المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ترجمة المؤلف بقلم الأستاذ إبراهيم الوزير - العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم - جـ ١

[ابن الوزير]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الأول

- ‌ترجمة المؤلف بقلم الأستاذ إبراهيم الوزير

- ‌المسلك الأوَّل: الدعاءُ إلى الحق بالحِكمة البُرْهانية، والأدلة القطعية

- ‌المسلك الثاني: الجدلية:

- ‌المَسْلك الثالث: الخطابية

- ‌المسلك الرابع: الوعظية، وهي نوعان:

- ‌الثاني: أنَّ كونَهم جماعة، يُقَوِّيهِ

- ‌الثالث: أنَّ كتب الأئمةِ والأصوليين وأهل العدل متضمنةٌ للاحتجاج به

- ‌الفائدة الثانية: في بيان ألفاظِ العلماء، ونصوصهم الدالة على ما قلنا

- ‌أحدها: أن الكتابَ معلومٌ بالضرورة

- ‌ثانيها: أن أهلَ الكذب والتحريف قد يئسُوا من الكذب في هذه الكتب المسموعة

- ‌ثالثها: أن النُّسَخ المختلفة كالرواة المختلفين، واتفاقُها يدل على صحة ما فيها

- ‌ والدليلُ على ما ذكرنا الأثَرُ والنَّظَرُ، أما الأثر

- ‌الأثرُ الثَّالِثُ: قصةُ الرجل الذي قَتَلَ تسعة وتسعين

- ‌النَّظر الأول: أن الظاهِرَ من حملة العلم أنهم مقيمون لأركان الإسلام الخمسة، مجتنُبون للكبائر

- ‌النظرُ الثاني: أن الأمة أجمعت على الصلاة على مَنْ هذه صفتُه

- ‌إحداهُما: أن كثيراً من الأخبار والشرائع مبناها على الظَّنِّ

- ‌ثالثها: إذا رأى في كتابه بخطه، وظن أنه سمعه، غير أنه لا يتيقن

- ‌الثاني: أن الصحابة أجمعت على ذلك

- ‌الاستدلالُ بالإجماع على تقليد الموتى لا يصح بوجهين:

- ‌أحدهما: معرفة أنها غيرُ منسوخةٍ ولا مخصَّصَةٍ ولا معارَضة

- ‌ الثاني عشر: أن بطلانَ الاجتهادِ لا يجوزُ أن يثبت بالضَّرورة العقلية ولا الشرعية ولا بالدِّلالة العقلية

- ‌المسألة الأولى: أن يكونَ حالُ أولئك الذين ذكرهم مجهولةً فقط دون سائرِ أهلِ العلم

- ‌إحداهما: ردُّ المرسل، والثانية: الجرحُ بالتأويل

- ‌الجواب على ما ذكره السَّيِّد من وجوه:

- ‌الأول: أن كتب الجرحِ والتعديل مثلُ سائرِ المصنَّفات

- ‌الثاني: أن معرفة كتبِ الجرح والتعديل غيُر مشترطة في الاجتهاد عند جماهير العِترة و

- ‌ثانيها، أنه إمَّا أن يترجَّحَ صدقه على كذبه، أو لا

- ‌ثالثها: أن رَدَّ قَولِه تُهمة له بالكذب والخيانة

- ‌رابعها: أن الله -تعالى- إنما شرط في الشاهد أن يكون ذا عدلٍ

- ‌الوجه الأوَّلُ: أن القارىء فيها أن كان ممن يرى رأيَهم

- ‌ثانيهما: روايته أن الفقهاء ذهبوا إلى ما ذهب إليه المحدثون

- ‌الأثرُ السادسُ: حديثُ الجارية السَّوداءِ

- ‌ الكلام في فصلين في هذه المسألة:

- ‌الفصل الأول: في بيان ظهور ما استغربه السَّيِّد

- ‌المسألة الثانية: قبولُ الأعراب

- ‌ ثلاثُ حُجج احتج بها السَّيِّد على بُطْلانِ كثير من أخبار الصحاح

- ‌الوجه الثاني: أنَّا قد ذكرنا أنَّ كل مسلم ممن عاصر النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم ممن لا يُعْلَمُ جرحُهُ، فإنَّه عدلٌ

- ‌الوجه الثالث: لو قدرنا أنَّ هذا مما يجرح به، لكان مما يحتمل النظر والاختلاف

- ‌الوجه الثالث: أنَّ قوله: {لا يعقِلون} ليس على ظاهره لِوجهين:

- ‌أحدهُما: أنهم مكلفون، وشرط التكليف العقلُ

- ‌الثاني: أنَّه -سبحانه- أجلُّ من أن يَذُمَّ ما لا يَعْقِلُ

- ‌الوجه الخامسُ: سلَّمنا أنه جرح فيهم، فنحن نترُكُ حديثَهُم، فأين تعذُّرُ الاجتهادِ وتعسُّره إذا تركنا حديثَ بني تميم

- ‌الوجهُ السادِسُ: أنَّ هذا يُودِّي إلى جرح بني تميم كُلِّهم

- ‌الأول: أنّ إسلامهم يقتضي قبولَ حديثهم ما داموا مسلمين

- ‌الثاني: إمَّا أن يكون السَّيِّد أنكر قبولَهم، لأن من أسلم لا يُقْبَلُ حتى يُختبر، أو لأنهم ارتدُّوا بعد الإسلام

- ‌الثالث: سلمنا أنَّ وفد عبدِ القيس مجاهيل ومجاريح فما للاجتهادِ، والتعذُّر أو التَعَسُّرِ

- ‌الأول: أنه لا معنى للتقليد في التفسير على أصل السَّيِّد

- ‌الثاني: أنّه قد قال: إن اتِّصال الرواية لهم على وجه الصِّحةِ صعبٌ أو متعذِّر

- ‌السؤال الثاني: أنَّ هذا تشكيك على أهل الإسلامِ في الرجوع إلى كتاب ربِّهم

- ‌أحدها: ما السببُ في قطع السَّيِّد بتعذُّرِ الطريق إلى الرواية ها هنا وكان متردداً فيما تقدَّم

- ‌ثالثها: أنَّ الأمة أجمعت على أنَّه لا يجب الإسناد في علم اللغة

- ‌أحدهما: أنَّ الدَّوْرَ محالٌ عند جميع العقلاء

- ‌الوجه الثاني: أنَّ الدَّورَ غيرُ لازمٍ من ذلك

- ‌أحدهما: أنَّ كلامَنا فيمن عَرفَ اللغة، واحتاج إلى ما عداها، فلا يَصِحُّ أن يُجْعَلَ العارفُ للشيء محتاجاً إلى معرفته غيرَ متمكِّنٍ منها

- ‌أحدها: مناقضته الكلامَ القاضيَ بعدمِ المجتهدين

- ‌ثانيها: أنَّ هذه المسألة من مسائل الخلاف الظَّنِّية

- ‌ جواز الوهم على الراوي في تأديته للفظ الحديث النبوي، والدليل على ذلك وجهان:

- ‌الوجه الثاني: أنَّ الجماهير من العلماء قد أجازوا الرواية بالمعنى

- ‌إحداهما: في ذكر مَنْ نصَّ من العلماء على أنَّ ذلك لا يجب

- ‌الحجة الرابعة: ما قَدَّمنا ذكرَه مِن دعوى المنصور بالله

- ‌الحجة الخامسة: أن الصحابة أجمعت أنَّه لا يجب حفظُ النَّصِّ على المجتهد

- ‌أحدهما: أنَّ محفوظ الواحد منهم كان لا يكفيه في الاجتهاد

- ‌أحدهما: أنَّ مثل ذلك معلوم من أحوال البشر

- ‌ثانيهما: أنَّه قد ثبت عنهم ذلك

- ‌الحجة الثامنة: أنَّ الجماهير قد أجازوا روايةَ لفظ النبي صلى الله عليه وسلم بالمعنى

الفصل: ‌ترجمة المؤلف بقلم الأستاذ إبراهيم الوزير

‌ترجمة المؤلف بقلم الأستاذ إبراهيم الوزير

المجدّد الإسلامي، المصلح المجتهد المطلق، الحجّة الإمام

محمد بن إبراهيم الوزير

(775 - 840 هـ)

" تبَحَّرَ في جميع العلوم، وفاق الأقرانَ، واشتهر صيتُه، وبَعُدَ ذِكْرُه، وطار عِلْمُه في الأقطار.

لو قُلْتُ: إنَّ اليمنَ لم تُنْجبْ مثله لا أبعد عن الصواب وفي هذا الوصف ما لا يحتاج معه إلى غيره

"

الإمام: محمد بن علي الشوكاني.

نسبه:

هو الإمامُ المجتهد المطلَق، المفَسِّرُ الحافِظُ، المُحَدِّثُ العلامة المُتْقِنُ الأصوليُّ الفقيه المُتَكَلِّمُ الحُجَّةُ، " محمد بن إبراهيم بن علي بن المرتَضى، بن المفضَّل، بن منصور، بن محمد العفيف، بن المفضَّل، ابن الحجاج، بن علي بن يحيى، بن القاسم، بن يوسف، بن يحيى المنصور، بن أحمد الناصر، بن يحيى، بن الحُسين بن القاسم، بن إبراهيم، بن إسماعيل، بن إبراهيم، بن الحسن، بن الحسن السِّبْط، ابن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب " اشتهر بابن الوزير " اليمني " الصنعاني.

ص: 101

مولده .. ووفاته:

وُلِدَ في شهر رجب عام 775 هـ " بهجر الظهراوين من شظب " وتوفي في 27 محرم عام 840 هـ عن 65 عاماً.

أساتذته:

في اللغة العربية: الهادي بنُ إبراهيم الوزير، ومحمدُ بنُ حمزة بن مظفر.

في علم الكلام: عليُّ بنُ عبد الله بن أبي الخير اليمني.

في علم أصولِ الفقه: عليُّ بن محمد بن أبي القاسم.

في علم التفسيرِ: عليُّ بنُ محمد بن أبي القاسم.

في علم الفروع: عبدُ اللهِ بن حسن الدواري وغيره من مشايخ صعدة.

في علم الحديث: عليُّ بنُ عبد الله بن ظهيرة بمكة المكرمة وفي غيرها نفيس الدين العلوي، ومن شيوخه: الناصرُ بنُ الإمام المطهر الحسني، ودرس على جماعة عدة.

تلامذته:

وقد تلمذ له الكثيرون مِن العلماء، وتسابقوا على ورود مَشْرَعِهِ الصافي، والمَوْرِدُ العذبُ كثيرُ الزِّحام، ونذكر من مشهوري تلاميذه:

محمدُ بن عبد الله بن الهادي الوزير، والإمام الناصر صلاح الدين محمد بن علي بن محمد، وعبدَ الله بن محمد بن المُطَهّر، وعبدَ الله بن محمد بن سليمان الحمزي.

ص: 102

مؤلفاته:

1 -

العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم، وهو أعظم كتبه، وأفضلها، تقوم بنشره دار البشير لأول مرة.

2 -

البرهان القاطع في إثبات الصانع وجميع ما جاءت به الشرائع .. مطبوع

3 -

التأديب الملكوتي .. مخطوط

4 -

التحفة الصفية في شرح الأبيات الصوفية .. مخطوط

5 -

الأمر بالعزلة في آخر الزمان .. مخطوط

6 -

إيثار الحق على الخلق .. مطبوع

7 -

ترجيح أساليب القرآن على أساليب اليونان .. مطبوع

8 -

تنقيح الأنظار في علوم الآثار .. مطبوع

9 -

الحسام المشهور .. مخطوط

10 -

واضحة المناهج وفاضحة الفوالج .. مخطوط

11 -

حصر آيات الأحكام الشرعية .. مخطوط

12 -

الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم .. مطبوع

13 -

قبول البُشرى بالتيسير لليُسرى .. مخطوط

14 -

القواعد .. مخطوط

15 -

مجمع الحقائق والرقائق في ممادح رب الخلائق .. طبع مختارات منه

16 -

نصر الأعيان .. طبع مختارات منه

17 -

التفسير النبوي .. مخطوط

ثناء العلماء عليه:

ترجم له الإمام الشوكاني، والسخاوي، والحافظ ابن حجر

ص: 103

العسقلاني، وصاحب مطالع البدور، والوجيه العطاب اليمني، والشريف الفاسي المالكي في كتابه " العقد الثمين ".

يقول عنه الشوكاني: " هو الإمامُ الكبيرُ، المجتهد المطلق، المعروف بابن الوزير .. قرأ على أكابرِ مشايخ "صنعاء"، "وصعدة"، وسائر المدن اليمنية و"مكة"، وتبحر في جميع العلوم، وفاق الأقرانَ، واشتهر صيتُه، وبَعُدَ ذكرُه، وطار علمُه في الأقطار " ..

ويصل الشوكاني إلى تلخيص رأيه فيه، فيقول:

" والحاصل أنه رجل عرفه الأكابرُ، وَجَهِلَه الأصاغرُ، وليس ذلك مختصاً بعصره، بل هو كايْن فيما بعدَه مِن العصور إلى عصرنا هذا، ولو قلتُ: إن اليمن لم تُنجِبْ مثلَه، لم أُبْعِدْ عن الصواب، وفي هذا الوصف ما لا يحتاح معه إلى غيره ".

وقال صاحب " مطالع البدور": " ترجم له الطوائفُ، وأقر له الموالف والمخالف ".

مكانته العلمية:

يقول عنه الشوكاني: " إن صاحب الترجمة لما ارتحل إلى " مكة "، وقرأ علمَ الحديث على شيخه " ابن ظهيرة " قال له: أي ابن ظهيرة:

" ما أحسن يا مولانا لو انتسبت إلى الإمام الشافعي، أو أبي حنيفة.

فَغضِبَ " ابنُ الوزير " وقال: " لو احتجتُ إلى هذه النسب، أو التقليدات ما اخترتُ غيرَ الإمام القاسم بن إبراهيم، أو حفيده الهادي ".

ثم قال الشوكاني: "إنه ممن يَقْصُرُ القلمُ عن التعريف بحاله وكيف

ص: 104

يُمْكِنُ شرحُ حال من يُزاحم أئمة المذاهب الأربعة فمن بعدهم من الأئمة المجتهدين في اجتهاداتهم .. ويُضايق أئمة الأشعرية والمعتزلة في مقالاتهم، ويتكلَّم في الحديث بكلام أئمته المعتبرين مع إحاطته بحفظ غالب المتون، ومعرفة رجال الأسانيد شخصاً وحالاً، وزماناً ومكاناً .. وتبحره في جميع العلوم العقلية والنقلية على حد يَقْصُرُ عنه الوصفُ. ومن رام أن يَعْرِفَ حاله ومقدارَ علمه، فعليه بمطالعة مصنفاتِه، فإنها شاهد عدلٍ على علو طبقته، فإنه يسْرُدُ في المسألة الواحدةِ من الوجوه ما يبهر لُبِّ مطالِعه، وُيعَرِّفه بقصر باعه بالنسبة إلى علم هذا " الإمام " كما يفعله " في العواصم والقواصم "، فإنه يورد كلامَ شيخه السيد العلامة علي بن محمد بن أبي القاسم في رسالته التي اعترض بها عليه، ثم ينسفه نسفاً بإيراد ما يُزيفه به من الحجج الكثيرة التي لا يجد العالمُ الكبيرُ في قوته استخراج البعض منها، وهو في أربعة مجلدات يشتمِلُ على فوائد في أنواعٍ من العلوم لا توجد في شيء من الكتب. ولو خرج هذا الكتاب إلى غير الديار اليمنية لكان من مفاخر اليمن وأهله ولكن أبى ذلك لهم ما جبلوا عليه من غمط محاسن بعضهم لبعض ودفن مناقب أفاضلهم" ..

وقال عن مكانته العلمية أيضاًً: " إنه إذا تكلَّم في مسألة لا يحتاج بعدَه الناظر إلى النظر في غيره من أي علم كان " ..

نثره وشعره:

يقول الإمام الشوكاني عنه: " كلامه لا يُشبه كلامَ أهلِ عصره ولا كلام مَنْ بعده، بل هو من نمط كلامِ ابن حزم، وابن تيمية، وقد يأتي في كثير من المباحث بفوائدَ لم يأت بها غيرُه كائناً مَنْ كان ".

ص: 105

وديوان شعره مجلد، وشعره غالبه في التوسلات والرقائق، وتقييد الشوارد العلمية والمجاوبة لمن امتحن به من أهل عصره، فإن له معهم قلاقلَ وزلازلَ، وكانوا يثورون عليه ثورةً بعدَ ثورة، وينظمون في الاعتراض عليه القصائدَ، وأفضى ذلك إلى أن اعترض عليه شيخُه المتقدم ذكرُه برسالة مستقلَّةٍ فأجابه بما تقدم، " فكان يُجاوبهم ويصاولُهم، ويُحاولهم فيقهرهم بالحجة، ولم يكن في زمنه مَنْ يقوم له لِكونه في طبقة ليس فيها أحدُ من شيوخه فضلاً عن معارضيه .. والذي يغلب على الظن أن شيوخَه لو جُمِعُوا جميعاً في ذاتٍ واحدة لم يبلغ علمهم إلى مقدار علمه، وناهيك بهذا " ..

صور من نثره:

قال يصف الرسولَ والرسالة في مقدمة كتابه " الروض الباسم ":

" أما بعد، فإن الله لما اختار محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رسولاً أميناً، ومعلماً مبيناً، واختار له ديناً قويماً، وهداه صراطاً مستقيماً ارتضاه لجميع البشر إماماً، وجعله للشرائع النبوية ختاماً، وأقسم في كتابه الكريم تبجيلاً له وتعظيماً، فقال عز قائلاً كريماً:{فلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا في أَنْفُسِهِمْ حرَجَاً مِمَّا قَضَيْت وَيسَلِّمُوا تَسْلِيماً} .. ثم إنَّه عز وجل أثار أشواقَ العارفين إلى الاقتداء برسوله بكثرة الثناءِ عليهم في تنزيله مثل قوله في التعظيم لهم والتبجيل: {الَّذِينَ يَتَّبِعونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يجِدُونَه مكتُوباً عِنْدَهُم في التَّورَاةِ والإنْجِيلِ} .. إلى غير ذلك من الآيات الكريمة .. الشاهدة لمتبعيه بالطريقةِ القويمة. فلما وعت هذه الآياتُ آذان العارفين وتأملتها قلوبُ الصادقين، حَرَصُوا على الاقتداء به في أفعاله، والاستماع منه في أقواله،

ص: 106

فكانوا له أتبعَ من الظَّل، وأطوعَ من النعل، فعلمهم أركانَ الإسلام وشرائعَه وفرائضَه ونوافله، وكان بهم رؤوفاً رحيماً، وعلى تعليمهم حريصاً أميناً. كلما وصفه ربُّ العالمين حيث قال في كتابه المبين:{لَقَدْ جَاءكم رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُم عَزِيزٌ عَليِهِ ما عَنتُّم حَرِيصٌ عَليْكُم بِالمُؤْمِنينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} فلم يزل عليه الصلاة والسلام يُرشدهم إلى أفضل الأعمال، ويهديهم إلى أحسنِ الأخلاق، ويلزمهم ما في النجاةَ والفوزَ في الآخرة، والسلامة والغبطة في الدنيا من لزوم الواجب والمسنون، ومجانبة المكروه وترك الفضول، فلم يترك خيراً قَطُّ إلا أمرهم به ففعلوه، ودعاهم إليه فأجابوه، حتى لم يكن في زمأنه شيء مِن أعمال البر متروكاً، ولا منهج من مناهج الخير إلا مسلوكاً .. فلما تَمَّ ما أراد اللهُ تعالى برسوله من هداية أهلِ الإسلام، وبلغ إلى الأنام جميعاً ما عنده من الأحكام من العقائد والآداب والحلال والحرام، أنزل الله في ذلك تنصيصاً وتبييناً:{اليوْمَ أَكمَلْتُ لَكُم دِينَكُم وَأَتمَمْتُ عَلَيْكُم نِعْمَتِي وَرضِيتُ لَكُمُ الإسلامَ دِينا} .. فكمل الدينُ في ذلك الزمان، ووضحت الحجةُ والبرهان، ودحضت وساوس المشتبهين، وانحسمت قوادِمُ المبطلين، إذ لا حجة على الله بعدَ الرسل لأحدٍ من العالمين بنصِّ كتابه المبين.

وقال يَصِفُ أحاديثَ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم:

" فإنَّه علمُ الصدرِ الأوّل، والذي عليه بعد القرآن المعوَّل، وهو لعلوم الإسلام أصل وأساس، وهو المفسر للقرآن بشهادة لتبين للناس.

وهو الذي قال الله فيه تصريحاً: {إنْ هُو إلا وَحْيٌ يُوحى} وهو الذي وصفه الصادق الأمين بمماثلة القرآن المبين حيث قال في التوبيخ لِكُلِّ مترف إمَّعه: " إنِّي أوتيتُ القُرآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ " وهو العلم الذي لم يشارك القرآن

ص: 107

سواه في الإجماع على كفر جاحد المعلوم من لفظه ومعناه، وهو العلمُ الذي إذا تجاثت الخصومُ للركب، وتفاوتت العلومُ في الرتب، أصْمَتْ مرنانُ نوافله كُلِّ مناضل، وأصمت برهانُ معارفة كُلِّ فاضل وهو العلم الذي ورثه المصطفي المختار، والصحابة الأبرار، والتابعون الأخيار. وهو العلمُ الفائضة بركاته على جميع أقاليم الإسلام، الباقية حسناتُه في أمة الرسولِ عليه السلام، وهو العلم الذي صانه اللهُ عن عبارات الفلاسفة، وتقيدت عن سلوك مناهجه، فهي راسفة في الفلا آسفة، وهو العلم الذي جلّى الإسلامُ به في ميدانِ الحجة، وصلَّى، وتجمل بديباج ملابسه من صام لله وصَلى، وهو العلمُ الفاصل حين تلجلج الألسنةُ بالخطاب، الشاهد له بالفضل رجوعَ عمر بن الخطاب، وهو العلمُ الذي تفجَّرت منه بحارُ العلوم الفقهية، والأحكام الشرعية، وتزينت بجواهره التفاسيرُ القرآنية، والشواهد النحوية، والدقائقُ الوعظية، وهو العلم الذي يميزُ اللهُ به الخبيثَ من الطيب، ولا يرغم إلا المبتدع المتريِّب، وهو العلمُ الذي يسلك بصاحبه نهج السلامة ويوصله إلى دار الكرامة. والسارب في رياض حدائقه، الشارب من حياض حقائقه، عالم بالسنة ولابس من كل صوف جُنة، وسالك منهاح الحق إلى الجَنة، وهو العلم الذي يَرْجِعُ إليه الأصولي، وإن برز في علمه، والفقيه وإن برز في ذكائه وفهمه، والنحوي وإن برز في تجويد لفظه. واللغوي وإن اتسع في حفظه، والواعظ المبصر، والصوفي والمفسر كلهم إليه راجعون، ولرياضه منتجعون " ..

إن أسلوب محمد بن إبراهيم الوزير في الكتابة وإن كان يهتم بأناقة الجملة إلا أنها غنية بالمعاني، فسجعه غيرُ متكلف يسيرُ في سُهولة ويُسر، ممتلئاً بالمعاني العظيمة، معبراً عما يُريد دون حشو أو تكلف ..

ص: 108

إن أسلوب الكتابة في القرن الثامن الهجري كان يرزح تحتَ المحسنات البديعية، والحلى اللفظية حى إن أغلب الإنتاج الفكري كان حينذاك خِلْواً من المعاني، متكلفاً لا يدل إلا على خواء الأفكارِ ..

ولقد أدرك الإمام الشوكاني في القرن الثالث عشر الهجري بحاسته المرهفة مدى تَرَدِّي الأسلوب الكتابي في المحسنات اللفظية، وما تَجُرُّه على المضمون والمحتوى من فراغ معنوي متكلِّف حين قال عبارته الناقدة البصيرة ببلاغة التعبير عن التكلف في الشعر ولا نرى التكلف في النثر إلا موثراً على روعة الأسلوب الكتابي تماماً كما هو الحال في الشعر:" وإنَّ من لا يَعْرفُ محاسنَ الشعر إلا بالنكات البديعية المتكلفة خلاف ما ذكرنا، فهو غيرُ مصيب، فإن غالب أشعارِ المتأخرين إنما صارت بمكان من السماجة لتكلُّفِهِم ذلك ". كما أنه أدرك عمق أسلوب محمد بن إبراهيم الوزير: فعلى الركم من اعتماده السجع إلا أنه غَيرُ متكلف، ويتميَّزُ بوضوح المعنى، وموافقة المضمون للشكل في سهولة ويسر، ولذلك رأينا الإمام الشوكاني يقول في ترجمته عن أسلوب محمد بن إبراهيم الكلامي بأن " كلامه لا يُشبه كلام أهلِ عصره، ولا كلام مَن بعده ".

صورة من شعره:

قال:

العِلمُ ميراثُ النَّبيِّ كذا أََتَى

في النَّصِّ والعلماءُ هُمْ وُرَّاثُهُ

فإذَا أَرَدْتَ حقيقَةً تَدْري لِمن

وراثه فكرتَ ما مِيرَاثُهُ

ما وَرَّثَ المُخْتَارُ غَيْرَ حَديثِهِ

فِينَا وَذاكَ متاعُه وأثَاثُه

فَلَنا الحَديثُ وِرَاثَةً نَبَوِيَّة

وَلِكُلِّ مُحدِث بدعة إحداثُه

ص: 109

وقال:

فحيناً بِطَوْدٍ تُمْطِرُ السُّحْبُ دُونَه

أَشَمَّ مُنيفٍ بالغَمامِ مُؤَزَّرُ

وَحيناً بِشِعْب بَطْنِ وَادٍ كَأَنَّهُ

حَشَا قَلَمٍ تُمْسِي به الطَّيرُ تَصْفِرُ

إذا التفَتَ السَّارِي به نَحْوَ قُلَّةٍ

تَوَهَّمَهَا مِنْ طُولِهَا تَتَأخَّرُ

أجَاوِرُ في أَرْجَائِه البُومَ وَالقطا

فَجِيرتها للمرء أَوْلَى وَأَجْدَرُ

هُنَالِكَ يَصْفُو لِي مِن العَيْش وِرْدَهُ

وإلا فَوِرْدُ العيشِ رَنْقٌ مُكدَّرُ

فإنْ يَبسَت ثَمَّ المَرَاعِي وَأَجْدَبَتْ

فَرَوْضُ العُلا والعِلم والدِّين أَخْضَرُ

ولا عَارَ أن يَنْجُو كرِيمٌ بنَفْسِه

وَلكِنَّ عَاراً عجزُه حِينَ يُبْصِرُ

فَقَدْ هَاجَرَ المُخْتَارُ قَبْلِي وَصَحْبُه

وَفرَّ إلى أرض النجاشيِّ جَعْفَرُ

معالم شخصيته وتفكيره:

إنَّ محمدَ بن إبراهيم الوزير يُمَثِّلُ الشخصيةَ المسلمة التي تلقت معالِمَ تفكيرها عن القرآن والسنة النبوية، فهو تَلميذ لكتاب الله وسنة رسوله لا لشيء سواهما ..

