؤاده جلمود
فأجل فكرك في قلّة معرفة الشيخ مع كبر سنّة الذي أفناه في نظم الشعر، فإنّ مهياراً وصف ذلك الملك بالحزم في جعله ذاخلقين متّصفين بالسهولة والشدّة يجدهما الممارس له محبّاً أو مبغضاً؛ فإن كان محبّاً وجد عنده من الهزّة والتعطّف عليه ما اتّصف به غصن البانة الأملود مبالغةً في حنوّه على أهل مودّته، وإن كان مبغضاً وجد عنده لشدّة حفيضته من قسوة القلب وفضاضته ما يظنّ معه أنّ فؤاده جلمود؛ وهوالقاسي من الصخر، وهذه ملاحظة جيّدة إن شئت سمّيتها بالمقابلة وإن شئت سمّيتها بالطباق المعنوي نظير قوله عزّ من قائل:(أشِدَّاءُ عَلَى الكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) ، وستقف على بيان ذلك في محلّه مفصّلاً، فما بال الشيخ غفل عن ذلك هذه الغفلة ووصفه بالقسوة والفضاضة فقط؟ وهل يحسن ذلك وإن جعله مع الحفيظة؟ ألم يتصفّح نظم الشعراء في مثل هذا المورد ويحذو حذوهم؟ قال أبو عبادة البحتري:
معارك حرب لا يزال موكّلاً
…
بقطب رحىً للدارعين طحون
وسائس جيش يرجع الحزم والحجى
…
إلى شدّة في جانبيه ولين
وقال:
إذا الخطوب مرّتْ أخلاف درّته
…
درَّت بخلفين من شري ومن عسل
وقال بعضهم:
متى يسئلوه المال تندَ بنانه
…
وإنْ يسئلوه الضيم تندَ عوامله
وقال مهيار:
إن سيل رفداً فهي ينبوع الندا
…
أو سيل ضيماً فهي ينبوع الدم
ولا أدري ايّهما أخذ من الآخر إلاّ أنّهما أخذا جميعاً من أبي عبادة البحتري حيث قال:
يدني يداً بيضاء يختلط الندى
…
فيها إذا لقي الفوارس بالدم
ولابن دريد في مقصورته:
قد مارت منّي الخطوب مرساً
…
يساور الهول إذا الهول علا
لي التواء إن معاديَّ التوى
…
ولي استواء إن مواليَّ استوى
طعمي شَرْي للعدوّ تارةً
…
والأري بالراح لمن ودّي ابتغى
لينٌ إذا لو ينت سهلٌ معطفي
…
ألوي إذا خوشنت مرهوب الشذا
هكذا جرت الشعراء على نمط واحد في مثل هذه الموارد، وفيما أوردناه كفاية في بيان ما نحن فيه.
قال الشيخ:
هو ذلك الولى الأجل وووالد ال
…
غرر الذين نشوا بأحسن مولد
وأبو كواكب كالفراقد في سما ال
…
عليا لها مالم يكن للفرقد
إنّي لهم بصفاهم من مفخر
…
أو مظهر أو عنصر أو محتد
وإذا سرى نقص القبائل أقبلت
…
تنمي مكارمهم بغير مزيّد
وقال مهيار:
وإذا سرى نقص القبائل أقبلت
…
تنمي مكارم فيهم وتزيّد
وقال الشيخ:
شرف كمال الملك في أطرافه
…
حام على النسب الكريم بمذود
وقال مهيار:
شرف كمال الملك في أطرافه
…
حام عن النسب الكريم يذوّد
وقال الشيخ:
وإذا أناخ بهم وفود شمتهم
…
كرماً قياماً والوفود بمقعد
وقال مهيار:
وإذا أناخ به الوفود رأيتهم
…
كرماً قياماً والوفود قعود
وقال الشيخ:
وإذا قصدت طروقه لملمة
…
فالمصطفى باب لذاك المقصد
وقال مهيار:
وإذا أردت طروقه لملمة
…
فأبوا المعالي بابه المقصود
وقال الشيخ:
عشق العلا فسعى وأدرك وصلها
…
وطحا بقلب الحاسد المتلدّد
وقال مهيار:
عشق العلا فسعى وأدرك وصلها
…
متمهّلاً وحسوده ملدود
وقال الشيخ:
ووفى بأشراط الكفاية داخلاً
…
من بابها ورتاجها لم يسدد
وقال مهيار:
ووفى بأشراط الكفاية داخلاً
…
من بابها ورتاجها مسدود
فتأمّل في سرقة الشيخ لهذا البيت مع سوء فهمه، فإنّه جعل رتاج الكفاية لم يسدّد فشارك الممدوح فيها بالدخول غيره وليس هذا من المدح بمكان، ومهيار الديلمي جعل رتاجها مسدوداً وإنّ غير الممدوح لم يدخل إليها من بابها ويريد بذلك انفراده بالرياسة والتدبير والسياسة وهذا من أشرف المدح.
قال الشيخ:
عبقٌ بأرواح السيادة أنّه
…
في غير حجر سيادة لم يولد
وقال مهيار:
عبق بأرواح السيادة عطفه
…
فكأنّه في حجرها مولود
وقال الشيخ:
فكأنّه بدر بهالة أنجم
…
كلٌّ به عند الشدائد يهتدي
وشقيقه الحسن الزّكي محمّد
…
مصباح مشكاة البلاغة في الندي
وكفاك في عبد الكريم مكارماً
…
وسليله الندب الأمين محمّد
وبفرقدي فلك المفاخر بضعة
…
المهدي نجل العابد المتهجّد
وبجعفر الفضل الخضم عبابه
…
وجواد جود فواضل لم يرعد
أمحمّد الفضل الحسين وجعفر ال
…
جود الروي لغلّة المسترفد
يا بَني محمّد حسبكم بأبيكم
…
فخراً وأنفسكم وفتية أمجد
قسماً ولم أقسم بسكّان الحمى
…
عن ريبة لكنّه لتأكّد
وقال مهيار في غزل قصيدته:
قسماً ولم أقسم بسكّان الحمى
…
عن ريبة لكنّه تأكيد
وقال الشيخ:
لهم الأُولى منعوا مسنّة مقصدي
…
وهم الأُولى منعوا مسنّة موردي
وقال مهيار:
لهم الأُولى منعوا مكان مطالبي
…
وهم وإن كرهوا الذين أُريد
وقال الشيخ:
وأُكذّب الواشي إليّ بغدرهم
…
وعلى الحديث شواهد لم تُشهَدُ
وقال مهيار:
وأُكذّب الواشي إليّ بغدرهم
…
وعلى الحديث دلائل وشهود
وقال الشيخ:
أعنوا لهم وأنا العزيز بنفسه
…
وألين عمداً والنجار مجلّدي
وقال مهيار:
أعنوا لهم وأنا العزيز بنفسه
…
وألين عمداً والفؤاد جليد
وقال الشيخ:
وإذ عزفت فبنت عن دين الهوى
…
جذب الغرام إليهم في مقودي
وقال مهيار:
وإذا عزفت فبنت عن دين الهوى
…
جذب الغرام بمقودي فأعود
وقال الشيخ:
طفق العذول وما ارتفدت برأيه
…
فيهم ليصلحني بما هو مفسدي
وقال مهيار:
طفق العذول وما ارتفدت برأيه
…
فيهنّ ببدى ناصحاً ويعيد
وقال الشيخ:
يا أُسرة المجد الذي لم ينتبه
…
عن مثله عصر لكرّة مرقد
وقال مهيار:
يا أُسرة المجد الذي لم تنتبه
…
عن مثلها الأيّام وهي رقود
وقال الشيخ:
بكم رددت يد الزمان وباعه
…
متوسّع بمسائتي متعمّدي
وقال مهيار:
بكم رددت يد الزمان وباعه
…
متوسّع بمسائتيى ممدود
وقال الشيخ:
وعنيت أنت بخلّتي فسددتها
…
ونظمت في جدواك كلّ مبدّد
وقال مهيار:
وعنيت أنت بخلّتي فسددتها
…
ونظمتها بالجود وهي بديد
وقال الشيخ:
وإذا تقاعد صاحب عن نصرتي
…
أصبحت منك بنصرة وتأيّد
وقال مهيار:
وإذا تقاعد صاحب عن نصرتي
…
فالنصر حظّي منك والتأييد
وقال الشيخ:
فلا جزيتك خير ما جازى امرءٌ
…
وجد المقال فقال غير مقنّد
وقال مهيار:
فلا جزيتك خير ما جازى امرءٌ
…
وجد المقال فقال وهو مجيد
وقال الشيخ:
ممّا تخال قوافياً ومعانياً
…
للسمع قرط لئالىء وزمرّد
وقال مهيار:
ممّا تخال قوافياً ومعانياً
…
بالسمع وهي حبائر وبرود
وقال الشيخ:
ما أحسب الدنيا تطيب لأهلها
…
إلاّ إلى تدبيركم بتردّد
وقال مهيار:
ما أحسب الدنيا تطيب وأمرها
…
إلاّ إلى تدبيركم مردود
وقال الشيخ:
لا يبعد الله الأُولى حفظوا العلا
…
في بيت مجد للنجوم مشيد
وقال مهيار:
لا يبعد الله الأُولى حفظوا العلا
…
بيت لهم حول النجوم مشيد
وقال الشيخ:
لا يعدم الجود الغريب ومنكم
…
أطناب أخبية لقوم بأعمد
وقال مهيار:
لا يعدم الجود الغريب ومنهم
…
شخص على وجه الثرى موجود
وقال الشيخ:
جللٌ عرا فطفقت فيه مؤرخاً
…
أعني المصاب بموت بنت محمّد
ما زلّ تهتان الرضى يهمي على
…
جدث ثوت فيه وتربة مرقد
أقول: لولا أنّه ألزمني برسم هذه القصيدة التي أخلق بها محاسن قصيدة مهيار لما سوّدتُ وجه قرطاس من هذا الكتاب برسم أغلاطها الفاحشة.
