الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إن أكن مهدياً لك الشعر إنّي
…
لابن بيت تهدى له الأشعار
أخذ هذا المعنى الصاحب بن عباد أخذاً حسناً فقال مفتخراً:
إنّ خير المداح من مدحته
…
شعراء البلاد في كلّ نادي
وقال مهيار الديلمي في أبي الحسن محمّد بن علي بن المزرع وقد بلغ النهاية في الحسن:
وحبّذا بين بيوت أسد
…
بيت إذا ضلّ الضيوف هادي
أتلع طال كرماً ما حوله
…
تشرّف الربى على الوهاد
موضحة على ثلاثة ناره
…
إن سرقوا النيران في الرماد
بيت وسيع الباب مبلول الثرى
…
ممهّد المجلس رخص الزاد
إن قوّض البيوت أصل جائر
…
طنّب بالآباء والأجداد
ترفع من محمّد سجوفه
…
جوانب الظلماء عن زياد
فصل في كرمه وأخلاقه
أمّا كرمه: فإنّه ومنشىء البشر للكريم الذي صدق فيه المخبر والخبر، وشهد بجوده السمع والبصر، لا كمن كاصله أياديه، خبر يلفقه لسان راويه؛ قد حسن منظره وقبح مخبره.
إن يبلغنّك عن جود امرء خبر
…
فكذّب السمع حتّى يشهد البصر
ولا يغرّنّك من راقت ظواهره
…
فربّ دوح نظير ما له ثمر
كأنّما بعث في الجود وحده، مرسلاً لا نبيّ بعده، في زمن لا تندى صفاته، ولا تلين الإستعطاف حصاته، فلا يشار في صلة الأرحام والأواصر إلاّ إليه، ولا تنعقد الخناصر في تعداد الكرام إلاّ عليه، ويحقّ لي أن أُنشىء فيه:
توسّمت أبناء الزمان فشمتهم
…
وبعضهم في لؤمه مشبه بعضا
فبين ضنين بالعطا متوقّف
…
ولكنّه في المنع كالسيف بل أمضى
وبين شديد الحرص لو يبس كفّه
…
على الأرض يلقى لحظة أمحل الأرضا
فلم أر للمعروف أهلاً سوى امرء
…
يرى صلة الوفّاد يوم الندى فرضا
على أنّه إنّما يحسن إهداء الثناء إليه، مع غنائه عنه بما تثني ألسنة مكارمه عليه، من حيث أنّ المدح يذيع بنشره كما يذيع النسيم الغض بريا المسك على طيب نشره، كما قلت فيه - وفيه التضمين -:
محمّد الحسن استغنيت بالحسن
…
من مدح مجدك عمّا قيل في الزمن
فكارم العرب في تلك الجفان وقل
…
"هذي المكارم لا قعبان من لبن"
وفاخر الصيد في لبس الثناء وقل
…
"هذي المفاخر لا ثوبان من عدن"
والتضمين المذكور في شطرين من بيتين لبعضهم وهما:
هذي المكارم لا قعبان من لبن
…
شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
هذي المفاخر لا ثوبان من عدن
…
خيطا قميصاً فعادا بعد أسمالا
وممّا ورد في مدح الكرم وأربابه وذمّ البخل وأربابه: قال أميرالمؤمنين علي عليه السلام: الكريم لا يلين على قسر ولا يقسو على يسر.
وقال عليه السلام: من قبل عطائك فقد أعانك على الكرم، ولولا من يقبل الجود لم يكن من يجود.
وقال عليه السلام: من انتجعك مؤمّلاً فقد أسلفك حسن الظن.
وقال عليه السلام: أحبّ الناس إليك من كثرت عندك أياديه، فإن لم يكن فمن كثرت عنده أياديك.
وقال عليه السلام: الرغبة إلى الكريم تحرّكه على البذل، وإلى الخسيس تغريه بالمنع.
وقال الصادق جعفر بن محمّد عليه السلام: إنّ الحاجة لتعرض للرجل عندي فاُبادر بها خوفاً من أن يستغني عنها أو تأتيه وقد استبطاها فلا يكون لها عنده موقع.
وكانت أُمّ البنين تقول: أُفٍّ للبخل، لو كان ثوباً ما لبسته، ولو كان طريقاً ما سلكته.