لقد اتجه مباشرة إلى النبيع الصافي ليستضيء بالنور الإلهي، ويضيء للأمة الطريق.

لقد وجد محمدُ بنُ إبراهيم الوزير الأمة الإسلامية دولاً ممزقة، وفرقاً متناحرة، وشيعاً ومذاهب، يُكفِّرُ بعضُها بعضاً، فاتجه أولَّ ما اتجه إلى تفكير الأمة ليرى هل يحمِلُ وحدة أم فرقة .. ؟

وفي بحثه الواسع رأى أن في قمة التفكير الذي أدى إلى الفرقة والانقسام يأتي دورُ التفكير الفلسفي الذي صاغته أهواءُ البشر بعيداً عن الاهتداء لفظاً ومعنى بالنور الإلهي الذي لا يّضِلُّ من اهتدى به ولا يشقى ..

ص: 110

لقد رأى محمد بنُ إبراهيم في "علم الكلام" الذي نشأ كأثرٍ مباشر وقوي للفكر اليوناني بحوثاً لا طائِلَ تحتَهَا وخروجاً بالأداة العقلية عن قدراتها.

إن علم الكلام هو مضيعة للوقت، وليست أساليبُه ومناهجُهُ بالطريق الموصلة إلى الأدلة الحاسمة في الشعاب الفكرية المتعددة التي سلكها علمُ الكلام .. لقد كان أحدَ الأسباب لتمزُّق الأمَّة الواحدة وتناحرها، وتكفير بعضها بعضا .. !

إن التيه الفلسفيَّ الذي سلكه من قبل فلاسفةُ اليونان قد أوضح بصفة حاسمة عدم استطاعته الإفضاء إلى أدلةٍ حاسمة لا سبيل إلى الشك فيها، وليس في قدراته بما لا يشك فيه ذو تفكير سليم الإحاطة بما هو أكبرُ منه، وأجلُ وأعظمُ.

بل إنه زاد السر غموضاً، وأتى له الانطلاق إلى ما وراء قدراته المحدودة إِلا ما شاء الله .. {وما أُوتِيتُم من العِلْمِ إلا قَلِيلاً} ..

ولكن أساليب القرآن أساليبُ رسل الله وأنبيائه قد أخذت بيدِ الإنسان إلى الإيمانِ، وأخرجته من ظلمات الشك، ولم تدعه يمضي إلى ما هو خارج عن حدوده، فيضيع نفسه ووقته عبثاً، وقد يترتب على أشياء لم يهضم فهمها تَماماً أحكام متناقضة تُمَزِّقُ وحدته إلى فرق وأحزاب وشيع .. بل على العكس من ذلك أخذت بيده ليتجه إلى فهم سنن الله، والاستفادة منها.

إن المهم هو معرفة واجب الوجود ذو الكمال المطلق عن طريق معرفة آثار قدرته اللامتناهية في عالم الغيب والشهادة، ومعرفة سننه التي تسير وفق

ص: 111

قوانينها الكون للاستفادة منها، وزيادة المعرفة بها، إذ لا يمكن لأي أداة أن تستخدم فوق طاقتها، ولكن المجال الأجدى هو في اكتشاف سنن الله، والسير بمقتضاها في طريق الحق والخير ..

إن العلم الحديث، وتقدم الإنسان الفكري قد جعل حداً للضياع الفلسفي التائه، فقد نقل الفلسفة من الميتافيزيقيا -علم ما وراء الطبيعة- إلى الطبيعة نفسها -عالم الشهادة- تفسير وفهم أسبابها ومسبباتها والاستفادة منها إنها الاستجابة للصوت القرآني:

{وَسَخَّرَ لَكُم مَا فِي السَّموَاتِ ومَا في الأرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إنَّ في ذلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (1) ..

وعلى رأسِ الأزمِنَةِ الحديثة جاء بيكون -الأول والثاني- أبو الفلسفة الحديثة يقرران ما توصل إليه الفكر الإسلامي الخالص المتتلمذ على القرآن ذلك الاتجاه الذي يقود الفكر الإنساني إلى الطبيعة -عالم الشهادة- والتفكير في سنن الله في مخلوقاته لاستخلاص حقائقِ السنن التي تسير وفقها الكائناتُ، ولقد وضع بيكون منهجَ الفهم اليقيني على أسس ثلاثة:

* الشك .. ويعني به " عدمَ الحكم ".

* التجربة .. ويعني بها " منهج الاختبار ".

* استخلاص النتائج .. ويعني به " الحكم على الشيء ".

وهكذا ارتبط التأمل الفكري بالمجال العملى والتطبيقي، واستفاد

الإنسانُ بهذه النقلة المنجزات الرائعة في التقدم الهائل السريع في كل

(1) الجاثية: 13.

ص: 112

مجالات الاستفادة مما سَخَّرَ الله للإنسان هذا الكائن المكرم ..

ووجد الانسان في:

* انظروا ماذا في السموات والأرض.

* أفلا تعقلون ..

* أفلا تتفكرون ..

* يا أولي الألباب ..

* لآيات لأولي النُّهى ..

* {وهو الذي خلَقَ لَكُمْ ما فِي الأرْضِ جميعاً} .. {وسَخَّرَ لَكُم مَا فِي السَّموَات وَمَا فِي الأَرْضِ جَميعاً منه} ..

وجد الإنسان في ذلك آفاقاً لا نهائية لمجالات التقدم الرائع المذهل. إن الفلسفة التائهة لا يُمكن أن تصل إلا إلى متناقضات متعددة أما معرفة الحق سبحانه، فيستطيع العقل السليم أن يصل إليها عن طريق آياته المعجزة في هذا الكون، فإذا أرادت العقول أن تُقحم أداتَها المحدودة في اللامحدود، فلن تربح إلا عَنَاءَ السفر على حد تعبير " ابن ابي الحديد " ..

إن أسلوبَ الإنسان يرْسُفُ في الضعف والهوى، ولم يترك الله الإنسان لضعفه وهواه، فبعث إليه الأنبياء معهم الهدى والنور، لذلك فإن الأسلوب الإلهي هو الحجةُ البالغة، والدليل الحاسم المُتَّسِق مع نظرة الإنسان التي لا يبتعد الإنسانُ عنها إلا مكابرة أو عناداً.

هكذا رأى محمد بن إبراهيم الوزير أن كتاب ترجيح أساليب القرآن على أساليب اليونان هو الصيحةُ في وجه الأفكار الفلسفية التي لم يكن من نتيجتها:

ص: 113

إلا الفرق المتعددة، المكفرة بعضها بعضا.

وإلا ضياع الوقت فيما ليس له علاقة بسلوك الفرد والجماعة في الحياة ..

وبكتابه " إيثار الحق على الخلق " أراد أن يسلك بالأمة الطريق الواحد .. الذي لا تتعدد عنده السبل. وبكتبه كلها كان يهدف إلى مقاصد الإسلام:

* وحدة الأمة الفكرية وترك ما لا يُجدي.

* وحدة الأمة على كتاب الله، واعتصامها به، وإبعادها عن مواطن الفرقة والاختلاف، وتيه الأفكار فيما لا طائل تحته ..

ويبين لها مدى الابتعاد عن منطق الحق عندما تعمد إلى التكفير والتفسيق باللازم.

وينهاها عن التحجُّر والغلو والتقليد وتصعيبِ الاجتهاد، فعلوم الاجتهاد ليست مقصودة لذاتها، وليست بحاجة إلى جعلها علوماً بذاتها تتبارى العقول في توسيعها وإيجاد أسرار وألغاز شكلية ولفظية لا فائدة من ورائها.

إن هذِه العلوم وسيلة لاستقامة الفهم الصحيح وليست بحاجة إلى تطويل وتعقيد لفظي ومعنوي، بل إلى تيسير وتوضيح، وبيان وتبسيط، ووضوح تام.

وهذا العقل نورُ من الله ليتجه مباشرة إلى نبع الهداية الإلهية في كتاب الله الذي لا يأتيه الباطلُ مِن بين يديه ولا من خلفه، وإلى الصحيح من سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله الصلاة والسلام.

وسيجد صراطاً مستقيماً

ص: 114

وسيجد هدى وبياناً ونوراً

وسيجد طمأنينةً في الحياة، وسلاماً في الضمير، وخيراً في دنياه وأخراه ..

وفي هذا الصدد، فإنه قد قَلَّلَ مِن شأن المعتزلة التي أرادت أحياناً رغم إخلاصها وإيمانها العميق المستنير، أن تجعل العقلَ أكبر من طاقته في عالم الغيب، فإذا كان العقلُ يستطيع أن يتبين بدليلٍ قاطع وحاسم معرفة خالقه، فإنه لا يستطيع تجاوزَ ذلك، فالمحدود لا يُحيط باللامحدود، والمعتزلة والفرق الكلامية قد خاضت آفاقاً أكبر مِن طاقتها وليست ذات نفع عملي للإنسان في دنياه وأخراه، وقد حاوَلَ الإمام، التوفيق بين الفرق الإسلامية فبين لها أن خلافَهَا في الغالب خلاف مصطلحات، ويتعلق بالألفاظ أكثر من تعلقه بالمعاني، ودعا إلى تحريم كل ما من شأنه تمزيق وحدة الأمة فيما لا طائل تحته. كما أن الإمام " محمد بن إبراهيم " في كتابه العظيم " العواصم والقواصم " قد دافع عن السنة دفاعاً لم يُؤلِّف مثلُهُ في بابه وهو على حق في ذلك، لأن السنة النبوية وهي قول الرسول صلى الله عليه وسلم وفعله وإقراره مبينة وموضحة لما جاء في كتاب الله الكريم من النصوص العامة والمطلقة والمجملة بمقتضى النص القرآني {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} الذي أوكل إليه ذلك، دالة على معاني القرآن، هادية إلى طرق تطبيقه. وهي والقرآن شيئآن متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر، والمسلم الذي رضي بالله رباً وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً والإسلام ديناً لا يسعه إلا الأخذ بالسنة الصحيحة الثابتة، والرجوع إليها عند الخلاف، والرضى بها، والتسليم لها، وطرح ما سواها، وعدم الاعتداد بقول أحد كائناً من كان إذا كان يخالفها أو يتأولها على غير وجهها.

ص: 115

وقد أبدع المؤلف رحمه الله في هذا المجال، وأتى فيه بما يعجز عنه غيره من أهل العلم إلا أنه رحمه الله قد ترخَّص في الأخذ ببعض معايير النقد، وهي مؤوفة، وغيرها أصح منها وأسد، ولا يضيره ذلك أو بعض من شأنه، فإنه رحمه الله من أهل الاجتهاد، وخطؤه مأجور عليه إن شاء الله، وما منا إلا مَنْ رَدَّ أو رُدَّ عليه إلا صاحب العظمة صلى الله عليه وسلم. فلا بد من تمحيص تلك المعايير، وإخضاعها للموازين العلمية الدقيقة التي وضعها الجهابذة النقاد من أهل العلم -وهي مقاييس شهد بصحتها الأعداء قبل الأصدقاء- ويحكم عليها بما يليق بحالها.

وخلاصة هذه الدراسة أن محمد بنَ إبراهيم الوزير قد نَهَجَ في طريق الحق والوضوح وبين:

أولاًً: أن كل ما لا مجالَ للعقل فيه من الغيبيات، فلا ينبغي أن يتكلف العقل الخوض فيه، أو اعتساف تأويله حتى يكونَ لديه إمكانية ذلك، لأنه إما أن يخطىء الحقيقة، أو يتيه عنها، وهو مع ذلك لا فائدة تُرجى من الجدال النظري البحت الذي لا صلة له بمجالات الحياة العملية.

إن موضوع علم الكلام ومتاهاته لا تُفِيدُ يقيناً، بل إنها تجعلهم يدورون فيما لا طائل تحته في بعد عن التفكير السليم.

ثانياً: وَقد عَمِلَ على توجيه الأمة إلى منطق القرآن، وإلى العمل الذي رسم منهجه القرآن، وبين للأمة أسبابَ الاختلاف، ومن أبرز النتائج، والمعالم التى وضحها ما يلي:

أ- لا تكفير ولا تفسيق باللازم، فقد كانوا يكفرون ويفسقون بعضَهم بعضاً بلازم كلامِهِم ولو لم يقولوه.

ص: 116

ب- دافع عن أئمة السنة، وبين خدماتهم الجليلة للحديث، والمقاييس العلمية التي وضعوها وبحوثهم وتراجمهم وتواريخهم في خدمة السنة، وهممهم العالية، ونفي عنهم ما يتهمون به بسبب ما يثبته فيه البعض من مدلول آرائهم في حرية الاختيار والعدل والخروج على الظلمة، فهم لا يقولون بالجبر ولا بمهادنة الظلمة، بل إنهم على منهج الكتاب والسنة في هداية الإنسان إلى النجدين، ومن ثم منحه القدرة على المضي فيما يختاره، وما يترتب على ذلك من مسؤولية عادلة أمام المحيط بكل شيء علماً وكذلك وضح رأيهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتقييد مبدأ السمع والطاعة فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ..

جـ- بَيّن وأكد أن النبعَ الصافي للإسلام هو الكتابُ وصحيحُ السنة وما عدا ذلك، فمضيعة للعقل ومتاهات تخبط غير مجدية سبب خلافات ومنازعات لأنها أهواء لا نتيجةَ لها غير ذلك.

إذ المطلوبُ مِن المسلم هو الإيمان، وعملُ الصالحات، والتزام الحق، والصبر على تنفيذ هذا المنهج الإلهي بالدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتفهم سنن الله، والتفكير في السماوات والأرض وما بينهما وما فيهما تفكير المستكشف لآيات اللهِ المُتَبين لها، وبالاختصار المضي على الصراط المستقيم لخير الإنسان نفسه في الدنيا والآخرة {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثوَابَ الدُّنيا فَعِنْدَ اللهِ ثَوَابُ الدُّنيا والآخِرَةِ} .. {رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنيا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً} .. لا أن يذهب الفكر فيما من شأنه مضيعة الوقت، وما لا طائلَ تحته في لعبة فكرية صبيانية تنتهي بصرخة في واد.

ص: 117

د- ولم يجد محمد بنُ إبراهيم الوزير وهو يعمل لِما يراه وُيؤمِنُ به طريقاً لتوحيد الأهواء المتفرقة، والصفوف المتناحرة الطريقَ ممهداً وسهلاً، بل لقد حاربه النفعيون ممن يجد في أفكاره خطراً على امتيازاتهم على الناس، وحاربه من يَخْشَوْنَ الدعوةَ الجامعة غير المفرقة، فقال في وجههم صائحاً:

يا لَائمِي كُفَّ عَنْ لَوْمِي فَمُعْتقَدِي

قَوْلُ النبِيِّ وَهَمِّي في تَعَرُّفِهِ

فَمَا قَفَوْتُ سِوَى آياتِ مَنْهَجِهِ

وَلا تَلَوْتُ سِوَى آيَاتِ مُصْحفِهِ

وعاتب أخاه من قصيدةٍ حزينة:

ظَلَّت عَوَاذِلُهُ تَرُوحُ وَتَغْتَدِي

وتُعِيدُ تعْنِيفَ المُحِبِّ وَتَبْتَدِي

يَا صَاحِبيَّ على الصَّبابَةِ والهَوَى

مَنْ مِنكُمَا في حُبِّ " أَحْمَدَ " مُسعِدِي

حَسْبِي بَأنّي قَدْ سَهِرْتُ بحُبِّهِ

شَرَفَاً ببُردَتِهِ الجميلةِ أَرْتَدِي

لي باسْمِهِ وبِحُبِهِ وَبقُرْبهِ

ذِمَمٌ عظَامٌ قدْ شَدَدْتُ بهَا يَدِي

وَمُحَمَّدٌ أوفي الخَلائِقِ ذِمَّةً

فَلَيَبْلُغْنَّ بي الأمَاني في غَدِي

يَا قَلبُ لا تَسْتَبْعِدَنَّ لِقَاءَهُ

ثِقْ بِاللِّقَاءِ وبالوَفَا فَكَأنْ قدِ

يَا حَبَّذا يوْمُ القِيَامَةِ شُهْرَتي

بَيْنَ الخلائِقِ في المَقَامِ الأحْمَدِي

بِمَحَبَّتِي سُنَنَ الشَّفِيعِ وَأنَّنِي

فِيهَا عَصّيتُ مُعَنِّفِي وَمُفَنِّدِي

وترَكْتُ فِيهَا جيرَتِي وَعَشِيرَتي

وَمكانَ أَترَابِي وَموْضِعَ مَوْلدِي

فَلأشكُوَنَّ عَلَيْهِ شَكوَى مُوجَعٍ

مُتَظَلِّم مُتجَرِّم مُسْتنِجدِ

وأقُولُ أنْجِدْ صَادِقَاً في حُبِّه

منْ يُنْجِدِ المظلومَ إن لم تُنْجِدِ

إنِّي أحِبُّ مُحَمَّداً فَوْقَ الوَرَى

وبهِ كَمَا فَعَلَ الأوائِلُ أقْتَدِي

فَقدِ انْقضَتْ خَيْرُ القُرونِ ولَمْ يكنْ

فِيهِمْ لِغَيرِ مُحَمَّدٍ مَنْ يَهتَدِي

ص: 118

ويصف حالته هائماً في جبال عالية، وبواد خالية وعلى الرغم من ذلك أمسك بقلمه يُدافع عن الحق منشداً في حزن وألم وتوجع:

فحيناً بِطَوْدٍ تُمْطِرُ السُّحْبُ دُونَه

إلى آخر الأبيات الحزينة ..

انقطاعه عن الناس:

يقول الشوكاني: " إنه بعدَ هذا أقبل على العبادة، وتمشيخ وتوحش في الفلوات، وانقطع عن الناس، ولم يبق له شغلة بغير ذلك، وتأسَّف على ما مضى من عمره في تلك المعارك التي جرت بينَه وبينَ معاصريه مع أنه في جميعها مشغول بالتصنيف، والتدريس، والذب عن السنة والدفع عن أعراض أكابر العلماء، وأفاضل الأمة، والمناضلة لأهل البدع، ونشر علم الحديث وسائر العلوم الشرعية في أرض لم يألف أهلُها ذلك لا سيما في تلك الأيام، فله أجرُ العلماء العاملين، وأجرُ المجاهدين المجتهدين " ربنا لا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا، ربنا إنك غفور رحيم.

ص: 119

مقَدمَة التَحقيق

بقلم

الأستاذ شعيب الأرنؤوط

ص: 121

بسم الله الرحمن الرحيم

إنَّ الحمدَ للهِ، نحمدُه، ونستعينُه ونستغفِرُه، ونعوذُ بِهِ من شُرورِ أنفُسِنا وَمِن سَيِّئاتِ أعمالنا، من يَهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَنْ يُضْلِل، فلا هاديَ لَه.

وأَشهَدُ أنْ لا إله إلَاّ اللهُ وحْدَه لا شريكَ لَهُ، وأشهَدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1].

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70 - 71].

ص: 123

وبعد: فالحمدُ لله حَمْداً كثيراً طيباً مُبارَكاً فيه كمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيرضَى، على ما وفقنا إليه مِن تحقيق هذا السِّفْرِ النفِيسِ، وضَبْطِ نُصُوصِهِ، وتَخْرِيجِ أَحَادِيثِه، والتَّعْليقِ عَليْهِ على نحوٍ نَرْجُو أَنْ نَكُونَ قَدْ وُفِّقنَا إلَيْه، ويحوزَ إعْجابَ القُرَّاء الأكَارِمِ، ويَحْظَى بِتَقْدِيرهِمْ.

فَهُوَ كتَابٌ عَظيمٌ في بَابِه، لم يُؤلِّفْ مثْلُهُ فِيمَا نعْلَمُ، ضَمَّنَهُ المُؤَلِّفُ رحمه الله بحوثاً قَيِّمة في عُلومٍ مختلِفَةٍ تُنْبيء عَنْ صِحَّة ذِهْن، وحَافِظةٍ واعيةٍ، واطِّلاعٍ وَاسِعٍ، وقُدْرَةٍ فائِقةٍ على تقريرِ الأدِلَّةِ، والبَرَاهِينِ المُسْتَنْبَطةِ مِنْ كتابِ الله وسُنَّة رسولِه صلى الله عليه وسلم بأُسلُوبٍ يَتَّسِمُ بالوضوحِ والجَزالَةِ، وتبحُّرٍ في جَميعِ العُلُومِ العقلِيَّةِ والنَّقلِيَّة على حدٍّ يَقْصُرُ عنه الوَصْفُ، وتَجَرُّدٍ كَاملٍ من العَصبية والهوى والتقليد.

ألَّفه رحمه الله بَعْدَ أن انقَطَع للكتَاب والسُّنةِ، واستَغل بِعُلُومهما، وامتلأت جَوانِحُه بجبهما، وتضلع من مختلف العلوم حتى فاق أقرانَه، وزاحَمَ شُيوخَه، وتَخطَّاهُم، وبلغ درجة الاجتهاد المطلق.

فهُو -كما يقول الإمامُ الشوكاني رحمه الله: " مِمن يَقْصُرُ القلمُ عن التعريفِ بحاله، وكيْفَ يُمْكنُ شَرْحُ حالِ منْ يُزَاحِمُ أئمةَ المذاهِبِ الأربعة فَمَنْ بَعْدَهُم منَ الأئمة المجتهدين في اجتهاداتهم، ويُضَايقُ أَئِمَّة الأشعَرِيَّة والمُعتَزِلَةِ في مقالاتهم، ويَتَكَلَّمُ في الحديث بكلامِ أَئِمَّتِه المعتبرين، مَعَ إحاطةٍ بحفظِ غَالِبِ المُتُونِ، ومعرفةِ رجال الأسانيد شخصاً وحالاً وزماناً ومكاناً ".

وَيَلْمَحُ القارىءُ في كتابه هذا حُبَّهُ لِلحديثِ النَّبوي الشريفِ، وَمُنَاصَرة أهله، والاعتداد بِهِ، وأنه هُو والقرآنَ الكريمَ الطريقُ الأمثلُ

ص: 124

لِمعرفة الحق مِنْ بَيْنِ أقوالِ المختلفينَ، ولا بِدْعَ في ذلِكَ، فإنه قدْ صَرَّحَ في مختصره أنَّه قَدْ أُشرِبَ قَلْبُه مَحَبَّة الحديثِ النبويِّ والعِلْم المُصطفوي، وأنه يرى الحَظَّ الأسنى في خدمة علومِه، وإحياءِ ما دَرَسَ مِن آثارِه، وأنَّ أولى ما يُشتَغَلُ به هو الذبُّ عنه، والمحاماةُ عليه والحَثُّ على اتباعِه، والدُّعاء إليه، لأنَّه عِلْمُ الصَّدْرِ الأوَّل، والَّذي عليه بَعْدَ القرآن المُعَوَّلُ، وهُو لِعلوم القُرآن أصْلٌ وأسَاسٌ، وهُو المُفَسِّرُ لِلقُرآنِ بشهادَة {لِتُبَيِّنَ للنَّاسِ} .

وإن القارىء لِهذا السِّفْرِ النَّفيسِ سيرى فيه:

1 -

أصالَة المَنْهَجِ المُتَمثِّل في الكتَابِ والسُّنَّةِ، وفَهْمِهما على النَّحوِ الَّذي فَهمَهُ السَّلفُ الصَّالِحُ المَشْهُودُ لهم بالفضْل والخيريَّةِ على لِسَانِ خَيْرِ البَرِيَّةِ.

2 -

وُضُوحَ الفِكرة وجزالَةَ الأسلُوبِ والقُدْرَةَ على الإبَانَةِ، وقُوَّةَ العَارِضَةِ، والاستيفاءَ في الاستدلالِ بما لا يَخطُرُ على بالٍ، فإنَّه يَسْرُدُ في المسألةِ الواحِدَةِ من الوُجُوه ما يَبْهَرُ لُبِّ مُطالِعِه، ويُعَرِّفُه بِقِصَرِ باعِه بالنِّسبة لِعِلمِ هذا الإمَام، فهو يُوردُ كَلامَ شيخه في رسَالته التي اعْترضَ بها عليه بنَصِّهِ وفَصَّه، ثم يَنْسِفُه نسْفاً، بإيراد ما يُزَيِّفُه بهِ مِن الحُجَجِ الكثيرةِ، التي لا يجِدُ العالِمُ الكبِيرُ في قُوَّته استخراجَ البعضِ منها.

3 -

البصَرَ التَّامَّ بأقاويلِ أهلِ العلْم من الطَّوائف الإسلامية واختلافِهم في أمَهَات المسائِل، وعرض أدِلَّتهم بدِقة وأمانَةٍ، وترجيح ما اسْتَبَانَ لَهُ صَوابُه بالحجة والبُرهان، مشفوعة بلسانٍ عفٍّ، وأسلوبٍ مُهَذَّبٍ، وقَولٍ لَيِّنٍ.

4 -

الحافِظَةَ النَّادِرَةَ المُواتية التي تُمِدُّهُ بما يَشَاءُ مِن نصوصِ الكِتَاب والسُّنَّةِ

ص: 125

وأَقاويلِ أهْلِ العلْمِ في المسألةِ التي يَعْرِضَ لها، ويَبْحثُ فيها بما لا يَكادُ يَظْفرُ بِه البَاحِث عندَ غيْرِهِ مِنْ أهْلِ العِلْم.