السرقات الشعريّة وحيث انتهى جريان القلم إلى هذا المقام فلا بأس بالكلام على السرقات الشعريّة، وقبل الخوض فيها لابدّ من تقرير شيء يكون تمهيداً للمطالب، فنحن نذكر كما ذكروه ونزيده إيضاحاً.
قالوا: إن كان الإتّفاق بين الشاعرين المتّفقين في غرض من الأغراض العامّة المتقرّرة في العقول والعادات كالوصف بالشجاعة والجود ونحو ذلك فهذا ما لا كلام في أنّه لا يعدّ سرقةً ولا أخذاً ولا استعانةً لاشتراك كلّ أحد في معرفته من حيث أنّه مغروس في جميع النفوس لم ينفرد واحد من النّاس بمعرفته دون الآخر، وإن كان الإتّفاق في وجه الدلالة على الغرض، مثلاً إذا كان الغرض إثبات وصف من أوصاف الشجاعة أو السخاء لإنسان لأنّهما يشتملان على أوصاف كثيرة كالإقدام وعدم المبالات وكثرة القتلى وكثرة القرى والعطاء وغير ذلك، فقول القائل فلان يقري الوحوش في الجلاد، وفلان كثير الرماد ليس المراد بهما مطلق الشجاعة والسخاء، بل كثرة القتلى وكثرة القرى، فوجه الإستدلال على إثبات هذين الوصفين هو كون قرى الوحوش لازم من لوازم كثرة القتلى، وكثرة الرماد لازم من لوازم كثرة إيقاد النار للقرى، فهذا أي وجه الدلالة الذي يقع الإتّفاق فيه لا يخلو إمّا أن يكون من المبتذلات التي تشترك الناس في معرفتها لابتذالها فلا يعدَّ سرقة بل هو الإتّفاق في الغرض العام، وإمّا أن يكون ممّا لا تشترك النّاس في معرفته لكونه لا ينال إلاّ بفكر ولا يصل إليه كلّ أحد فهذا هو الذي يحكم فيه بالتفاضل بين الشاعرين المتوافقين فيه ككون إحداهما أكمل من الآخر أو أنّ في الثاني زيادة على الأوّل أو نقصاً عنه، ثمّ إنّ وجه الدلالة على الغرض بهذا المعنى ضربان: أحدهما: ما هو قاض بنفسه أنّه غريب لا ينال إلاّ بفكر.
وثانيهما: ما هو عامي لكنّه تصرّف فيه بما أخرجه عن الإبتذال إلى الغرابة.
إذا تمهّد هذا فنقول: الأخذ والسرقة نوعان: ظاهر وغير ظاهر؛ أمّا الظاهر فهو أن يؤخذ المعنى كلّه إمّا مع اللفظ كلّه أو بعضه، أو يؤخذ وحده، فهذا قسمان: والأوّل منهما إمّا مع عدم تغيير النظم؛ وهو الترتيب والتأليف الواقع بين المفردات، أو مع تغيير النظم، فهذه عدّة أقسام، ولا بأس بذكر ما يُسمّى به كلّ قسم منها وذكر أمثلته.
أقول: ما أُخذ اللفظ كلّه من غير تغيير لنظمه فمذموم، وهو سرقة محضة، ويُسمّى نسخاً وانتحالاً، كما حُكي عن عبد الله بن الزبير أنّه فعل ذلك بقول معن بن أوس المزني حين دخل على معاوية بن أبي سفيان فأنشده لنفسه:
إذا أنت لم تنصف أخاك وجدته
…
على طرف الهجران إن كان يعقل
ويركب حدَّ السيف من أن تضيمه
…
إذا لم يكن عن شفرة السيف معدل
فقال له معاوية: لقد شعرتَ بعدنا يا أبابكر، ولم يفارق عبد الله المجلس حتّى دخل معن بن أوس المزني وأنشد قصيدته التي أوّلها:
لعمرك ما أدري وإنّي لأوجل
…
عَلَى أيّنا تغدو المنيّة أوّل
حتّى أتمّها، وفيها البيتان المتقدّمان، فأقبل معاوية على عبد الله بن الزبير فقال: ألم تخبرني أنّهما لك؟! قال: أنا سوآيت المعاني وهو ألّف الألفاظ، وبعد فهو ظئري فما قال من شيء فهو لي - وكان ابن الزبير مسترضعاً في زمينه - فقال معاوية: وكذباً يا أبابكر، فقام عبد الله وخرج.
وأمّا إبدال الألفاظ كلّها بما يرادفها فذلك أيضاً مذموم وهو سرقة محضة، كما في قول الحطيئة:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها
…
واقعد فأنت الطاعم الكاسي
فإنّة يُقال فيه:
ذر المآثر لا تذهب لمطلبها
…
واجلس فإنّك أنت الآكل اللابس
وأمّا إبدال بعض الكلمات بما يرافها فهو كذلك مذموم وسرقة محضة، قال امرؤ القيس في لاميته:
وقوفاً بها صحبي عَلَيّ مطيّهم
…
يقولون لا تهلك أسىً وتحمل
فإنّه أورد طرفه في داليّته فقال:
وقوفاً بها صحبي عَلَيّ مطيّهم
…
يقولون لا تهلك أسى وتجلّد
فهذا بيت امرؤ القيس بعينه إلاّ أنّه أقام تجلّد مقام تحمّل. وقال العباس بن عبد المطّلب:
وما الناس بالناس الذين عهدتهم
…
ولا الدار بالدار التي كنت تعلم
وقال الفرزدق:
وما الناس بالناس الذين عهدتهم
…
ولا الدار بالدار التي كنت تعرف
فإنّه بيت العباس بعينه إلاّ أنّه أقام تعرف مقام تعلم.
وأمّا إبدال الألفاظ بما يضادّها في المعنى فهو أيضاً مذموم وسرقة محضة، كقول ابن أبي فنن:
ذهب الزمان برهط حسّان الأُولى
…
كانت مناقبهم حديث الغابر
وبقيت في خلف تحلّ ضيوفهم
…
فيهم بمنزلة اللئيم الغادر
سود الوجوه لئيمة أحسابهم
…
فطس الأنوف من الطراز الآخر
فإنّه عكس قول حسان بن ثابت:
بيض الوجوه كريمة أحسابهم
…
شمّ الأنوف من الطراز الأوّل
وأمّا أخذ اللفظ كلّه أو بعضه مع تغيير لنظمه فيُسمّى إغارةً ومسخاً، وهو على ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون الثاني أبلغ من الأوّل لاختصاصه بفضيلة لا توجد في الأوّل كحسن السبك والإختصار والإيضاح أو زيادة معنىً، وهذا القسم ممدوح مقبول ويُسمّى حسن الإتّباع، كقول بشار بن برد:
لو كنتِ تلقين ما ألقى قسمت لنا
…
يوماً نعيش به منكم ونبتهج
لا خير في العيش إن دمنا كذا أبداً
…
لا نلتقي وسبيل الملتقى نهج
قالوا حرام تلاقينا فقلت لهم
…
ما في التلاقي ولا في غيره حرج
من راقب الناس لم يظفر بحاجته
…
وفاز بالطيّبات الفاتك اللهج
أخذ هذا البيت سلم الخاسر فقال في أبيات أوّلها:
بان شبابي فما يحور
…
وطال من ليلي القصير
أهدى لي الشوق وهو خلوٌ
…
أغنّ في طرفه فتور
وقائل حين شبَّ وجدي
…
واشتعل المضمر الستير
لو شئت أسلاك عن هواه
…
قلبٌ لأشجانه ذكور
فقلت لا تعجلنّ بلومي
…
فإنّما ينبّؤ الخبير
عذّبني والهوى صغيرٌ
…
فكيف بي والهوى كبير
من راقب الناس مات غمّاً
…
وفاز باللذّة الجسور
فبيت سلم هذا أجود سبكاً وأخصر لفظاً.. ولقد حدّث أحمد بن صالح قال: لمّا بلغ بيت سلم بشاراً غضب واستشاط وحلف أن لا يدخل إليه ولا يُفيده ولا ينفعه مادام حيّاً، فاستشفع إليه بكلّ صديق وكلّ من يثقل عليه ردّه فكلّموه فيه فقال: أدخلوه إليّ، فأدخلوه فاستدناه ثمّ قال له: يا سلم! من الذي يقول: من راقب الناس لم يظفر بحاجته؟ فقال: أنت يا أبا معاذ جعلني الله فداك، قال: فمن ذا الذي يقول: من راقب النّاس مات غمّاً؟ قال: تلميذك وخرِّيجك وعبدك يا أبا معاذ، فاجتذبه إليه وقنّعه بمخصرة كانت بيده ثلاثاً وسلمٌ يقول: لا أعوذ إلى ما تكره يا أبا معاذ، ولا آتي شيئاً تذمّه، وإنّما أنا عبدك وصنيعك، وبشار يقول له: يا فاسق أتجيء إلى معنىً سهرت له عيني وتعب فيه فكري وسبقت الناس إليه فتسرقه ثمّ تختصر له لفظاً يقرّبه لتزري به عَلَيّ وتذهب ببيتي، وهو يحلف له أن لا يعود، والجماعة يسئلونه الرضا والكفّ عنه، فبعد جهد شفّعهم فيه وكفَّ عنه وعن ضربه، ثمّ رجع له ورضي عنه. وسُمّي سلم هذا الخاسر لخسرانه في تجارته، لأنّه باع مصحفاً ورثه واشترى بثمنه عوداً يضرب به، كذا في الأساس.