وقال المأمون: لئن أخطىء باذلاً أحبّ إليّ من أن أُصيب مانعاً.
وقال محمّد بن السماك: أهنىء المعروف ما لا مطل في أوّله ولا مَنٌّ في آخره.
ومدح نصيب الشاعر عبد الله بن جعفر فأجزل عطيّته، فقيل له: تسنع بهذا العبد الأسود مثل هذا؟ فقال: إن كان أسود فإنّ ثناه أبيض بقق، وشكره عربي ذو رونق، ولقد استحقّ بما قال أكثر ممّا نال، وهل هي إلاّ رواحل تنضى وثياب تبلى وما يفنى، استعضنا عنه مديحاً يروى وثناء يبقى.
وكتب رجلاً من البخلاء إلى رجل من الأسخياء يأمره بالإبقاء على نفسه ويخوّفه الفقر، فردّ عليه:(الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بالفَحْشاء واللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً واللهُ واسِعٌ عَليمٌ) ، وأنا أكره أن أترك أمراً قد وقع لأمر لعلّه لا يقع.
وقيل لابن عبّاس: من سادة الناس؟ فقال: أمّا في الدنيا فالأسخياء، وأمّا في الآخرة فالأتقياء.
وسُئِل شعيب: ما الجود؟ فقال: أن لا يضن الرجل بما يملك عمّن هو لعطيّته أهل.
ومن أمثالهم: ألبخل يهدم مباني الكرم.
وقد ذمّ رجل رجلاً فقال: ما تبل إحدى يديه الاُخرى.
وقال آخر في البخيل: البخيل يملأ بطنه والجار جايع، ويحفظ ماله والعرض ضايع.
وقال معاوية لعمرو: ما السخاء يا أبا عبد الله عند العرب؟ قال: جهد المقل. ينظر فيه قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: جهد المقل أكثر من عفو المكثر.
وكان يقال: ما عزّة أثبت أركاناً ولا ألزم بنياناً من بثّ المكارم واكتساب المحامد.
ومن مختار قول الحكماء في الكرماء واللؤماء قولهم: الكرام في اللئام كالغرّة في جبهة الفرس.
ومن مختار قول الثعالبي في ذلك: الكريم إذا سُئل ارتاح، واللئيم إذا سُئل ارتاع. الكريم في مركز القلب، واللئيم في مزجر الكلب.
وقال في الكريم على حدّه: طلعة الكريم طلقة عند اللقاء ويده منطلقة بالعطاء.
وقال في اللئيم على حدّه: همّة البخيل هامدة ومنّته خامدة ويده جامدة، الإحسان إلى اللئيم أضيع من الرقم على بساط الهواء والخط على بسيط الماء.
وأحسن ما قيل في المبالغة بقلّة الكرام وكثرة اللئام قول الشيخ أبي تمام:
ولقد يكون ولا كريم نناله
…
حتّى نخوض إليه ألف لئيم
ومن الغايات قوله في المدح بالسخاء:
هو البحر أي النواحي أتيته
…
فلجته المعروف والجود ساحله
تعود بسط الكف حتّى لو أنّه
…
ثناها لقبض لم تطعه أنامله
ولو لم يكن في كفّه غير نفسه
…
لجاد بها فليتّق الله سائله
قوله: تعود بسط الكف الخ لحظه السيّد الرضي فقال متحمّساً:
أبر على الآمال فضلي ونائلي
…
وطال على الجوزاء قدري ومحتدي
ألفت يدي بذل النوال فلو نبت
…
عن الجود يوماً قلت ما هذه يدي
وممّا يبهي بحسنه قول أبي الحسن بن مرزويه مهيار:
تعطي حياءً مطرقاً ملثّماً
…
وقد وهبت مسنياً ومجزلا
ويسفر الناس على بخلهم
…
لأنّهم لا يعرفون الخجلا
وقال البحتري:
يعطي عطاء المحسن الخضل الندي
…
عفواً ويعتذر اعتذار المذنب
وقال أيضاً:
كاد ممتاحه لسابق جدواه
…
يكون الإصدار قبل وروده
وقال أيضاً:
دع المطي مناخات بأرحلها
…
لم ينض عنهنّ تصدير ولا حقب
فما تزيد على إلمامة خلس
…
بأحمد بن عليّ ثمّ تنقلب
وقال أيضاً:
أعطيتني حتّى حسبت جزيل ما
…
أعطيتنيه وديعةً لم توهب
فشبعت من بر لديك ونائل
…
ورويت من أهل لديك ومرحب
وقال أبو نصر عبد العزيز:
قد جدتني باللهى حتّى بها
…