5 -

الجمعَ بَيْنَ الرِّوايَةِ والدِّراية، وقلما تجتمعانِ لأحدٍ، وبَصَرَاً تامَّاً في مُخْتَلِف الفنوفِ بحيث يُعَدُّ إماماً في كل فَنٍّ مِنْها.

فهو يُعَُّد بحقٍّ في زُمرة أولئك المُفكِّرينَ المُصلِحِينَ الذِين استنارَتْ بأَفْكارِهِمْ المبثوثةِ في تَفاريقِ مُؤلَّفَاتِهم عُقُولُ مُعاصِريهم، ومَنْ أتى بَعْدَهُم إلى يَوْمِنَا هذا، وتنَوَّرتْ قلوبُهم، وانجلَى ما لَصِقَ بمرآتها مِنْ صدَإ الشَّكِّ والجُمُود، وانحَلَّ ما انعَقدَ في أذهانِهِم منْ شُبَهِ الزَّيغِ والارتياب.

وبَعْد، فقد كنت رأيت أن أكتب مقدمة مطولة، أعرف فيها بالمؤلف وما تضمنه كتابه مِنْ بحوثٍ وآراء لَوْلا أن قامَ فضيلة القَاضي إسماعيلُ الأكوعُ مشكوراً بتزويدِنا بمقدمته الضَّافِيَة الماتِعة التي أوفت على الغايَةِ ولم تدَعْ زيادةً لمستزيد، وأَهْلُ مَكَّة أَدْرَى بِشِعَابِهَا، فاقتصرتُ في كلمتي هذه على وصف الأصولِ المعتمدة، وعملي في الكتاب.

وصف النسخ المعتمدة في التحقيق:

لقد تحصَّلَ لنا وقت الشروع في التحقيق أكثرُ مِنْ نسخةٍ، وهاك وصفَها:

1 -

نسخة نفيسَةٌ متقنَةٌ، جيدةُ الضبط، حسنةُ الخط، وهي مقابَلَةُ، ومُحَلَاّةٌ بحواشٍ قيِّمة تُنبىء عن كون ناسخها مِن أهل العلم والفضل. وهي المرموز لها بـ (أ).

الموجودُ منها الأولُ والثاني والثالثُ، وتَنْقُصُ المجلدَ الرابع

ص: 126

والأخيرَ، وقد كُتِبَ الأولُ منها بعدَ وفاةِ المصنف رحمه الله بقليل.

المجلد الأول: عددُ صفحاته (532) صفحة، في كل صفحة أربعة وعشرون سطراً، كل سطر فيه ثلاث عشرة كلمة تقريباًَ، ينتهي بالوهم الرابع عشر الذي ختمه بقول الشاعر:

أقِلُّوا عَلَيْهِمْ لا أبَا لأبِيكُمُ

مِنَ الَّلؤم أِوْ سّدُّوا المَكَانَ الَّذِي سَدُّوا

وجاء في الصفحة الأخيرة منه ما نصه: بلغ قِصاصةً وسماعاً ومقابلةً حسبَ الطاقة والإمكانِ في مواقِفَ آخرُها يوم السبت سابعَ شهر صفر أحد شهور سنة (854) ولله الحمدُ والمنة، وكتب ذلك العبدُ الفقير لله محمد ابن عبد الله بن المنادي، عفا الله عنه.

وقوله: بلغ قِصاصة. من اقتص الحديث: إذا رواه على وجهه، كأنه تتبع أثره فأورده على قصة.

وقد ألحق به فهرس جامع مفصل بخط مغاير للأصل.

المجلد الثاني: ويبدأ بالكلام على الوهم الخامس عشر، وينتهي بالكلام على الوهم السابع والعشرين.

وعدد صفحاته (444) صفحة، ولم يَرِدْ فيه شيء عن الناسخ، ولا تاريخ النسخ، ويغلب على الظن أن ناسخ المجلد الأول هو ناسخ هذا المجلد، فهما يجريان في كل شيء على نسق واحد، وألحق به فهرس مفصل كالأول.

المجلد الثالث: ويبدأ بالكلام على الوهم الثامن والعشرين، وهو فيما ينسب إلى أئمة السنة من الإنكار منهم لأفعال العباد وتصرفاتهم،

ص: 127

والجواب عن ذلك وينتهي بالكلام على التحسين والتقبيح، وقول الأشعرية فيه.

وعدد صفحاته (527) صفحة.

وجاء في آخره ما نصه: انتهي تحريرُ هذا الجزء الثالثِ من العواصم بحمد الله ومَنِّه في يوم الخميس لعلَّه سابع شهر ذي الحجة الحرام سنة ثمانية عشر وثلاث مئة وألف، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

وقْد أُلحِقَ به فهرس مُفَصْلٌ أيضاًَ.

2 -

نسخة ثانية، والموجود منها مجلدان، ورمزنا لها بـ (ب)،

وهي نسخة جيدة مضبوطة ومنقوطة، ومقابلة يغلب عليها الصّحة، ووقع فيها قليل من الخطأ نبهنا عليه في غير ما مَوْضِعٍ من الكتاب.

وعددُ صفحات الأول منها (476) صفحة، في كل صفحة (29) سطراً، في كل سطر 14 كلمة تقريباً، ينتهي بانتهاء الكلام على الوهم الرابع عشر.

وفي صفحة العنوان عدة تمليكات إحداها مؤرخة سنة 1131 هـ والثانية سنة 1133 هـ والثالثة 1193 هـ، والرابعة 1210 هـ.

وهذا المجلد مصور عن الأصل الموجود في مكتبة محمد بن عبد الرحمن العُبيكان الخاصة بالرياض 413 م/42 قام بتصويره وإرساله إلينا قسم المخطوطات بجامعة محمد بن سعود الإسلامية بالرياض.

وجاء في آخره ما نصه: تم بعون الله وحسن توفيقه نهارَ الإثنين،

ص: 128

ليلة أحد وعشرين من شهر شعبان سنة تسع وستين وألف، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

وعدد صفحات الثاني منها (320) صفحة، ويبدأ بالوهم الخامس عشر، قال: إن التشبيه مستفيض، وينتهي بانتهاء الكلام على الوهم السابع والعشرين في شكر المنعم هل يجب عقلاً أو سمعاً، وهو كسابقه في عدد الأسطر والكلمات والخط، فهما من بابة واحدة، إلا أنه غفل من تاريخ النسخ.

وجاء في آخره ما نصه: كمل المجلد الثاني، وهو النصف الأول من العواصم والقواصم بحمد الله ومنِّه وإعانته، ويتلوه في أول النصف الآخر الوهم الثامن والعشرون وهذا المجلد قد تفضَّل بإرساله الأستاذُ المِفضال إبراهيم الوزير فورَ علمه بأن مؤسسة الرسالة عازمة على تحقيقه ونشره.

3 -

نسخة ثالثة، ومنها مجلدان الأول والثاني، وهي نسخة مجوَّدة ومنقوطة ومضبوطة بالشكل، وقد رمزنا لها بـ (ج) إلا أنها لا ترقى إلى نسخة (أ) و (ب) ففيها غيرُ ما خطأ وتحريف.

وعدد صفحات الأول منها (378) صفحة في كل صفحة (29) سطراً، وفي كل سطر (18) كلمة تقريباً.

وينتهي هدا المجلد بانتهاء الوهم الرابع عشر.

وجاء في آخره: تم الجزء الأول من العواصم بحمد الله ومنِّه، وتيسيره، فله الحمد على ذلك كثيراً كما ينبغي له، وكما هو له أهل، وذلك غرةَ شهر جُمادى الآخر الذي هو مِن سنة أربع بعدَ ألفٍ بيد أفقرِ عباد الله وأحوجِهم إليه عبدِ الرحمن بن محمد بن بسمان الشمسي الحراري

ص: 129

عامله الله بلطفه ورأفته، وذلك في محروس مدينة صنعاء تقبَّل الله ذلك

غفر الله لمالكه وكاتبه وعفا عنهم، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

وعدد صفحات المجلد الثاني (308) صفحات، وأسطر صفحاته كالأول، ويبدأ بالوهم الخامس عشر، وينتهي بانتهاء الكلام على الوهم السابع والعشرين.

وقد كتبه كاتب المجلد الأول، فقد جاء في آخره: تم الجزءُ الثاني بحمد الله ومنِّه وطوله، فله الحمد كثيراً حمداً يبلغ رضاه ويزيد، وينيلنا من فضله الإلهام إلى طاعته، فقد وعد مع حمده وشكره بالمزيد، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم أنبيائه وأصفيائه من العبيد وسلم، عليه وعلى آله وصحبه أجمعين صلاة دائمة لا تفنى ولا تبيد، وسلم كثيراً.

وكان تمام زبر هذا الكتاب المبارك في سلخ شهر رجب الأصم، الذي هو من شهور سنة أربع بعد ألف من الهجرة الطاهرة على صاحبها أفضل السلام، بيد من استؤجر في الكتابة المعرّض باسمه رجاء دعوة مستجابة أفقر عباد الله وأحوجهم إليه عبد الرحمن بن محمد بن بسمان ابن .... بن أحمد بن علي بن عمران العبشمي نسباً، الشافعي مذهباً، عفا الله عنه، وعن والديه، وغفر لهم ولمن دعا لهم بالمغفرة والرضوان، وألهمنا لما يرضي، غفر لمالكه، وتقبل منا ومنه.

4 -

نسخة رابعة: الموجود منها المجلد الرابع، وبه تكمل النسخة الأولى التي تقدم وصفها، فهو يبدأ بالوهم الثاني والثلاثين، وينتهي بانتهاء

ص: 130

الكتاب، وقد رمزنا له بـ (د).

وعدد صفحاته (153) صفحة، عدد أسطر صفحاته تتراوح ما بين (28) سطراً و (56) سطراً، وكلمات السطر ما بين (20) كلمة و (25) كلمة، وخطه نسخي معتاد يجري على نسق مطرد، وجاء في آخره: وكان الفراغ من رقمه يوم الثلاثاء تاسع شهر رجب سنة ألف من الهجرة النبوية على مهجرها أفضل الصلاة والتسليم.

5 -

نسخة خامسة: خزائنية نفيسة الموجود منها المجلد الثاني وقد رمزنا لها بـ (هـ) وعدد أوراقه 177 ورقة، في كل صفحة منها 25 سطراً، وعدد الكلمات في كل سطر 17 كلمة تقريباً.

وقد جاء في صفحة الغلاف ما نصه:

الجزء الثاني من العواصم والقواصم تصنيف السيد السند الإمام العلامة المحدث الأصولي النحوى المفسر المتكلم البليغ الحجة السني الصوفي فريد العصر ونادرة الدهر، وخاتمة النقاد، وحامل لواء الإسناد، وبقية أهل الاجتهاد عز الدين محيي سنة سيد المرسلين أبي عبد الله محمد ابن إبراهيم بن علي بن المرتضى بن المفضل الحسني القاسمي الهادوي رحمه الله تعالى رحمة الأبرار وأسكنه دار القرار.

حرر هذا الكتاب المعظم برسم المجلس السامي المكرم الملحوظ بعين السعادة المخصوص بمحبة العلم والعلماء السادة عمر آغا بن محمد

زاده خازندار الحضرة العالية الوزيرية الحسينية حرس الله مهجته بالإيمان ونور قلبه بشموس العرفان.

ويبدأ هذا المجلد بالوهم الخامس عشر، وأوله: قال: إن التشبيه مستفيض عن أحمد بن حنبل وقصد بذلك القدح في كتب الحديث لكونه

ص: 131

من رجالهم .... وينتهي بنهاية الوهم السادس والعشرين.

وجاء في آخره ما نصه: تم المجلد الثاني من كتاب العواصم بحمد الله تعالى يوم الثلاثاء سادس عشر شهر رجب الأصب من شهور سنة ثلاث بعد الألف من الهجرة النبوية على مهجرها أفضل الصلاة والسلام، والحمد لله رب العالمين أتم الحمد وأكمله وأفضله، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

وصف النسخ الموجودة في اليمن بقلم العلامة الفاضل القاضي إسماعيل الأكوع.

توجدُ في خزانتي الجامعِ الكبيرِ بصنعاء عددٌ من نسخِ العواصمِ والقواصمِ، ولكنه لا توجدُ فيها نسخةٌ كاملةٌ بقلم كاتبًٍ واحدٍ من أولها إلى آخرِها، وهي كلُّها مكتوبةٌ بعدَ الألفِ، ففي الخزانةِ الغربيةِ.

الجزءُ الأولُ، أوله " رب عونك يا كريم الحمد لله الحي القيوم إنصافاً .. الخ وآخرُه: ومن العجائبِ أنَّ من ذمَّ الحديث وأهلَه من المعتزلةِ وأهلِ الكلام لم يستغن عنهم، وإن حادَ عن التصريحِ بالروايةِ عنهم.

مكتوبةً بخطٍّ جميلٍ بتاريخ يوم السبت 24 شهر ربيع سنة 1082 هـ.

المداخل الرئيسية بالمدادِ الأسود بالقلمِ العريضِ المقوى بالمدادِ الأحمر، والصفحاتُ محجوبةٌ بالمدادِ الأحمر خطاً واحداً.

155 ورقة 32 س 30×20 سم.

على صفحةِ العنوانِ تمليكاتٌ ليحيى بن إسحاق، ويحيى بن علي ابن عبد الله الردمي، كما يوجدُ عليها تمليكُ الإمامِ يحيى حميد الدين بتاريخ سنة 1340 هـ.

ص: 132

رقم النسخة 129 علم الكلام.

الجزءُ الثالثُ:

أولُهُ بعدَ البسملةِ: " الفائدةُ الخامسةُ من الكلامِ على القضاءِ والقدرِ، بيانُ وجوب العمل مع القدرِ وفائدتُهُ ".

آخرُه من أهلِ التأويلِ، فكذلك يلزمُهُ مثل ذلك في الأشعرية، وإلا كان كما قيل:

فعين الرِّضا عن كلِّ ذنبٍ كليلةٌ

ولكِن عَيْن السُّخط تبدي المساوِيَا

واللهُ سبحانه وتعالى أعلم. تمَّ الجزءُ الثالثُ من العواصمِ.

بخطٍّ نسخي جيدٍ تاريخهُ يوم 27 محرم الحرام سنة 1123 هـ.

222 ورقة 35 س 29×20 سم.

الجزءُ الرابعُ:

فيه سقطٌ من أولِهِ، ويبدأُ من الورقة 71، وينتهي في الورقةِ 222

بقولِهِ: "إذا عرفت ذلك فغيرُ بعيدٍ أن يتحتمَ على عمر بن عبدِ العزيز ما كان منه من تولي الأمر".

بخط محمد بنِ محمد بن عبد الله بن عامر.

وفي نهايَتهِ قصيدةُ محمد بنِ إبراهيم الوزير.

ظلت عواذله تروح وتغتدي

ثمَّ قصيدةُ الهادي بنِ إبراهيمَ الوزيرِ:

عجلت عواذله ولم تتأيد

في ثلاثِ ورقاتٍ علم الكلام 130.

كما يوجدُ في الخزانةِ الشرقية:

ص: 133

الجزءُ الأولُ والثاني مِنَ العواصِمِ والقواصِمِ بخطٍّ مجودٍ مضبوطٍ في 333 ورقة 27 س 30×21 تاريخُ نسخهَا في 12 رجب سنة 1002.

وتوجد نسخةٌ أخرى الجزء الأول والثاني مكرر بخطٍّ نسخيٍّ معتادٍ حديثٍ، غيرِ مؤرخٍ نسخها. 283 ورقة 28 س 37×23.

نسخةٌ أخرى من الجزء الأول.

آخره: من اللوم أو سُدُّوا المكان الذي سَدُّوا.

بخطٍّ نسخيٍّ معتادٍ غيرِ مؤرخٍ.

67 -

235 30 س 29×21.

في أولِ الكتابِ ترجمةُ الصاحبِ بنِ عباد، ثم رسالةٌ تتعلقُ بالعواصم والقواصِِمِ.

نسخةٌ أخرى من الجزءِ الأول مكرر:

آخر المخطوط ولهذا قالَ حاتم:

وإنك إن أعطيت بطنك سؤله ....

الخطُّ نسخيٌّ معتادٌ. مداخلُ البحوثِ بالمدادِ الأسودِ والقلم الكبيرِ، محجوب بالمدادِ الأحمرِ، خطين من وقف الإمامِ يحيى حميدِ الدينِ.

104 ق 30 س 31×22.

الجزءُ الثالثُ:

أولُه. الوهمُ الثامنُ والعشرون. وفقه الله، إنَّ أئمة السنة الأثبات

وآخره: على أنَّ الجزاء يخصُّ الكافرينَ لقولّهِ تعالى: {إنَّ الخِزيَ اليَوْمَ والسُوءَ عَلَى الكَافِرِينَ} .

22 -

387 ق 32 س 32×21.

ص: 134

في أولِهِ ترجمةُ المؤلفِ من ص 1 - 20 مبتور من آخره.

الجزء الثالث مكرر:

أوله: إن المخالفين بأسرهم قالوا: بقدرة العبدِ. لكن الفلاسفة زعموا أن القدرة .. الخ.

وآخرُهُ: وأبياتُ الرازي المشهورةُ تقضي له، أنه مات من التائبينَ

مِنْ جميع مذاهبِ المُبْطلينَ والحمد للهِ ربِ العالمين.

بخط نسخي حديثٍ، الآيات مكتوبة بالمدادِ الأحمرِ، وكذلك مداخلُ البحوث. تاريخُ الفراغِ منه يوم الخميسِ 19 شعبان سنة 1346، 191 ورقة، 28 س، 35×23.

ولا شكَّ أنه توجدُ من هذا الكتابِ نسخٌ متفرقةٌ في الخزائنِ الخاصةِ:

ففي خزانةِ الوالدِ العلامةِ المعمرِ القاضي أحمدَ بنِ أحمدَ بنِ محمدٍ الجرافي نسخةٌ: الجزءُ الأولُ منها قديمُ النسخِ، وأعتقدُ أنه من أواخر عصرِ المؤلفِ، ففيه في آخره ما لفظُه: فرغ مقابلةً وقراءةً على الوالِدِ صارِمِ الدينِ إبراهيمَ بنِ محمدِ بن عبدِ الله بطريقه، عن والدِهِ سيدي عزِ الدينِ، شيخِ العترةِ الأكرمينَ، وبركةِ أهلِ البيتِ المطهرين، رحمه الله عن المصنفِ ختام المجتهدينَ، وإمامِ المحققين، وحامي حِمى سنة سيد المرسلين أبي عبدِ الله محمدِ بني إبراهيمَ بنِ عليٍّ بني المرتضى، رضي الله عنه وأرضاه وأكرم نزلَه لديه ومثواه.

وكتبهُ العبد الفقير إلى ربه الكريم الهادي بن إبراهيم، وفقه اللهُ ولطفَ به، وكان ذلك في شهرِ الحجةِ الحرامِ أحد شهورِ سنة 897، وللهِ الحمدُ.

ص: 135

قلتُ: هذا الهادي هو الهادي الصغيرُ بنُ إبراهيمَ بنِ محمدِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ الهادي الكبيرِ أخي المؤلف، وكان هذا الجزءُ من خزانة آل الوزيرِ، ففي صفحةِ العنوانِ تمليك بخطّ عبدِ الله بنِ عليٍّ الوزير، هذا لفظه: هذا الكتاب من خزانة الآباءِ رضي الله عنهم قد كانَ خَرَجَ عنها، ثم عادَ إِليها بحمدِ الله تعالى بتاريخِ شهر شوال سنة 1108 وكتبه عبده بنُ عليٍّ عفا اللهُ عنهُ.

وفوقَ العنوانِ صورة مكتوب في الورقة الأولى ما لفظه: من أراد النظر في هذا الكتاب المباركِ، فهو محجور أن يعلق عليه شيئاً من أنظاره، حسبما أراده المصنفُ يعلم ذلك.

كتبه عثمان بن علي بن محمد بن عبد الله بن أحمدَ بنِ عبدِ اللهِ (الوزيرُ).

ثم صارَ من ممتلكات العلماء آل المجاهِدِ. وعليه تمليك هذا نصه: الحمدُ للهِ، من كتبِ سيدي الوالدِ العلاّمة عزّ الإسلامِ صفي الإمام أحمدَ بن عبد الرحمن بن عبد الله المجاهد -حفظه الله- ذي القعدة الحرامِ سنة 1280 هـ.

ثم تحول إلى العلماءِ آل الجرافي. وهذا التمليكُ: الحمد للهِ مِن كتبِ سيدي الوالدِ المالكِ عزِّ الإسلام القاضي محمد بن أحمد الجرافي عافاه الله تعالى -وصلى اللهُ على سيدنا محمدٍ وآله، كتبه الفقير أحمد بن محمد الجرافي.

كما يوجد في خزانته أيضاً مجلد من العواصِمِ والقواصمِ يحتوي على الجزءِ الثاني والثالثِ، إلا أنه قُدِّم عند التجليدِ الجزء الثالث على الثاني.

ص: 136

وهذا المجلد، خطه جيد، وتاريخ نسخه يوم الثلاثاء خامس عشر شهر شوال سنة 1004 هـ، بقلم العلامةِ سعدِ الدين المسوري كتبهُ برسمِ الأديب جارِ اللهِ محمدِ بنِ عبد اللهِ بنِ أميرِ المؤمنينَ، وقد طالعهُ السيدُ العلامةُ محسنُ بنُ عبدِ الكريم بن إسحاق. وفرغَ من مطالعتهِ في شهر صفر سنة 1237 هـ. وقد استعارَهُ من القاضي عبدِ الرحمنِ المجاهدِ. ثم صارَ هذا المجلدُ من خزانةِ الإمامِ المنصورِ القاسمِ بنِ محمد، وانتقلت ملكيته بالإرثِ إلى ابنه الإمامِ المؤيدِ محمد بن القاسم. ثم تحول إلى أخيه الإمام المتوكلِ إسماعيل بنِ القاسمِ.

ثمَّ صارَ في ملكِ أحدِ العلماءِ الاعلام. وتاريخُ ملكيته في شهر ربيع الآخر سنة 1235 هـ، ولكنَّ اسمَ المالِكِ طمس. ثم انتقلت ملكليتُهُ إلى القاضي العلامةِ عبدِ الرحمنِ المجاهِدِ، ثم انتقلَ إلى ملكيةِ القاضي أحمدَ ابن لطف الباري الزبيري بتاريخ شوال سنة 1284 هـ. وملكه أيضاًً القاضي إسماعيل بن محمد بن أحمد حنش. وقد انتقلت ملكيته إلى القاضي العلامةِ محمدِ بنِ أحمد الجرافي. صفحات الجزءِ الثاني 169 ص، وعدد السطور يتراوحُ ما بين 24 إلى 25 سطراً. وصفحات المجلدِ الثالثِ 247 صفحة وعددُ السطور في كلِّ صفحةٍ ما بين 24 إلى 25 سطراً. وأما الجزءُ الرابع من العواصمِ والقواصمِ فهو حديثُ الخطِّ.

انتهي كلام القاضي إسماعيل الأكوع.

عملنا في الكتاب:

1 -

لقد اتَّخذنا النسخةَ المصوَّرة عن الأصلِ المحفوظ باستانبول وهي الموموزُ لها بـ (أ) أصلاً لتحقيق الكتابِ، لأنها أكملُ النسخ التي وقعت إلينا وأصحُّها، وَيَنْدُرُ وقُوُع الخطأ فيها، وهو مما لا يخلو منه كتاب مهما

ص: 137

تَنوقَ به الناسخُ في تجويده، فقمنا بنسخه، ثم تمت المقابلةُ على الأصل المنسوخ عنه، وعلى بقيةِ الأصول التي في حوزتنا، وأثبتنا الاختلافات الهامة.

2 -

ثُمَّ شرعنا في ترقيم النَّصِّ وتفصيله، وتوزيعه، وضبطِ الكلمات الملبسة وأسماء البلدان والأعلام بالشكل كما فعلنا في تحقيقنا لسير أعلام النبلاء، وعُنِينَا بمراجعة الآياتِ المستدل بها وضبطِها بالشَّكْلِ الكامل، وجعلنا رقمَ الآية والسورة بين حاصرتين عند الانتهاء منها في صلب الكتاب، وإذا كانَ في الأصل قراءةٌ لغيرِ حَفْصٍ نسبناها إلى صاحبها مِن القُرَّاء العشر، وذكرنا المصادر المأخوذ عنها.

3 -

ثم خرجنا أحاديثَ الكتاب من مصادر السنة المعتمدة، كالصحاح والمسانيد والسنن والمعاجم مما هو متيسّرٌ لنا، وتكلمنا على الأحاديثِ التي لم تَرِدْ في " الصحيحين " أو في أحدهما، فحكمنا على كُلِّ حديث بما يليق بحالهِ المأخوذة من صفات رواته من الصحة أو الحسن أو الضعف، مسترشدين بالمعايير الدقيقة التي وضعها جهابذة هذا الفن وأئمته، وفي الغالب نَذْكُر ما انتهي إلينا من حكمهم على الحديث الذي نحن بصدد تخريجه، وربما يقع بينَنا وبينهم خلاف في الحكم على بعض الأحاديث، فنذكر أحياناً السببَ الحامل على ذلك كما مو مبين في التعليقات.

4 -

اقتصرنا على التعريف بالأعلام غيرِ المشاهير، والكتبِ المنقول عنها مما هو غيرُ مطبوع، أو مطبوع، ولكن تداولُه بين الطلبة قليل.

5 -

ربما عرض المؤلف مسائل تتعلق بعلم الأصول أو المصطلح أو غيرهما، فلا يبسط القول فيها، ولا يبتُّ فيها برأي، فنذكر القول المختار

ص: 138

الذي هو أقرب إلى الصواب، وأبلغ في الحجة، وقد نقوي بعض الآراء في أمهات المسائل التي يعرضها بأدلة لم ترد عنده.

6 -

وقد نخالف المؤلف، رحمه الله في بعض ما ذهب إليه من آراء، وما انتهي إليه من أحكام، فنرد قولَه برفق معتمدين على نصوص الكتاب والسنة اللذين هما أصلُ الدين وملاكه، وإليهما المرجع في فصل النزاع في جميع مسائل الخلاف، وذلك مما يسرُّ المصنف إن شاء الله ويرضيه، فإنه رحمه الله كان يدعو إِلى إمعان النظر في الأمور المختلف فيها بين الأئمة، واستعراضها، والاطلاع على حججهم ودلائلهم، والأخذ في كل باب بما هو أقوى دليلاً، وأبلغ في الحجة من غير تعصب لمذهب أو عليه.