وكقول بعضهم:
خلقنا لهم في كلّ عين وحاجب
…
بسمر القنا والبيض عيناً وحاجبا
أخذه ابن نباته السعدي وأحسن إتّباعه فقال:
خلقنا بأطراف القنا في ظهورهم
…
عيوناً لها وقع السيوف حواجب
فبيت ابن نباته هذا أبلغ لاختصاصه بزيادة معنىً وهو الإشارة إلى انهزامهم حيث أوقع الطعن والضرب على ظهورهم.
وثانيها: أن يكون الثاني دون الأوّل لفوات فضيلة توجد في الأوّل وهو مذموم مردود، كقول أبي تمام من قصيدة في رثاء محمّد بن حميد بن مسلم الطائي وقد استشهد في بعض غزواته:
هيهات لا يأتي الزمان بمثله
…
إنّ الزّمان بمثله لبخيل
أخذه أبوالطيب المتنبّي فقال:
أعدى الزمان سخائه فسخا به
…
ولقد يكون به الزمان بخيلا
فالمصراع الثاني من بيت أبي الطيب مأخوذ من المصراع الثاني من بيت أبي تمام لكن مصراع أبي تمام أجود سبكاً.
وثالثها: أن يكون الثاني مثل الأوّل وهذا أبعد من الذم والفضل للأوّل، كقول أبي تمام:
لو حار مرتاد المنيّة لم يجد
…
إلاّ الفراق على النفوس دليلا
أخذه أبوالطيب فقال:
لولا مفارقة الأحباب ما وجدت
…
لها المنايا إلى أرواحنا سبلا
وكقول الأرجاني:
لم يبكني إلاّ حديث فراقهم
…
لمّا أسرّ به إليّ مودّعي
هو ذلك الدر الذي ألقيتم
…
في مسمعي ألقيته من مدمعي
وقول جار الله في مرثية أُستاذه:
وقائلة ما هذه الدرر التي
…
تساقطها عيناك سمطين سمطين
فقلت هو الدر الذي قد حشا به
…
أبو مضر أُذني تساقط من عيني
هذا إذا لم يكن فيه دلالة على السرقة، وأمّا إذا كان فيه دلالة عليها باتّفاق الوزن والقافية فهو مذموم، كقول أبي تمام:
مقيم الظن عندك والأماني
…
وإن قلقت ركابي في البلاد
وما سافرت في الآفاق إلاّ
…
ومن جدواك راحلتي وزادي
وقول أبي الطيب:
وإنّي عنك بعد غد لغاد
…
وقلبي في فنائك غير غادي
محبّك حيثما اتّجهت ركابي
…
وضيفك حيث كنت من البلاد
وأمّا القسم الثاني من النوع الظاهر: وهو أخذ المعنى وحده فيُسمّى إلماماً من ألمّ به إذا قصده، وأصله من ألمَّ بالمنزل إذا نزل به، ويُسمّى أيضاً سلخاً، والسلخ كشط الجلد عن الشاة ونحوها، واللفظ للمعنى بمنزلة الجلد فكأنّه كشط من المعنى جلده وألبسه جلداً آخر، وهو على ثلاثة أقسام: الأوّل: أن يكون الثاني أبلغ من الأوّل، كقول أبي تمام:
هو الصنع إن يعجل فخيرٌ وإن يرث
…
فللريث في بعض المواضع أنفع
وقول أبي الطيب:
ومن الخير بطؤ سيبك عنّي
…
أسرع السحب في المسير الجهام
فبيت أبي الطيب أبلغ لاشتماله على زيادة بيان للمقصود حيث ضرب المثل بالسحاب.
الثاني: أن يكون الثاني دون الأوّل، كقول البحتري:
وإذا تألّق في الندي كلامه
…
المصقول خلت لسانه من عضبه
وقول أبي الطيب:
كأنّ ألسنهم في النطق قد جعلت
…
على رماحهم في الطعن خرصانا
فبيت أبي الطيب دون بيت البحتري لأنّه قد فاته ما أفاده البحتري بلفظتي تألّق والمصقول من الإستعارة التخييليّة حيث أثبت التألق والصقالة للكلام كإثبات الأظفار للمنيّة، ويلزم من هذا التشبيه كلامه بالسيف وهو استعارة بالكناية.
الثالث: أن يكون مثل الأوّل، كقول أبي زياد:
ولم يك أكثر الفتيان مالاً
…
ولكن كان أرحبهم ذراعاً
وقول أشجع في جعفر المكي:
وليس بأوسعهم في الغنا
…
ولكن معروفه أوسع
وكقول بعضهم في مرثية ابن له:
والصبر يحمد في المواطن كلّها
…
إلاّ عليك فإنّه مذموم
وقول أبي تمام:
وقد كان يُدعى لابس الصبر حازماً
…
فأصبح يُدعى حازماً حين يجزع
وكقول أبي بكر بن النطاح:
كأنّك عند الكرّ في حومة الوغى
…
تفرّ من الصفّ الذي من ورائكا
وقول أبي الطّيب:
وكأنّه والطعن من قدّامه
…
متخوّف من خلفه أن يطعنا
هذا هو النوع الظاهر من الأخذ والسرقة.
وأمّا غير الظاهر فهو على أقسام: منها: أن يتشابه المعنيان في البيتين، كقول جرير:
فلا يمنعك من إرب لحاهم
…
سواء ذوالعمامة والخمار
وقال أبي الطيب:
ومنْ في كفّه منهم قناة
…
كمنْ في كفّه منهم خضاب
فتعبير جرير عن الرجل بذي العمامة كتعبير أبي الطيب عنه بمن في كفّه قناة، وكذا تعبيره عن المرأة بذات الخمار كتعبيره عنها بمن في كفّه خضاب.
ومنه قول الطرمّاح:
لقد زادني حبّاً لنفسي إنّني
…
بغيضٌ إلى كلّ امرء غير طائل
وقال أبوالطيب:
وإذا أتتك مذمّتي من ناقص
…
فهي الشهادة بأنّي كامل
ويجوز في تشابه المعنيين اختلاف الموردين، كأن يكون أحد البيتين نسيباً مثلاً والآخر مدحاً أو هجاءً، فإنّ الشاعر الحاذق إذا قصد إلى المعنى المختلف احتال بإخفائه فغيّر لفظه وصرفه عن مورده وعن وزنه وقافيته.
ومنها: أن ينقل المعنى إلى محلٍّ آخر، كقول البحتري:
سلبوا وأشرقتِ الدماء عليهم
…
محمّرة فكأنّهم لم يسلبوا
وقول أبي الطيب:
يبس النجيع عليه وهو مجردٌ
…
من غمده فكأنّما هو مغمد
فنقل المعنى من القتلى والجرحى إلى السيف.
ومنها: أن يكون معنى الثاني أشمل من معنى الأوّل، كقول جرير:
إذا غضبت عَلَيّ بنوا تميم
…
حسبت النّاس كلّهم غضاباً
وقول أبي نؤاس:
ليس على الله بمستنكر
…
أن يجمع العالم في واحد
فالأوّل مختصّ ببعض العالم وهو الناس، وهذا يشملهم وغيرهم.
ومنها: القلب؛ وهو أن يكون معنى الثاني نقيض معنى الأوّل، كقول أبي الشيص:
أجد الملامة في هواك لذيذةً
…
حبّاً لذكرك فليلمني اللوَّم
وقول أبي الطيب:
أحبّه وأحبّ فيه ملامه
…
إنّ الملامة فيه من عذَّاله
فهذا نقيض معنى بيت أبي الشيص، والأحسن في هذا النوع أن يبيّن السبب كما في هذين البيتين إلاّ أن يكون ظاهراً، كقول أبي تمام:
ونغمةُ معتفي جدواه أحلا
…
على أُذنيه من نَغَم السماع
وقول أبي الطيب:
والجراحات عنده نغماتٌ
…
سبقت قبل سيبه بسؤال
أراد أبو تمام أنّ الممدوح يستلذّ نغمات السائلين لما فيه من غاية الكرم ونهاية الجود، وأراد أبوالطيب أنّه إن سبقت نغمة سائل عطاء الممدوح بلغ ذلك فيه مبلغ الجراحة من المجروح، لأنّ عاته أن يعطي بغير سؤال.