وكدت من ضجري أثني على البخل
لم يبق جودك لي شيئاً أؤمّله
…
تركتني أصحاب الدنيا بلا أمل
وقال البحتري:
إنّي هجرتك إذ هجرتك وحشةً
…
لا العود يذهبها ولا الابداء
أحشمتني بندى يديك فسوّدت
…
مابيننا تلك اليد البيضاء
وقطعتني بالجود حتّى أنّني
…
متخوّف أن لا يكون لقاء
صلة غدت في الناس وهي قطيعة
…
عجباً وبر راح وهو جفاء
ومنه أخذ أبوالعلا المعرّي معنى قوله وزاد فيه التمثيل فقال:
لو اختصرتم من الإحسان زرتكم
…
والعذب يهجر للإفراط في الخصر
وفي هذا المعنى ما حكاه علي بن جبله المعروف بالعكوك قال: زرت أبا دلف بالجبل فكان يظهر من برّي وإكرامي والتحفي بي أمراً مفرطاً حتّى تأخّرت عنه حيناً، فبعث إليّ معقلاً فقال: يقول لك الأمير: قد انقطعت عنّي وأحسبك استقللت برّي فلا تغضب من ذلك فسأزيد فيه حتّى ترضى، فقلت: والله ما قطعني عنه إلاّ إفراطه في البرّ، وكتبت إليه:
هجرتك لم أهجرك من كفر نعمة
…
وهل يرتجى نيل الزيادة بالكفر
ولكنّني لمّا أتيتك زائراً
…
فأفرطت في برّي عجزت عن الشّكر
فملآن لا آتيك إلاّ مسلّماً
…
أزورك في الشهرين يوماً وفي الشهر
فإن زدتني برّاً تزايدت جفوةً
…
فلا نلتقي حتّى القيامة في الحشر
فلمّا وقف أبو دلف على الأبيات قال: قاتله الله ما أحسن شعره وأدقّ معانيه، وبعث إليّ بوصيف معه ألف دينار.
أقول: قوله: فملآن لا آتيك معناه فمن الآن، فحذف النون، وهذا الحذف شايع مستعمل عند مضايقة الكلام، قال ابن دريد في مقصورته:
من رام ما يعجز عنه طوقه
…
ملعبأ يوماً آض مهزول المطا
أي من العبأ.
وقال الشريف الرضي:
من أيّ الثنايا طالعتنا النوائب
…
مأي حمىً منّا رعته المصائب
أي من أيّ الثنايا والنظائر كثيرة.
رجعٌ إلى ما كنّا فيه من المدح بالسخاء: قال أبو عبادة البحتري:
بدت على البدو نعمىً منه سابغة
…
وقد تحضر أُخرى مثلها الحضر
لا يتعب النائل المبذول همّته
…
وكيف يتعب عين النّاظر النّظر
وقال أيضاً:
لا يستريح من الألفاظ منطقه
…
إلاّ إلى نعم تفتر عن نعم
وقال مهيار:
لهم دوحة خضراء رويّ أصلها
…
بماء الندى الجاري وطيب فرعاها
نمت كلّ مغرور عن المجد سنّه
…
يقول نعم في المهد أوّل ما فاها
وما أحلى قول البحتري في قصيدة:
إذا باكرته غاديات همومه
…
اراح عليها الراح حمراء كالورد
كأنّ سناها بالعشي لشربها
…
تبلج عيسى حين يلفظ بالوعد
له ضحكة عند النوال كأنّها
…
تباشير برق بعد بعد من العهد
كأنّ "نعم" في فيه حين يقولها
…
مجاجة مسك خيض في ذائب الشهد
وقال إسماعيل بن أحمد الشاشي:
ما قال لا قطّ مذ حلّت تمائمه
…
بخلاً بها فوجدنا الجود في البخل
ما ألطف هذا المعنى وأشرفه وهو يشبه قول أبي محمّد الخازن في مدح الصاحب ابن عباد:
نعم تجنب لا يوم العطاء كما
…
تجنّب ابن عطاء لثغة الراء
وهو من قول الفرزدق:
ما قال لا قط إلاّ في تشهّده
…
لولا التشهّد كانت لائه نعم
ومثله ما قيل في قثم بن العباس:
أعفيت من حل ومن رحلة
…
يا ناق إن أدنيتني من قثم
إنّك إن أدنيتنيه غداً
…
حالفني اليسر ومات العدم
في وجهه نور وفي باعه
…
طول وفي العرنين منه شمم
أصم عن قيل الخنا سمعه
…
وما عن الخير به من صمم
لم يدر "ما" لا و"بلى" قدري
…
فعافها واعتاض عنها نعم
ومثله قول بعضهم:
أبى جوده "لا" البخل واستعجلت به
…
"نعم" من فتىً لا يمنع الجود قائله
قال الزمخشري في أحاجيه: هذا البيت غامض ما رأيت أحداً فسّره.