7 -

وسنقوم عند نهاية الكتاب إن شاء الله بصنع فهارس مفصلة للآيات والأحاديث والشعر والأعلام والكتب مما ييسر الاستفادة من هذا السفر العظيم، والانتفاع به.

8 -

ولا بد من الإشادة والتنويه بكل من كانت له يد مشكورة في تيسير إخراج هذا الكتاب بالقول أو بالفعل، نخص منهم بالذكر الأستاذ الفاضل الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي مدير جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية على ما يقدمه لنا من الأصول المصورة لأي كتاب نتولى تحقيقه مما هو موجود في مكتبة الجامعة، وعلى ما يمدنا به من توجيهاته القيمة وآرائه المسددة، والأستاذ الفاضل الدكتور عبد الرحمن العثيمين رئيس مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي بجامعة أم القرى بمكة المكرمة الذي بعث إلينا بالأصول المصورة (أ) و (ج) و (د) و (هـ) فور علمه بأننا عازمون على تحقيقه ونشره، والأستاذ الفاضل إبراهيم الوزير الذي كتب كلمة تعريف بالمصنف الذي امتلأ قلبه حباً به -وهو أحد

ص: 139

أجداده- وقناعةً بطريقته المثلى في الأخذ بكتاب الله تعالى، وسنة رسوله الصحيحة، والاعتصام بهما، ونبذ التعصب، وطرح التقليد. والقاضي الفاضل إِسماعيل بن علي الأكوع الذي كتب مقدمة ضافية عرف فيها بالمؤلف وبكتابه العظيم هذا. والأستاذ الفاضل رضوان دعبول صاحب مؤسسة الوسالة الذي آلى على نفسه أن يقوم بنشر الكتب الموسوعية المتخيّرة في العلوم الإسلامية، وإخراجها على نحو يروق ويعجب، ويرضي ويسر. والأستاذ الشاب علي حسن علي الحلبي وغيره ممن يعمل بإشرافي في قسم التحقيق في مؤسسة الرسالة، في هذا الكتاب وغيره.

فإلى هؤلاء جميعاً أزجي خالص شكري وعظيم امتناني، وأرجو الله سبحانه أن يجزل لهم المثوبة والأجر، وأن يتولاني وإياهم برعايته وتأييده وتوفيقه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

1/ 1/1405 هـ

26/ 9/1984 م

شعَيب الأرنؤوط

ص: 140

العواصم والقواصم

في

الذَّبِ عن سنة أبي القاسم

تصنيف

الإمام العلامة النظار المجتهد محمد بن إبراهيم الوزير اليماني

المتوفى سنة 840 هـ

ص: 167

بسم الله الرحمن الرحيم

رب عونك يا كريم

الحمدُ لِله الحيِّ القيوم إنصافاً وعدلاً، الكريم العظيم أسماءً وفضلاً، الذي أرشد إلى العدلِ ابتداءً في دار الدنيا بصوادع آياته، وانتهاءً في دار الآخرة بإحضار بيِّناته.

لم يكتفِ هُنالك بعلمه الحقِّ، وعلمِ جميع عبيده، عن إحضارِ كتبه وموازينه وشهودِه، بل لم يكتف -وكفي به شهيداً- بأعدلِ شهود، عن شهادة الأيدي والأرجل والجلود، كما لم يكتفِ في دار التكليف بما فطر لخلقهِ من نورِ العُقولِ، حتى عَضَدَ ذلك النورَ بنورِ الكتاب، ونورِ الرسول، فكان ذلك نوراً على نور، كما وصفه سبحانه في سورة النور (1)، قطعاً لبواطل أعذارِ المُبطلين، وصدعاً لِقواطع (2) شُبهِ المعطَّلين، وفي ذلك يقول سبحانه تنبيهاً على ذلك وتعليلاً:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15].

ص: 169

ولهذا قال رسولُ اللهُ صلى الله عليه وآله وسلم: " ما أحدٌ أحبَّ إليه العُذْرُ مِن الله، من أجلِ ذلك أنزل الكتابَ، وأرسل الرُّسُلَ "(1).

ومن الدليل على ذلك: قولُهُ عز وجل في كتابه المبين، في حق من يعلمُ أنه من الكاذبين:{قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111، والنمل: 64].

ومن ألطف ما أمر بهِ رسولَه الأمين؛ أن يقولَ في خطاب المبطلينَ: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24].

وقد شَحَنَ اللهُ تعالى كتبَه الكريمةَ المطهَّرةَ بكثير من شُبَهِ أعدائه الكفرةِ الفجوة، وأورد شنِيعَ ألفاظِهم وصريحَها، ومنكرَها وقبيحَها، ليردَّ عليهم مقالتهم، ويُعَلِّم المؤمنين معاملتَهم، كما قال في مُحْكَم الآيات:{قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود: 13]، ولم يمنعْهُ علمُه بعنادِهم، من الاحتجاجِ عليهم، وإرسال (2) خيرِ كتاب ورسول إليهم، بل قال مستنكراً الإضرابَ (3) عن أعدائه من (4) الكافرين:{أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} [الزخرف: 5].

ومِن أعظمِ ما أنزل الله تعالى في ذلك، قولُه تعالى: {فقُولا لَهُ

(1) أخرجه البخاري (7416) ومسلم (1499) وأحمد 4/ 248 والدارمي 2/ 149 والبغوي (4372) كلهم من طريق عبد الملك بن عمير عن ورّاد كاتب المغيرة بن شعبة عن سعد ابن عبادة مرفوعاً. وفي الباب: عن ابن مسعود عند مسلم (2760)(35). وعن الأسود بن سريع عند الطبراني في " الكبير "(836).

(2)

في (أ): وإنزال.

(3)

في (أ): للإضراب.

(4)

ساقطة من (أ).

ص: 170

قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44]، إذ (1) كان هذا بالرفق (2) بفرعونَ الذىِ نصَّ اللهُ تعالى على أنه طغى، وعلى أنه أراه آياتِهِ كُلَّها، فكذب وأبى، ومِنْ ثَمَّ كان اسمُهُ اللطيف الأسنى، ومن (3) أخصَّ أسمائه الحسنى، هذا ما لم يشتدَّ غضبُهُ، نَعوذُ بوجهه الكريم مِن غضبه، ومن مُقَارَفه مُوجبِهِ وسببهِ، ففي مثل تلك الحال يقول ذو العزةِ والجلال:{وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة: 123].

وفي الحال الأخرى -وهي الغالبة-: {قُلْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} [الجاثية: 14]، {وإذا خَاطبَهُمُ الجاهلُون قالوا سَلاماً} [الفرقان: 63]، {وأن تعفُوا أقْربُ للتقوى} [البقرة: 237]، {ويَدْرَؤنَ بالحَسَنَةِ السَّيِّئةَ} [الرعد: 22]، {ادْفَعْ بالَّتِي هِيَ أحْسَنُ} {المؤمنون: 96، وفصلت: 34]، {وإذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أعْرَضُوا عَنْهُ} [القصص: 55]، {والَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون: 3]، {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83].

ولا دليل على نسخ ذلك وأمثالهِ، مما وردت به السُّنَّة النبوية، وَوُصِفَتْ به الأخلاقُ المصطفوية، إلا توهمُ التعارض، ممن خَفِيَ عليه حُسْنُ اختلافِ الأمرين، عند اختلاف الحالين، كما نصره الإمامُ المهدي (4) في " عقود العِقيان في النَّاسخ والمنسوخِ مِن القرآن "(5).

(1) في (أ): إذا.

(2)

في (أ) في الرفق.

(3)

سقطت الواو من (أ).

(4)

في هامش (أ): محمد بن المطهر بن يحيى، وهو من أئمة اليمن، بويع بالخلافة عند موت والده سنة (690) هـ، وافتتح مواضع، منها: عدن، وله علم واسع غزير، مات في ذي مرمر سنة (728) هـ، انظر البدر الطالع 2/ 271.

(5)

ويقع في جزئين، ومنه نسخة خطية نفيسة في خزانة الجامع الكبير بصنعاء، برقم:(58: تفسير).

ص: 171

وذلك مِن مقتضى البلاغة عند علماء البيان، حيث يختلِف الحالان، ويفترِق المقامانِ.

ومِنْ ثََمَّ مدح الله تعالى المؤمنين بالعزَّةِ والذِّلة في آيةٍ واحدة (1)، وَقَرنَ الوعدَ بالوعيد، وأنزل الكتابَ والحديدَ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نبيَّ المَرْحَمَةِ والمَلْحَمَة (2)، وقال الله تعالى:{لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة: 8 - 9].

ولا شكَّ أن صفة اللُّطف والرفق والرحمة هي الغالبةُ القوية في الكُتب السماوية، والأحوالِ النَّبوية، ومن ثمُّ تمدَّح اللهُ تعالى بأنه وَسِع كُلَّ شيءٍ رحمةً وعلماً، وبأن رحمة الله سبحانه وسعت كُلَّ شيء، وليس في وَعْده لأهل الصلاح بكتابتها؛ التي هي بمعنى إيجابِها لهم ما ينفي سعَتها لِغيرهم، بل هي لهم واجبة، ولغيرهم واسعة، وليس بين أوَّلِ الآية وآخرِها معارضَةٌ، ولم يَرِدْ مثلُ ذلك في الغضب ولا قريبٌ منه، وصحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "إنَّ الله تعالى كَتبَ كِتَاباً

(1) وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54].

(2)

كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من حديث أبي موسى الأشعري عند مسلم (2355) وأحمد 4/ 395 و404 و407، والطبراني في " الصغير " 1/ 80 ومن حديث حذيفة عند أحمد 5/ 405، والترمذي في " الشمائل "(360)، والبغوي في " شرح السنة "(3631) وانظر " مجمع الزوائد " 8/ 284.

ص: 172

ووَضَعَه عِنْدَهُ، فيه: إنَّها غلَبَتْ رَحمتي غضبي، وسبَقتْ رحمتي غضبي " (1). وقال تعالى:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159]، وقال رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم:" بَشِّروا ولا تُنَفِّروا "(2)؛ وقال في معرض الزجر والذم: " إنَّ منكم منفِّرين "(3).

والأحاديثُ والآثارُ في ذلك لا تُحصى، ويأتي لذلك تمامٌ في ذكر الداعي إِلى الترغيب والترهيب، في الكلام على سهولة الاجتهاد وتعسُّرِه، وهو يسير، وفي آخرِ الكلام في القدر، في تقدير الشرور، وبيان الحكمة والرحمة فيها وهو كثير مستوفى.

والقصدُ تنبيهُ ذوي الأفهامِ الذين يُغنيهم القليلُ عن التكثير والتطويل. فَزِنِ الأشياء بميزان الاعتدال، وجادِلْهم بالتي هي أحسن كما علَّم ذو الجلال.

(1) أخرجه البخاري (7404) في التوحيد ومسلم (2751) في التوبة، وأحمد 2/ 258 و260 و313 و358 و381 و397 و433 و466، وابن ماجه (4295) في الزهد، والبغوي في " شرح السنة "(4177) و (4178) من طرق عن أبي هريرة، ولفظ مسلم:" لما قضى الله الخلق، كتب في كتابه على نفسه، فهو موضوع عنده: إن رحمتي تغلب غضبي ".

(2)

أخرجه البخاري (69) ومسلم (1734) من حديث أنس، وأخرجه من حديث أبي موسى الأشعرى أحمد 4/ 399 و412، والبخاري (3038) ومسلم (1732) و (1733) وأبو داود (4835) والبغوي (2475).

(3)

قطعة من حديث مُطوَّل رواه البخاري (702) في الأذان، و (6110) في الأدب، و (7159) في الأحكام، ومسلم (466)، وأحمد 4/ 118 و119 و5/ 273، والدارمي 1/ 288، وابن ماجه (984)، والبغوي (884) كلهم من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن أبي مسعود الأنصاري، قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني لأتأخر عن صلاة الصبح من أجل فلان، مما يطيل بنا، فما رأيت النبى صلى الله عليه وسلم غضب في موعظة قط أشدُ مما غضب يومئذ، ثم قال:" إن منكم منفرين، فأيكم أمَّ الناس فليوجز، فإن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة ".

ص: 173

واعلم أن مِن لطائف الأنظار لذوي الأذهان، أنَّ الله سبحانه لما وضع الميزانَ، وهو ميزانُ المقادير على الصحيح، لا ميزانُ البُرهان، حرَّم الإخسارَ فيه والطُّغيان، فقال سبحانه في سورة الرحمن:{وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} [الرَّحمن: 7 - 9]. وإذا كان هذا في ميزانِ الدِّرهم والدِّينار، اللذيْنِ هما من جنس الأحجار، وكانِزُهما المانِعُ حقوقَهما متوعَّدٌ بالنار، فما ظنَّك بالإخسار والطُّغيان في ميزان البُرهان، الذي يُعْرَفُ به الدَّيَّان، وتُحفظ به الأديان.

والصَّلاة والسَّلام الأتَمَّانِ الأكملانِ على نبيِّهِ ورسوله وحبيبِه وخليلِه، الذي مدحه الله العظيمُ، ووصفه في الذكر الحكيم بالخُلُق العظيم، وأنَّه بالمؤمنين رؤوف رحيم، المخصوصِ مِن بين الأنبياء بالخمسِ الفضائل (1)، المسموحِ له -يومَ قابَ قوسين أو أدنى- ما زاد على الخمس الفواضِلِ: سَيِّدِ ولدِ آدمَ يوم القيامة في المقامِ المحمود، وحاملِ لواء الحمد في اليوم الموعود، صاحِبِ السَّبع المثاني والكوثرِ (2)، والشفاعةِ

(1) روى البخاري (335) فىِ التيمم، ومسلم (521) في أول المساجد من حديث جابر بن عبد الله مرفوعاً:" أُعطيت خمساً لم يُعطهن أحدٌ قبلي: نصرت بالرعب من مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي المغانم، ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة ".

(2)

مقتبس من قوله سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآَنَ الْعَظِيمَ} [الحجر: 87] وقوله: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1]، وقد فسر النبيُّ صلى الله عليه وسلم الكوثرَ بأنه نهر في الجنة، حافتاه: الذهب، ومجراه: الدر والياقوت .. ، رواه عن أنسٍ البخاريُّ (6581) وأحمد 3/ 103 و115، والترمذي (3357)، وعن ابن عمر أحمدُ 2/ 112، والدارمي 2/ 337، والترمذي (3358) وابن ماجه (4334) وإسناده صحيح.

ص: 174

العُظمى يومَ المحشر، المبعوثِ بالحنيفية السَّمحة (1) إلى الأسودِ والأحمرِ (2)، المنعوتِ بأنَّه خيرُ الناس نِصاباً، الموعودِ -مَنْ أعْرَضَ عن سنته- بالصَّغار عقاباً (3)، الذي لا يُفتح لأحدٍ قبلَه أبوابُ الجنان، ولا ينامُ قلبُه وإن نامت منه العينانِ (4)، الذي وجبت له النبوةُ وآدمُ بين الجسدِ

(1) أخرج أحمد بسند قوى 6/ 116 و233 من حديث عائشة مرفوعاً: "

أني أرسلت بحنيفية سمحة" وله شاهد من حديث ابن عباس عند أحمد 1/ 236 بلفظ: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأديان أحب إلى الله؟ قال: " الحنيفية السمحة " ورجاله ثقات، وعلقه البخاري في " صحيحه " 1/ 93 في الإيمان، باب الدين يسر، ووصله في " الأدب المفرد " (287) وحَسَّن إسناده الحافظ في " الفتح "، وآخر عن أبي أمامة عند أحمد 5/ 226 والطبراني (7868) ولا بأس بإسناده في الشواهد، وثالث عن جابر عند الخطيب في " تاريخه " 7/ 209 وابن النجار في " ذيل تاريخ بغداد " 3/ 5 من المطبوع وسنده ضعيف، ورابع عن حبيب بن أبي ثابت مرسلاً عند ابن سعد في. الطبقات " 1/ 292، فالحديث صحيح بها، ولقد ضعفه الشيخ الألباني في " غاية المرام "(20 و21 و22) فأخطأ.

(2)

بهامش (أ) ما نصه: رواه البخاري في ترجمة باب من حديث ابن عمر، وذكره ابن الأثير في الفضائل من حرف الفاء، ويشهد له من كتاب الله تعالى:{سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا} وقوله تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} تمت من خط المصنف رحمه الله تعالى. وقوله: رواه البخاري في ترجمة باب من حديث ابن عمر. لم نقف عليه في صحيحه، ويغلب على الظن أنه وهم، نعم أورده ابن الأثير في جامع الأصول 8/ 528 - 529 الطبعة الشامية من حديث جابر بن عبد الله، ونسبه إلى البخارى والنسائي ومسلم، وهو عند مسلم (521) في المساجد فقط باللفظ الذي ذكره المصنف، ولفظ البخاري (335) والنسائي 1/ 210: وكان كل يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة. ولفظ مسلم أخرجه أحمد 1/ 250 و301 من حديث ابن عباس، وأخرجه الدارمي 2/ 224، وأحمد 5/ 145 و148 و161 من حديث أبي ذر، وهو في " المسند " 4/ 416 أيضاً من حديث أبي موسى الأشعري.

(3)

اقتباس من قوله صلى الله عليه وسلم: " بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد اللهُ وحده لا شريك له، وجُعل رزقي تحت ظل رمحي، وجُعل الذلةُ والصِّغَار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم " رواه أحمد 2/ 50 و92، وسنده حسن، وجّوَّد إسناده شيخ الإسلام ابن تيمية في " الاقتضاء "(ص 39)، وصححه الحافظ العراقي في " تخريج الإحياء " وحسنه الحافظ في " الفتح " 10/ 32.

(4)

في البخاري (1147) ومسلم (738) و" الموطأ " 1/ 120، و" المسند " =

ص: 175

والرُّوح (1)، ووعده ربُّه سبحانه أن يُرضِيَه في أمَّته حين فاض لِرحمتهم دَمْعُهُ المسفوح، الذي استخرح لنا شفيعٌ {وأمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} من كنوز فضائله، ونفيسِ خصائصه: قولَه عليه الصلاة والسلام من حديث ابن عباس: " أنَا حبيبُ اللهِ ولا فخر، وأنا حامِلُ لِوَاءِ الحمدِ يَوْمَ القِيَامَةِ ولا فخر، وأنا أول شَافِع وأوَّل مُشفَّع يومَ القيامة ولا فخر، وأنا أوَّل مََنْ يُحَرِّكُ حِلَقَ الجنةِ، فيفتح الله لي فيُدخلنيها، ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر"(2). وحديث. " ولكنَّ صاحبَكم خليلُ الله "(3). وفي حديثِ الخُدْرِي: " أنَا سيِّد وَلَدِ آدمَ وَلا فخر، وبيدي لِواءُ الحمدِ ولا فخر، وما مِن نبيٍّ -آدمَ فمن سِواه- إلا تحتَ لوائي، وأنا أوَّلُ من تنشق عنه الأرضُ ولا فخر "(4). وفي حديث أنس: "أنَا أوَّلُ النَّاسِ خروجاً إذا بُعِثُوا، وأنَا

= 6/ 36 و73 و104، وسنن أبي داود (1341)، والترمذي (439) والنسائي 3/ 234، عن عائشة رضي الله عنها مرفوعاً:" إن عينيَّ تنام ولا ينام قلبي "، وفي الباب عن ابن عباس عند أحمد 1/ 220، وعن أبي هريرة 2/ 251 و438، وعن أبي بكرة 5/ 40 و50.

(1)

أخرج أحمد 5/ 59 وأبو نعيم في " الحلية " 9/ 53 وابن الأثير في "أسد الغابة" 5/ 285 من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن منصور بن سعد عن بُديل عن عبد الله بن شقيق عن ميسرة الفجر، قال: قلت: يا رسول الله، متى كتبت نبياً؟ قال:" وآدم بين الروح والجسد " وهذا إسناد صحيح، ورواه ابن سعد في " الطبقات " 7/ 60 من طريق معاذ بن هانىء عن إبراهيم بن طهمان عن بُديل به، وله شاهد عن ابن عباس عند الطبراني (12571) و (12646) والبزار (2364)(زوائده) وانظر " المجمع " 8/ 223.

(2)

أخرجه الترمذي (3616) والدارمي 1/ 26 في المقدمة، وفي سنده زمعة بن صالح الجندي، وهو ضعيف، وباقي رجاله ثقات، ولِعُظْمِهِ شواهد ستأتي عند المصنف.

(3)

هو قطعة من حديث عند مسلم (2383) والترمذي (3655) وابن ماجه (93) وأحمد 1/ 377 و389 و409 و433 والبغوى في " شرح السنة "(3867) كلهم من طريق أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود.

(4)

أخرجه أحمد 3/ 2 والترمذي (3618) وابن ماجه (4308) من حديث أبي سعيد، وهو في " المسند " 1/ 281 و282 و295 و296 من حديث ابن عباس، وفي سندهما علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف، لكنْ له شاهد صحيح يتقوى به من حديث =

ص: 176

خطيبُهم إذا وَفَدوا، وأنا مُبَشِّرُهم إذا يَئِسُوا، ولِوَاءُ الحمدِ يومئذٍ بيدي، وأنا أكرمُ ولدِ آدمَ على ربِّي ولا فخر" (1). وفي حديث أُبي بنِ كعب:" إذا كَاَن يوم القيامة كنتُ إمامَ النبيين، وخطيبَهم، وصاحبَ شفاعتهم، غيرَ فخر "(2). وفي حديث أبي هُريرة: " أنا سيِّدُ ولدِ آدَمَ، وأوَّلُ شافعٍ، وأوَّلُ مُشَفع، وأوَّلُ مَنْ تنشقُّ عنه الأرضُ، فأُكسى حُلَّةً من حُلَلِ الجَنَّةِ، ثم أقومُ عن يمين العرش، فليس من الخلائق يقومُ ذلك المقامَ غيري "(3). فعليه أفضلُ الصَّلاةِ والسلامِ، على الدَّوام.

وعلى آلهِ الذين أمرَ بمحبتهم، واختصَّهم للمُباهلةِ (4) بهم، وتلا آية التطهير (5) بسببهم، وبشَّر مُحبِّيهم أن يكونوا معه، في درجته يومَ القيامة، وأنذز محاربيهم بالحرب، وبشَّر مسالميهم بالسَّلامة، وشرع الصلاةَ عليهم

= أنس بن مالك عند أحمد 3/ 144، وآخر من حديث عبد الله بن سلام عند ابن حبان (2127).

(1)

أخرجه الترمذي (3610) والدارمي 1/ 26 و27، وحسنه الترمذي مع أن فيه ليث ابن أبي سليم وهو ضعيف لسوء حفظه، فلعله حسنه لشواهده.

(2)

أخرجه الترمذي (3613) في المناقب، وابن ماجه (4314) في الزهد، وأحمد 5/ 137 و138، وسنده حسن.

(3)

أخرجه إلى قوله: " .. وأول من تنشق عنه الأرض .. " مسلم (2278) في الفضائل، وأبو داود (4673) في السنة، وأحمد 2/ 540، وأخرجَ القطعة الأخيرة منه الترمذيُّ (3611) المناقب، وحسنه، مع أن في سنده أبا خالد الدالاني، واسمه يزيد، وهو كثير الخطأ.

(4)

قال ابن الأثير في " النهاية ": والمباهلة: الملاعنة، وهو أن يجتمع القوم إذا اختلفوا في شيء فيقولوا: لعنة الله على الظالم منَّا. وانظر مباهلةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لوفد نصارى نجران في " تفسير ابن كثير " 2/ 40 - 45 في تفسير الآية (61) من سورة آل عمران.

(5)

وهي قوله تعالى: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً} وانظر الأحاديث الواردة في ذلك في " تفسير ابن كثير " 6/ 407 - 411 طبعة الشعب.

ص: 177

معه في كُلِّ صلاة، وقَرَنَهُمْ في حديث الثقلين (1) بكتاب الله، ووصى فيهم، وأكَّدَ الوصاة، بقوله:" الله، الله ". خرَّجه مسلم فيما رواه، وزاد الترمذي وسِواه: بشراه لذوي قُرباه، إنهما لن يفترقا حتى يلقياه.

ولمَّا أهَبَّ اللهُ سبحانَه لهم أرْوَاحَ الذِّكرِ المحمود في جميعِ الوجود، بذكرهم في الصلواتِ الإلهية، ومع الصلواتِ النبوية، فلازم ذكرهم الصلوات الخمس، والصلاة على خيرِ مَنْ طلعت عليه الشَمس. كان ذلك إعلاناً ممن له الخلقُ والأمرُ، وإعلاماً مِمن لا يُقَدِّرُ لجلاله قَدْرٌ، أنَّهُ أراد أن يَهُبَّ ذكرُهم مَهَبِّ الجَنُوب والقَبُولِ (2)، وأن لا يُنسى فيهم عظيمُ حق الرسول، لا سِيَّما وقد سبق في علمه سبحانه: أن

(1) وهو قوله صلى الله عليه وسلم حديث طويل: "

وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما: كتاب الله فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به" فحث على كتاب الله ورغب فيه، ثم قال: " وأهل بيتي، أُذَكَّركم الله في أهل بيتي " ثلاثاً، رواه مسلم (2408) وأحمد 4/ 366 و371، والدارمي 2/ 432، والفسوي في " تاريخه " 1/ 537، والطبراني في " الكبير " (5028) و (5040) عن زيد بن أرقم، وعنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: " إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي: أهل بيتي، وإنهما لن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض " رواه الحاكم 3/ 148 وصححه ووافقه الذهبي، والطبراني في " الكببر " (4980) والفسوي في " المعرفة والتاريخ " 1/ 536، وهو صحيح، ورواه الترمذي (3788) وقال: حسن غريب، أي بشواهده، فإن في سنده عطية العوفي، وهو ضعيف، وفي الباب عن زيد بن ثابت عند أحمد 5/ 181 و199 والطبراني في " الكبير " (4921) و (4922) و (4923) وعن أبي سعيد الخدري عند أحمد 3/ 14 و17 و26 و59، وسنده حسن بالشواهد، وعن جابر عند الترمذي (3786) والطبراني (2678 - 2680) وفيه زيد بن الحسن الأنماطي وهو ضعيف، لكنه يتقوى بشواهده، وانظر " مجمع الزوائد " 9/ 165، وعن حذيفة بن أسيد عند الطبراني في " الكبير" (2683) و (3052) قال الهيمثي في " المجمع " 9/ 165: وفيه زيد بن الحسن الأنماطي، قال أبو حاتم: منكر الحديث، ووثقه ابن جان، وبقية رجال أحد الإسنادين ثقات، وانظر " المجمع " 10/ 363.

