الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولفكري وهو في إذهاله
…
للئالي نظمه ينتقد
يالساني قل به ما شئته
…
علّني أشفي به ما أجد
طارح الورقاء في النوح عسى
…
هي إن طارحتها لي تسعد
عدمت نفسي ظلّي إن يكن
…
كبدي عنه يزول الكمد
فلأعطي كمدي من كبدي
…
حقّه حتّى يذوب الكبد
فالأسى آيست منه حيث ما
…
للأسى إلاّ لقاه موعد
هو نفسي كيف أسلو بعده
…
هل سلا حوباه قبلي أحد
هو من بيت رفيع في العلا
…
أبداً ما لعلاه أمد
سكنته عترة المجد التي
…
طاب منها في القديم المحتد
قد دهتها نكبة أحلمها
…
ظلَّ من دهشته يرتعد
ولعمري رزءُ آل المصطفى
…
ما خلا في الأرض منه بلد
تعس الدهر أهل مطروفةٌ
…
عينه أم قد عراها رمد
فرمى من حيث لا يبصر من
…
غرر الأيّام فيه تسعد
يا أبا المهدي إن ضلَّ الورى
…
عن سبيل الصبر أنت المرشد
فقبيحٌ إنْ أقلْ صبراً لمنْ
…
سنن الصبر إليه تسند
وعلى أطهر من ماء السما
…
منه أطراف حباه تعقد
لا دهاكم بعد هذا فادح
…
ما غدى في الأرض راس وتّد
وبقيتم سرمداً عيشكم
…
هو في عزّ علاكم رغد
تمّ بعون الله وتوفيقه الجزء الأوّل من كتاب "العقد المفصّل" تأليف الشاعر الكبير المفلق الشهير أبي الحسين السيّد حيدر بن السيّد سليمان الحسيني الحلّي ويليه الجزء الثاني أوّله الباب التاسع: حرف الذال.
@الجزء الثاني الحمد لله الذي جعل محمّداً حسن السجايا، وفضّله على جميع البرايا، وخصّه من بين العرب بغاية الفصاحة ونهاية الأدب.
وبعد؛ فهذا هو الجزء الثاني من الكتاب المرسوم ب "العقد المفصل" في قبيلة المجد المؤثل، وهو كسابقه في فصوله وأبوابه ونكات أغرابه وإعجابه، قد جمع من فنون النظم والنثر ما يزري بعقود الدر، وحوى من الإستحسانات البديعية والإستظرافات الأدبيّة والنوادر الغريبة والحكايات العجيبة ما يرتاج إليه أهل الأدب، وتسكن إليه نفوس ذوي الفضل، والله أسأل أن يقع منهم موقع الإعجاب والإطراب.
الباب التاسع في قافية الذال
وفيها فصل واحد وهو في الثناء
قلت فيه هذه المقطوعة:
قل لأبي الهادي الذي ما أخذت
…
بنوا الثنا من الثنا ما أخذا
لله في ثوب الزمان واحد
…
منك بغير المدح ما تلذّذا
سموت فانحطَّ سواك قائلاً
…
من طلب الرفعة فليسم كذا
يرقى ذرى العلياء من بحجرها
…
نشى وفي لبانها المحض اغتذى
ذوفكرة لم ترم في شاكلة
…
بسهمها إلاّ وفيها نفذا
وذولسان في الخصام لم يزل
…
أقطع من حدّ حسام شحذا
يسكت لكن بجواب حاضر
…
يترك أكباد الخصوم فلذا
فاردد أحاديث الصبا إن كنَّ لم
…
يروين عن شمائل منه الشذا
لا حبّذا إن لم يذعن نشره
…
وإن أذنَ نشره فحبّذا
كم قد أقام الدهر عن فريسة
…
من برثن الخطب لها منتقذا
يطرد شيطان العنا عن نفسه
…
من بسماح كفّه تعوّذا
حكى رجاء الوفد لولا جوده
…
يونس لمّا بالعراء نبذا
قولي: يسكت لكن بجواب حاضر الخ لا بأس أن أذكر في هذا المقام من الأجوبة المستحسنة والمسكتة نبذة ممتعة: قال السيّد المرتضى في الدرر: أخبرنا أبو عبد الله المرزباني قال: حدّثني عبد الواحد بن محمّد الخصيبي قال: حدّثني أبو علي أحمد بن إسماعيل قال: حدّثني أيّوب بن الحسين الهاشمي قال: قدم على الرشيد رجل من الأنصار وكان عريضاً يقال له نفيع، فحضر باب الرشيد يوماً ومعه عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، وحضر موسى بن جعفر عليهما السلام على حمار له فتلقّاه الحاجب بالبشر والإكرام وأعظمه من كان هناك وعجّل له الإذن، فقال نفيع لعبد العزيز: من هذا الشيخ؟ قال: أوما تعرفه؟ قال: لا، قال: هذا شيخ آل أبي طالب، هذا موسى بن جعفر عليهما السلام. فقال: ما رأيت أعجز من هؤلاء القوم يفعلون هذا برجل يقدر أن يزيلهم عن السرير، أمّا لئن خرج لأسوئنّه. فقال له عبد العزيز: لا تفعل فإنّ هؤلاء أهل بيت قلّما تعرّض لهم أحد في خطاب إلاّ وسموه في الجواب سمةً يبقى عارها عليه مدى الدهر.
قال: وخرج موسى بن جعفر عليهما السلام فقام إليه نفيع الأنصاري فأخذ بلجام حماره ثمّ قال له: من أنت؟ فقال: يا هذا إن كنت تريد النسب فأنا ابن محمّد حبيب الله بن إسماعيل ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله، وإن كنت تريد البلد فهو الذي فرض الله على المسلمين وعليك إن كنت منهم الحجّ إليه، وإن كنت تريد المفاخرة فوالله ما رضي مشركوا قومي مسلمي قومك أكفّاء لهم حتّى قالوا: يا محمّد أخرج إلينا أكفّائنا من قريش، وإن كنت تريد الصيب والإسم فنحن الذين أمر الله بالصلاة علينا في الصلوات الفرائض في قوله: اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد ونحن آل محمّد، خلّ عن الحمار، فخلّ عنه ويده ويده ترتعد وانصرف بخزي. فقال له عبد العزيز: ألم أقل لك.