ومنها: أن يؤخذ بعض المعنى ويضاف إليه ما يحسّنه، كقول الأفوه الأودي:
وترى الطير على أثارنا
…
رأي عين ثقةً إن ستمار
وقال أبو تمام:
وقد ظللت عقبان أعلامه ضحىً
…
بعقبان طير بالدماء نواهل
أقامت مع الرايات حتّى كأنّها
…
من الجيش إلاّ أنّها لم تقاتل
فإنّ أبا تمام لم يلم بشيء من معنى قول الأفوه: رأي عين، ولا: ثقةً إن ستمار، لكن زاد عليه زيادة محسّنة لبعض المعنى الذي أخذه بقوله: إلاّ أنّها لم تقاتل، وبقوله: في الدماء نواهل، وبقوله: أقامت مع الرايات، مع قوله: كأنّها من الجيش، وبهذه الزيادة يتمّ حسن قوله، إلاّ أنّها لم تقاتل، لأنّه لو قيل: ظللت عقبان أعلامه ضحىً بعقبان الطير إلاّ أنّها لم تقاتل لم يحسن هذا الإستثناء المنقطع ذلك الحسن لأنّ إقامتها مع الرايات حتّى كأنّها من الجيش يوهم أنّها تقاتل مثل الجيش فيحسن الإستدراك الذي رفع التوهّم الناشي من الكلام السابق بخلاف وقوع ظلّها على الرايات.
وهذه الأنواع المذكورة منها مقبول ومنها ما هو فوق ذلك من حيث أنّه يخرجه حسن التصرّف من الإتّباع إلى الإبتداع، وكلّما كان الإتّباع أشدّ خفاءً بحيث لا يعرف أنّ الثاني مأخوذ من الأوّل إلاّ بعد إعمال روية ومزيد تفكّر كان أقرب إلى القبول لكونه أبعد عن الأخذ والسرقة وأدخل في الإبتداع والتصرّف، هذا آخر القول على السرقة وأنواعها.
أقول: وسرقة الشعر مذمومة، قال في ذمّها الحريري في إحدى مقاماته: واستراق الشعر عند الشعراء أفضع من سرقة البيضاء والصفراء، وغيرتهم على بنات الأفكار كغيرتهم على البنات الأبكار، وأوّل من ذمّ ذلك طرفه ابن العبد في قوله:
ولا أغير على الأشعار أسرقها
…
عنها غنيت وشرّ الناس من سرقا
وأبو تمام الطائي ضجّ من سرقة محمّد بن يزيد الأموي شعره، فقال:
من بنوا بجدل من ابن الحباب
…
من بنو تغلب حداة الكلاب
من طفيلٌ وعامرٌ ومن الحا
…
رث أو من عيينة بن شهاب
إنّما الضيغم الهصور أبو الأش
…
بال جبّار كلّ خيس وغاب
من عدت خيله على سرح شعري
…
وهو للحين راتع في كتابي
غارة أسخنت عيون المعالي
…
واستباحت محارم الآداب
لو ترى منطقي أسيراً لأصبح
…
ت أسيراً لعبرتي وانتحابي
يا عذاري الأشعار صرتنّ من بع
…
دي سبايا تبعن في الأعراب
طال رغبي إليك يا ربّ يا ربّ
…
ورعبي إليك فاحفظ ثيابي
وكان البحتري قال قصيدة في أبي العباس ابن بسطام أوّلها:
من قائل للزمان ما أربه
…
في خلق منه قد بدا عجبه
فعارضه فيها أبو أحمد عبيد الله بن عبد الله بن طاهر بقصيدة يمدح بها الموفّق أوّلها:
أجدَّ هذا المقال أم لعبه
…
أم صدق ما قيل فيه أم كذبه
فاستعار من ألفاظها ومعانيها ما أوجب أن قال البحتري:
ما الدهر مستنفد ولا عجبه
…
تسومنا الخسف كلّه نوبه
نال الرضا مادح وممتدح
…
فقل لهذا الزمان ما غضبه
أجلى لصوص البلاد يطردهم
…
وظل لص القريض ينتبه
أُردد علينا الذي استعرت وقل
…
قولك يعرف الغالب غلبه
وقد ذمّ ابن الرومي البحتري بالسرقة فقال:
قبحاً لأشياء يأتي البحتري بها
…
من شعره الغث بعد الكدّ والتعب
كأنّها حين يسعى السامعون بها
…
ممّن يميّز بين النبع والغرب
رقى العقارب أو هذر البنات إذا
…
أضحوا على شعث الجدران في صخب
منها:
حيٌ يغير على الموتى فيسلبهم
…
حرَّ الكلام بجيش غير ذي لجب
ما أن تزال تراه لابساً حللاً
…
أسلاب قوم مضوا في سالف الحقب
شعرٌ يغير عليه باسلاً بطلاً
…
فينشد الناس إيّاه على رقب
حتّى إذا كفّ عن عاداته فله
…
شعرٌ يئنّ مقاسيه من الوصب
شعرٌ كنافض حمّى الخيبري له
…
برد وكرب فمن يرويه في كرب
قل للعلاء بن عيسى والذي نصلت
…
به الدواهي نصول الآل في رجب
أيسرق البحتري الناس شعرهم
…
جهراً وأنت نكال اللصّ ذي الربب
وتارة يبرز الأرواح منطقه
…
والخلق مابين مغصوب ومغتصب
ومنها:
إذا أجاد فأوجب قطع مقوله
…
فقد دعا شعراء الناس بالحرب
وإن أساء فأوجب قتله قوداً
…
بمن أمات إذا أبقى على السلب
ولا يخفى على ذي لبّ ما في هذه الأبيات من التشنيع على البحتري والإنتقاص من حقّه وفيه يقول ابن الحاجب أيضاً:
والفتى البحتري سارق ما قا
…
ل ابن أوس في المدح والتشبيب
كلّ بيت له يجوَّد معناه
…
فمعناه لابن أوس حبيب
وللسري الرفاء من قصيدة خاطب فيها أبا الخطاب الفضل بن ثابت الصابي وقد سمع أنّ الشاعرين الخالديين يريدان الرجوع إلى بغداد وذلك أيّام المهلبي الوزير، أوّلها:
بكرت عليك مغيرة الأعراب
…
فاحفظ ثيابك يا أباالخطّاب
ورد العراق ربيعة بن مكدَّم
…
وعتيبة بن الحارث بن كلاب
أفعندنا شكٌّ بأنّهما هما
…
في الفتك لا في صحّة الأنساب
جلبا إليك الشعر من أوطانه
…
جلب التجار طرائف الأجلاب
فبدائع الشعراء فيما جهّزا
…
مقرونة بغرائب الكتّاب
شنّا على الآداب أقبح غارة
…
جرحت قلوب محاسن الآداب
فحذار من نفثات صلي قفرة
…
وحذار من فتكات ليثَي غاب
لا يسلبان أخا الثراء وإنّما
…
يتناهبان نتائج الألباب
إن عزَّ موجود الكلام عليهما
…
فأنا الذي وقف الكلام ببابي
أو يهطبا من ذلّة فأنا الذي
…
ضربت على الشرف المطلّ قبابي
كم حاولا أمدي فطال عليهما
…
إن يدركا إلاّ مثار ترابي
عجزا ولن تقف العبيد إذا جرت
…
يوم الرهان مواقف الأرباب
ولقد حميت الشعر وهو لمعشر
…
رمم سوى الأسماء والألقاب
وضربت عنه المدّعين وإنّما
…
عن حوزة الآداب كان ضرابي
فغدت نبيط الخالديّة تدّعي
…
شعري وترفل في حبير ثيابي
قوم إذا قصدوا الملوك لمطلب
…
نقضت عمائهم على الأبواب
من كلّ كهل تستطير سباله
…
لونين بين أنام البوّاب
مغض على ذلَّ الحجاب يردّه
…
دامي الجبين تجهّم الحجّاب
ومفوّهين تعرّضاً لحرابتي
…
فتعرّضت لهما صدور حرابي
نظراً إلى شعري يروق فترّبا
…
منه خدود كواعب أتراب
شرباه فاعترفا له بعذوبة
…
ولربّ عذب عاد سوط عذاب
في غارة لم تنثلم فيها الضبا
…
ضرباً ولم تبد القنا بخضاب
تركتْ غرائب منطقي في غربة
…
مسبيّة لا تهتدي لإياب
جرحى وما ضربت بحدّ مهنّد
…
أسرى وما حملت على الأقتاب
لفظ صقلت متونه فكأنّه
…
في مشرقات النظم درّ سحاب
وكأنّما أجريت في صفحاته
…
قمر اللجين وخالص الزّرياب
أغربت في تحبيره فرواته
…
في نزهة منه وفي استغراب
وقطعت فيه شبيبةً لم تشتغل
…
عن حسنه بصباً ولا بتصابي
وإذا ترقرق في الصحيفة ماؤه
…
عبق النسيم فذاك ماء شبابي
يصغي اللبيب له فيقسم لبّه
…
بين التعجّب منه والإعجاب
أعزز عَلَيّ بأن أرى أشلائه
…
تدمى بظفر للعدوّ وناب
أفمنْ رماه بغارة مأمونه
…
باعت ظباء الروم في الأعراب
إنّي نبذت على السواء إليكما
…
فتأهّبا للفادح المنتاب
وإذا نبذت إلى امرء ميثاقه
…
فليستعد لسطوتي وعقابي
وهي طويلة متناسبة في الحسن والعذوبة. وله من قصيدة مدح بها أباالبركات لطف الله بن ناصر الدولة يتظلّم إليه من الخالديين وقد ذهبا بشعره ومدحا به المهلبي وغيره.