(2)

في (أ): القَبُول والجَنُوب، والقبُول من الرياح: الصَّبا، لأنها تستدبر الدَّبُور، وتستقبل باب الكعبة، والجَنُوب: ريح تخالف الشمال تأتي عن يمين القبلة.

ص: 178

الأشراف لا يزالون مُحَسَّدين (1)، وأن الاختلاف والمعاداة فتنةُ هذه الأمة إلى يوم الدين.

وكذلك، فإنه لمَّا علم ما سيكون من استحلال حُرمَتِهِمُ العظيمة، وسفكِ دمائهم الكريمة، أذِنَ بأنَّه حرب لمن حاربهم، وسِلمٌ (2) لمن سالمهم، وقَرنهم بالكتاب المجيد، ووصَّى فيهم من كان له قلبٌ أو ألقى السمعَ وهو شهيد.

وهذا الكتاب لا يّتَّسِعُ لذكر فضائل ذوي القربى، فعليك أبها السُّنِّي بمطالعتها في كتاب " ذخائر العُقبى "(3)، وأمثالِه من الكتب المجرَّدةِ لذكر فضائلهم المشهورة، ومناقبهم المأثورة، وكراماتِهم المشهودة، وسِيَرِهم المحمودة، وفي تراجم أئِمتَّهِم السَّابقين، في كتب أئِمة الحديث العارفين.

وعلى أصحابِه أجمعين مِن الفقراء المهاجرين {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 8 - 10].

(1) اقتباس من قول الشاعر أنشده الزمخشري في أساس البلاغة

إن العَرانِينَ تلقاها مُحَسَّدَةً

ولا ترى لِلئام الناسِ حُسَّادا

(2)

الواو ساقطة من (أ).

(3)

هو للشيخ العلامة أحمد بن عبد الله بن محمد، محب الدين الطبري، المتوفى سنة (694) هـ، وقد طبع في دار الكتب العراقية في بغداد سنة (1967) م.

ص: 179

{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا (1) الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100].

{وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 29].

و" مِنْ " ها هنا لِبيان الجنس، لأن لفظةَ "بعضٍ" لا تَصلُحُ مكانَها. فما أكرمَ قوماً ذُكِروا في التَّوراة والإنجيل والقرآن، وَوُصفوا بالسَّبق والهجرة والنُّصْرَة والإيمان، أولئك أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، الذين صَدَعتْ مَمادحُ الوحي قرآناً وسُنَّةً، بأنَّهم خيرُ الناس وخيرُ القرون، وخيرُ أُمَّة. ولو لم يَرد من فضائلهم الشريفة، إلا حديثُ " ما بلغَ مُدِّ أحدهم ولا نصيفه "(2).

(1) هي قراءة عبد الله بن كثير المكي، المتوفى سنة (120) هـ وكذلك هي في مصحف أهل مكة وقرأ الباقون:{تَحْتَها} بحذف " مِنْ " ونصب " التاء "، وكذلك هي في جميع المصاحف غير مصحف أهل مكة، انظر " حجة القراءات " (ص: 322) لابن زنجلة، و" زاد المسير " 3/ 491، و" الكشف عن وجوه القراءات " 1/ 505.

(2)

حَذَفَ المُصنفَ الجوابَ للعلم به، أي: لكفاهم بذلك فخراً، وهو من بابة قوله تعالى في سورة الرعد، الآية: 32: {ولو أنَّ قرآنا سُيرت به الجبالُ أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعاً} ، انظر " زاد المسير " 4/ 330 بتحقيقنا.

والحديث بتمامه: " لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده، لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه " أخرجه البخاري (3674) ومسلم (2540) والترمذي (3860) وأبو داود (4658) وأحمد 3/ 511، وابن أبي عاصم (988) والبغوي (3859) كلهم =

ص: 180

ولَمَّا علم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم -أنْ سوف تُجهلُ حقوقهم، ويُستحلُّ عقوقُهم- حذَّرَ من ذلك وأنذر، وبالغ صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك وأكثر. ولو لم يَرد في ذلك إلَاّ قولهُ صلى الله عليه وآله وسلم:" الله، الله في أصحابي، لا تتَّخِذُوهُمْ غرَضَاً بَعْدي منْ أحبَّهم فَبِحُبي أحبَّهم، ومَنْ أبَغَضهم فَببُغضي أبغضهم، ومَنْ آذاهُم، فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى اللهَ، فَيُوشِكُ أن يأخذه "(1).

وقولهُ صلى الله عليه وآله وسلم: " إذا رأيْتُمُ الَّذِينَ يَسُبُّونَ أصحابي، فَقُولُوا: لعنةُ اللهِ على شَرِّكم "(2).

فيا لَه مِن قصاص ما أنصَفَهُ، وجزاءٍ ما أعدله، فخذها أيها السُّنّي ممن أُوتي الكلم الجوامع، والحجج القواطع.

فَرَضِيَ اللهُ عَن السابقين منهم واللَاّحقين، والمتبوعينَ منهم والتابعين، من أهلِ الحرمين، والهِجْرَتيْنِ، والمسجدَيْنِ، والقبلتين، والكِتابين، والبيعتين (3)، والأربعةِ والعشرة، وأهلِ بدرٍ البررة، والذين

= من حديث أبي سعيد الخدري، ورواه من حديث أبي هريرة مسلمٌ (2541) وابن ماجه (161).

(1)

أخرجه أحمد 4/ 87 و5/ 54 و57 والترمذي (3861) في المناقب؛ والبغوي (3860) وأحمد في " فضائل الصحابة "(1) و (2) و (3) و (4) والبخاري في " التاريخ الكبير " 3/ 1/131 والخطيب في " تاريخه " 9/ 123 وأبو نعيم في الحلية 8/ 287 وابن أبي عاصم (992) من حديث عند الله بن مُغَفَّل المزني، وفيه عبد الرحمن بن زياد، لم يوثقه غير ابن حبان على عادته في توثيق المجاهيل، ومع ذلك فقد حَسَّنه الترمذي، وصححه ابن حبان (2284).

(2)

أخرجه الترمذي (3866) في المناقب، من طريق النضر بن حماد عن سيف بن عمر عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر، والنضر بن حماد ضعيف وكذا شيخه، وقال الترمذي: هذا حديث منكر لا نعرفه من حديث عبيد الله بن عمر إلا من هذا الوجه.

(3)

الحرمان: مكة والمدينة، والهجرتان، هجرة الحبشة وهجرة المدينة، =

ص: 181

تبوَّؤا الدار والإيمان، وأهلِ العشرين الغزوة والثمان (1). وعن البعوثِ والجنودِ، وأهلِ حِجَّةِ الودَاع والوفود.

وعن الذين جاؤوا منْ بعدهم يقولون: ربَّنا اغْفِرْ لنا ولإخواننا الَّذينَ سبقونا بالإيمان ولا تَجْعَلْ في قلوبنا غِلاًّ للذين آمنوا ربَّنا إنك رؤوف رحيم.

فعليك أيُّها السُّنِّي بمطالعة " الرياض النضرة في فضائل العشرة "(2) وأمثاله. ومِنْ أحسنِ ما صُنِّفَ في هذا: كتاب الدارقطني " في ثناء الصحابة على القرابة، وثناءِ القرابة على الصحابة "(3).

وذكرَ الحافظُ العلامةُ ابنُ تيمية: أنَّ الذي روى ما يُناقِض (4) ذلك " يهودي "، أظهر الإسلامَ لتُقْبَلَ أكاذيبُه، ثم وضع تلك الأكاذيبَ، وبثَّها في النَّاس.

فيا غوثاه ممن يَقْبَلُ مجاهيلَ الرواة في انتقاص خَيْرِ أمَّةٍ بنصِّ كتاب الله (5)، وخيرِ القرون بنصِّ رسول الله (6)! فحسبُنا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

= والمسجدان: مسجد مكة ومسجد المدينة، والقبلتان: الكعبة والمسجد الأقصى، والبيعتان: بيعة العقبة وبيعة الرضوان والكتابين: الإنجيل والقرآن.

(1)

انظر في التعريف بهذه الغزوات " جوامع السيرة " لابن حزم تحقيق إحسان عباس وناصر الدين الأسد ومراجعة الأستاذ العلامة المحدث الشيخ أحمد محمد شاكر رحمه الله.

(2)

وهو مطبوع في مصر بعناية جمعية نشر الكتب العربية، سنة (1923) م.

(3)

في ظاهرية دمشق قطعة من كتاب للدارقطني موسوم بـ " فضائل الصحابة ومناقبهم " كُتب سنة (614) هـ، انظر " فهرس مخطوطات الظاهرية " علم التاريخ 170.

(4)

في (أ): ناقض.

(5)

وهو قوله تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} [آل عمران: 110].

(6)

وهو ما رواه البخاري (2651) في الشهادات، ومسلم (2535) والترمذي =

ص: 182

ولعلَّ كتابَ الدارقطني هذا مِن أَنفس المصنفات، فإنَّهُ لا يجتمع حُبُّ الأصحاب والآل، إلا في قلوب عقلاء الرجال.

ورضي اللهُ عن هذه الأُمةِ الكريمة، السَّابقةِ على تأَخُّرِها (1)، المرحومةِ الشهداء العُدول، المُشَبَّهين بالملائكة في الشهادة والقبول، الغُرِّ المُحَجَّلين، الشفعاءِ المشفَّعين، الذين أوتوا من الأجر في المُدَّةِ القليلة، مِثْلَ ما أوتيَ منْ قبلهم في الأعمارِ الطويلة، الذين أوجب اللهُ بشهادتهم (2) إحدى الدارين (3) واسْتُحِقَّت الجنةُ خاصةً بشهادة أربعةٍ منهم أو ثلاثةٍ أو اثنين (4)، المرفوع عنهم الخطأُ والإكراهُ والنسيانُ. واستقر بشراهم في

= (2221) وابن حبان (2285) وأحمد 4/ 426 من حديث عمران بن حصين مرفوعاً: " خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم .. " وفي الباب عن عبد الله بن مسعود عند البخاري (2652) ومسلم (2533) وابن ماجه (2362) وأحمد 1/ 375 و417 والخطيب في " تاريخه " 12/ 53، وعن أبي هريرة عند مسلم (2534).

(1)

اقتباس من قوله صلى الله عليه وسلم: " نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب مِن قبلنا " أخرجه من حديث أبي هريرة البخاريّ (876) ومسلم (855).

(2)

في (ب): شهادتهم.

(3)

في (أ) فوق كلمة " الدارين ": الجنة أو النار. وأخرج البخاري (1367) و (2642) ومسلم (949) من حديث أنس بن مالك قال: مَرُّوا بجنازة فأثنوا عليها خيراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" وجبت " ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شراً، فقال:" وجبت " فقال عمر بن الخطاب: ما وجبت؟ قال: هذا أثنيتم عليه خيراً فوجبت له الجنة، وهدا أثنيتم عليه شراً، فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض " قال الحافظ: أي المخَاطَبون بذلك من الصحابة ومن كان على صفتهم من الإيمان، وحكى ابن التين أن ذلك مخصوص بالصحابة لأنهم كانوا ينطقون بالحكمة بخلاف مَن بعدهم، وأخرجه أيضاً الترمذي (1058) والنسائي 4/ 49 وابن ماجه (1491) وأحمد 3/ 186 و197 و245 و281، وفي الباب عن أبي هريرة عند أحمد 2/ 261 و498 و499 و528 وابن ماجه (1492).

(4)

أخرج البخاري في " صحيحه "(2643) في الشهادات من حديث عمر بن الخطاب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة "، قلنا: وثلاثة؟ قال: " وثلاثة " قلت: واثنان؟ قال: " واثنان " ثم لم نسأله عن الواحد.

ص: 183

نصوص السُّنةِ والقُرآن بتكفيرِ ذنوبهم بما جرى بينهم في دنياهم من الفتنة (1) والقتال، وسائر المصائب والأوجال، بمشيئة ذي الطول والإفضال بشهادة آية التخوف، ومقبول الأحاديث عند فرسان الاستدلال، المعصومةِ (2) من الاجتماع على الضَّلال (3)، فلا تزالُ طائفةٌ منهم على الحق، حتى يُقاتِل آخِرهُم الدَّجال (4). الموعودين في الكتاب المسطورِ، بالإخراج من الظُّلماتِ إلى النور، المسْتغْفِرِ لهم ملائكةُ الرحمن، بنصوص السُّنة والقرآن، الشاهد لهم بحُبِّ الله مطلق الاتباع، وادخار الدعوة المقبولة، وخير شفيع مطاع، المُنْعَمِ عليهم بلزوم خوفه، المبلِّغ لهم بعدَ الموت إلى الأمان، لشهادته بالإيمان، بدليل تعليقه في القرآن بخوف الرحمن، المبشرين بكونهم نصفَ أهلِ الجنة (5)، بل ثُلُثيهم (6)، مع كثرة من تقدم

(1) في (أ): من القتل والقتال.

(2)

في (أ): المعصومين.

(3)

أخرج الترمذى (2168) في الفتن: باب في لزوم الجماعة، من حديث ابن عمر مرفوعاًً:" إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة " وفيه سليمان بن سفيان وهو ضعيف، لكنْ له شاهد عند الحاكم 1/ 116 بسند صحيح من حديث ابن عباس، وآخر عن أبي مالك الأشعري عند أبي داود (4253) وإسناده منقطع، وعند ابن أبي عاصم (82) وفيه عنعنة الحسن، وسعيد بن زربي منكر الحديث، وثالث عن أنس بن مالك عند ابن أبي عاصم (83) و (84) وإسناده حسن في الشواهد، ورابع عن أبي مسعود موقوفاً عند ابن أبي عاصم (85) بإسناد جيد، ورواه الطبراني أيضاًً من طريقين إحداهما رجالها ثقات، كما قال الهيثمي في " المجمع " 5/ 219، وانظر ما قاله السخاوي في " المقاصد "(460) فإنه مهم.

(4)

أخرج أبو داود (2484) وأحمد 4/ 434 و437 والحاكم 4/ 450 بإسناد صحيح عن عمران بن حصين مرفوعاً: " لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق، ظاهرين على من ناوأهم، حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال ".

(5)

أخرج البخاري (6528) ومسلم (377)(221) من حديث عبد الله بن مسعود أنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في قبة فقال: " أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة "؟ قلنا: نعم، قال:" أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة "؟، قلنا: نعم، قال:" أترضون أن تكونوا شطر أهل الجنة "؟ قلنا: نعم، قال:" والذي نفس محمد بيده، إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة ".

(6)

أخرجه أبو نعيم في " الحلية " 7/ 101، وفي سنده ضعف، لكن الحديث الآتي بعده يشهد له.

ص: 184

من الأُمم عليهم، وقلَّتهم بالنظر اليهم. فأتقن طرق النقاد في حديث:" أمتي منهم ثمانون صَفَّاً "(1)، وحديث:" الثلاث الحَثَيَات، بعد السبعين ألفاً مع كُلِّ ألفٍ سبعون ألفاً "(2). وحديث: " إنَّ ما بين مِصْرَاعينِ مِن باب واحد -من ثمانية أبواب- مِثْلُ ما بَيْنَ مكَّةَ وبُصرى "(3).

عطاءً بغير حساب، ثم إنَّهم يتضاغطون عليه، حتى تكادُ مناكبُهم تزول، فتدبَّر هذا بالمعقول، إن كنت من أهل القبولِ، لِما صحَّ عن الرسول.

فابذلْ جهدَك في نُصحهم، والتأليف بين قلوبهم، وجمع كلمتهم، ولو بينَ اثنينِ منهم.

وتأمل قول الله تعالى حيثُ يقول: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى

(1) أخرج الترمذي (2546) وابن ماجه (4289) والدارمي 2/ 377 وأحمد 5/ 347 من حديث بريدة الأسلمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أهل الجنة عشرون ومئة صف، ثمانون منها من هذه الأمة، وأربعون من سائر الأمم " وإسناده صحيح، ورواه أحمد 1/ 453 وأبو يعلى 249/ 2 والبزار 1/ 305 كالطبراني في " الكبير "(10398) وفي " الصغير " 1/ 34 وفي " الأوسط "(481) عن ابن مسعود، وله شواهد منها: عن أبي موسى عند الطبراني في " الأوسط " و" الكبير " وفي سنده سويد بن عبد العزيز، وآخر عن ابن عباس عند الطبراني في " الكبير "(10682) وفيه خالد بن يزيد الدمشقي، وثالث من حديث معاوية بن حيدة عند الطبراني، وفيه حماد بن عيسى الجهني، وانظر " مجمع الزوائد " 10/ 403.

(2)

لفظ الحديث بتمامه: " وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفاً لا حساب عليهم، ولا عذاب، مع كل ألفٍ سبعون ألفاً، وثلاث حثيات من حثيات ربي " أخرجه أحمد 5/ 268 والترمذي (2439) وابن ماجه (4286) وابن أبي عاصم (589) عن أبي أمامة، وفي سنده إسماعيل بن عياش، وهو صدوق في روايته عن أهل بلده، وهذا منها، فهو صحيح، وله طريق آخر عند ابن أبي عاصم (588) وأحمد 5/ 250 بسند صحيح، وفي الباب عن أبي هريرة عند أحمد 2/ 359 وعن أبي بكر عند أحمد أيضاًً (22) وفي سنده مجهول، وعن ثوبان عنده أيضاً 5/ 280 و281 والطبراني في " الكبير "(1413) وسنده حسن، وانظر " مجمع الزوائد " 1/ 407 و410.

(3)

هو قطعة من حديث الشفاعة الطويل، رواه البخاري (4712) ومسلم (194) وأحمد 2/ 435 والترمذي (2436) والبغوي (4332) من حديث أبي هريرة.

ص: 185

بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13]. وأمثالَها مِن كتاب الله تعالى، كما يأتي قريباً. وقولَه في حَقِّ البُغاة:{فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10] وقولَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في حقِّهم أيضاًً: " إنَّ ابْنِي هذَا سَيِّدٌَ، وَأرْجُو أنْ يُصْلحَ اللهُ بهِ بَيْنَ فِئَتيْنِ عَظِيمَتيْنِ مِنَ المُسْلِمِيْنَ "(1).

وإذا نقلتَ مذاهبَهم، فاتَّق الله في الغَلَطِ عليهم، ونسبةِ ما لم يقولوه إليهم، واستحضر عندَ كتابتك ما يبقى بعدَك: قولَه عز وجل: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ} [يس: 12].

وَلا تَكتُبْ بِكفِّكَ غَيْرَ شَيءٍ

يَسُرُّك في القِيَامَةِ أنْ تَرَاهُ

واطَّرِحْ قوْلَ مَنْ كفَّرهم بغيرِ دليل شرعي متواترٍ قطعي، إن كنتَ ممن يسمع ويَعي، وحَقِّقِ النظر في شروطِ هذه الصورة، تَعْلَمْ أنها لا تكونُ إلا في المعلوم مِن الدين بالضرورة، كما سيأتي تحقيقُ ذلك، عند سلوكِ هذه المسالك، وإيَّاكَ والْاغَتِرَارَ بـ " كُلُّهَا هَالِكَةٌ، إلَاّ وَاحِدَةً "(2) فإنها زيادةٌ فاسدة، غيرُ صحيحةِ القاعدة لا يُؤْمَنُ أن تكونَ مِن دسيسِ الملاحَدِة.

وعن ابن حزم (3): أنها موضوعة، غير موقوفة ولا مرفوعة، وكذلك جميعُ ما ورد في ذم القَدَرِية والمرجئة والأشعرية، فإنها أحاديث ضعيفةٌ غيرُ

(1) رواه البخاري (2704) والترمذي (3775) وأبو داود (4662) والنسائي 3/ 107 والبغوي (3934) وأحمد في " المسند " 5/ 37 و49 وفي " فضائل الصحابة "(1354) وعبد الرزاق في " المصنف "(20981) والطبراني في " الكبير "(2588) من حديث أبي بكرة.

(2)

وللعلامة المقبلي رحمه الله تنقيدٌ على كلام المؤلف هذا في كتابه " العَلَم الشامخ في إيثار الحق على الآباء والمشايخ " ص 414 فارجع إليه.

(3)

هو أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد الأندلسي المتوفى سنة (456) هـ وهو صاحب " المحلى " و" الفِصَل " و" الأحكام " وغيرها من التواليف الجيدة.

ص: 186

قوية. ذكر ذلك الحافظُ زينُ الدين، أبو حفص، عُمَرُ بنُ بَدر المَوْصِلي (1) في كتابه:" المغني عن الحفظ من الكتاب، بقولهم: لم يصح شيء في هذا الباب "(2). ونقل عنه الإمام الحافظ العلامة: ابن النحوي (3) الشافعي، في كتاب له، اختصرَ فيه -كتاب الحافظ زين الدين- وفي كليهما نقلٌ عن المحدثين، حيث قالا بقولهم:" لم يصح شيءٌ في هذا الباب ". فالضمير في " قولهم " راجع إلى أهل الفن -بغير شك- وهما من أئِمَّة هذا الشأن، وفرسان هذا الميدان.

وأين هذه الأحاديث من الدليل الذي شرطناه، وأين هو من مُلاءمَةِ كتاب الله، وسنةِ رسول الله، عليه أفضلُ السلام والصلاة: قال الله سبحانه: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5] وقال: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 135] وقال تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286].

وصح في تفسيرها: أن الله تعالى قال: " قد فعلت " من حديث

(1) المولود بالموصل سنة (557) هـ، وله في الحديث والرجال مؤلفات تنبىء عن كونه عالماً بهدا الفن منها:" الجمع بين الصحيحين " و" استنباط المعين في العلل والتاريخ لابن معين " وغيرهما، توفي بدمشق سنة (622) هـ، " شذرات الذهب " 5/ 101.

(2)

ص 19، وقد طُبع في القاهرة سنة (1342) هـ، بتعليق العلامة المتفنن الشيخ محمد الخضر حسين رحمه الله، وهو ملخص من " موضوعات " ابن الجوزي، وللعلماء عليه وعلى أصله الذي أخذه منه مؤاخذات وتنقيدات، وقد تعقبه السيد حسام الدين القدسي، في كتاب سماه " انتقاد المغني وبيان أنْ لا غنى عن الحفظ والكتاب " طبع في مطبعة الترقي وقدم له العلامة الشيخ الكوثري رحمه الله بدمشق سنة (1343) هـ.

(3)

هو عمر بن علي بن أحمد الأنصاري الشافعي، المعروف بابن الملقن، من أكابر العلماء، توفي سنة (804) هـ، " ذيل تذكرة الحفاظ "(197 و369) و" الضوء اللامع " 6/ 100.

ص: 187

ابن عباس (1)، ومِن حديث أبي هريرة (2)؛ ولفظ أبي هريرة قال:" نعم "، والأول: لفظ ابن عباس. خَرَّجهما مسلم، وخرج الترمذي: حديثَ ابنِ عباس، وأشار إلى حديثِ أبي هريرة. وسيأتي الكلامُ على طرقهما -إن شاء الله تعالى- في مسألة الأفعال.

وقال في قتل المؤمن، مع التغليظ فيه: {وَما كَانَ لِمؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنَاً إلا خَطَئاً

} إلى قوله: {وَمَنْ يقْتُلْ مُؤْمِنَاً مُتَعَمِّداً

} [النساء: 92 - 93] وقال تعالى في قتلِ الصيد: {فَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً

} [المائدة: 95].

وممَّا يُقارِبُ هذه الآياتِ، ويشهد لمعناها: قولُه تعالى: {لا يُكلِّفُ اللهُ نفْسَاً إلا وُسْعَها

} [البقرة: 286]، وفي آية: {لا نُكَلِّف نفساً

} [الأنعام: 152]، بالنون. وفي آية:{إلا ما آتاها} [الطلاق: 7]، وقوله تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] وقوله: {وَمَا جَعَل عَلَيْكُم في الدِّين مِن حَرَجٍ

} [الحج: 78]. وإلاحتراز مما دَقَّ وتَعَسَّر، ليس في وُسْعِ أكثرِ البشر.

وأما قولُه تعالى: {أن تَحْبَطَ أعمالُكم وأنتُم لا تشْعُرُون} [الحجرات: 2] فالظاهر أن التقدير: لا تشعرون بإحباطها، لا بالذَّنْب

(1) رواه مسلم (126) وأحمد 1/ 233 والحاكم 2/ 286 والترمذي (2992) وابن جرير (6457) وذكره السيوطي في " الدر المنثور " 1/ 374 وزاد نسبته للنسائي وابن المنذر والبيهقي في " الأسماء والصفات ".

(2)

رواه مسلم (125) وأحمد 2/ 412 وابن جرير (6456) والبيهقي في " الشعب " 1/ 221 وذكره السيوطي في الدر 1/ 374 وزاد نسبته لأبي داود في " ناسخه " وابن المنذر، وابن أبي حاتم.

ص: 188

في فِعكلم، لأن المفعولَ إذا حُذف، قُدِّر من جنس الفعل المذكور، والفعل المذكور -هنا- قولُه: أن تحبط. فافهم ذلك.

وأما رسولُ الله، عليه أَفْضُلُ السَّلام والصلاة، فإنَّه شرع بينَ المسلمين المؤاخاة، وغلَّظ في المهاجرة والمنافاة، والتكفير والمعاداة، فَكَفَّرَ مَنْ كَفَّرَ أخاه.

فرحم اللهُ من اعتبر، وأََنصف في النظر، والرحمةُ -إن شاء الله- إلى مَنْ بذل الجهْدَ حين تعثَّر، فيما وجب من دقائق النظر أقربُ منها إلى مَنْ أفطر أو قَصَّر، لمشقة السَّفر.