وكان عقيل بن أبي طالب جيّد الجواب حاضره، قال له معاوية بن أبي سفيان يوماً: أنا خير لك من خيك. قال عقيل: إنّ أخي آثر دينه على دنياه وأنت آثرت دنياك على دينك، فأخي خير لنفسه منك وأنت خير لي منه.
وقال له يوماً: إنّ فيكم لشبقاً يا بني هاشم. فقال: هو فينا في الرجال وفيكم في النساء.
وقال معاوية يوماً: هذا عقيل عمّه أبو لهب. فقال عقيل: هذا معاوية عمّته حمّالة الحطب. وعمّة معاوية أُمّ جميل بنت جرب بن أُميّة وكانت امرأة أبي لهب.
وقال له يوماً: يا أبا يزيد - وكانت كنية عقيل - أين ترى عمّك أبا لهب؟ فقال عقيل: إذا دخلت النّار فانظر عن يسارك تجده مفترشاً عمّتك حمّالة الحطب، فانظر أيّهما أسوء حالاً الناكح أم المنكوح.
وقال له بصفّين: يا أبا يزيد! أنت معنا الليلة! قال: ويوم بدر كنت معكم.
ولمّا أتى معاوية نعي الحسن بن علي عليهما السلام بعث إلى ابن عبّاس وهو لا يعلم الخبر، فقال له: هل عندك خبر من المدينة؟ قال: لا، قال: أتانا نعي الحسن عليه السلام، وأظهر في قوله سروراً. فقال ابن عبّاس: إذن لا ينسىء الله في أجلك ولا يسدّ حفرتك. قال: أحسبه قد ترك صبيةً صغاراً؟ قال: كلّنا كان صغيراً فكبر. قال: وأحسبه قد كان بلغ سنّاً؟ قال: مثل مولده لا يجهل. قال معاوية: لو قال قائل إنّك أصبحت بعده سيّد قومك. قال: أمّا وأبو عبد الله الحسين عليه السلام حيّ فلا. فلمّا كان من غد أتى يزيد بن معاوية ابن عبّاس وهو في المسجد يعزّى، فجلس بين يديه جلسة المعزّي وأظهر حزناً وغمّاً، فلمّا انصرف أتبعه ابن عبّاس بصره وقال: إذا ذهب آل حرب ذهب حلم قريش.
وتزوّج عبد الله بن الزبير أُمَّ عمرو ابنة منظور الفزاريّة، فلمّا دخل بها قال لها تلك الليلة: أتدرين من معك في حجلتك؟ قالت: نعم عبد الله بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزّى. قال: ليس غير هذا؟ قالت: ماالذي تريد؟ قال: معك من أصبح في قريش بمنزلة الرأس من الجسد، لا بل بمنزلة العينين من الرأس. قالت: أما والله لو أنّ بعض بني عبد مناف حضرك لقال خلاف قولك. فغضب وقال: الطعام والشراب عَلَيّ حرام حتّى أحضرك الهاشميين وغيرهم من بني عبد مناف فلا يستطيعون لذلك إنكاراً. قالت: إن أطعتني لم تفعل وأنت أعلم وشأنك، فخرج إلى المسجد فرأى حلقةً فيها قوم من قريش منهم عبد الله بن عبّاس وعبد الله بن الحصين بن الحرث بن عبد مناف، فقال لهم ابن الزبير: أحبّ أن تنطلقوا معي إلى منزلي.
فقام القوم بأجمعهم حتّى وقفوا على باب بيته، فقال ابن الزبير: يا هذه! أطرحي عليك سترك، فلمّا أخذوا مجالسهم دعى بالمائدة، فتغذّى القوم، فلمّا فرغوا قال: إنّما جمعتكم لحديث ردّته عَلَيّ صاحبة الستر وزعمت أنّه لو كان بعض بني عبد مناف حضرني لما أقرّ لي بما قلت وقد حضرتم جميعاً، وأنت يا ابن عبّاس ما تقول؟ إنّي أخبرتها أنّ معها في خدرها من أصبح في قريش بمنزلة الرأس من الجسد لا بل بمنزلة العينين من الرأس، فردّت عَلَيّ مقالتي. فقال ابن عبّاس: أراك قصدت قصدي فإن شئت أن أقول قلت وإن شئت أن أكفّ كففت. قال: بل قل، وما عسى أن تقول، ألست تعلم أنّي ابن الزبير حواري رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإنّ أُمّي أسماء بنت أبي بكر الصدّيق ذات النطاقين، وإنّ عمّتي خديجة سيّدة نساء العالمين، وإنّ صفيّة عمّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلمجدّتي، وإنّ عائشة أُمّ المؤمنين خالتي، فهل تستطيع لهذا إنكاراً؟
قال ابن عبّاس: لقد ذكرت شرفاً شريفاً وفخراً فاخراً غير أنّك تفاخر من بفخره فخرت وبفضله سموت. قال: وكيف ذلك؟ قال: لأنّك لا تذكر مفخراً إلاّ برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا أولى بالفخر به منك. قال ابن الزبير: لو شئت لفخرت عليك بما كان قبل النبوّة. قال ابن عبّاس: قد أنصف القارة من راماها، نشدتكم بالله أيّها الحاضرون أعبد المطّلب أشرف أم خويلد في قريش؟ قالوا: عبد المطّلب. قال: أفهاشم كان أشرف فيها أم أسد؟ قالوا: بل هاشم. قال: أفعبد مناف كان أشرف أم عبد العزّى؟ قالوا: عبد مناف. فقال ابن عبّاس:
تنافرني يابن الزبير وقد قضى
…
عليك رسول الله لا قول هازل
ولو غيرنا يابن الزبير فخرته
…
ولكنّما ساميت شمس الأصائل