يا أكرم الناس إلاّ أنْ يعدَّ أباً
…
فات الكرام بآباء وآثار
أشكو إليك حليفَيْ غارة شهرا
…
سيف الشقاق على ديباج أفكاري
ذئبين لو ضفرا بالشعر في حرم
…
لمزّقاه بأنياب وأظفار
سلاّ عليه سيوف البغي مصلتةً
…
في جحفل من شنيع الظلم جرّار
وأرخصاه فقل في العطر ممتهنا
…
لديهما يشتري من غير عطّار
لطائم المسك والكافور فائحة
…
منه ومنتخب الهندي والغار
وكلّ مسفرة الألفاظ تحسبها
…
صفيحة بين إشراق وإسفار
أرقت ماء شبابي في محاسنها
…
حتّى ترقرق فيها ماؤها الجاري
كأنّما نفس الريحان تمزجه
…
صبا الأصائل من أنفاس أنوار
إن قلّداك بدر فهو من لججي
…
أو ختّماك بياقوت فأحجاري
باعا عرائس شعري بالعراق فلا
…
تبعد سباياه من عون وأبكار
مجهولة القدر مظلوم عقائلها
…
مقسومة بين جهّال وأغمار
ما كان ضرّهما والدر ذو خطر
…
لو حلّياه ملوكاً ذات أخطار
وما رأى الناس سبياً مثل سبيهما
…
بيعت نفائسه ظلماً بدينار
والله ما مدحا حيّاً ولا رثيا
…
ميتاً ولا افتخرا إلاّ بأشعاري
هذا وعندي من لفظ أشعشعه
…
سلافة ذات أضواء وأنوار
وله من قصيدة في أبي إسحاق الصابي وقد ورد عليه كتاب عن الخالديين بأنّهما منحدران إلى بغداد:
قد أظلّتك يا أبا إسحاق
…
غارة اللفظ والمعاني الرقاق
فاتّخذ معقلاً لشعرك يحميه
…
مروق الخوارج المرّاق
قبل رقراقة الحديد تريق
…
السمَّ في صفو مائه الرقراق
كان شنُّ الغارات في البلد القفر
…
فأضحى على سرير العراق
غارة لم تكن بسمر العوالي
…
حين شنّت ولا السيوف الرقاق
جالس فرسانها عَلَيّ جلوساً
…
لا أقلّتهم ظهور العتاق
فجعت أنفس الملوك أبا الهي
…
جاء حرباً بأنفس الأعلاق
بقواف مثل الرياض تمشّت
…
بين أنوارها جياد السواقي
بدع كالسيوف أرهفن حسناً
…
وسقاهنّ رونق الطبع ساقي
مشرقات تريك لفظاً ومعنى
…
حمرة الحلي في بياض التراقي
يا لها غارة تفرّق في الحو
…
مة بين الحمام والأطواق
تسمّ الفارس المقدَّم بالعار
…
وبعض الأقدام عار باقي
لو رأيت القريض يرعد منها
…
بين ذاك الإرعاد والإبراق
وقلوب الكلام تخفق رعباً
…
تحت سامي لوئها الخفّاق
وسيوف الضلال تفتك فيها
…
بعذاري الطروس والأوراق
والوجوه الرقاق دامية الأب
…
شار في معرك الوجوه الصفاق
فتنفّست رحمةً للخدود ال
…
حمر منهنّ والقدود الرقاق
والرياض التي ألحّ عليها
…
كاذب الودق صادق الإحراق
والنجوم التي تظلّ نجوم
…
الأرض حسّادها إلى الإشراق
بعدما لحن في سماء المعالي
…
طلعاً وانتثرن في الآفاق
وتخيّرت حليهنّ فلم تعد
…
خيار النحور والأعناق
وقطّعت الشباب فيه إلى أن
…
همّ برد الشباب بالأخلاق
فهو مثل المدام بين صفاء
…
وبهاء ونفحة ومذاق
منطق يخجل الرييع إذا حلّ
…
عليه السحاب عقد النطاق
يا هلال الآداب يابن هلال
…
صرف الله عنك صرف المحاق
سوف أهدي إليك خدم المج
…
دا إماءً تعاف قبح الإباق
كلّ مطبوعة على اسمك باد
…
وسمها في الجباه والآماق
وقال في أبي تغلب من قصيدة ذكر فيها أحد الخالديين:
ولابدّ أن أشكو إليك ظلامة
…
وغارة مغوار سجيّته الغصب
تخيّل شعري أنّه قوم صالح
…
هلاكاً وأنّ لخالديّ له سقب
رعى بين أعطان له ومسارح
…
فلم يرع فيهنّ العشار ولا النجب
وكان رياضاً غضةً فتكدّرت
…
مواردها وأصفر في تربها العشب
يساق إلى الهجن المقارف جلبه
…
وتسلّبه الغرّ المحجّلة القبّ
غضبت على ديباجه وعقوده
…
فديباجه غصب وجوهره نهب
وأبكاره شتّى أذيل مصونها
…
وريعت عذاراها كما روّع السرب
وكنت إذا ما قلت شعراً حدت به
…
حداة المطايا أو تغنّى به الشرب
وقال أيضاً في أبي عثمان الخالدي:
لابدّ من نفثة مصدور
…
فحاذروا صولة محذور
قد أنست العالم غاراته
…
في الشعر غارات المغاوير
أثكلني غيد قواف غدت
…
أبهى من الغيد المعاطير
أطيب ريحاً من نسيم الصبا
…
جائت بريّا المسك عن حور
من بعدما فتحت أنوارها
…
فابتسمت مثل الأزاهير
وبات فكري بتصانيفها
…
ينقشها نقش الدنانير
يا وارث الأغفال ما حبّروا
…
من القوافي والمشاهير
أعط قفانبك أماناً فقد
…
راحت بقلب منك مذعور
وله أيضاً من قصيدة أُخرى وقد تظلّم بها إلى سلامة بن فهد من الخالديين والتلعفري:
هل الصبر مُجد حين ادّرع الصبرا
…
وهل ناصرٌ للشعر يوسعه نصرا
تحيف شعري يابن فهد مصالت
…
عليه فقد أعدمت منه وقد أثرى
وفي كلّ يوم للغبيين غارة
…
تروّع ألفاظي المحجّلة الغرّا
غريب كسطر البرق لمّا تبسّمت
…
مخائله للفكر أودعته سطرا
فوجه من الفتيان يمسح وجهه
…
وصدر من الأقوام يسكنه الصدرا
تناوله مثر من الجهل معدم
…
من الحلم معذور متى بلّغ العذرا
فبعَّد ما قرَّبتُ منه غباوة
…
وأورد ما سهّلت من لفظه وعرا
فمهلاً أبا عثمان مهلاً فإنّما
…
يغار على الأشعار من عشق الشعرا
لأطفأتما تلك النجوم بأسرها
…
واد نستما تلك المطارف والأزرا
فويحكما هلاّ بشطر فنعتما
…
وأبقيتمالي من محاسنه شطرا
أقول: ولمّا اشتملت عليه هذه القصائد والمقاطيع من الرقّة والإنسجام وحسن الأُسلوب وجودة السبك والمعاني القريبة والألفاظ الرائقة تمهّد العذر في الإطالة بها، مع ما فيها من التزيّد من السريّ وكثرة التشنيع على الخالديين وسلبهما من التملّي بالأدب إذ مقامهما فيه مشهور، ومحلّهما منه على الألسنة مذكور ومشكور، وناهيك بأبي إسحاق الصابي نقداً للأدب وقد قال فيهما:
أرى الشاعرَين الخالديين سيرا
…
قصائد يفني الدهر وهي تخلد
جواهر من أبكار لفظ وعونه
…
يقصر عنها راجز ومقصد
تنازع قوم فيهما وتناقضوا
…
ومرّ جدال بينهم يتردّد
فطائفةٌ قالت سعيد مقدَّمٌ
…
وطائفة قالت لهم بل محمّد
فصاروا إلى حكمي فأصلحت بينهم
…
وما قلت إلاّ بالّتي هي أرشد
هما في اجتماع الفضل روح مؤلّف
…
ومعناهما من حيث بيّنت مفرد
كذا فرقدا الظلماء لمّا تشاكلا
…
علاً أشكلا هذاك أم ذاك أمجد
فزوجهما ما مثله في اتّفاقه
…
وفردهما بين الكواكب أوحد
فقاموا على صلح وقالوا جميعهم
…
رضينا وساوى فرقد الأرض فرقد
فما أعدل هذه الحكومة من أبي إسحاق، فما منها إلاّ محسن يحطب في حبل الإبداع ما أراد، ويكاثر بمحاسنه وبدائعه الأفراد. ذكرتُ بهذه الحكومة حكومة الصلتان العبديّ الشاعر المشهور وقد قيل له: إقض بين جرير والفرزدق أيّهما أحسن شعراً وأجلّ حسباً وفخراً؟ فقال:
أنا الصلتانيّ الذي قد علمتموا
…
متى ما يحكم فهو بالحقّ صادع
أتتني تميم حين هابت قضاتها
…
وإنّي لبالفضل المبين قاطع
كما أنفذ الأعشى قضيّة عامر
…
وما لتميم في قضائي رواجع
سأقضي قضاء بينهم غير جائر
…
فهل أنت للحكم المبين سامع
قضاء امرء لا يتّقي الشتم منهما
…
وليس له في المدح منهم منافع
فإن كنتما حكّمتماني فأنصتا
…