وحكى يونس عن عمرو بن العلا أنّه جرّ البخل بإضافة لا إليه وأورده أبو علي بنصب البخل وزعم أنّه مفعول أبى وأنّ لا زائدة، وحكى ذلك عن أبي الحسن الأخفش. قال: وأمّا بقيّة البيت فلم يفسّره وهومشكل جدّاً.
أقول: ويترجّح في نظري ما فسّره به بعض القدماء قال في معناه أنّه مدح لكريم، أبى جوده أن ينطق بلا التي للبخل واستعجلت بجوده نعم أي سبقت نعم لا صادرة من فتىً لا يمنع. والهاء في قائله تعود على نعم أي قائل نعم لا يممنع الجود، وهذا أليق التفاسير على كثرتها.
ومن ذلك ما قاله الوليد في معاوية يهجوه وقد عكس فيه المعنى المتقدم:
فإذا سُئلت تقول لا
…
وإذا سألت تقول هات
تأبى فعال الخير لا
…
تسقي وأنت على الفرات
أفلا تميل إلى نعم
…
أو ترك لا حتّى الممات
وقال آخر في المدح:
بدأت بمعروف وثنّيت بالرضا
…
وثلّثت بالحسنى وربّعت بالكرم
وباشرت أمري واعتنيت بحاجتي
…
وأخّرت لا عنّي وقدّمت لي نعم
وصدّقت لي ظنّي وأنجزت موعدي
…
وطبت به نفساً ولم تتبع الندم
فإن نحن وافينا بشكر فواجب
…
وإن نحن قصّرنا فما الودّ متّهم
وأمّا أخلاقه: فأقول أنّه قد تحلّى بطباع شفافه، وأخلاق أرقّ من السلافه، لا تحمل قذى الواشين لصفائها، ولا تروى عن ابنة العنقود سورة صهبائها، تزيّنها شيم الطف من روضة باكرها الطل، وأطيب من شيحة تتحدّث عن أريجها النسائم.
خلق شف فالنسيم كثيف
…
عنده إن قرنت فيه النسيما
لأخي شيمة تعلم منها
…
الغيث إذ يستهلّ أن لا يريما
قد حواها عن معشر أورثوها
…
منه من كان مثلهم مستقيما
فهي في اللطف أوّلاً وأخيراً
…
شرع تفضل العرار شميما
فكأنّ القديم كان حديثاً
…
وكأنّ الحديث كان قديما
قال علي عليه السلام: ربّ عزيز أذلّه خرقه، وذليل أعزّه خلقه.
وقال عليه السلام: من لم تصلح خلائقه لم ينفع الناس تأديبه.
وكان يقال: ألق صاحب الحاجة بالبشر فإن عدمت شكره لم تعدم عذره.
ووصف أعرابي رجلاً بحسن البشر فقال: لا تراه الدهر إلاّ كأنّه لا غنى به عنك فإذا أذنبت غفر وكأنّه المذنب، وإن أحسن اعتذر وكأنّه المسيء.
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنّكم لن تسعوا الناس بأموالكم فليسعهم منكم بسط الوجوه وحسن الأخلاق.
أقول: وحسبك مدحاً لحسن الخلق قوله تعالى لنبيّه: (إنَّكَ لَعَلى خُلُق عَظِيم) .