فقضى لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالفضل في قوله: ما افترقت فرقتان إلاّ كنت في خيرهما، فقد فارقناك من بعد قصي بن كلاب، أفنحن في فرقة الخير أم لا؟ فإن قلت نعم خصمت، وإن قلت لا كفرت. فضحك بعض القوم، فقال ابن الزبير: والله لولا تحرمك بطعامنا يابن عبّاس لأعرقت جبينك قبل أن تقوم من مجلسك. قال ابن عبّاس: ولِمَ؟ أبباطل فالبطال لا يغلب الحق؟ أم بحق فالحق لا يخشى من الباطل؟ فقالت المرأة من وراء الستر: إنّي والله لقد نهيته عن هذا المجلس فأبى إلاّ ما ترون. فقال ابن عبّاس: مه أيّتها الإمرأة أقنعي ببعلك فما أعظم الخطر وأكرم الخبر، فأخذ القوم بيد ابن عبّاس وكان قد عمي فقالوا: إنهض أيّها الرّجل فقد أفحمته غير مرّة، فنهض وهو يقول:
ألا يا قومنا ارتحلوا وسيروا
…
فلو ترك القطا لغفا وناما
فقال ابن الزبير: يا صاحب القطا أقبل عَلَيّ فما كنت لتدعني حتّى أقوم، وأيم الله لقد عرف الأقوام أنّي سابق غير مسبوق، وإنّ حواري وصديق متبجح في الشرف الأنيق خير من طليق. فقال ابن عبّاس: دسعت بجرتك فلم تبق شيئاً، هذا الكلام مردود من أمرء حسود، فإن كنت سابقاً فإلى من سبقت؟ وإن كنت فاخراً فبمن فخرت؟ فإن كنت أدركت هذا الفخر بأُسرتك دون أُسرتنا فالفخر لك علينا، وإن كنت إنّما أدركته بأُسرتنا فالفخر لنا عليك، والكثكث في فمك ويديك. وأمّا ما ذكرت من الطليق فوالله لقد ابتلي فصبر، وأنعم عليه فشكر، وإن كان والله لوفياً كريماً غير ناقض بيعةً بعد توكيها، ولا مُسلّم كتيبةً بعد التأمّر عليها. فقال ابن الزبير: أتعير الزبير بالجبن، والله إنّك لتعلم منه خلاف ذلك. قال ابن عبّاس: والله إنّي لا أعلم إلاّ أنّه فرّ وما كرّ، وحارب فما صبر، وبايع فما تمّم، وقطع الرحم وأنكر الفضل ورام ما ليس له بأهل.
وأدرك منها بعض ما كان يرتجي
…
وقصّر عن جري الكرام وبلدا
وما كان إلاّ كالهجين أمامه
…
عناق فجاراه العناق فأجهدا
فقال ابن الزبير: لم يبق يا بني هاشم غير المشاغبة والمضاربة. فقال عبد الله بن الحصين بن الحرث: أقمناه عنك يابن الزبير وتأبى إلاّ منازعته، والله لو نازعته من ساعتك إلى انقضاء عمرك ما كنت إلاّ كالسغب الظمآن يفتح فاه يستزيد من الريح فلا يشبع من سغب ولا يروى من عطش، فقل إن شئت أو فدع، وانصرف القوم.
قوله: دسعت بجرتك فلم تبق شيئاً، الجرّة بالكسر ما يخرجه البعير من جوفه عند الإجترار، يقال: دسع البعير بجرته، والدسع: إخراج الحرّة من الجوف.
وقوله: الكثكث في فمك ويديك، الكثكث والأثلب فتاة الحجارة في التراب، يخاطب بذلك الخائب.
وقوله: غير ناقض بيعة بعد توكيها ولا مُسلّم كتيبةً بعد التأمّر عليها، تلويح وتعريض بالزبير في نقضه لبيعة أمير المؤمنين وخروجه مع عائشة متأمّراً على كتيبتها يوم الجمل ثمّ أسلمها.
وذكر أبوالعبّاس المبرّد في كتاب الكامل ما يناسب هذا أنّ قتيبة بن مسلم لمّا فتح سمرقند أفضى إلى أثاث لم ير مثله، وآلات لم يسمع بمثلها، فأراد أن يرى الناس عظيم ما فتح الله عليهم، ويعرّفهم أقدار القوم الذين ظهر عليهم، فأمر بدار ففرشت وفي صحنها قدور يرتقى إليها بالسلاليم، فإذا بالحضين بن المنذر بن وعلة الرقاشي قد أقبل والنّاس جلوس على مراتبهم، والحضين شيخ كبير، فلمّا رآه عبد الله بن مسلم قال لأخيه قتيبة: أذِّنْ لي في معاتبته! قال: لا تردّه فإنّه خبيث الجواب، فأبى عبد الله إلاّ أن يأذن له، وكان عبد الله يضعف، وكان قد تسوّر حائطاً قبل ذلك إلى امرأة. فأقبل على الحضين فقال: أمن الباب دخلت يا أبا ساسان؟ قال: أجل، أسنَّ عمّك عن تسوّر الحيطان. قال: رأيت هذه القدور؟ قال: هي أعظم من أن لا تُرى. قال: ما أحسب بكر بن وائل رأى مثلها؟ قال: أجل، ولا عيلان، ولو رآها سمّي شبعان ولم يسمّ عيلان. فقال عبد الله: أتعرف يا أبا ساسان الّذي يقول:
عزلنا وأمرنا وبكر بن وائل
…
تجرّ خصاها تبتغي من تحالف
قال: أعرفه وأعرف الذي يقول:
فأدّى الغرم من نادى مشيراً
…
ومن كانت له أسرى كلاب
وخيبة من يخيب على غني
…
وباهلة بن يعصر والرباب
قال: أفتعرف الذي يقول:
كان فقاح الأزد حول ابن مسمع
…
إذا عرقت أفواه بكر بن وائل
قال: نعم أعرفه وأعرف الذي يقول:
قوم قتيبة أُمّهم وأبوهم
…
لولا قتيبة أصبحوا في مجهل
قال: أمّا الشعر فأراك ترويه، فهل تقرأ من القرآن شيئاً؟ قال: نعم، أقرأ الأكثر الأطيب (هَلْ أَتى عَلَى الإنسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئَاً مَذْكُوراً)، فأغضبه فقال: والله لقد بلغني أنّ امرأة الحضين حملت إليه وهي حبلى من غيره. قال: فما تحرّك الشيخ عن هيئته الأُولى بل قال على رسله: وما يكون تلد غلاماً على فراشي فيقال فلان بن الحضين كما يقال عبد الله بن مسلم. فأقبل قتيبة على عبد الله وقال له: لا يبعد الله غيرك.