ولا تجزعا وليرض بالحقّ قانع
فإن يك بحر الحنظليين واحداً
…
فما تستوي حيتانه والضفادع
وما يستوي صدر القناة وزجّها
…
وما تستوي شمّ الذرى والأارع
وليس الذنابي كالقدامي وريشها
…
وما تستوي في الكفّ منك الأصابع
ألا إنّما تحظى كليب بشعرها
…
وبالمجد تحظى دارم والأفارع
أرى الخطفى بزّ الفرزدق شأوه
…
ولكنّ خيراً من كليب مجاشع
فيا شاعراً لا شاعر اليوم مثله
…
جرير ولكن في كليب تواضع
ويرفع من شعر الفرزدق أنّه
…
له بذخٌ لذي الخسيسة دافع
وقد يحمد السيف الدوان بغمده
…
وتلقاه رثاً جفنه وهو قاطع
يناشدني النصر الفرزدق بعدما
…
أناخت عليه من جرير صواقع
فقلت له إنّي ونصرك كالذي
…
يثبت أنفاً هشّمته الجوادع
وفي ذلك يقول جرير:
أقول ولم أملك سوابق عبرة
…
متى كان حم الله في كرب النخل
أقول: وممّا يليق أن أذكره في هذا المقام ما صنعه بعض الأُدباء مع بعضهم من التبكيت عليهم في دعوى انتحالهم الشعر إظهاراً للقدرة وافتخاراً بالإستطالة، فمن ذلك ما حكي أنّ صاعد اللغوي صاحب كتاب الفصوص قال يصف باكورة ورد حملت إلى أبي عامر محمّد بن أبي عامر المقلّب بالمنصور:
أتتك أبا عامر وردة
…
يحاكي لك الطيب أنفاسها
كعذراء أبصرها مبصر
…
فغطّت بأكمامها رأسها
فاستحسن المنصور ما جاء به، فحسده الحسين بن العريف فقال: هي للعباس بن الأحنف، فناكره صاعد، فقام ابن العريف إلى منزله ووضع أبياتاً وأثبتها في صفح دفتر عتيق كان قد نقض بعض أسطره وأتى بها قبل افتراق المجلس، وهي هذه:
عشوت إلى قصر عبّاسة
…
وقد جدّل النوم حرَّاسها
فألفيتها وهي في خدرها
…
وقد صرّع السكر أنّاسها
فقالت أسار على هجعة
…
فقلت بلى فرمت كاسها
ومدّت يديها إلى وردة
…
يحاكي لك الطيب أنفاسها
كعذراء أبصرها مبصر
…
فغطّت بأكمامها رأسها
وقالت خف الله لا تفضحنّ
…
ابنة عمّك عبّاسها
فولّيت عنها على غفلة
…
ولا خفت ناسي ولا ناسها
قال: فخجل صاعد وحلف، فلم يقبل منه، وافترق المجلس على أنّه سرقها، وتمكّنت من صاعد بأنّه كان يوصف بغير الثقة فيما ينقله.
وحدّث البحتري قال: أوّل ما رأيت أبا تمام أنّي دخلت على أبي سعيد محمّد بن يوسف وقد مدحته بقصيدتي التي أوّلها:
آفاق صبّ من هوىً فأفيقا
…
أم خان عهداً أم أطاع شقيقا
فسرّ بها أبو سعيد فقال: أحسنت والله يا فتى. قال: وكان في المجلس رجل نبيل رفيع المجلس منه، فوق كلّ من حضر عنده، يكاد تمسّ ركبته ركبته، فأقبل عَلَيّ ثمّ قال: يا فتى أما تستحيي منّي هذا شعري تنتحله بحضرتي؟ فقال أبو سعيد: أحقّاً ما تقول؟ قال: نعم وإنّما علقه منّي فسبقني به إليك وزاد فيه، ثمّ اندفع فأنشد أكثر القصيدة حتّى شكّكني - علم الله - في نفسي وبقيت متحيّراً، فأقبل عَلَيّ أبو سعيد فقال: يا بني قد كان في قرابتك منّا وردّك لنا ما يغنيك عن هذا، فجعلت أحلف بكلّ محرجة من الأيمان أنّ الشعر لي ما سبقني إليه أحد، ولا سمعته ولا انتحلته، فلم ينفع ذلك شيئاً، وأطرق أبو سعيد وقطع بي حتّى تمنّيت أنّي سخت في الأرض، فقمت منكسر البال أجرّ رجلي، فخرجت فما هو إلاّ أن بلغت باب الدار حتّى جاء الغلمان فردّوني، فأقبل عَلَيّ الرجل فقال: الشعر لك يا بنيّ، والله ما قلته قط ولا سمعت به إلاّ منك، ولكنّني ظنت أنّك تهاونت بموضعي فأقدمت على الإنشاد بحضرتي من غير معرفة كانت بيننا تريد بذلك مضاهاتي ومكاثرتي حتّى عرّفني الأمير نسبك وموضعك، ولوددت أن لا تلد طائيّة أبداً إلاّ مثلك، وجعل أبو سعيد يضحك، فدعاني الرجل فضمّني إليه وعانقني وأعلمني أنّه أبو تمام، وأقبل يقرضني، ولزمته بعد ذلك وأخذت عنه واقتديت به.
ومن ذلك ما اتّفق لعمّي المهدي طابت تربته مع السيّد راضي ابن السيّد صالح القزويني من التبكيت عليه في نسبته إلى انتحال أبيات أرسلها يفتخر بها، وقد أورد هذه القضيّة عمّنا المشار إليه في كتابه مصباح الأدب الزاهر في أثناء كلام عاب به على أب السيّد راضي المذكور في قصيدة له، وبعد فراغه من عدّ معائب تلك القصيدة قال: ومن أيسر تلك الأُمور أنّ ابن رئيس فصحاء هذا العصر في النظم والنثر، الشريف أبو أحمد السيّد راضي ابن السيّد الصالح القزويني نزيل بغداد زهى بنفسه وحسب أنّه وحيد الدهر في النظم والنثر وما برح يجلس في أندية أهل بغداد يطري نفسه ويحسب أنّه ما في الكون أحد يضاهيه بقرض الشعر فإذا عنّ ذكرنا سدّد سهامه وبلغ منّا مرامه بلا جناية منّا سبقت ولا إسائة تقدّمت، ولم تك لنا بعد ببغداد معرفة ولا لنا مع أشرافها أُلفة ولا نحن ممّن يعدّ الشعر يكسو المجيد فخراً أو يرفع له قدراً، بل هو عندنا يخفض الشريف ويضع قدره، فأتّفق أنّ السيّد المذكور حضر نادي بعض أشراف بغداد وان فيه من ذوي المودّة لنا الشيخ حسن الفلوجي فجرى ذكر الأُدباء حتّى انتهى الكلام بهم إلى الحلّة الفيحاء، فأنكر السيّد أن يكون في الحلّة أحد من الأُدباء المجيدين، ووافقه على ذلك الزعم زعيم النادي، فقال الشيخ مُشيراً لنا: إنّ في الحلّة من لو عرفتم لا استعظمتم ما استحقرتهم، فأشار السيّد المشار إليه إلى أبيات نظمها في مدح الإمامين الجوادين: موسى بن جعفر الصادق ومحمّد بن عليّ الرضا سلام الله عليهم بزعم أنّها لا تتشطّر، فأمر أن تبعث لنا لنشطرها، فأرسلها الشيخ المذكور ضمن كتاب إلى الحلّة وابتلى بها غيرنا من أُدبائها حذراً من الفتنة، وذكر في أثناء كتابه أن تعرض الأبيات عَلَيّ، فتفرّست من تلك العبارة أنّها من باب: إيّاك أعني واسمعي يا جاره، فكان الأمر كما تفرّست، وها هي الأبيات:
موسى بن جعفر والجواد
…
ومن هما سرّ الوجود
هذا غياث الخائفين
…
وذاك غيث للوفود
ملكا الوجود فطوّقا
…
بالجود عاطل كلّ جيد