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: مكارم الأخلاق عشرة تكون في الرجل ولا تكون في ابنه، وتكون في الإبن ولا تكون في أبيه، وتكون في العبد ولا تكون في سيّده. قيل: وما هنّ يا رسول الله؟ قال: صدق الحديث، وأداء الأمانة، وصدق البأس، وإعطاء السائل، والمكافات بالصنايع، وصلة الرحم، والتذمّم للجار والصاحب، والحلم في القدرة، والمواساة في الشدّة، وقرى الضيف، ورأسهنّ الحياء.
وقال عصام بن المصطلق: دخلت المدينة فرأيت الحسن بن علي بن أبي طالب عليهما السلام فأعجبني سمته وروائه فأثار منّي الحسد ما كان يجنّه صدري من البغض لأبيه، فقلت له: أنت ابن علي بن أبي طالب؟ فقال: نعم، فبالغت في شتمه وشتم أبيه، فنظر إليّ نظرة عاطف رؤف، ثمّ قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم (خُذِ العَفْوَ وأْمُرْ بِالمَعْرُوفِ وأَعْرِضْ عَنِ الجاهِلِينَ، وَإمَّا يَنْزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ باللهِ إنَّهُ سَميعٌ عليم، إنَّ الَّذينَ اتَّقَوا إذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فإذا هُمْ مُبْصِرُون) ثمّ قال لي: خفّض عليك، أستغفر الله لي ولك، إنّك لو استعنتنا أعنّاك، ولو استرفدتنا رفدناك، ولو استرشدتنا أرشدناك. قال عصام: فتوسّم في الندم على ما فرط منّي، فقال:(لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اليَوْم يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِين)، أمن أهل الشام أنت؟ قلت: نعم، فقال: شنشنة أعرفها من أخزم، حيّاك الله وبيّاك، انبسط إلينا في حوائجك وما يعرض لك تجد عندنا أفضل ظنّك إنشاء الله. قال عصام: فضاقت عَلَيّ الأرض بما رحبت ووددت لو ساخت بي ثمّ تسلّلت منه لواذاً وما على وجه الأرض أحد أحبّ إليّ منه ومن أبيه.
أقول: أمّا قوله: شنشنة أعرفها من أخزم فهو مثل قائله أبو أخزم الطائي جدّ حاتم الطائي أو جدّ جدّه على ما قيل، ويقال: إنّ ابنه أخزم مات وترك بنين فوثبوا على جدّهم فأدموه، فقال:
إنّ بَنِيَّ رمّلوني بالدم
…
من يلق آساد الرجل يكلّم
ومن يكن ذا أود يقوم
…
شنشنة أعرفها من أخزم
والشنشنة السجيّة والطبيعة. وفي بعض النسخ: ومن يكن درء به يقوم، والدرء الميل والإعوجاج في القنات.
وعلى ذكر عقوق الأولاد: حدّث المدائني قال: كان جرير بن عطيّة الخطفي الشاعر المشهور من أعقّ الناس بأبيه، وكان ابنه بلالاً أعقّ الناس به، فراجع جرير بلالاً في الكلام فقال له بلال: الكاذب منّي ومنك من ناك أُمّه، فأقبلت عليه أُمّه وقالت: يا عدوّ الله تقول هذا لأبيك؟! فقال لها جرير: دعيه فوالله لكأنّي أسمعها وأنا أقولها لأبي.
ونظير ذلك ما حكي عن يونس بن عبد الله الخيّاط أنّه مرّ برجل وهو يعصر حلق أبيه وكان عاقّاً به، فقال له: ويحك أتفعل هذا بأبيك، وخلّصه من يده، ثمّ أقبل على الأب يعزّيه ويسكّن منه، فقال له الأب: يا أخي لا تلمه واعلم أنّه ابني حقّاً، والله لقد خنقت أبي في هذا الموضع الذي خنقني فيه، فانصرف الرجل وهو يضحك.
وما أحسن قول أُم ثواب في ابن لها وقد عقّها:
ربّيته وهو مثل الفرخ أطعمه
…
أم الطعام ترى في جلده الزغبا
حتّى إذا آض كالفحال شذّ به
…
أباره ونفى عن متنه الكربا
أمسى يخرق أثوابي يؤدّبني
…
أبعد شيبي يبغي عندي الأدبا
قالت له عرسه يوماً لتسمعني
…
مهلاً فإنّ لنا في أُمّنا إربا
ولو رأتني في نار مسعرةً
…
ثمّ استطاعت لألقت فوقها حطبا