فَمِنَ البعيدِ أَن يُسمح لهذا أَمر مقدور، ويكون ذاك فيما يقدر عليه غيرَ معذور. وقد بشر (1) رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فيما ثبت في " الصحيحين "(2) بالمغفرة في كل خميس واثنين لجميع أهل الشهادثين، إلا المتهاجِرين.

وقالَ: " بِحَسْبِ امْرىءٍ مِنَ الشَّرِّ أنْ يَحْقِرَ أخَاهُ "(3). حيث كان لا يعلم ما أَخفي قلبُه من تقواه، فإن التفاوت العظيم هو في تقوى القلب الذي لا يراه.

وأَيَّدَ ما ورد من العفو عن المخطىء منهم: ما صححه غيرُ واحد مِن أََئمةِ الرواة.

(1) في (أ): نبه.

(2)

أخرجه من حديث أبي هريرة مسلمٌ (2565) والترمذي (2023) وأحمد 2/ 329 وابن ماجه (1740) ومالك 2/ 908، ولم يخرجه البخاري في " صحيحه " إنما أخرجه في " الأدب المفرد "(411).

(3)

رواه مسلم (2564) وأبو داود (4882) والترمذي (1927) وابن ماجه (4213) من حديث أبي هريرة.

ص: 189

فمِن المتواترات في ذلك، حديثُ:"منْ كذَبَ عَليَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتبؤَّأْ مَقْعدهُ من النَّارِ"(1). فشَرَط التعمد في الكذب عليه، الذي هو أعظمُ المفاسد، وإحدى الكبائر.

وهذا الحديثُ - قال زينُ الدين في كتابه في " علوم الحديث "(2):

رواه بعضُ المحدثين، عن نيف وأربعين مِن الصحابة، فيهم العشرةُ رضي الله عنهم. وبعضُهم عن نيف وستين، وصَنَّف المزِّي (3) في طُرُقهِ: جزئين، فرواه عن مئة صحابي واثنين. وروي عن بعض المحدثين: أنَّه رواه مئتان من الصحابة.

وعلى الجملة إنه متواتر، وبعدَ التواتر يستوي كَثْرَة العدد وقِلَّتُه، إذ

(1) رواه البخاري (108) ومسلم (5) عن أنس، ورواه غيرهما عن الجم الغفير من الصحابة رضوان الله عليهم، وليراجع تخريجه في " الجامع الصغير " للسيوطي و" نظم المتناثر " ومقدمة " الموضوعات الكبرى " لعلي القاري.

(2)

الموسوم بـ " شرح الألفيه " 2/ 275 - 277، وزاد بعد قوله: رواه مئتان من الصحابة قوله: وأنا أستبعد وقوع ذلك، وزين الدين لقبٌ للحافظ العراقي، واسمه: عبد الرحيم بن الحسين، توفي سنة 806 هـ، وله في المصطلح أيضاً " التقييد والإيضاح لما أطلق وأغلق من مقدمة ابن الصلاح "، وهو صاحب " المغني " في تخريج أحاديث " إحياء علوم الدين " ويجب على كل من يقرأ كتاب " الإحياء " أن ينظر في تخريج الحافظ العراقي هذا، فإن في الإحياء كثيراً من الأحاديث الضعيفة والموضوعة، وما لا أصل له.

(3)

هو الإمام الحافظ النقاد جمال الدين أبو الحجاج يوسف بن الزكي عبد الرحمن بن يوسف القضاعي ثم الكلبي الدمشقي المزي صاحب التواليف العظيمة في الرجال والحديث المتوفى سنة (742) هـ، وقد باشرت مؤسسة الرسالة بطبع كتابه الموعب في تراجم رجال الكتب الستة المسمى بـ " تهذيب الكمال " وقد صدر منه أربعة مجلدات، بتحقيق الدكتور بشار عواد، وبمراجعتي وتخريج أحاديثه والنية متجهة إلى إخراج بقية الأجزاء تباعاً بأسرع وقت، يَسَّر الله الأسباب وأزال العوائق، وكتابه العظيم " تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف " قد تمَّ طبعُه بثلاثة عشر مجلداً بإشراف الأستاذ الفاضل عبد الصمد شرف الدين، وقد جوده غاية التجويد، ويسره للباحثين وطلبة العلم، فجزاه الله خيراً.

ص: 190

العلمُ الضروري لا تتفاوت قوته (1).

وَمِن ذلك حديثُ زيدِ بن ثابت (2) مرفوعاً: " اللهُمَّ ما صلَّيتُ منْ صلاة، فعلى مَنْ صَلَّيْتُ، وما لَعنْتُ مِنْ لعْنةٍ، فَعلى منْ لعَنْتُ "(3). مختصر من حديث فيه طول رواه أَحمد والحاكم. وهذا يَدُلّ على قبولِ هذه النية، ممن نواها فأخطأ، والله أَعلم.

وَمِن أَحسن ما يُحتج به في ذلك: حديثُ الذي أوصى أن يُحْرَقَ، ثم يُسْحَقَ، ثم يُذرى في البحر والبَرِّ، فإن الله إن قدَر عليه، عَذبَه عذاباً لا يُعذِّبُه أحداً من العالمين. والحديث متواتر (4)، وقد أدركته الرحمةُ مع جهله بقدرة اللهِ، وشكِّهِ في المعاد بخوفه (5) وتأويله.

(1) الفقرة من قوله: وعلى الجملة .. إلى قوله: لا تتفاوت قوته. كانت في الأصل بعد قوله: والله أعلم. فنقلناها إلى هنا، لأنها ذات صلة بحديث:" من كذب عليَّ متعمداً " المتواتر.

(2)

في (أ) و (ب): زيد بن أرقم، وهو خطأ، والصواب ما أثبتنا.

(3)

أخرجه أحمد 5/ 191 والحاكم 1/ 517 والطبراني في " الكبير "(4803) من طريق أبي المغيرة عن أبي بكر بن أبي مريم عن ضمرة بن حبيب عن أبي الدرداء عن زيد بن ثابت، وصححه الحاكم فتعقبه الذهبي بقوله: أبو بكر ضعيف، فأين الصحة؟ وفي " التقريب ": ضعيف، كان قد سرق بيته فاختلط، ورواه الطبراني في " الكبير "(4932) من طريق عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح به، وعبد الله بن صالح هو كاتب الليث، سيىء الحفظ، وباقي رجاله ثقات.

(4)

رواه من حديث أبي سعيد الخدريِّ البخاريِّ (3478) و (6481) و (7508) ومسلم (2757) وأحمد 3/ 13 و17 و69 و77، ورواه من حديث حذيفة البخاريُّ (3451) و (6480) وأحمد 5/ 395، ورواه من حديث أبي هريرة أحمدُ 2/ 269 و340 ومالك 1/ 240 ومسلم (2756) والنسائي 4/ 112، 113 وابن ماجه (4255) والبغوي (4183) و (4184)، وأخرجه من حديث ابن مسعود أحمد 1/ 398 وأخرجه من حديث أبي مسعود الأنصاري أحمدُ 4/ 118 و5/ 383، وهو في " المسند " 5/ 407 من حديث حذيفة وأبي مسعود معاً، وأخرجه من حديث معاوية بن حيدة أحمدُ 4/ 447 و5/ 3، 4 والدارمي 2/ 330.

(5)

في (أ): لخوفه.

ص: 191

واتفقوا على تصحيح: " إنَّ الله تجاوزَ لُأمتي ما حدَّثت به أَنْفُسَها، ما لم يعملوا به، أَو يتكلَّمُوا " من حديث أبي هريرة، وعائشة (1). فما لم يعلموه، ولم يتعمَّدُوه أولى.

وكذلك اتفقوا على صحة حديث: " فلم يعنف أَحداً مِنَ الطائفتين " وقد أَخطأت إحداهُما في صلاة العصر -التي مَنْ فاتته حَبطَ عملُه- رواه البخاري (2).

ومن المشهور في ذلك: قولُه صلى الله عليه وسلم: " إنَّ الله تجاوزَ لي عن أُمَّتِي الخطأَ والنسيانَ وما استُكرِهُوا عليه ". وله طرقٌ كثيرة، عرفتُ منها سَبعاً:

الطريقُ الأولى: عن ابن عباس رضي الله عنهما. رواه ابن حبان في " صحيحه " والحاكم في " مستدركه " وقال: على شرط الشيخين،

(1) رواه من حديث أبي هريرة البخاريُّ (2528) و (5269) و (6664) ومسلم (127) والترمذي (1183) وأبو داود (2209) والنسائي 6/ 156، 157 وابن ماجه (2044) وأحمد 2/ 425 و474 و481 و491 و255 و393، ورواه من حديث عائشةَ العقيليُّ في " الضعفاء " كما في " الجامع الكبير "(1/ 164)، ورواه الطبراني في " الكبير " عن عمران بن حصين 18/ 316 وأورده الهيثمي في " المجمع " 6/ 250 ونسبه للطبراني وقال: فيه المسعودي، وقد اختلط وبقية رجاله رجال الصحيح.

(2)

رواه البخاري (964) و (4119) وهو في صحيح مسلم " (1770) ولفظه عند البخاري عن ابن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لنا لما رجع من الأحزاب: " لا يصلين أحدٌ العصر إلا في بني قريظة " فأدرك بعضَهم العصرُ في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلى حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي، لم يُرَد منا ذلك. فَذُكر للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحداً منهم، وقوله: " لا يصلين أحدٌ العصر " في رواية مسلم: " الظهر " ورجَّح الحافظُ في " الفتح " 7/ 408 و409 روايةَ البخاري.

والجملة المعترضة التي ذكرها المصنف ضمن الحديث، وهي " من فاتته حبط عمله " هي جزء من حديث رواه البخاري (553) و (594) وأحمد 5/ 349 و350 و357 و360 والنسائي 1/ 236 والبغوي (369) والبيهقي 1/ 444 من حديث بريدة مرفوعاً:" من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله ".

ص: 192

وابن ماجه في " سننه "، والدارقطني، والبيهقي، والطبراني (1).

قال البيهقي: جود إسناده بِشرُ بنُ بكر، وهو من الثقات ولفظها:" إن اللهَ تجاوزَ عن أُمَّتي، الخطأَ والنسيانَ .. " الحديث - لا رفع ولا وضع، فاعرف ذلك.

وهذه روايةُ بشر بن بكر عن الأوزاعي، وروايةُ الوليد بن مسلم عنه بلفظ:" الوضع "، وقد رجح البيهقي والطبراني: رواية بشر.

الطريق الثانية: عن عبد اللهِ بن عمر رضي الله عنهما بمثله، رواه العُقيلي، والبيهقي، وقال الحاكم: صحيح غريب (2).

الطريق الثالثة: عن عُقبة بنِ عامرٍ، وفي إسناده: ابنُ لَهيعة، وهو ممن يُسْتَشْهَدُ بحديثه (3).

(1) رواه ابن ماجة (2045) من طريق الوليد بن مسلم: حدثنا الأوزاعي، عن عطاء، عن ابن عباس، قال البوصيري في " الزوائد " ورقة 131: هذا إسناده صحيح إن سلم من الانقطاع، والظاهر أنه منقطع، قال المزي في " الأطراف " رواه بشر بن بكر التنيسي عن الأوزاعي عن عطاء عن عبيد بن عمير عن ابن عباس، وليس ببعيد أن يكون السقط من صنعة الوليد بن مسلم فإنه كان يدلس تدليس التسوية، ورواية بشر بن بكر التنسيي المتصلة أخرجها بن حبان في "صحيحه"(1498) والحاكم في "المستدرك " 2/ 198 وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي " ورواه البيهقي 7/ 356 والطبراني في " الصغير " 1/ 27 والدارقطني ص 497، والطحاوي في شرح معاني الآثار 2/ 56.

(2)

هو في الضعفاء للعقيلي، في ترجمة محمد بن المصفي لوحة: 402، وفي الحلية لأبي نعيم: 6/ 352، وأعله غير واحد بمحمد بن المصفي، وفي " التقريب ": صدوق له أوهام، وكان يدلس.

(3)

رواه البيهقي 7/ 357 من طريق يعقوب بن سفيان: حدثنا محمد بن المصفي، حدثنا الوليد، حدثنا ابن لهيعة، عن موسى بن وردان، عن عقبة بن عامر، وانظر " تلخيص الحبير " 1/ 282 وقول المصنف في ابن لهيعة: وهو ممن يستشهد بحديثه. أي: أنه لين إذا انفرد، وذلك أنه احترقت كتبه، فَسَاءَ حفظُه فضعف بسبب ذلك، وإذا روى عنه أحد العبادلة وهم: =

ص: 193

الطريق الرابعة: عن أبي ذر (1)، وليس في إسنادِه إلا شهرُ بن حَوْشَبه. والصحيح: توثيقُه.

وقال ابنُ النحوى في " البدر المنير "(2): " تركوه " فأخطأ، بل قوَّى أمرَهُ: البخاري، وابن معين، ويعقوب بن شيبة، وأحمد بن حنبل، وأحمد بن عبد الله العِجلي، والفسوي (3)، وأبو حاتِم، وأبو زُرعة. ولم يحتجَّ من جَرحَه بما يقوم بمثله حُجَّةٌ، وأكثر ما قيل فيه: شيء مستند إلى رواية " عبَّاد بن منصور "(4) وهو متكلَّم فيه أكثر من شهر، ومخالف لشهر في الاعتقاد، وذلك مِن موجبات العداوة والتُّهمة، فلا تُقْبلُ عليه خصوصاً في حقِّ القدماء، وحَدُّهم: رأس ثلاث مئة سنة. وهو من رجال السنن الأربع، ومسلم متابعة.

= عبد الله بن وهب، وعبد الله بن يزيد المقرىء، وعبد الله بن المبارك، فحديثه صحيح، لأنهم رووا عنه قبل احتراق كتبه.

(1)

رواه ابن ماجه (2043) من طريق أيوب بن سويد حدثنا أبو بكر الهذلي عن شهر بن حوشب عن أبي ذر، وأبو بكر الهذلي متروك الحديث كما في " التقريب "، وقال البوصيري في " زوائده " ورقة 131: هذا إسناد ضعيف لاتِّفَاقِهم على ضعف أبي بكر الهذلي، فقول المصنف: وليس في إسناده إلا شهر بن حوشب. فيه ما فيه، على أن شهراً لا يرقى إلى درجة التوثيق، وإنما يصلح حديثه للاستشهاد والاعتضاد.

(2)

وهو كتاب كبير يقع في سبع مجلدات، خرَّج فيه أحاديث كتاب " فتح العزيز شرح الوجيز " للإمام أبي القاسم الرافعي، وقد لخصه الحافظ ابن حجر في قدر ثلث حجمه مع الالتزام بتحصيل مقاصده، وأضاف إليه فوائد وزوائد من كتب أخرى، وأسماه " التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير " وقد طبع هذا التلخيص في مجلد واحد في الهند، ثم طبع في المدينة المنورة بعناية عبد الله هاشم اليماني المدني سنة 1964 هـ، وهو بحاجة إلى تحقيق جديد متين يناسب مكانة المؤلف وقيمة الكتاب.

(3)

هو يعقوب في سفيان، ونص كلامه في تاريخه 2/ 426: وشهر بن حوشب وإن قال ابن عون: إن شهراً قد تركوه، فهو ثقة.

(4)

في " ميزان الذهبي " 2/ 284 و" تهذيب ابن حجر " 4/ 372: قال يحيى القطان عن عباد بن منصور: حججت مع شهر بن حوشب فسرق عيبتي.

ص: 194

وقد ضعفه النَّسائي، وشُعبة، بألفاظ تقتضي أنه حسنُ الحديث، ولم يَقُل: إنهم تركوه، إلا ابنُ عون وحده، وذلك مردودٌ عليه. فإذا كان مثلُ أحمدَ والبخاري وسائر مَنْ ذكرنا يُقوونه، فَمَنِ النَّاسُ في هذا العلم بَعْدَهُم؟! ومن الذين (1) يعودُ الضميرُ في " تركوه " إليهم؟!

الطريق الخامسة: عن أم الدرداء [عن أبي الدرداء](2)، وفيها شهرٌ أيضاً (3).

الطريق السادسة: عن ثوبان، رواه الطبراني (4) وفيها " يزيد بن ربيعة الرَّحبي الدمشقي " قال البخاري: أحاديثه مناكير، وقال النسائي: متروك، لكن قال ابن عدي: أَرجو أنه لا بأْسَ به.

وقال أَبو مُسْهِر، كان فقيها لا يُتهم، ولكن أََخشى عليه سوءَ الحفظِ والوهم، فحديثُ مِثْلِ هذا مما يُسْتَشْهَدُ به، ويقوى مع غيره، وإن لم يُحْتَجُّ به منفرداً.

وقد اقتصر في " البدر المنير " على ذِكر جَرْحِه، فما أَنْضفَ.

الطريق السابعة: عن الحسن البصري مرسلاً، ومسنداً (5).

(1) في (ب): الذي.

(2)

سقطت من (أ) و (ب).

(3)

رواه الطبراني من طريق إسماعيل بن عياش عن أبي بكر الهذلي عن شهر بن حوشب عن أم الدرداء عن أبي الدرداء، وأبو بكر الهذلي متروك كما تقدم.

(4)

رقم (1430).

(5)

رواه ابن عدي في " الكامل " 2/ 573 من طريق جعفر بن جسر بن فرقد: حدثني أبي عن الحسن عن أبي بكرة مرفوعاً، رفع الله عن هذه الأمة ثلاثاً: الخطأ والنسيان والأمر يُكرهون عليه، وعده ابن عدي من منكرات جعفر هذا، قال: ولم أر للمتكلمين في الرجال فيه قولاً، ولا أدري لم غفلوا عنه، ولعله إنما هو من قِبَل أبيه، فإن أباه =

ص: 195

فالمرسل: صحيح عنه، رواه أَحمد بن حنبل، وسعيد بن منصور، وابن الجوزي في " تحقيقه ".

واستنكر أحمد رَفْعه في هذا الطريق، حتى قال: كَأنَّهُ موضوع.

قلت: كأَنَّهُ عنى بالرفع هنا الإسناد، وهو خلاف عُرْف المحدثين.

ورواه عن الحسن، مسنداً موصولاً بأبي بكرة، مرفوعاًً إلى النبي صلى الله عليه وسلم: جعفرُ بن جسر بن فَرْقَد عن أبيه، وهما ضعيفان. قال ابنُ عدي: البلاءُ فيه منْ جعفر، لا مِنْ جسر.

وجاءَ في هذه الطريق " لفظُ الرفع "، وهي ضعيفة، وتقدَّم أَن رواية " الوضع " أيضاً مُعَلَّة مَرْجُوحة.

وإنما الصحيحُ ما تقدم، وهو لفظ " التجاوز " دونَهما، كما مضى على ذلك ابن النحوي لِكثرةِ غلط الأكثرين في ذلك. وذَكر أَن النواويَّ حسَّنه في " الروضة " (1) في الطلاق بهذا اللفظ. وليس كذلك (2). قلت: وكذلك الأُصوليون، قد رووه بلفظ: " رُفع عن أُمتي

". وبَنَوْا على هذه اللفظة خلافاً: المرفوعُ ما يكون تقديره؟ لأن نفس الخطأ والنسيان والإكراه غيرُ مرفوع بالضرورة.

= قد تكلم فيه بعض من تقدم لأني لم أر جعفراً يروي عن غير ابيه. وانظر، " التلخيص الحبير " 1/ 228.

(1)

" روضة الطالبين " 8/ 193، بتحقيقي مع الزميل الشيخ عبد القادر الأرنؤوط، طبع المكتب الإسلامي.

(2)

" الروضة " كتاب الطلاق، 8/ 193 ونصه:" قلت: قد رجح الرافعي في كتابه " المحرر " أيضاً عدم الحنث في الطلاق واليمين جميعاً، وهو المختار، للحديث الحسن: " رُفع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه ".

ص: 196

فمنهم من قال: يكون مجملاً.

ومنهم من قال: يقدر أعم الأشياء، لأن تقدير غيره تخصيص بلا دليل، وذلك تحَكُّم، فيقدر: أن المرفوعَ حُكمُ هذه الأشياء، فَيَعُمُّ أحكامَ الدنيا والآخرة، إلا ما خصه الدليل.

ومنهم: مَنْ خَصَّه بأحكام الآخرة لِكثرة مخصّصاته في أحكامِ الدنيا في الجِنايات ونحوِها. وهو الصحيح في نظير هذه المسألة عندهم، وهما متقاربان. ولكنَّهم فرقوا بينهما في الكلام عليهما: بأنه إن ثبت عُرْفٌ يسْبِقُ الفهمُ إليه، تَعَين، مثل: تحريم الميتة والأمهات والحرير، فإن الفهم يسبِقُ إلى أن المحرَّم من الميتة: أَكْلُها، ومِنَ الأُم: نكاحُها، ومن الحرير: لباسُه، ونحو ذلك، وإن لم يَثْبُت عُرْفٌ، لزم التعميمُ، لأنه السابق إلى الأفهام حينئذ. والله أعلم.

ويقوي صحة هذا الحديث -مع ما تقدم من مفهومات كتاب الله، وصحيح السُّنن- ما رواه الحاكمُ، في تفسير سورة التكاثر، من " المستدرك "، فقال:" حدثنا أبو العباس محمدُ بنُ يعقوب، حدثنا محمد بنُ سِنان القزَّاز، حدثنا محمد بن بكر البرساني، حدثنا جعفرُ بن برْقان، قال: سمعتُ يزيدَ بن الأصم، يُحَدِّث عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما أخشى عليكم الفقْرَ، ولكن أخشى عليكم التَّكَاثُرَ، وما أخشى عليكم الخطأَ، ولكن أخشى عليكم التعمد " (1). ثم قال: وهذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه.

(1) رواه الحاكم 2/ 534، وأحمد 2/ 308 و539 وصححه ابن حبان (2489) وذكره الهيثمي في " المجمع " 3/ 121 و10/ 236 وقال في الموضعين: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. وإسناده صحيح.

ص: 197

قلت: ولم يذكر المزي في ترجمة: يزيد بن الأصم، عن أبي هريرة، أحداً من الستة أخرجه.

وروى أحمد في " المسند "، من حديث مَعْقِل بنِ يسار، قال: أمرني النبي صلى الله عليه وسلم أَن أقضيَ بين قوم، فقلتُ: ما أحْسِنُ أن أقضِيَ يا رسولَ الله، قال:" الله مع القاضي ما لم يَحِفْ عمداً "(1). إسناده عندي حسن. والله أعلم.

وينبني على هذا مسألة، وهي أنه قد ثبت بالتواتر الأمْرُ بحَرْبِ " الخوارج " وذمِّهم، وتأثيمهم، وتسميتهم: موارق من الإسلام (2).

فَمَن أخرجهم مِن الإسلام، ومِن الأُمة؛ لم يحتج إلى كلام، ولم يتعارض عنده الأمران، وكذلك: من لم يسلِّم أنهم مِن أَهل الخطأ، وجوز أنهم عاندوا، ولو في بعض الأوقات، واعْتَقَدَ أن تنْزِيهَهُم من ذلك، دعوى لعلم الغيب، وبناء على تصديقهم فيما أظهروه، وهو مُحَرَّمٌ ممنوعٌ شرعاً. فكل كافر يَدَّعي ذلك، وعلام الغيوب يُكذِّبهُم. وهذا قوي جداً.

وَمنْ أدخلهم في الأُمة، وكفَّرَهم، خَصَّصَ رواية الرفع في الحديث -قطعاً- في الدنيا والآخرة، لكنَّها لم تصح، لكونها معللة مَرْجُوحة -كما تقدم في طريق ابن عباس- ولا شكَّ أن رواية التجاوز: أَصَحُّها، لأنها من (3) طريق بِشر بنِ بكر، عن ابن عباس. وإسناد حديثه أَصَحُّها، ثم هي مطابقة للقرآن في الدلالة على أن المراد أحكامُ الآخِرة،

(1) رواه أحمد في " مسنده " 5/ 26، وإسناده حسن كما قال المصنف.

(2)

انظر هذه الصفات كلها في " صحيح مسلم " 2/ 746 - 750.

(3)

في (أ) و (ب): في.

ص: 198

وذلك أَن لفظ كتاب الله تعالى: {لا جُنَاحَ عليكم} [البقرة: 236] كما تقدم بيانه. والجُناح: هو الإثم في اللغة. وكذا قوله: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] في كون شرط التعمد، حيث ورد. وإنما وَرد قيداً في الوعيد، وهذه أصرحُ الآيات، وبقية الآيات كالشواهد لها، ثم هو القَدَرُ المتحقق.

وتخصيصُ -هؤلاء الخوارج- بعدم العفو في الآخرة، مثلُ تخصيص المخطىء من اليهود والنصارى.

والوجه فيه أن الله تعالى أقام عليهم الحُجَّة، وعَلِمَ منهم التعمد -ولو في بعض الأوقات-: إما في الابتداء، ثم عاقبهم، وسلبهم الطاقة، كقوله:{كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 110]، وإما في أثناء المناظرة والنظر، يدُلُّ على ذلك قوله تعالى:{وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [آل عمران: 19]. وقوله: {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} [القيامة: 14 - 15] وقوله -في بعضهم، بعد ذكر الآيات-:{جَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل: 14]. وقوله -في آخرين-: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33]. قُرِىءَ: " يكذبونك " بالتشديد والتخفيف معاً (1).

(1) قرأ نافع والكسائي: {يكْذبُونك} بالتخفيف وتسكين الكاف، والمعنى: لا يُلْفُونَكَ كاذباً، أو لا يُكَذِّبون الشيء الذي جئت به، إنما يجحدون آيات الله ويتعرضون لعقوباته، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة وابن عامر:{يُكذِّبُونَكَ} بالتشديد وفتح الكاف، قال ابن عباس: لا يسمونك كذاباً، ولكنهم ينكرون آيات الله بألسنتهم، وقلوبهم موقنة أنها من عند الله، انظر " حجة القراءات " 246 - 249 و" زاد المسير " 3/ 28 - 30.

ص: 199

وقوله تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 144].