ولمناسبة هذه القصّة لا بأس بذكر نبذة يسيرة من التعريضات والكنايات التي هي من الأجوبة المسكتة، فأقول: التعريض هو اللفظ الدالّ على الشيء من طريق المفهوم لا بالوضع الحقيقي ولا المجازي، وبهذا الحدّ يفرّق بينه وبين الكناية، فإنّ الكناية هي اللفظ الذي يتجاذبه جانبا حقيقة ومجاز، ومتى أفرد جاز حمله على الجانبين معاً، ألا ترى أنّ اللمس في قوله تعالى:(أو لامَسْتُمُ النِّساء) يجوز حمله على الحقيقة والمجاز، وكلّ منهما يصحّ به المعنى ولا يختل، فيجوز حمله على المعنى الحقيقي وهو اللمس المعلوم، وعلى المعنى المجازي وهو الجماع. والتعريض أخفى من الكناية، لأنّ دلالة الكناية وضعيّة وإنّما يسمّى التعريض تعريضاً لأنّه يفهم فيه المعنى من عرض اللفظ أي جانبه.
قال بعضهم: والكناية تشتمل على اللفظ المفرد واللفظ المركّب فتأتي على هذا مرّة وعلى هذا أخرى، وأمّا التعريض فإنّه يختصّ في اللفظ المركّب ولا يأتي في اللفظ المفرد ألبتة، لأنّه لا يفهم فيه المعنى من جهة الحقيقة ولا من جهة المجاز، بل من جهة التلويح والإشارة وهذا لا يستقل به اللفظ المفرد.
أقول: ولعلماء هذا الفن في الفرق بين التعريض والكناية وتحديدهما كلام طويل لا حاجة إلى ذكره.
ومن التعريضات اللطيفة ما روى أبوبكر بن دريد في كتاب الأمالي عن أبى حاتم عن العتبي عن ابيه أنّه عرض على معاوية فرس وعنده عبد الله بن الحكم بن أبي العاص، فقال: كيف ترى هذا الفرس يا أبا مطرف؟ قال: أراه أجشّ هزيماً. قال معاوية: لكنّه لا يطلع على الكنائن. قال: يا أمير المؤمنين! ما استوجبت هذا كلّه، قال: قد عوّضتك عنه عشرين ألفاً.
قال أبو بكر بن دريد: أراد عبد الرحمن التعريض بمعاوية بما قال النجاشي في أيّام صفّين:
ونجى ابن حرب سابح ذو غلالة
…
أجشّ هزيم والرماح دواني
إذا قلت أطراف الرماح تنوشه
…
مرته له الساقان والقدمان
وأراد معاوية بقوله: لا يطلع على الكنائن التعريض بعبد الرحمن أنّه كان يزني بنساء إخوته.
ومن لطيف التعريض ما ذكره عبد الله بن سوار قال: كنّا على مائدة إسحاق بن عيسى بن علي الهاشمي فأتينا بخزيرة - والخزيرة شبه عصيدة بلحم وبلا لحم عصيدة - فقال: إنّها قد عملت بالسكّر والسمن والدقيق. فقال المعدّ بن عيلان العبدي: يا حبّذا السخينة! ما أكلت أيّها الأمير سخينة ألذّ من هذه. فقال: إلاّ أنّها تولد الرياح في الجوف كثيراً. قال: ولا هكذا، إنّ المعائب لا تذكر على الخوان.
أراد المعدّ ما كانت العرب تعير به قريشاً في الجاهليّة من أكل السخينة، وأراد إسحاق بن عيسى ما تعير به عبد القيس من الفسو، قال الشاعر:
وعبد القيس مصفرٌّ لحاها
…
كأنّ فسائها قطع الضباب
قال المبرّد: وقد يسير البيت في واحد ويرى أثره عليه أبداً كقول أبي العتاهية في عبد الله بن معن بن زائدة:
فما تصنع بالسيف
…
إذا لم تك قتّالا
فكسّر حلية السيف
…
وصغها لك خلخالا
وكان عبد الله إذا تقلّد سيفاً ورأى من يرمقه بان أثره عليه فظهر الخجل منه.
ومثل ذلك ما يحكى أنّ جريراً قال: والله لقد قلت في بني ثعلب بيتاً لو طعنوا بالرماح بعدها في أستاهم لما حكوا، وذلك قولي:
والثعلبي إذا تنحنح للقرى
…
حكّ استه وتمثّل الأمثالا
وحكى أبو عبيدة عن يونس قال: قال عبد الملك بن مروان يوماً وعنده رجال: هل تعلمون أهل بيت قيل فيهم شعراً ودّوا أنّهم افتدوا منه بأموالهم؟ فقال أسماء بن خارجة الفزاري: نحن يا أمير المؤمنين. قال: وما هو؟ قال: قول الحارث بن ظالم المزني:
وما قومي بثعلبة ابن سعد
…
ولا بفزارة الشعر الرقابا
فوالله يا أمير المؤمنين! إنّي لألبس العمامة الصفيقة فيخيّل لي أنّ شعر قفاي قد بدا منها.
وقال هاني بن قبيصة النميري: ونحن يا أمير المؤمنين. قال: ما هو؟ قال: قال جرير:
إذا الله عادى أهل لوم وقلّة
…
فعادى بني العجلان رهط ابن مقتل
قبيلته لا يغدرون بذمّة
…
ولا يظلمون النّاس حبّة خردل
ولا يردون الماء إلاّ عشيّةً
…
إذا صدر الوارد عن كلّ منهل
وما سمّي العجلان إلاّ لقوله
…
خذا القعب واحلب أيّها العبد واعجل
فكان الرجل منهم إذا سُئل يقول: من بني كعب.