فلمّا عرضت عَلَيّ أمرت من ابتلي بها بالإحجام وخلقت لها مقامةً كمقامات الحارث بن همام في كتاب كتبته: إلى واسطة عقد جيد الزمن، الشيخ حسن، وعزوت الكتاب لولدنا حيدر الذي فاق بنظمه أبا تمام ومسلم ترفّعاً عن مجارات ذلك الصبيّ الذي تزبّب وهو حصرم، وهذا نصّ الكتاب - بعد سلام وثناء طويلين طوينا ذكرهما -: أمّا بعد؛ فقد وردت الوكة محبتك ورود الحياة إلى الأجساد بعد الممات، فلمّا فضضنا ختامها، وكشفنا عن لؤلؤ ثغرها لثامها، ضحك ثغر فصاحتي بعد استعبار وقال: أتنكّر الشمس في رابعة النهار، وهل يقال لأمواج البحور أنّها آل يمور، وللسبعة السيّارة تشببها الحصى بالإنارة، فيالله العجب من إنسانَي عين الأدب، ولسانَي الفصاحة في الخطب والخطب، علمَي المجد المشيّد الحاجّين المحترمَين: عيسى وأحمد، كيف يستحليان بناديهما أكل لحومنا وهو مرّ المذاق؟ ويستحلاّن أن يحملا على هزّل الهجاء يلملم بلاغتنا وإنّ حمله لا يطاق؟ مع أنّنا إذا نشر الأعداء ذمّهما طويناه بالمدح، بجدّ كان أو بمزح، حفظاً للحمة الأدب، فإنّها عندنا أوثق حرمةً من قرابة النسب، ولولا تلك العلاقة الأبيّة لنشر لسان فصاحتي الفرزدق وجرير، وطبقت شقشقته الزوراء بالهدير، لكن من ذا الذي تسخو نفسه بأكل لحمه، وهشم عظمه، وأعجب من هذا كلّه ما وقع ممّن هو لسان قصيّ، وصبح فصاحة لوي، وشمس بلاغة غالب، وكوكب معجزها الثاقب الشريف أبو أحمد السيّد الراضي، من زعمه أنّي لا أعرف طارف الشعر وتليده حتّى امتحنني بتشطير أبيات عزاها إليه مكيدة، مع علمه أنّي أصمعيّ هذا الزمان، ولتدوين آثار من غبر ابن خلّكان، فيا سبحان الله أيجهل أنّي ضربت سير قضايا أهل الأدب، وسيّان عندي من بَعُدَ منهم وقرب، ولئن أردت قصّة تلك الأبيات فهي من الغرائب، وذلك أنّ جماعةً من مفلّقي الشعراء وردوا من النجف الأشرف إلى الزوراء، وقد صحبهم جماعة من الحلّة الفيحاء، فلمّا استقرّ بهم الجلوس في نادي المنادمة، أنشد الشيخ حسن بن نصار على بديهته هذه الأبيات:
موسى بن جعفر والجواد ومن هما
…
سرّ الوجود وعلّة الإيجاد
هذا غياث الخائفين وذاك غي
…
ث للوفود وروضة المرتاد
مَلكا الوجود فطوَّقا بالجود عا
…
طل كلّ جيد للأنام وهادي
واقترح عَلَيّ الجماعة تشطيرها، فابتدرهم من شعراء الحلّة الفيحاء ذوالشرف والعفّة محمّد بن إسماعيل الخلفة فقال:
موسى بن جعفر والجواد ومن هما
…
للخلق كالأرواح للأجساد
بهما الوجود قد استفاد لأنْ هما
…
سرّ الوجود وعلّة الإيجاد
هذا غياث الخائفين وذاك غي
…
ظ الحاسدين وحاصد الأجناد
بل ذا مغيث الصارخين وذاك غي
…
ث للوفود وروضة المرتاد
ملكا الوجود فطوّقا بالجود عا
…
فيه معاً وقماقم الأمجاد
حتّى برفد نداهما قد زين عا
…
طل كلّ جيد للأنام وهادي
فقام الشيخ محمّد رضا بن الشيخ أحمد النحوي وضرب بيده على فخذه مغضباً وقال: يا للرجال! موتوا عجباً، ما كنت أحسب أنّ الشيخ على جلالة قدره ينتحل شعري الذي قلته في مدح الجوادين، ويزيد لكلّ بيت كلمتين، وينشده بحضرتي، من غير احتفال بسطوتي، كأن لم يدر أنّي قلت، وأنشد:
موسى بن جعفر والجواد
…
ومن هما سرّ الوجود
هذا غياث الخائفين
…
وذاك غيث للوفود
ملكا الوجود فطوّقا
…
بالجود عاطل كلّ جيد
فأزجع الشيخ مسلم بن عقيل وصاح بأعلا صوته: ما هذه الزخارف والأباطيل، وأنتما لفصاحة قمراً سماها، ومصباحاً دجاها، لقد أفسدتما أبياتي، وبددتما نظام كلماتي، وكنت قد أحكمت صدورها بقوافيها، وطرزتها بالجناس متانقاً فيها، ثمّ طلب من ذوي الفضل أن يحكموا بينهم بالعدل، ثمّ التفت إليهم وأنشد:
موسى بن جعفر والجواد ومن هما
…
سرّ الوجود وجعفر الجود
هذا غياث الخائفين وذاك غي
…
ث للوفود شفاء مفؤد
ملكا الوجود فطوّقا بالجود عا
…
طل كلّ جيد للأماجيد
فقال السيّد صادق الفحّام: على أدب الشيخ مسلم السّلام، إذا كان هذا في النظم نضرك، فكلّما قالت الشعراء شعرك، أنا كلّما أجلت فكرتي بالتقاطك لئالىء نظمي من سلكي، أعجب كيف سلمت منك قفانبك، وإذا كان هذا ديدنك في النظام، فما هذه الغفلة منك عن كتاب الله الواحد العلاّم، فطرّزه بالجناس، وافتخر به بين النّاس. فقال مسلم: مهلاً مهلاً لا يخرجك الغضب من الهزل إلى الجدّ، وتنضوا لخصومتي سيفاً ماضي الحد. فقال الصادق: ويلك يا مسلم أتضع سبابتك في فم الأرقم، وتزعم أنّك تسلم، أرأيت نملة حملت ثبير، أو البعوض جرّت الأثير، فأعرني سمعك لأُبيّن لك الخطأ فيما سرقت، فإنّه لا يتغطّى قبحه بحسن التجنيس، أُنظر إلى البيت الأوّل هل ترى للواو في "ومن هما" من محصل؟ وهل فيه فائدة إلاّ حفظ الوزن أن يختل؟ وأجل فكرك في ثاني الأبيات ترى أنّك أهملت معناه، وراعيت بالجناس لفظه، إذ جعلت أحدهما غيثاً والآخر غياثاً، فخصصت أحدهما بالشجاعة والآخر بالكرم، مع أنّ كلاًّ منهما جامع للوصفين ولسائر صفات الكمال، وأعد نظرك إلى البيت الثالث فإنّ أجدر لك بعد قولك ملكا الوجود أن تقول: طوّقا جميع ما حواه بالجود، وأجدر بك إذ سرقته أن تنشده كما وجدته، ثمّ اندفع ينشد:
موسى بن جعفر والجواد هما
…
سرّ الوجود وعيبة العلم
فهما غياث الخائفين هما
…
غيث الوفود ومنتهى الحلم
ملكا الوجود فطوّقا كرماً
…
ما في الوجود بنائل جمِّ
ثمّ التفت إليه وقال: إنّ عثرتك لا تقال، فإن كنت نائماً انتبه لما أنت به، فقد أسفر الصباح لذي عينين، واستبان للناقد النحاس من اللجين، ثمّ تمثّل بهذه الأبيات:
يا صاح قد لحنت في قولي وما
…
كان بقلبي فيه أمسى مودّعا
واللحن في المقال لا يعرفه
…
إلاّ فتىً برمزه قد برعا
فإن تجدني قد ذكرت المنحني
…
فاعلم بأنّي قد قصدت لعلعا
أو قلت حزوى فمرادي رامةٌ
…
أو الغضا فقد أردت الأجرعا
فسكت الشيخ مسلم ولم يتكلّم، وظهر عليه أنّه خجل وتندّم.
قال عمّنا بعد فراغه من هذا الكتاب: والعجب العجيب أنّ كتابي لمّا ورد بغداد ورآه السيّد الشريف خال أنّ هذه القضيّة المبتدعة قضيّة حقيقيّة، مع أنّ فيها إشارات واضحة على أنّها مخترعة خلقيّة، ولم يشعر بأنّ أبياته من مجزوّ الكامل المذال بحرف، وإنّا أضفنا إليه تلك الزيادات مكيدة لئلاّ يعرف.
أقول: ما أنسب ذكر أبيات لمهيار الديلمي بهذا المقام وهي:
رحمت قوماً وقد مالت رقابهم
…
تحت القريض فظنّوا أنّهم حملوا
وقعقعوا دونه الأبواب فاعتقدوا
…
بطول ما قرعوا أنّهم وصلوا
وحظّهم منه حظّ الناقفات رجت
…
أن يجتنى من هبيد الحنظل العسل
تشرّعوا في بحور منه طامية
…
والمنبض العذب فيما بينها وشل
بحجّة سبلها البيضاء خافية
…
وكلّها من مزايا أعين سبل
والصحف تملؤ والأقلام متعبة
…
وكلّما سمعوا من خاطب نقلوا
والقول والنقل مخلوقان في عدد
…
قل كلّما تخلق الأسماع والمقل
لا يكسبان بتقليد ولا أدب
…
ولا يفيدهما علم ولا عمل
رَجْعٌ: قيل للحطيئة: من أشعر الناس؟ فأخرج لسانه وقال: هذا إذا طمع.
وفي الفتح القريب: سئل حسان: من أشعر الناس؟ فقال: قبيلةً أم قصيدة؟ قيل: كلاهما. قال: أمّا أشعرهم قبيلة فهذيل، وأمّا أشعرهم قصيدة فطرفة.
وسئل طرفة: من أشعر الناس؟ قال: الذي يقول:
ستبدي لك الأيّام ما كنت جاهلاً
…
ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
وسئل الحطيئة أيضاً: من أشعر الناس؟ قال: الذي يقول:
لا أعدّ الإقتار عدماً ولكن
…
فقدُ مَنْ قدر زيته الإعدام
وهو لأبي داود الأيادي. قالوا: ثمّ مَن؟ قال: عبيدة بن الأبرص. قالوا: ثمّ مَن؟ قال: كفاك والله بي إذا حدّثني رغبة أو رهبة ثمّ عويت في أثر القوافي عواء الفصيل في أثر أُمّه.