وأما مفهومُ قوله تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 75]. فلأن التحريفَ شأنُ بعضهم -بغير شك-، ولَيْس كلُّ متعمدٍ للكفر -من العوام والبُلداء- يُحسنُ (1) ما يخفي من ذلك، وخصوصاًَ وذنب الخوارج قَتْلُ المؤمنين، واستحلالهم وتكفيرُهم. وكل ذلك مغَلَّظ في الشرع، ولا (2) يُقاس عليه غيرُه، كما يأتي بيانهُ، في مسألة الوعيد، في آخر الكتاب.

وأما قوله في أهل الكتاب: {بل أكثرُهم لا يؤمنون} [البقرة: 100] وقوله تعالى: {نبذ فريقٌ من الذين أُوتوا الكتاب كتاب اللهِ وراءَ ظهورِهم كأنَّهم لا يعلمون} [البقرة: 101]، ونحوها فلأنه قد آمن منهم أمة، كما قال تعالى:{لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الكتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} [آل عمران: 113].

وإما (3) بإعراضهم عن الرجوع إلى كتاب الله، وتدبره -كما أمر سبحانه-.

وبالجملة: فقد قال الله تعالى: {ومن يَعْشُ عنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ

(1) في (ب): يُحِسُّ.

(2)

سقطت " لا " من: " ب " ..

(3)

في هامش (أ) ما نصه: هذا عطف على قوله: إما في الابتداء وإما في أثناء المناظرة. من خط المصنف رحمه الله.

ص: 200

نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فهُوَ لهُ قرينٌ} [الزُخرف: 36] فنعوذ بالله من اتخاذه ظِهرياً، وتركه نَسْياً مَنْسياً.

والجواب: على مَنْ سأَلَ هذا السؤالَ (1) كجواب موسى على فرعون، حيث قال:{قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} [طه: 51 - 52].

وسيأتي في الكتاب شروطُ القطع بالتكفير والتفسيق. وإنما ذكرتُ هذه النُّبذةَ اليسيرة في المقدمة، لأنها معظمُ مقاصد الكتاب.

وبَعْدُ: فإني ما زِلْتُ مشغوفاً بِدرْك الحقائق مشغولاً بطلب المعارف، مُؤثِراً الطلب لملازمة الأكابر، ومطالعةِ الدَّفاتر، والبحثِ عن حقائق مذاهب المخالفين، والتَّفتيشِ عن تلخيص أَعذارِ الغالطين، مُحسِّناً في ذلك للنِّيَّة، متحرِّياً فيه لطريق الإنصاف السَّوية، متضرعاً إلى اللهِ تَضَرُّعَ مضطرٍ محتار (2)، غريقٍ في بحار الأَنْظار، طريح في مهاوي الأفكار، قد وهبتُ أيامَ شبابي وَلَذَّاتي، وزمان اكتسابي ونشاطي، لِكُدُورةِ علمِ الكلام والجِدال، والنَّظرِ فىِ مقالاتِ أهل الضَّلال، حتى عرفتُ صحةَ قولِ مَنْ قَالَ:

لَقَدْ طُفْتُ في تِلْكَ المعَاهِدِ كُلِّها

وسيَّرْتُ طَرْفي بينَ تِلْكَ المعالم

فلم أرَ إلّا وَاضِعَا كفَّ حَائِرٍ

على ذَقَنٍ أو قارِعاً سِنَّ نادم (3)

(1) في هامش (أ) ما نصه: يعني مَن قال: ما الوجه في تخصيص بعض المبتدعة بتواتر عدم العفو عنهم، كالخوارج، فقد تواتر النص عليهم. من خط المؤلف رحمه الله.

(2)

الجادة أن يقال: حائر، إلا أن السجع هو الذي حمل المصنف على ارتكاب هذا الخطأ.

(3)

في ترجمة ابن سينا من " وفيات الأعيان " 2/ 161: وينسب إليه البيتان اللذان =

ص: 201

وبسبب إيثاري لذلك، وسلوكي تلك المسالك، أنَّ أولَ ما قرعَ سمعي، ورسخَ في طَبْعِي: وجوبُ النظرِ والقول بأن من قلَّدَ في الاعتقاد، فقد كفر، فاستغرقت في ذلك حدَّةَ نظري، وباكورةَ عمري، وما زلت أرى كُل فرقة من المتكلمين تُداوي أقوالاً مريضة، وتُقَوِّي أجنحة مهيضة، فلَمْ أحْصِّل على طائل، وَتَمَثلْت فيهم بقول القائل:

كُل يُدَاوِي سَقِيماً مِن مَقَالَتِهِ

فَمنْ لَنَا بِصَحِيحِ مَا بِهِ سَقَمُ

فرجعت إلى كتاب الله، وسُنةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقلت: لا بد أن يكون فيها بَراهِينُ، وردُود على مخالفي الإسلام، وتعليم وإرشاد لمن اتَّبَعَ الرسولَ -عليه أفضلُ الصلاة والسلام-.

فتدبرتُ ذلك، فوجدت الشِّفاءَ كُله: دِقه وجِله، وانشرحَ صدري، وَصَلُحَ أمري، وزال ما كنت به مُبتلى، وانشدتُ مُتمَثِّلاً:

فألْقَتْ عَصَاهَا واسْتقَرتْ بها النَّوى

كما قَرَّ عيناً بالإيَاب المُسَافِرُ (1)

وعرفتُ بالتجربة (2): صحةَ ما رواه علي عليه السلام عن

= ذكرهما الشهرستاني في أول كتابه " نهاية الإقدام " وفي 4/ 275 في ترجمة الشهرستاني: وذكر في أول كتاب " نهاية الإقدام " بيتين وهما: لقد طفت

الخ ولم يذكر لمن هذان البيتان، وقال غيره: هما لأبي بكر محمد بن باجه المعروف بابن الصائغ الأندلسي.

(1)

في " اللسان ": عصا، يضرب البيت مثلاً لكل من وافقه شيء فأقام عليه، وأصله أن امرأة كانت لا تستقر على زوج، فكانت كلما تزوجها رجل لم تواته، ولم تكشف عن رأسها، ولم تلق خمارها، وكان ذلك علامة إبائها وأنها لا تريده، ثم تزوجها رجل فرضيت به، وألقت خمارها، وكشفت قناعها.

والبيت في " البيان والتبيين " 3/ 40 منسوب لمُضرِّس بن ربعي في لقيط الأسدي، كان معاصراً للفرزدق، ونسبه الآمدي لمُعقِّر بن حمار البارقي، وقال ابن بري: هو لعبد ربه السُّلمي، ويقال: لسليم بن ثمامة الحنفي.

(2)

كأنه يريد صحة معنى ما رواه علي وتطابقه في الواقع، وهذا حق لا ريب فيه، ولا =

ص: 202

رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنهُ قال في كتاب الله تعالى: " من التمسَ الهُدَى من غيره، ضَلَّ "(1).

فأمَّا كتابُ اللهِ تعالى، فإن نظرتَ في إعجازه، في بلاغته وأسلوبه، أو فيما اشتمل عليه من أخبار غيوبه، عرفت بالضرورة (2) العادية (3) عَجْز جميعِ المخلوقين -من الجن والإنس أجمعين- عن الإتيان بمثله، أو سورةٍ من مثلِهِ. وما أوضحَ قولَه تعالى في ذلك:{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 23].

وإن نظرتَ فيما اشتمل عليه، من المنع عن المفاسد، والأمر بالمصالح، والأخبار الصادقة، والأحكام العادلة، علمتَ بالبرهان -إن كنتَ مِن عارفيه-، وبالقرآن -إن كنت مِن متدبِّريه- صِدْقَ قولِ من أنزله سبحانه:{وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} [الشعراء: 210 - 212].

= يعني أن الحديث ثبتت صحته بالتجربة، فإن التجربة لا تثبت بها صحة الحديث، فكم من كلام صحيح ومطابق للواقع ولا تصح نسبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فباب الرواية يعتمد على اتصال السند، وثقة الرواة، وانتفاء الشذوذ والعلة، وهذا الحديث لم يستوف الشروط الآنفة الذكر، فإن راويه عن علي رضي الله عنه ضعيف لا يحتج به كما ستعرف من التعليق الآتي.

(1)

رواه الترمذي (2908) والدارمي 2/ 435 والبغوي 4/ 439 وفي سنده الحارث بن عبد الله الأعور، والجمهور على توهينه، قال الحافظ ابن كثير في " فضائل القرآن " 15: وقصارى هذا الحديث أن يكون من كلام أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، وقد وهم بعضهم في رفعه، وهو كلام حسن صحيح.

(2)

في (ب): بالضرورية.

(3)

الجادة أن يقال: المعتادة، لأن العادي في اللغة هو: القديم، قال ابن الأثير: وفي حديث قس: " وإذا شجرة عادية " أي: قديمة، كأنها نسبت إلى عاد، وهم قوم هود النبي صلى الله عليه وسلم، وكل قديم ينسبونه إلى عاد، وإن لم يدركهم، ومنه كتاب علي إلى معاوية: لم يمنعنا قديم عزنا وعادي طولنا أن خلطناكم بأنفسنا.

ص: 203

وقد جمع -سبحانه- في هذه الآية الشريفة -لمن تأملها-: بينَ الوجوه الثلاثة المتقدمة، فأشار إلى الأول، وهو العجز عن مثله، بقوله:{وما يستطيعون} ، وإلى الثاني، وهو جهلُهُم بالغيب الذي فيه، بقوله:{إنهم عن السمع لمعزولون} ، وإلى الثالث، وهو أنَّهُ لا يصدر منهم ما فيه الإرشاد إلى الخير، والمنع عن الشر، بقوله:{وما يَنْبغي لهم} .

وهذا الوجهُ الثالث، لم يتعرَّضْ أحدٌ لذكره -فيما علمتُ- وقد نبَّهَ الله -سبحانه- عليه، في قوله تعالى:{قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} [الأنعام: 91]. لأن كتاب موسى عليه السلام غيرُ معجز، من جهة البلاغة، ولا يَعْرفُ المخاطبون -المحتجُّ عليهم ذلك- ما فيه من العيوب، معرفةً ضرورية بالتواترت لبُعْدهِمْ عن المعرفة الظنيَّة؛ كيف الضرورية؟!، ولكنَّهم يعلمون جملةً بالتواتر: أنه مُشْتَملٌ على المنع من المفاسد، والأمْرِ بالمصالح، وهذا لا يكون من شيطان، لأنه نقيضٌ قصده، ولا سيما وفيه: سبٌّ الشياطين، ولعنهم، ووعيدُهُم، ولا يكون من ملكٍ ولا من صالح، لأن الكذِبَ على العالم، وإلزامهم المشاقِّ العظيمة، من غير ثواب، مما يُناقِضُ معنى المُلْكِ، ومعنى الصلاح.

فمنْ فعَل مثل ذلك، فهو شيطان، فكيف نفرِضُ أنه ملك أو صالحٌ؟! هذا خلافٌ، والضرورة المانعةُ عن صدور هذا عن الشياطين عاديةٌ لا أوليةٌ.

وكثيرٌ مِنَ النُّظار لا يعرف الضروريَّ العادي، ويغلَطُ فيه لإمكان خلافه بالنظَرِ إلى مجرد الإمكان. ولم يَعْلم أن العلمَ فيه إنما يتعلق بعدم وقوع الممكن، لا بعدم إمكانِه، كما أنَّا نعلم عند دخول منازلنا: أن الله

ص: 204

تعالى لم يقلِبِ الأرض ياقوتةً خضراء، مع قُدرته -سبحانه- على ذلك، ولا حوَّل قوة الحديد إلى الزجاج، وضعفَ الزجاج إلى الحديد، وحلاوة العسل إلى الصبِرِ، ومرارة الصَّبِر إلى العسل.

ومن جَوَّزَ مثل هذَا، أو شكَّ فيه؛ فقَد شكَّ في أحد العلوم الضروريات، وخرج إلى المقالات السُّوفسطائيات (1). وهذا لا ينبني على معرفةِ عدلِ الله وحكمته، لاشتراك مَن يعرفُ ذلك ومَنْ يجهله فيه، وقد احتج الله تعالى في القرآن الكريم بالعلم العَادي، في قوله تعالى:{قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} [المائدة: 18] فإن تعذيبَ الحبيب بذنبه -مع حُبِّه- ممن لا يتألم بذنبه؛ لا يقع عادةً ضرورة، وإن كان مقدوراً، وهي حجة في مسألة الداعي، وحجة مفحمة للأشعرية، في نفي الدواعي والأسباب عن أفعال الله تعالى (2). ومن ذلك: قوله تعالى: {لَفَسَدَتَا} (3)[الأنبياء: 22] ونحو ذلك كثير في كتاب الله تعالى.

وربما توقف العلمُ الضروريُّ على تذكُّر وتفكُّرٍ في مقدمات ضرورية؛ مثل: علم الحساب، فإنَك متى أردت أنْ تَعْرِف نصف خمسة وسبعة مضاعفة سبعة أضعاف؛ احتجت إلى فكرة، تضطرُّ بعدَها إلى معرفة الصواب. ويختلفُ الناسُ في ذلك اختلافاً كثيراً، ويكون فيهم منْ

(1) الكلمة يونانية، تعني المغالطة واستخدام القياس المركب من الوهميات. والسوفسطائية: فرقة تنكر الحسيات والبدهيات وغيرها، الواحد سوفسطائي.

(2)

لفد فصل القول في هذه المسألة شيخ الإسلام، ابن تيمية رحمه الله في كتابه " أقوم ما قيل في القضاء والقدر والحكمة والتعليل " الموجود ضمن " مجموع الفتاوى "(8/ 81 - 158) فراجعه فإنه غاية في النفاسة والتحقيق.

(3)

انظر لزاماً في تفسير هذه الآية " منهاج السنة " 2/ 73 لشيخ الإسلام، و" شرح العقيدة الطحاوية " لابن أبي العز ص 19 بتحقيقنا.

ص: 205

يَفْهَمُهُ من غير فكرة؛ كما يفهم كلُّ أحد نصفَ العشرة، إما لفرط ذكائه، وإما لشدة رياضته في علم الحساب، وكذلك سائرُ المعارف، على ما يأتي تحقيقه (1)، إن شاء الله تعالى. فتأمل هذه النكتة.

وان رجعت إلى ما أرشد إليه كتابُ الله تعالى مِن البراهين القاطعة، والأنوارِ الساطعة، وجدْتَهُ مشحوناً من ذلك بأشفاهُ وأكفاهُ وأوفاه. وذلك ما اختارهُ لخليلهِ إبراهيم -صلى الله عليه- حين طلب أن يَطْمَئنَ قلبُهُ، ولكليمه موسى حين أراد أن يُفْحِمَ خصمَه، وهو النَظرُ في المعجزات المعلومة، والتواتر فيها يقومُ مقامَ المشاهدة، والآيةُ في قصةِ إبراهيمَ معروفة. وفي قصة موسى عليه السلام قولهُ تعالى، في حكاية موسى لفرعون، لَما اشتدَّ كُفْرُ فرعون وتفاقمَ، ولم يُسَلِّم له ما أشار إليه من الاحتجاج بخلق المخلوقات، فرجع موسى بعد ذلك إلى أفحمِ الحُجَحِ، وأقطعها للشَّغَب، فقال:{أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} [الشعراء: 30 - 34].

فالنظرُ في المعجزات الواضحات، والخوارق الباهرات، كان إيمان عامةِ أهلِ الأسلام، في زمن الرَّسُول عليه السلام، وبه كان إيمان السَّحَرة في زمن موسى عليه السلام، الذين حصل لَهم مِن اليقين في ساعةٍ واحدةٍ، حتى صبَرُوا على مرارةِ القَتْل، وفراق الحياة ما لم يحصل لكثيرٍ من النُّظارِ في الكلام، في عِدَّة أعوام.

فمن أحَبَّ برْد اليقين، وثلَج الصُّدور، تدبر ما في كتاب الله تعالى

(1) في (ب): بيانه.

ص: 206

من ذلك، وَمِن ردود الأنبياء على الكفار، فإِنْ أحَبَّ الزيادَةَ؛ ضمَّ إلى ذلك النظر في المصنفات في ذلك:"كالشفاء"(1) للقاضي عياض، و" أعلام النبوة " من كتاب " البداية والنهاية " لابن كثير وأمثالهما.

وكذلك قراءةُ سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، ومعرفة أوصافِه، وقرائنِ أحوالِهِ، فإِنَّها تُفيدُ العلم الضروري العادِيَّ وَحْدَها، فإذا انْضمَّت إلى المُعْجِزِ؛ مَحَت الوسواسَ وأطفأته؛ كما يُطفىء الماءُ النارَ.

وممنْ ذكر ذلكَ، واقتصر عليه، وما قصَّرَ فيه الرازي في كتابِهِ " الأربعين في أصول الدين ". وقد أخذتُ كلامَهُ وزدتُ عليه أكثر منه، وجعلتُهُ مُصَنفاً مُسْتَقلاً، سميتُهُ:" البرهان القاطع في معرفة الصانع، وجميع ما جاءت به الشرائع "(2)، وهذه طريقُ المحدثين، بل طريقُ السابقين الأولين، وجميعِ التابعين، وسائرِ عوام المسلمين.

ولمَّا كتبَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى هرَقْل، جمع من وَجَد من العرب، وكان فيهم أبو سفيان، فسألَهُ عن القرائن التي تَدلُّ على صِدقِ رسول الله صلى الله عليه وسلم مما كان عليه جميعُ الأنبياء، من أصالةِ النسب، وصدقِ اللهجة، والوفاء بالعهد، وعدمِ الغَدْرِ، ونحو ذلك. وقطع بنبوته وظهوره، لأجل ذلك. وهو حديث عظيم؛ ينفعُ في التصديق لرسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه

(1) هو كتاب جيد في بابه لا نظير له فيما أعلم في التعريف بحقوق المصطفي صلى الله عليه وسلم، إلا أن مؤلفه رحمه الله لم يتحرَّ فيه الصحة من الأخبار، فأدرج فيه غير قليل من الأحاديث الضعيفة، فينبغي التنبه لها، والتحرز منها، ولا سيما المذكور منها في معجزاته صلى الله عليه وسلم، ويحسن الرجوع إلى " تخريج " أحاديثه للجلال السيوطي، و" شرح " العلامة القاري، و" شرح " الشهاب الخفاجي.

(2)

وقد طبع في مصر بالمطبعه السلفية سنة 1349 هـ، ومنه نسخة خطية في خزانة الجامع الكبير بصنعاء برقم (مجموع 96 - 52 - 62).

ص: 207

البخاري (1)، من حديث ابن عباس. وليس فيه ذكرُ المعجزات، ولا سأل عنها قيصر. وقد بسطْتُ الحُجَّة في هذا؛ في غير هذا الموضع.

وليت المبطلينَ لهذه الطريقة، والْمُكَفِّرين لِمَنْ تَمسَك بهذه العروةِ الوثيقة؛ أتَوْا بما يجْبُر الكُلومَ، ويُحَيِّرُ الخُصُوم، وإنما أثاروا غُبار اللَّجاج، وشَبُّوا نيرانَ الحِجاج. فأتوا بما يُمْكنُ الخصمُ أن يُعَارِضَهُ بنحوه، أو يُنْكِرَ الحجةَ فيه. فَدَوَّنوا وسواسَ الشيطانِ، وما يُورِثُ الحيرةَ على أهْل الإيمانِ، وراموا الاحتجاجَ على مبادىءِ الأدلةِ القوية الفطرية بما هو أدقُّ منها؛ مِن الأساليب النظرية الخفية. حتى ذهب كثير من المعتزلةِ إلى أن بعد العلم بالله، وأنَّهُ صانع العالم، وأنَّه مُتَّصف بصفات الكمال؛ نحتاج إلى دليل آخر يدلُّ على أنه موجود، وأنا قبل ذلك، نجَوِّزُ أنَهُ -مع إيجاده للعالم وكماله في صفاته وأسمائه- معدوم. ثم لا بد لهم من الانتهاء إلى دعوى الضرورةِ، أو سكون النفس في أمور لا تزيدُ في الوضوح على مبادىء الأدلة؛ التي أشار إليها السمعُ، واكتفى بها السَّلَفُ.

وتحصُل بكثرة الإصغاء إلى الشُّبهِ شُكُوكٌ تشْبهُ شُكُوكَ المُوسْوَسين في الطَّهارة. ويمكن فيما انْتَهوْا إليه ما يمكن في مبادىء الأدلة مِن الشَّك، أو دعوى الضرورة. وهذا يقوِّي كلامَ أهل المعارف، وطرائق السلف، كما يأتي مبسوطاً، إنْ شاء الله تعالى.

وربما أنكرَ هذا؛ مَنْ شَرَعَ في تعَلُّمِ الكلامِ، ولم يُحقِّقْ، ولم يَعْرف مقاصدَهُم فَيُصَدِّق.

(1) أخرجه بطوله في " صحيحه " برقم (6) في بدء الوحي، وانظر أطرافه في:(51) و (2681) و (2804) و (2941) و (2978) و (3174) و (4553) و (5980) و (6260) و (7196) و (7541) منه.

ص: 208

وعلى الجُملَة، إنهم جَعلوا ميزان عِلْمهم الذي يتميزُ به عن الجهل، واعتقاد التقليد، وعن الضروريات التي لا تستحق أن تُطلب بالنظر و (1) التَعَلمِ، هو جوازُ ورود الشكِ، وطُرؤ الشُبْهة عليه في الحال، وفي الاستقبال. وأنتَ إذَا حققت النظر، وجدتَ ما كان على هذه الصِّفةِ، خارجاً عن العلم المتميز عن غيره بالجزم والقطع، لأنَّ كل ما جوزت أن ينكشف بطلانُه في وقت من الأوقات، جوزت أن ينكشف بطلانه (2) الآن، إذ لا أثر للأوقات في البطلان. وكلما جوزت أن ينكشِفَ بطلانُهُ الآن، لم يكن علماً جازماً، ولا كان بينَه وبينَ الظن الغالب الراجح فَرقٌ ألبتة.

إنهم يُسمُّون الوساوِس -في حقِّ المحدثين، ومَنْ لم يعرف الكلام من سَائر علماء المسلمين، وعامةِ المؤمنين-: شَكاً وجهالة، ويجعلونه في حق أنفسهم فارقاً بين الضرورة والدِّلالة (3).

وقد ذكر الشيخُ تقي الدين (4)، في " شرح العمدة ". أن في الفرق بينهما إشكالاً. ولما يَزد على هذه الإشارة، وقد أوجز وأبلغ.

وَقَوْلُهُم: إنْ قدِحَ في أركان الدليل؛ فهو شك يجبُ إزالتُهُ وإلا فهو وسواس مُطَّرح، زخرفةٌ لا تحقيق فيها، فإن الشك في الشيء إنما ينشأُ من

(1) في (ب): أو.

(2)

من قوله: " في وقت " إلى هنا، لم يرد في (ب).

(3)

في (ب): الدلالة والضرورة.

(4)

هو الإمام المحدث الفقيه محمد بن علي بن وهب بن مطيع، المعروف بابن دقيق العيد، صاحب المصنفات النافعة الماتعة التي تنبىء عن كونه بلغ رتبة الاجتهاد في العلوم الشرعية، وقد طبع منها " شرح العمدة " و" الاقتراح " و" الإلمام " وغيرها. توفي سنة اثنتين وسبع مئة، انظر ترجمته في " تذكرة الحفاظ "(1481) و" طبقات السبكي " 9/ 207 - 249 و" فوات الوفيات " 3/ 442.

ص: 209

الشك في أحد أركان الدليل. والطمأنية بجميع أركان الدليل تستلزم بالضرورة الطُمأنينة بالنتيجة. وكيف يحصل الشك في أن الدراهم في الصندوق، وهو النتيجة المعتقدة، مع الطمأنينة بركني الدليل ومقدمتيه، وهما القطعُ بكون الدراهم في الصُّرة، وكل صُرَّة في الصُّنْدوق. وهذا خَلْفٌ (1) مِن الكلام، وغلاط (2) مِن أهلِ الكلام.

ولكنَّ هذا شيء لم يُكلف الله المسلمين بإتقانه؛ بإجماع المتكلمينَ والمحدثين وجميع المسلمين، لخروجه عن مقدوراتهم بالضرورة، وكل أحد يجدُ ذلك من نفسه، ولم يسلم منه الأنبياء! صلوات الله عليهم وقد يكون امتحاناً من الله تعالى وقد يكون عقوبةً -والعياذ بالله من ذلك- وقد يكون سببُه من الشيْطَان -نعوذ بالله منه-. قال الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 201] ولذلك وَردَ في الصحيح من غير طريق -كما يأتي- الأمْرُ عند ذلك بالاستعاذة من الشيطان الرجيم، أعاذنا الله منه.

وهذا لا يخرُجُ من الإيمان -كما يأتي تحقيقُهُ- بل ولا يخْرجُ مِن مطلق العلم اللغوي، فإنَّ الظن الراجح المطابق يُسمَّى علماً في كتاب اللهِ، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهو مذهبُ أبي القاسم البلخي الكعبي (3)،

(1) الخلْفُ: الرديء من القول، يقال: هذا خلْف من القول: أي: رديء، وفي المثل: سكت ألفاً ونطق خَلْفاً، يقال للرجل يطيل الصمت، فإذا تكلم تكلم بالخطأ.

(2)

الجادة أن يقال في جمع الغلط: أغلاط، وقال ابن سيده: وقد رأيت ابن جني قد جمعه على غلاط ولا أدري وجه ذلك.

(3)

هو شيخ المعتزلة الأستاذ أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن محمود البلخي الكعبي الخراساني، صاحب التصانيف، المتوفى سنة (327) هـ، انظر ترجمته في " سير أعلام النبلاء " 15/ 255.

ص: 210

ومن تابعه على ذلك. رواه عنه: الإمامُ المؤَيد بالله (1)، في آخر كتاب " الزيادات " واختاره عليه السلام.

والمختار عندهم: كفاية الجُمل، وأوائل الأدلة لعامة المسلمين، مع السلامة من الشك والشبهة والحيرة، وذلك وسطٌ بين المذهبين، وخيرُ الأمور أوساطُها، لا تفريطُها، ولا إفراطُها.

وسيأتي هذا مبسوطاً بأدلة الفريقين، وإنَّما قدمتُ هذا؛ لأنَّ من الناس منْ يكتفي بالنظر في مقدمة الكتاب.