وكان عبد الملك بن عمير القاضي يقول: والله إنّ التنحنح والسعال يأخذاني وأنا في الخلا فأردّه حياءً من قول القائل:
إذا ذات دلّ كلّمته لحاجة
…
فهمَّ بأن يقضى تنحنح أوسل
ولا غرو فلقد كان البيت من الشعر يضع الشريف ويرفع الوضيع، كما وضع من بني نمير قول جرير:
فغضّ الطرف إنّك من نمير
…
فلا كعباً بلغت ولا كلابا
وكما رفع من بني أنف الناقة قول الحطيئة:
قوم هم الأنف والأذناب غيرهم
…
ومن يسوّي بأنف الناقة الذنبا
فأمّا قول جرير: فغضّ الطرف إنّك من نمير الخ فقد لقيت نمير من هذا البيت ما لقيت، وجعلهم الشاعر مثلاً فيمن وضعه الهجاء إذ قال وهو يهجو قوماً من العرب:
وسوف يزيدكم ضعةً هجاء
…
كما وضع الهجاء بني نمير
ونمير قبيل شريف وقد ثلم شرفهم هذا البيت.
ومن التعريضات اللطيفة أيضاً ما روي أنّ المفضّل بن محمّد الضبي بعث بأضحية هزبلة إلى شاعر، فلمّا لقيه سأله عنها فقال: كانت قليلة الدم، فضحك المفضّل وقال: مهلاً يا أبا فلان، أراد الشاعر قول القائل:
ولو ذبح الضبي بالسيف لم تجد
…
من اللؤم للضبي لحماً ولا دما
وكانت فزارة تعير بأكل جردان الحمار، لأنّ رجلاً منهم كان في سفر فجاع فاستطعم قوماً فدفعوا إليه جردان الحمار - والجردان بالضم قضيب الفرس وغيره، كذا في الصحاح - فشواه وأكله، فأكثرت الشعراء ذكرهم بذلك، قال الفرزدق:
جهّز إذا كنت مرتاداً ومنتجعا
…
إلى فزارة عيراً تحمل الكمرا
إنّ الفزاري لو يعمي فيطعمه
…
أير الحمار طبيب أبرأ البصر
وذكر أبو عبيدة أنّ إنساناً قال لأسماء بن خارجة الفزاري: إقض ديني أيّها الأمير فإنّ عَلَيّ ديناً. قال: مالك عندي إلاّ ما ضرب به الحمار بطنه. فقال عبيد بن أبي محجن: بارك الله لكم يا بني فزارة في أير الحمار؛ إن جعتم أكلتموه، وإن أصابكم غرم قضيتموه به.
ويحكى أنّ بني فزارة وبني هلال بن عامر بن صعصعة تنافروا إلى أنس بن مدرك الخثعمي وتراضوا به، فقالت بنوا هلال: يا بني فزارة أكلتم أير الحمار، فقالت بنوا فزارة: مدرتم الحوض بسلحكم، فقضى أنس لبني فزارة على بني هلال، فأخذ الفزاريّون منهم مائة بعير كانوا تخاطروا عليها. وفي مادر وهو الذي مدر الحوض بسلحه يقول الشاعر:
لقد جللت خزياً هلال ابن عامر
…
بني عامر طرّاً بسلحة مادر
فأُفٍّ لكم لا تذكروا الفخر بعدها
…
بني عامر أنتم شرار المعاشر
هذا آخر ما أردناه أن نذكره من التعريضات، ثمّ لنرجع إلى ما كنّا فيه من ذكر الأجوبة المسكتة.
يروى أنّ الفرزدق لقيه نبطي بيثرب فقال له: أنت الفرزدق؟ قال: نعم. قال: أنت الذي يخاف النّاس لسانك؟ قال: نعم. قال: فإذا هجوتني يموت فرسي؟ قال: لا. قال: فيموت ولدي؟ قال: لا. قال: فأموت أنا؟ قال: لا. قال: فأدخلني الله في حر أُمّ الفرزدق من رجلي إلى عنقي. فقال له: ولم تركت رأسك؟ قال: حتّى أرى ما تصنع الزانية.
ومرّ الفرزدق بزياد الأعجم وهو قائم ينشد، فقال له: تكلّمت يا أقلف؟ فقال له زياد: ما أسرع ما خبّرتك بها أُمّك. فقال الفرزدق: هذا وأبيك الجواب المسكت.
عن عوانة قال: جرى بين عروة بن الزبير وبين عبد الملك بن مروان كلام فأغلظ له عروة، وكان الحجّاج حاضراً فقال: يابن العميا! أتكلّم أمير المؤمنين بمثل هذا؟ فقال له: وما أنت وذاك يابن المتمنّية؟! فضحك عبد الملك وقال: قد كنت غنيّاً عن هذا. وإنّما اراد عروة أنّ أُمّ الحجّاج وهي الفارغة بنت همام قالت:
هل من سبيل إلى خمر فأشربها
…
أم هل سبيل إلى نصر ابن حجّاج
وكان نصر بن الحجّاج هذا من أجمل أهل المدينة.
وعن المدايني قال: جرى بين عبد الملك بن مروان وعمرو بن سعيد منازعة، فأغلظ له عمرو، فقال له خالد بن يزيد: يا عمرو! أمير المؤمنين لا يُكلَّم بمثل هذا! فقال له عمرو: أسكت فوالله لقد سلبوك ملكك ونكحوا أُمّك فما هذا النصح الموشّح بغش، أنت كما قال الشاعر:
كمرضعة أولاد أخرى وضيّعت
…
بينها فلم ترقع بذلك مرقعا
وهذا كما قيل:
كتاركة بيضها بالعراء
…
وملحفة بيض أخرى حناها
ودخل مالك بن هبيرة السلولي على معاوية فأدناه وأجلسه، وكان شيخاً كبيراً، فخدرت رجله فمدّها، فقال له معاوية: يا أبا سعيد! ليت لنا جارية لها مثل ساقيك! قال: متّصلان بمثل عجيزتك يا أمير المؤمنين، فخجل معاوية وقال: واحدة بواحدة والبادي أظلم.
وقال معاوية لصحار العبدي: يا أزرق! قال: الباز أزرق. قال: يا أحمر! قال: الذهب أحمر. قال: ما هذه البلاغة التي فيكم يا عبد القيس؟ قال: شيء يختلج في صدورنا فتقذفه ألسنتنا كما يقذف البحر الجوهر.