وقال بعضهم: اتّفقت العرب على أنّ أشعر الشعراء في الجاهليّة طرفة، وبعده الحارث بن حلزه، وعمرو بن كلثوم.
وقال القالي في أماليه: قال عقيل بن بلال: سمعت أبي - يعني بلالاً - يقول: سمعت أبي - يعني جريراً - يقول: دخلت على بعض خلفاء بني أُميّة فقال: ألا تحدّثني عن الشعراء؟ قلت: بلى. قال: فمن أشعر الناس؟ قالت: ابن العشرين - يعني طرفة -. قال: فما تقول في ابن أبي سلمى والنابغة؟ قلت: كانا ينيران الشعر ويسديانه. قال: فما تقول في امرء القيس بن حجر؟ قلت: اتّخذ الشعر نعلين يطؤ بهما كيف يشاء. قال: ماذا تقول في ذي الرمّة؟ قلت: قدر من الشعر على ما لم يقدر عليه أحد. قال: فما تقول في الأخطل؟ قلت: ما باح بما في صدره من الشعر حتّى مات. قال: فما تقول في الفرزدق؟ قلت: بيده نبعة الشعر قابض عليها. قال: فما أبقيت لنفسك شيئاً؟ قلت: بلى والله يا أميرالمؤمنين، أنا مدينة الشعر التي يخرج منها ثمّ يعود إليها، ولأنّي سبحت الشعر تسبيحاً ما سبحه أحد قبلي. قال: وما التسبيح؟ قلت: نسبت فأطريت، وهجوت فأدريت - يعني أسقطت - ومدحت فأسنيت، ورحلت فأعرزت، وزجرت فأنحرت، فأنا قلت ضروباً من الشعر لم يقلها أحد قبلي.
وسأل معاوية الأحنف عن أشعر الشعراء؟ فقال: زهير. قيل: وكيف؟ قال: ألقى على المادحين فضول الكلام وأخذ خالصه وصفوته. قيل: مثل ماذا؟ قال: مثل قوله:
وما يك من خير أتوه فإنّما
…
توارثه آباء آبائهم قبل
وهل ينبت الخطيّ إلاّ وشيجة
…
وتغرس إلاّ في منابتها النخل
وقال من أحجّ لزهير: إنّه كان أحصفهم شعراً، وأبعدهم من السخف، وأجمعهم لكثير من المعنى وقليل من المنطق، وأشدّهم مبالغة في المدح، وأبعدهم تكلّفاً وعجرفيّة، وأكثرهم حكمةً ومثلاً سائراً في شعره.
وروي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: أفضل شعرائكم القائل: ومَن، ومَن؛ يعني زهيراً وذلك في قصيدته التي يقول فيها:
ومَن يك ذا فضل فيبخل بفضله
…
على قومه يستغن عنه ويذمم
ومَنْ لم يذد عن حوضه بسلاحه
…
يهدّم ومن لم يظلم الناس يظلم
ومَنْ هاب أسباب المنايا ينلنه
…
ولو نال أسباب السماء بسلَّم
ومَنْ يجعل المعروف من دون عرضه
…
يفرْهُ ومن لا يتّق الشتم يُشتَم
وأمّا النابغة فكان لجلالة قدره وتقدّمه في الشّعر تضرب له قبّة بسوق عكاظ فتعرض العرب عليه أشعارها.
قال من احتجّ له: إنّه كان من أحسنهم ديباجة شعر، وأكثرهم رونق كلام، وأجزلهم بيتاً، كأنّ شعره كلام ليس بتكلّف، والمنطق على المتكلّم أوسع منه على الشاعر، لأنّ الشاعر يحتاج إلى البناء والعروض والقوافي، والمتكلّم مطلق يتخيّر الكلام كيف شاء.
قالوا: والنابغة نبع في الشعر بعد أن احتنك، وهلك قبل أن يهتزّ.
وكان أبو جعفر يحيى بن محمّد بن أبي زيد العلوي البصري يفضّل النابغة قال ابن أبي الحديد وكان تلميذاً له: استقرأني يوماً وبيدي ديوان النابغة قصيدته التي يمدح بها النعمان بن المنذر ويذكر مرضه ويعتذر إليه ممّا اتّهم به وقذفه أعداؤه، ولا بأس بإيراد ما ذكره من القصيدة في شرح النهج كما سطره فإنّه لا يخلو من فائدة، وهو:
كتمتك ليلاً بالخموطين ساهراً
…
وهمّين همّاً مستكنّاً وظاهرا
أحاديث نفس تشتكي ما يريبها
…
وورد هموم لو يجدن مصادرا
تكلّفني أن يغفل الدّهر همّها
…
وهل وجدت قبلي على الدهر ناصرا
ألم تر خير النّاس أصبح نعشه
…
على فئة قد جاوز الحيَّ سائرا
ونحن لديه نسئل الله خلده
…
يردّ لنا ملكاً وللأرض عامرا
فنحن نرجّي الخير إن فاز قدحنا
…
ونرهب قدح الدهر إن جاء قامرا
لك الخير إن وارت بك الأرض واحداً
…
وأصبح جدّ النّاس بعدك عاثرا
وردَّت مطايا الراغبين وعريت
…
جيادك لا يحفى لك الدهر حافرا
رأيتك ترعاني بعين بصيرة
…
وتبعث حرّاساً عَلَيَّ وناظرا
وذلك من قول أتاك أقوله
…
ومن دسّ أعداء إليك المأبّرا
فياليت لا آتيك إن كنت مجرماً
…
فلا أبتغي جاراً سوائك مجاورا
فأهلي فداء لامرء إن أتيته
…
تقبّل معروفي وسدّ المفاقرا
سأربط كلبي إن يريبك نبحه
…
وإن كنت أرعى مسحلان وحامرا
وحلّت بيوتي في يفاع ممنّع
…
تخال به راعي الحمولة طائرا
تزلّ الوعول العصم عن قذفاته
…
وتضحي ذراه بالسحاب كوافرا
حذاراً على أن لا تنال مقادتي
…
ولا نسوتي حتّى يمتن حرائرا
أقول وقد شطت بي الدار عنكم
…
إذا مالقيت من معد مسافرا
ألا أبلغ النعمان حيث لقيته
…
فأهدى له الله الغيوث البواكرا
وأصحبه فلجاً ولا زال كعبه
…
على كلّ من عادى من النّاس ظاهرا
وربّ عليه الله أحسن صنعه
…
وكان له على المعادين ناصرا
قال: فجعل أبو جعفر يهتزّ ويطرب، ثمّ قال: والله لو مزجت هذه يشعر البحتري لكادت تمتزج لسهولتها وسلالة ألفاظها وما عليها من الديباجة والرّونق، ومَنْ يقول إنّ امرء القيس وزهير أشعر من هذا هلمّوا فليحاكموني.
أقول: قوله: لو مزجت هذه أي القصيدة بشعر البحتري لكادت تمتزج، فيه إشعار بأنّه يفضّل البحتري على غيره من طبقته بل وغيرها، لأنّ في قوله: لكادت تمتزج، إعلاناً بتفضيله على النابغة الذي هو عنده مقدّم على من سواء.
فأمّا امرء القيس فاحتجّ له من يقدّمه على الشعراء بأنّه ما قال ما لم يقولوه ولكنّه سبقهم إلى أشياء ابتدعها استحسنها العرب وأتبعه الشعراء عليها، منها: استبقاف صحبه، والبكاء في الديار، ورقّة النسيب، وقرب المأخذ، وتشبيه النساء بالظباء وبالبيض، وتشبيه الخيل بالعقبان والغضا، وقيد الأوابد، وأجاد في النسيب، وفصّل بين النسيب والمعنى، وكان أحسن الطبقة تشبيهاً.
وقيل: إنّ خاله مهلهلاً أوّل من أرقّ المراثي، واسمه عدي، وأوّل من قصّد القصائد، وفيه يقول الفرزدق: ومهلّل الشعراء ذاك الأوّل. ولم يقل أحد قبله عشرة أبيات غيره.
وقال في الأغاني: عديٌ لقب مهلهلاً لطيب شعره ورقّته.
وقيل: هو أوّل من قصّد القصائد، وقال الغزل، فقيل: فهلهل الشعر أي أرقّه، وهو أوّل من كذب في شعره.
وحدّث عوانة عن الحسن أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لحسان بن ثابت: مَن أشعر العرب؟ قال: الزرق العيون من بني قيس، قال: لست أسألك عن القبيلة إنّما أسألك عن رجل واحد، فقال حسان: يا رسول الله إنّ مثل الشعراء والشعر كمثل ناقة نحرت وجاء امرء القيس ابن حجر فأخذ سنامها وأطائبها ثمّ جاء المتجاوران من الأوس والخزرج فأخذا ما والى ذلك منها، ثمّ جعلت العرب تمرّغها حتّى إذا بقي الفرث والدم جاء عمرو بن تميم والنمر بن قاسط فأخذاه. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ذلك رجل مذكور في الدنيا وشريف فيها، خامل يوم القيامة، معه لواء الشعراء.