وقدم الحجّاج على عبد الملك بن مروان، فمرّ بخالد بن يزيد بن معاوية ومعه رجل من أهل الشام، فقال الشامي لخالد: من هذا؟ فقال الخالد كالمستهزىء: هذا عمرو بن العاص، فعدل إليه الحجّاج فقال: إنّي والله ما أنا بعمرو بن العاص ولا ولدت عمرواً ولا ولدني ولكنّي ابن الغطاريف من ثقيف، والعقائل من قريش، ولقد ضربت بسيفي هذا أكثر من مائة ألف كلّهم يشهد أنّك وأباك وجدّك من أهل النّار، ثمّ لم أجد عندك لذلك جزاءً ولا شكراً، وانصرف عنه وهو يقول: عمرو بن العاص، عمرو بن العاص.
وقال معاوية لعقيل بن أبي طالب: والله إنّ فيكم لخصلة يا بني هاشم لا تعجبني؟ قال: ما هي؟ قال: لين فيكم. فقال له عقيل: إيّانا تعير يا معاوية؟! أجل، والله إنّ فينا لليناً من غير ضعف، وعزّاً من غير جبريّة، وأمّا أنتم يا بني أُميّة فإنّ وفائكم غدر، وعزّكم كفر. فقال معاوية: ما أردنا كلّ هذا منك يا أبا يزيد.
وقال معاوية يوماً على المنبر: أيّها النّاس إنّ الله تعالى فضّل قريشاً بثلاث: فقال لنبيّه صلى الله عليه وآله وسلم: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتِكَ الأَقْرَبِين) ونحن عشيرته الأقربون، وقال:(وإنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) ونحن قومه، وقال:(لإيلافِ قُريش إيلافهم) ونحن قريش. فقال رجل من الأنصار: على رسلك يا معاوية فإنّ الله تعالى قال: (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الحقّ) وأنتم قومه، وقال:(ولمّا ضُرِبَ ابن مَرْيَمَ مَثَلاً إذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصدُّون) وأنتم قومه، وقال:(وقال الرَّسُولُ يا رَبِّ إنَّ قَوْمي اتَّخَذُوا هذا القُرْآنَ مَهْجُورا) وأنتم قومه، ثلاثة بثلاثة ولو زدتنا لزدناك، فأفحمه.
وقال قتيبة بن مسلم الباهلي لهبيرة بن مسروح: أيّ رجل أنت لو كانت أخوالك من غير سلول؟ فلو بادلت بهم، قال: أصلح الله الأمير! بادل بهم من شئت وجنّبني باهلة.
وقال جرير للفرزدق: يا أبا فراس! تحتمل مسألة؟ قال: نعم فسل عمّا بدا لك. قال: أيّما أحبّ إليك: أن يتقدّمك الخير أو تتقدّمه؟ قال: لا يتقدّمني ولا أتقدّمه بل نكون معاً، فاسمع مسألتي، قال جرير: هات، قال: أيّما أحبّ إليك: أن تدخل على امرأتك فتجد يدها على أير رجل أو تجد يد رجل على حرّها؟ فقال: قاتلك الله ما أقبلح لسانك.
وقيل: إنّ عمرو بن العاص رأى معاوية يضحك، فقال: ممّ تضحك يا أمير المؤمنين؟ قال: أضحك من حضور ذهنك عند إبدائك سوئتك يوم ابن أبي طالب، أما والله لقد وجدته كريماً ولو شاء لخرق رقعتك. فقال عمرو: أما والله إنّي لعن يمينك حين دعاك إلى البراز فأرعدت فرائصك ومال شقّك واحولّت عيناك وربا سحرك وبدا من أسفلك ما أكره ذكره لك، فمن نفسك فاضحك أو دع.
وقال بلال بن أبي بردة للهيثم بن الأسود في مجلس خالد بن عبد الله القسري: أنا ابن أحد الحكمين، فقال الهيثم: أمّا أحدهما ففاسق وأمّا الآخر فمائق، فأبن أيّهما أنت؟ ودخل عبيد الله بن ظبيان على عبد الملك بن مروان، فقال له عبد الملك: ما هذا الذي يقول الناس فيك؟ قال: وما يقولون يا أمير المؤمنين؟ قال: يقولون إنّك لا تشبه اباك! فقال: والله إنّي لأشبه به من الماء بالماء، ومن الغراب بالغراب، ولكن أدلّك على من لا يشبه أباه، قال: ومن هو؟ قال: من لم تنضجه الأرحام، ولم يولد لتمام، ولم يشبه الأخوال والأعمام. قال: ومن هو؟ قال: ابن عمّي سويد بن منجوف. وإنّما أراد عبد الملك وذلك أنّه ولد لسبعة أشهر.
قيل: لمّا ولي سليمان بن عبد الملك أُتي يزيد بن أبي مسلم مولى الحجّاج في جامعة وكان رجلاً ذميماً تقتحمه العين، فلمّا رآه سليمان قال: لعن الله من أجرّك رسنك وولي مثلك. فقال: يا أمير المؤمنين! رأيتني والأمر عنّي مدبر، ولو رأيتني وهو عَلَيّ مقبل لاستعظمت ما استصغرت، ولاستجللت ما استحقرت. فقال سليمان: أين ترى الحجاج: أيهوي في النّار أم قد استقرّ؟ فقال: يا أمير المؤمنين! لا تقل كذا فإنّ الحجّاج قمع لكم الأعداء، ووطأ لكم المنابر، وزرع لكم الهيبة في صدور النّاس، وبعد فإنّه يأتي يوم القيامة يمين أبيك عبد الملك، وشمال أخيك الوليد، فضعه حيث شئت.
وروي عن المأمون أنّه قال: ما أعياني جواب أحد قط مثل جواب ثلاثة أحدهم: أُمّ الفضل بن سهل فإنّي عزّيتها عن ابنها وقلت: لئن جزعت على الفضل لأنّه ولدك فها أنا ذا إبنك مكانه، فقالت: وكيف لا أجزع على من جعل لي مثلك ولداً. والثاني: رجل حضرته يزعم أنّه نبيّ الله موسى عليه السلام، فقلت له: إنّ الله تعالى أخبرنا عن موسى أنّه يدخل يده في جيبه فيخرجها بيضاء من غير سوء، فقال لي: متى فعل ذلك موسى، أليس بعد أن لقي فرعون؟ فاعمل كما فعل فرعون حتّى أعمل كما عمل موسى. والثالث: إنّ جماعة من أهل الكوفة اجتمعوا إليّ يشكون من عاملها، فقلت: إرضوا بواحد منكم أسمع منه، فرضوا برجل منهم، فقال لي في العامل وأكثر، فقلت: كذبت، بل هو العفيف الورع العدل، فذهب أصحابه يتكلّمون، فسكّتهم ثمّ قال: صدقت يا أمير المؤمنين هو كما ذكرت فواسِ بين رعيّتك في العدل، فصرفته عنهم.
وكتب رجل إلى صديق له يقترض شيئاً، فأجابه يشكو ضيق حاله، فكتب إليه: إن كنت كاذباً جعلك الله صادقاً، وإن كنت صادقاً جعلك الله كاذباً، وإن كنت معذوراً فجعلك الله ملوماً، وإن كنت ملوماً فجعلك الله معذوراً.
وفي مثل هذا قول الشاعر وقد أراد أن يقترض شيئاً من صديق له فلم يعطه فقال:
ولقد أتيت لصاحبي وسألته
…
في قرض دينار لأمر كانا
فأجابني والله داري ما حوت
…
عيناً فقلت له ولا إنسانا
وسمع الأحنف رجلاً يقول: ما أحلم معاوية، فقال: لو كان حليماً ما سفه الحق.
وكان أبوالعينا من أحضر الناس جواباً، وأجودهم بديهة، وأملحهم نادرةً، ولنذكر طرفاً من أخباره، وهي إن لم تكن كلّها من هذا النمط وإلاّ فغالبها: قيل لأبي العينا: ما أحسن الجواب؟ قال: ما أسكت المبطل وحيّر المحق.
وقال له المتوكّل يوماً: ما أشدّ عليك في ذهاب بصرك؟ فقال: فقد رؤيتك مع إجماع النّاس على جمالك.
وقال له يوماً: أُريدك لمجالستي! فقال: لا أُطيق ذاك وما أقول هذا جهلاً بما لي في هذا المجلس من الشرف ولكنّي رجل محجوب والمحجوب تختلف إشاراته ويخفى عليه إيماؤه ويجوز عَلَيّ أن أتكلّم بكلام غضبان ووجهك راض، وبكلام راض ووجهك غضبان، ومتى لم أُميّز بين هاتين هلكت، قال: صدقت.
وروي أنّه قال له يوماً: لولا أنّك ضرير لنادمتك! فقال له: إن أعفيتني عن رؤية الهلال وقرائة نقش الخواتيم فإنّي أصلح للمنادمة.
وقال له المتوكّل: ما تقول في ابن مكرم والعبّاس بن رستم؟ قال: هما الخمر والميسر فيهما إثم كبير ومنافع للنّاس وإثمهما أكبر من نفعهما. فقال: بلغني أنّك تودّهما! فقال: لقد ابتعت الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة.
وقال له يوماً: بلغني أنّ سعيد بن عبد الملك يضحك منك، فقال:(إنَّ الّذينَ أجْرَموا كانَ مِنَ الّذينَ آمَنُوا يَضْحكُون) .
وقيل لأبي العينا: إنّ إبراهيم بن نوح النصراني عليك عاتب، فقال:(وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ اليَهُودُ والنَّصارى حَتّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) .
ورآه زرقان وهو يضاحك نصرانيّاً، فقال:(يا أيُّهَا الّذينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اليَهُودَ والنَّصارى أولياء)، فقال أبوالعينا:(لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الّذينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ في الدّين) .
قال المرتضى: أخبرنا أبوالحسن علي بن محمّد الكاتب قال: أخبرني محمّد بن يحيى الصولي قال: أخبرنا أبوالعيناء قال: كان سبب اتّصالي بأحمد بن أبي دؤاد أنّ قوماً من أهل البصرة عادوني وادّعوا عَلَيّ دعاوي كثيرة منها أنّي رافضي، فاحتجبت إلى أن خرجت عن البصرة إلى سرّ من رأى فألقيت نفسي على ابن أبي دؤاد وكنت نازلاً في داره أُجالسه في كلّ يوم، وبلغ القوم خبري فشخصوا نحوي إلى سرّ من رأى، فقلت له: إنّ القوم قد قدموا من البصرة يداً عَلَيّ. فقال: (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ)، فقلت: إنّ لهم مَكْراً، فقال:(وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ واللهُ خَيْرُ الماكِرين)، فقلت له: كثيرون، فقال:(كَمْ مِنْ فِئَة قَليلة غَلَبَتْ فئةً كَثيرة بإذنِ الله) فقلت: لله درّك أيّها القاضي، فأنت والله كما قال الصموت الكلابي - أو - الكهلاني:
لله درّك أيّ جنّة خائف
…
ومتاع دنياً أنت للحدثان
متخمّط يطؤ الرّجال غلبةً
…
وطأ الفنيق دوارج القردان
ويكبّهم حتّى كأنّ رؤسهم
…
مأمومة تنحطّ للغربان
ويفرّج الباب الشديد رتاجه
…
حتّى يصير كأنّه بابان
فقال لابنه أبي الوليد: أُكتب هذه الأبيات، فكتبها بين يديه.
قال الصولي: حفظي عن أبي العينا الصموت الكلابي على أنّه رجل، وقال لي وكيع: حفظي أنّها الصموت الكلابيّة على أنّها امرأة.
ودخل أبوالعينا على الحسن بن سهل فأثنى عليه، فأمر له بعشرة آلاف درهم، فقال: والله ما أستكثر كثيرك أيّها الأمير، ولا أستقلّ قليلك. قال: وكيف ذاك؟ قال: لا أستكثر كثيرك لأنّك أكثر منه، ولا أتستقلّ قليلك لأنّه أكثر من كثير غيرك.
وقال له عبيد الله بن يحيى بن خاقان يوماً: أعذرني فإنّي عنك مشغول. فقال أبوالعينا: إذا فرغت لم أحتج إليك.
وقال له: قد تبيّنت فيك الغضب يا أبا عبد الله؟ فقال: قد أجلّ الله قدرك عن غضبي، إنّما يغضب الرجل على من هو دونه فأمّا على من هو فوقه فلا، ولكن أحزنني تقصيرك فسمّيت حزني عضباً.
ويقال: إنّ صاعد بن مخلد كان من أحسن من أسلم ديناً وأكثرهم صلاةً وصدقةً، فصار إلى بابه أبوالعيناء مرّات كثيرة بعقب إسلامه، فحجب وقيل: إنّه مشغول بصلاته. فقال أبوالعيناء: لكلّ جديدة لذّة.
ودخل أبوالعيناء على أبي الصقر يوماً فقال له: ما أخّرك عنّا يا أباالعيناء؟ قال: سرق حماري. قال: وكيف قد سرق؟ قال: لم أكن مع اللص فأخبرك. قال: فهلاّ أتيتنا على غيره؟ قال: قعد بي عن الشراء قلّة يساري، وكرهت ذلّة المكاري، ومنّة العواري.
وزحمه رجل بجسر بغداد على حمار فضرب بيده إلى أُذن الحمار وقال: يا فتى قل للحمار الذي فوقك يقول الطريق.
وقيل له: هل يلقى في دهرنا من يلقى في دهرنا من يلقى؟ قال: نعم في البئر.
ووقف عليه رجل من العامّة فقال: من هذا؟ قال: رجل من بني آدم. فقال أبوالعيناء: مرحباً بك أطال الله بقائك، ما كنت أظنّ هذا النسل إلاّ قد انقطع.
وقال له عبيد الله بن يحيى: كيف كنت بعدي يا أباالعيناء؟ قال: في أحوال مختلفة شرآها غيبت وخيرها أويتك.
ووعده ابن المدبّر بغلاً ولقيه بعد ذلك على حمار فقال له: كيف أصبحت يا أباالعينا؟ فقال: على حمار أعزّك الله. قال: العشيّة يجيئك البغل.
ومرّ بباب عبد الله بن منصور وكان قد اعتلّ ثمّ صلح فقال لغلامه: أيّ شيء خبره؟ قال: كا تحب، قال: فمالي لا أسمع الصراخ عليه.
وقال له ابن مكرم يوماً يعرض به: كم عدد المكذبين بالبصرة؟ قال: مثل عدد الباغين ببغداد.
سمع ابن مكرم رجلاً يقول: من ذهب بصره قلّت حيلته، فقال: ما أغفلك عن أبي العينا، ذهب بصره وعظمت حيلته.
وسمع ابن مكرم أباالعينا يقول في دعائه: يا رب سائلك، فقال: يابن الزانية ومن لست سائله.
وقال ابن مكرم يوماً: ما أحد أعقل من مغنيّة تأكل وتشرب وتتلذّذ وتأخذ الدراهم. قال أبوالعينا: فكيف عقل الوالدة؟ قال: هي أحمق من دغه.
وقيل له: كم تمدح الناس وتذمّهم؟ قال: ما أحسنوا وأساؤا.
وقال له المتوكّل يوماً: إنّي لأفرق من لسانك، فقال له: إنّ الشريف فروقة ذو أحجام، وإنّ اللئيم ذو أمنة وإقدام.
وقال له يوماً وقد دخل عليه: قد إشتقتك والله يا أباالعينا! فقال له: يا سيّدي إنّما يشتدّ على العبد لأنّه لا يصل إلى مولاه، فأمّا السيّد فمتى أراد عبده دعاه.
وروي أنّه قال له يوماً: ما بقي أحد في مجلسي إلاّ وقد اغتابك وذمّك عند ما جرى ذكرك غيري. فقال أبوالعينا:
إذا رضيت عنّي كرام عشيرتي
…
فلا زال غضباناً عَلَيّ لئامها
وذكر أبوالعينا قال: قال لي المتوكّل: كيف ترى داري هذه؟ فقلت: رأيت الناس بنوا دورهم في الدّنيا وأمير المؤمنين جعل الدّنيا في داره.
وقال أبوالعينا: قال لي المتوكّل: من أسخى من رأيت ومن أبخل من رأيت؟ فقلت: يا أمير المؤمنين! ما رأيت أسخى من أحمد بن أبي دؤاد، ولا أبخل من موسى بن عبد الملك. قال: وكيف وقفت على بخله؟ فقلت: رأيته يحرم القيب كما يحرم البعيد، ويعتذر عن الإحسان كما يعتذر من الإسائة. فقال: أجئت إلى من أطرحته فسخيته وإلى من أمسكته فبخّلته. فقلت: يا أمير المؤمنين! إنّ الصدق ما هو في موضع من المواضع أنفق منه بحضرتك والنّاس يغلطون فيمن ينسبونه إلى السخاء، فإذا نسب الناس السخاء إلى البرامكة فإنّما ذاك سخاء أمير المؤمنين الرشيد، وإذا نسب الناس الحسن بن سهل والفضل بن سهل إلى السخاء فإنّما ذاك سخاء المأمون، وإذا نسبوا أحمد بن أبي دؤاد إلى السخاء فذلك سخاء أمير المؤمنين المعتصم، وإذا نسبوا الفتح بن خاقان وعبيد الله بن يحيى إلى السخاء فإنّما هو سخاؤك، وإلاّ فما بال هؤلاء القوم لم يُنْسَبوا إلى السخاء قبل صحبتهم الخلفاء؟ فقال لي: صدقت، وسرى عنه.
روى أبوالعينا عن الشعبي قال: دخل الفرزدق إلى سعيد بن العاص وعنده الحطيئة، فلمّا مثل بين يديه قال:
إليك فررت منك ومن زيادِ
…
ولم أحسب دمي لكما حلالا
فإن يكن الهجاء أحلّ قتلي
…
فقد قلنا لشاعركم وقالا
ترى الغرّ الجحاجح من قريش
…
إذا ما الأمر في الحدثان عالا
قياماً ينظرون إلى سعيد
…
كأنّهم يرون به الهلال
فقال له الحطيئة: هذا والله أيّها الأمير الشعر لا ما كنّا نعلّل به منذ اليوم، يا غلام! أقدمت أُمّك إلى الحجاز؟ قال: لا ولكن قدمه أبي.