ومن حُجَّة " المؤيد بالله " ومن قال بقوله: إنه قد وَرَدَ في الحديث: زيادة الإيمان ونقصانه، حتى ينتهي إلى أدنى أدنى من مثقال ذَرَّة (2)، وذلك متواترٌ، ومجمع عليه عند أهل السُّنة.

والعلمُ الاصطلاحي، لا يصِحُّ فيه التَّفاوت، وقِسْمتُهم له إلى ضروري واستدلالي، مختَلَفٌ فيه، والصحيح أنه لا يكون حيث يَثبُتُ إلا ضرورياً، وحين تزولُ عنه الضرورَةُ، تزول عنه صِفةُ العلم الاصطلاحي.

والوجه في ذلك؛ أنهُ لا بد من انتهائه إلى مقدمتين ضرورتين، ومتى انتهي إلى ذلك، فنتيجةُ كل مُقدمتين ضروريتين، ضرورية مثلُهما. وهذا

(1) هو أحممد بن الحسين بن هارون الأقطع من أبناء زيد بن الحسن إمام من أئمة الزيدية مولده في آمل بطبرستان، ودعوته الأولى سنة 380 هـ بويع له بالديلم، ولقب بالسيد المؤيد بالله، ومدة ملكه عشرون سنة توفي سنة 421 هـ.

ومن " الزيادات " نسخة بالجامع الكبير في صنعاء انظر الفهرس ص 259.

(2)

في حديث أنس الذي أخرجه البخاري (7510) في التوحيد، ومسلم (193)(326) في الإيمان، وفيه:" انطلق، فأخرج من كان في قلبه أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان، فأخرجه من النار ".

ص: 211

يُوجب أنْ تكونَ المقدمات كلها ضرورية، وكونُ المقدمات كذلك، يوجب أنْ تكون النتائج كذلك.

والله تعالى له حكمةٌ بالغةٌ في عدم وضوح أمور (1) الآخرة لكل أحد إلى حدِّ الضرورة، على جهة الاستمرار، لِما فيه من بطلان الامتحان؛ الذي أخبر سبحانه أنه له مراد، قال الله تعالى في الساعة:{أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} [طه: 15]، وقال {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2]، وقال:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} الآية [الحج: 52]. وأمثال هذا لا يُحصى، وسيأتي لهذا مزيدُ بَيان، والمُقَدمةُ لا تتسع لأكثرَ من هذا.

واليقينُ التام، وانتفاءُ الوسواس؛ هو الغالبُ على أنبياء الله -سبحانه- وأوليائِه، وحصولُه مَوْهِبَةٌ من الله تعالى، تقف على أسباب يُوفَّقُون لعملها، كالثواب المتوقف على العمل سواء. ويَندُرُ خلافُ ذلك منهم، لحكمة الله تعالى، لو لم يكن إلا لتأسي المؤمنين بهم، وعدم انكسارِ نفوسهم، كما ورد في الصحيح:" نحنُ أحقُّ بالشَّكِ مِن إبراهيم "(2).

(1) في (ب): الأمور.

(2)

رواه الخاري (3372) و (3375) و (3387) و (4537) و (4694) و (6992) ومسلم (151) في الإيمان وفي الفضائل، وابن ماجة (4026) والبغوي (63) وأحمد 2/ 326 والطبري (5973) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} ويرحم الله لوطاً، لقد كان يأوي إلى ركن شديد، ولو لبثت في السجن ما لبث يوسُف لأجبت الداعي " وتفسير الشك بالمعنى الذي قاله المصنف هو مذهب الإمام أبي جعفر الطبري في " تفسيره " 5/ 419، واستدل بذلك لما أخرجه هو وعبد بن حميد وابن أبي حاتم والحاكم من طريق عبد العزيز الماجشون عن محمد بن المنكدر عن ابن عباس، =

ص: 212

ومعنى الشكِّ هنا: هو الوسواسُ الذي لا يدخل دفعه تحت القدرة، وليس معناه الشك المستويَ الطرفين قطعاً. وقد جاء مثل ذلك؛ في موسى الكليم عليه السلام، في قوله تعالى:{فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} [طه: 67 - 68]. فيا من جَرحُ وَسْوَاسهِ لا يُؤسى، أما يُعزِّيك:{فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} ؟! ويا مَن يُداوي بالكلام قلبَه الكلِيم، لا تعدِلْ عن المرهم الذي صنعه الحكيم، لخليله إبراهيم، وهو النظرُ في المعجزات، المعلومُ حُدُوثها، وأنَّه لا بُدَّ لها من مُحْدث مختار؛ بالعلوم الضروريات، عند النظر بالفطرة الأولى (1)، والإخبات، والخلوصِ من شوائب العادات. فإن تعَذَّرَ ذلك -

= قال: أرجى آية في القرآن هذه الآية: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} قال ابن عباس: هذا لما يعرض في الصدور، ويوسوس به الشيطان، فرضي الله من إبراهيم عليه السلام بأن قال: بلى، ومن طريق معمر عن قتادة عن ابن عباس: نحوه، ومن طريق علي بن زيد عن سعيد بن المسيب عن ابن عباس نحوه، وهذه طرق يشد بعضها بعضاً، وإلى ذلك جنح عطاء، فروى ابنُ أبي حاتم وابن جرير من طريق ابن جريج قال: سألت عطاء عن هذه الآية، قال: دخل قلب إبراهيم بعضُ ما يدخل قلوب الناس، فقال ذلك.

وقال ابن عطية: ومحمل قول ابن عباس: إنها أرجى آية، لما فيها من الإدلال على الله، وسؤال الإحياء في الدنيا، أو لأن الإيمان يكفي فيه الإجمال ولا يحتاج إلى تنقير وبحث، قال: ومحمل قول عطاء: دخل قلب إبراهيم بعض ما يدخل قلوب الناس، أي: من طلب المعاينة، قال: وأما الحديث، فمبني على نفي الشك، والمراد بالشك فيه: الخواطر التي لا تثبت، وأما الشك المصطلح عليه -وهو التوقف بين الأمرين من غير مزية لأحد عن الآخر- فهو منفي عن الخليل قطعاً؛ لأنه يبعد وقوعه ممن رسخ الإيمان في قلبه، فكيف بمن آتاه اللهُ النبوة، قال: وأيضاً فإن السؤال لما وقع بكيف، دل على حالِ شيءٍ موجود مقرر عند السائل والمسؤول، كما تقول: كيف علم فلان؟، فكيف -في الآية- سؤالٌ عن هيئة الإحياء، لا عن نفس الإحياء، فإنه ثابت مقرر. وقال ابن الجوزي: إنما صار أحق من إبراهيم لما عانى من تكذيب قومه وردهم عليه وتعجبهم من أمر البعث، فقال: أنا أحق أن أسال ما سأل إبراهيم ما جرى لي مع قومي المنكرين لإحياء الموتى، ولمعرفتي بتفضيل الله لي، ولكن لا أسأل في ذلك.

(1)

في (أ): " الأولة ".

ص: 213

بهذه الطريقة، وما قدمناه من النظر في كتاب الله، وقرائن أحوال أنبياء الله -فليس لليقين- بعدَ ذلك- إلا اللجوءُ (1) والتضرُّعُ إلى الله أن يَهَبَه مِنْ عِنده، ويشرح له صدْرَ عبدِهِ. وإن طال في ذلك الطلبُ، وقُوسيَ النَّصَبُ، فإن مراماً طلبَه الكليمُ والخليلُ، لجديرٌ بالطَّلَب الطويل:

مَرامٌ شَطَّ مَرْمَى العَقْلِ فيه

فَدُونَ مَداهُ بيْدٌ لا تَبِيدُ

بل الدعاءُ، والتضرع، والخضوعُ مُقَدَّم: على النظر في المعجزات، وقرائِنِ الأحوالِ والأمارات. وكفي في ذلك إماماً بالخليل عليه السلام فإنَّه حين طلب الطمأنينة؛ رجع إلى مولاه وتضرع إليه ودعاه. وقد أفردتُ في ذلك مصنفاً، سميته:" ترجيحُ دلائلِ القرآن على دلائل اليونان "(2).

وكما أن ذلك سببُ اليقين، فسببُ الشَّكِّ والكفر: هو النظرُ في المتشابهات، التي لم يُحِطِ البشرُ بها عِلماً، ولا عرفوا تأويلَها، كما أشار إليه القرآن العظيم، في قوله تعالى:{بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} [يونس: 39]. وما أعظم نفْعها للمتأملين، وما يعقِلُها إلا العالمون، هي أثقابُ الدُّر دقاق، وفهْمُك حبل؛ فما يصحُّ النظمُ.

ثم إني بعدَ الفراغ من ذلك الاضطراب بمعرفة الصواب، والاهتداء بنور السُنَّة والكتاب نظرتُ في أهمِّ أمور الدين، فإذا هو بذلُ الجهد في نصيحة المسلمين كما جاء في " الصحيح ":" الدِّينُ النَصيحة "(3) الحديثَ.

(1) في (أ): " اللجأ ".

(2)

وهو مطبوع، ومنه نسخة خطية في خزانة الجامع الكبير في صنعاء، ضمن مجموع (119) تقع في ثلاث وأربعين ورقة، انظر " فهرس مخطوطات المكتبة الغربية "770.

(3)

رواه مسلم (55) وأبو داود (4944) والنسائي 7/ 156 وأحمد 4/ 102 و103 =

ص: 214

ومِن أهمَ ما ورد: تحذيرُهم من التباغض والاختلاف وأسبابِ ذلك، وأن تُحِبَّ لهم ما تُحِبُّ لنفسك، قال الله تعالى:{وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46]، وقال:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13]، وقال:{وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 31 - 32] وقال تعالى: في آل عِمران: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 102 - 103]. وقال تعالى -بعدها بآيةٍ واحدة-: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران: 105].

ونَقَمَ على مَنْ قَبلنا عدم رجوعِهم إلى ما أنْزِلَ إليهم من الكتب، والعلم الذي فيها، فقال:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ} [البقرة: 113]. ومثلُه قوله: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [آل عمران: 19]. يعْني الكتابَ، ولذلك

= والحميدي (837) والبغوي (3514) وأبو عوانة 1/ 37 والخطيب في " تاريخه " 14/ 207 والطبراني في " الكبير "(1260 - 1268) كلهم من حديث تميم الداري، ورواه النسائي 7/ 157 والترمذي (1926) وأحمد 2/ 297 وأبو نعيم 6/ 242 و7/ 142 عن أبي هريرة، ورواه عن ابن عمر الدارميُّ 2/ 311 والبزار (62) وعن ابن عباس أحمدُ 1/ 351 والبزار 61 كما في " زوائده " وعلقه البخاري (1/ 137) ولفظه عند مسلم:" الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة لله ولكتابه ولنبيه ولأئمة المسلمين وعامتهم ".

ص: 215

وَصَفَهُ بالمجيء. وقال بعدَه: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [آل عمران: 19] إلى قوله تعالى: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 20].

وعن جُنْدُب قال: قال رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: " اقْرَؤُوا القرآنَ ما ائْتَلَفت عَليْهِ قلُوبُكمْ، فإذا اخْتَلَفْتُمْ فقُوموا عَنْهُ " رواهُ البخاري ومسلم والنسائي (1).

وروى البخاري والنسَائي من حديث ابنِ مسعود قالَ: سَمِعْتُ رجلاً قرأ آيةً، وسَمعْتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ خلافَها، فَجِئْتُ به النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرتُهُ؛ فعرفت في وجهه الكراهيَة. فقال:" كِلاكُما مُحْسِن، ولا تختلِفوا فإنَّ مَنْ قبلَكم اختلفوا فهلَكُوا ". انفردَ به البخاريُّ دونَ مسلم (2)، وللجماعةِ معناه

(1) أخرجه البخاري (5060) و (5061) و (7364) و (7365) ومسلم (2667) وهو في " سنن النسائي الكبرى " في فضائل القرآن، كما في " تحفة الأشراف " 2/ 444 وأخرجه الإمام أحمد في " المسند " 4/ 313 والبغوي في " شرح السنة "(1224) وأبو يعلى في " مسنده " 87/ 2 والطبراني في " الكبير "(1673) و (1674) و (1675) والخطيب في " تاريخه " 4/ 228، ومعنى الحديث: اقرؤوا القرآن ما اجتمعت عليه قلوبكم، فإدا اختلفتم في فهم معانيه، فتفرقوا لئلا يتمادى بكم الاختلاف إلى الشر، قال القاضي عياض: يحتمل أن يكون النهي خاصاً بزمنه صلى الله عليه وسلم لئلا يكون ذلك سبباً لنزول ما يسوؤهم، كما في قوله تعالى:{لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم} ويحتمل أن يكون المعنى: اقرؤوا والزموا الائتلاف على ما دل عليه، وقاد إليه، فإذا وقع الاختلاف أو عرض عارض شبهة يقتضي المنازعة الداعية للافتراق، فاتركوا القراءة، وتمسكوا بالمحكم الموجب للألفة، وأعرضوا عن المتشابه المؤدي للفرقة، وهي كقوله صلى الله عليه وسلم:" فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فاحذروهم ".

(2)

رواه البخاري (2410) و (3408) و (3414) و (3476) و (4813) و (5063) و (6517) و (6518) و (7428) و (7477) وأحمد 1/ 393 و405 و412 والبغوي (1229) والنسائي في فضائل القرآن من " الكبرى " كما في " تحفة الأشراف " 7/ 152.

ص: 216

مِن حديث عمرَ بنِ الخطاب في قصته مع هِشام بن حكيم (1). وله طرق عن ثمانيةَ عشر صحابياً (2).

وفيه حجة واضحة على أن الاختلاف في الأفعال مع التصويب ليس هو الاختلافَ المنهيُّ عنه. ألا تراهُ صوَّبهما في اختلافهما في القراءة، وقالَ:" كلاكُما محسن " وإنما حرَّم عليهم المماراة في ذلك، على وجه تقبيح كل واحدٍ منهما لقراءة الآخر؛ لأن ذلك مفضٍ إلى العداوة، وافتراق كلمة الإسلام. وإلى هذا أشار القرآن الكريم، حيث قال:{وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46] أي قُوَّتكم.

فثبتَ تحريمُ ذلك، وما يؤدي إليه، بالكتاب والسُّنةِ. وما يَعْقلُها إلا العالمون.

ويُوَضحُ ذلكَ من كتاب الله، ما حكاهُ اللهُ تعالى: من اختلاف سليمان وداود عليهما السلام مع الثناء عليهما، حيث قال: {ففهَّمناها

(1) رواه البخاري (2419) و (4992) و (5041) و (6936) و (7550) ومسلم (818) وأبو داود (1457) والنسائي (2/ 150) والترمذي (2943)، ومالك 1/ 201 وأحمد 1/ 40 و42 - 43 والطبري (15) والبغوي (1226) والشافعي في " الرسالة " (273) والطيالسي (9) من طرق عن عبد الرحمن بن عبد القارىء أنه قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرؤها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأنيها، فكدت أن أعجل عليه، ثم أمهلت حتى انصرف ثم لبَّبته بردائه، فجئت به رسوله الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأتنيها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " أقرأ " فقرأ القراءة التي سمعته يقرأ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" هكذا أنزلت " ثم قال لي: " اقرأ " فقرأت، فقال:" هكذا أنزلت، إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرؤوا ما تيسر منه " وزاد السيوطي في " الدر المنثور" 5/ 62 نسبته لابن حبان والبيهقي.

(2)

انظر " فتح البارى " 9/ 26.

ص: 217

سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا} [الأنبياء: 79]. وكذلك اختلافُ موسى وهارون، وموسى والخضِر (1)، ومخالفةُ علم كُلِّ واحدٍ منهما لِعِلْم الآخر، وموسى وآدم؛ في حديث أبي هريرة (2). متفق عليه. بل قال الله:{لو كان فِيهما آلِهة إلا اللهُ لَفَسدَتا} [الأنبياء: 22]، وأمثالها؛ مما يَدُلُّ على لزوم الاختلاف.

بل جاء اختصامُ الملإِ الأعلى في القرآن، في " ص "(3)، وتفسيره في الحديث (4)، ومنه خصومتُهم في الذي قتلَ مئةً، ثم

(1) رواه البخاري (122) و (3401) و (4725) و (4726) ومسلم (2380) والترمذي (3149) وأحمد 5/ 117 و118 و120 عن ابن عباس، وهو حديث طويل.

(2)

ونصه: " احتج آدم وموسى، فقال موسى: يا آدم أنت أبونا، وأخرجتنا من الجنة، فقال آدم: يا موسى اصطفاك اللهُ بكلامه، وخط لك التوراة بيده، تلومني على أمرٍ قدره الله عليِّ قبل أن يخلقني بأربعين سنة، فحج آدمُ موسى، فحج آدم موسى ". رواه البخاري (3409) و (4736) و (4738) و (6614) و (7515) ومسلم (2652) وأبو داود (4701) والترمذي (2134) وابن ماجه (80) وأحمد 2/ 248 و264 و268 و287 و314 و392 و448 و464 والبغوي (68) وعبد الرزاق (20068) والآجري في " الشريعة "(18 و301 و324) والدولابي في " الأسماء والكنى " 1/ 144 والخطيب في " تاريخه " 4/ 349 و5/ 103 و7/ 104 والبيهقي في " الأسماء والصفات " 190 والنسائي في " الكبرى " كما في " تحفة الأشراف " 10/ 122، وذكره السيوطي في " الدر المنثور" 1/ 54 وزاد نسبته لابن أبي حاتم.

(3)

في الآية: 69، وهي قوله تعالى:{مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ} .

(4)

هو قطعة من حديث مطول رواه البغوي في " شرح السنة "(924) بطوله، وأخرجه الدارمي مختصراً 2/ 136 كلاهما من حديث عبد الرحمن بن عائش، وعبد الرحمن بن عائش مختلفٌ في صحبته، ويقوي صحبته أنه صرح في رواية الدارمي بسماعه هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخرجه أحمد 4/ 66 من حديث عبد الرحمن بن عائش عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخرجه أحمد أيضًا 5/ 243 والترمذي (3233) عن عبد الرحمن بن عائش عن مالك بن يُخامر، عن معاذ بن جبل، وإسناده صحيح، وأخرجه الترمذي (3232) وأبو يعلى =

ص: 218

تابَ (1)، وخصومتهم في الدرجات والكفارات، ورجع الضمير إليهم في قوله:{قُضِيَ بينهم بالحق} [الزمر: 75] على الظاهر (2) والله أعلم.

وَخَرَّجَا معاً من حديث أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم: " إنَّما هلك مَنْ كان قبلكم كثرةُ مسائِلهم، واختلافُهم على أنبيائهم "(3). وقد نَبَّهَ الله -سبحانه- على ذلك، في كتابه الكريم، حيث ذَمَّهم به في قوله تعالى:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ} [البقرة: 113].

ولم أبذلْ جهدي فيما جمعت في (4) كتابي هذا طَمعاً فيما لم يحصل بكتب الله المُنزلة على المرسلين من اجتَماع كلمةِ المُنْصِفين والمعاندين على الحق اليقين، وقد قال تعالى في كتابه المبين لسَيِّد ولد آدم أجمعين:

= (677) و (678). وأحمد 1/ 368 من طريق معمر عن أيوب عن أبي قلابة عن ابن عباس، ورواه البغوي (925) عن ثوبان، ورواه الطبراني في " الكبير "(938) عن أبي رافع مولى رسول الله وانظر " المجمع " 1/ 237، وأخرجه الخطيب في " تاريخه " 8/ 152 عن أبي عبيدة بن الجراح.

(1)

هو في " صحيح البخاري "(3470) وسلم (2766) من حديث أبي سعيد الخدري.

(2)

اختلف المفسرون في عود الضمير في قوله تعالى: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} هل هو للملائكة أو إلى العباد؟ فأكثرهم على عوده للعباد، والمعنى: وقضي بين العباد كلهم، بإدخال بعضهم الجنة وبعضهم النار، وقال بعضهم -واستظهره أبو حيان وهو ما ذهب إليه المؤلف هنا-: إنه يعود إلى الملائكة، وثوابهم -وإن كانوا كلهم معصومين- يكون على حسب تفاضل أعمالهم، فيختلف تفاضل مراتبهم، فإقامة كل في منزلته حسب عمله هو القضاء بينهم بالحق. وانظر " روح المعاني " 24/ 37 للآلوسي.

(3)

رواه البخاري (7288) ومسلم (1337) والترمذي (2679) والنسائي 5/ 110 وأحمد 2/ 247 و258 و313 و428 و447 - 448 و457 و467 و482 و495 و503 و508 و517 وابن ماجه (2) والبغوي (98).

(4)

في (ب): من.

ص: 219

{وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} [النمل: 81]{وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآَيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} [الروم: 58 - 60]. بل حكى الله -تعالى- أنَّ آيات كتابه المُسَمَّى: شفاءً ونوراً، يزيدُهم عمى ونفوراً، بَلْ حصرَهم في ذلك، وَقَصَرهم عليه حيثُ قالَ، تَذكيراً وتحذيراً:{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا} [الإسراء: 41].

فإنْ قيلَ: هل السُّكُوتُ عن المُبتدعة لازم؛ خوفاً من التفرق، والزيادة في أسبابه، لحديث جُنْدُب المقدم " اقْرَؤُوا القُرآنَ ما ائْتلَفَتْ علَيْهِ قلُوبُكُمْ فإذا اخْتَلَفْتمْ فَقُومُوا عَنْه " خرَّجاه كما مضى (1).

قلْنا: أمَّا بيانُ بِدَعِهِم، وَكَفُّ شَرِّهم على الوجهِ المَشْروع؛ فواجبٌ، أو مستحبٌ، لِما ثَبتَ مِن النصوصِ الصحيحةِ، في تصويبِ عليٍّ عليه السلام في حربِ الخوارج (2). وأجمعت الأُمةُ على ذلك، مع ظهور التأويلِ منهم، والإجماعِ عليه.

وأما المِراء -الذي يظنُّ فيه المفسدة، دون المصلحة- فلا خير فيه، وقد فرَّق القرآن بينَه وبين الجدال، بالتي هي أحسنُ، فقال:{وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]، وقال {ولَا تكُنْ مِنَ المُمْتَرِينَ} [آل عمران: 60] والله سبحانه أعلم.

(1) انظر صفحة (216).

(2)

انظر " فتح الباري " 12/ 283 - 290 في استتابة المرتدين و" شرح النووي على مسلم " 7/ 166 - 168 و" المغني 8/ 104 - 107 لابن قدامة.

ص: 220

هذا وإني لَمَّا نشأتُ بيْنَ كَراسي العُلماء الأكابر، وتربيتُ بَيْنَ عيون أهل البصائر، وَرَتَبْتُ رُتُوبَ الكَعْب في مجالسةِ فُضلاءِ السادة، وثبتُّ ثبوتَ القُطب في مجالس العلم والإفادة، ولم أزل منذ عرفتُ شِمالي من يميني، مشمراً في طلبِ معرفةِ ديني، أتنقَّل (1) في تربية الشيوخ من قُدوة إلى قُدوة، وأتوقل (2) في مدارس العلوم من ربْوَةٍ إلى ربْوَة، وَأمُتُّ إِلى الأصول النبوية بعروق مباركة، وآمُلُ في دعواتهم لِذُرِّيَّاتهِم أن تَشمَلَني منها بَرَكة.

ولم يَزَل يَرَاعِي بلطائف الفوائد نواطِفَ، وبناني للطف المعارف قَواطف. لم يكن -حتماً- أن يرجِعَ طرف نظري عن المعارف خاسئاً حسِيراً، ولم يجب -قطعاً- أن يعودَ جناحُ طلبي للفوائد مهيضاً كَسِيراً، ولم يكن بِدْعاً أن أتَنسَّم من أعطارها روائح، وأتَبصَّرَ من أنوارها لوائح.

وإنَّ جماعةً نَسبوني إلى دعوى كبيرةٍ، وأُمور كثيرةٍ، فاعْتَذَرْتُهم فما عذروا، بل لاموا وعذَلوا، وجاروا وما عَدَلُوا، فصبرْت على الأذى، وعلمتُ أن الناس ما زالوا هكذا.

إلا أنَّه لمَّا كَثُرَ الكلامُ وطالَ، واتَّسعَ القيلُ والقال، جاءتني "رسالة " مُحبَّرة، واعتراضاتٌ مُحرَّرة، مشتملة على الزواجر والعظات، والتنبيه بالكلم المُوقظات، وأهلاً بمنْ أهدى النصيحَةَ، فقد جاء الترغيبُ إلى ذلك في الأحاديث الصحيحة (3)، وليس بضائرٍ -إن شاء الله- ما

(1) في (ب): انتقل.

(2)

يقال: توقل في الجبل إذا صَعْد فيه.

(3)

أي: الترغيب في النصيحة، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: " الدين النصيحة

" وقد تقدم تخريجه ص (214 - 215).

ص: 221

يَعْرِضُ في ذلك من الجدال، مهما وُزنَ بميزان الاعتدال.

وجِدالُ أهلِ العلْم لَيْسَ بضَائِرٍ

مَا بَيْنَ غالِبِهِمْ إلى المَغْلُوبِ

بَيْد أنَّها لم تضع تاجَ المَرَحِ والاختيال، وتستعمِلُ ميزان العدل في الاستدلال، بل خالطها من سيما المُحْتالين شَوْبٌ، ومالت من التَّعَنُّتِ في الجدَال إلى صوبٍ، فجاءتني تمشي الخطرى (1) وتميس في محافل الخطَرا (2)، مفضوضة لم تُغتم، مشهورة لم تكتم، متبرجة قد كشفت حجابَها، وَمَزَّقت نِقَابَها، وطافت على الأكابر، وطاشت إلى الأصاغر، وَتَرَقَّت إلى قصير الإمامة، ومحل الزَّعامة، حتى مصَّتْ أيدي الابتذال نضارَتَها، واقتضَّت أفكار الرجالِ بكارتَها، وإن خيرَ النصائح الخفي، وخير النُّصَّاح الحَفِي.

ثُم إني تَأملْتُ فُصُولَها، وتَدبَّرْتُ أصولَها، فوجدتُها مشتملة على القدحِ تارةً فيما نقل عني مِن الكلام، وتارة في كثير من قواعد أهلِ البيت عليهم السلام وغيرهم من علماء الإسلام. فرأيتُ ما يَخصني غيرَ جدير بصرف العناية إِليه، ولا كبير يستحق الإقبال بالجواب عليه، إذ كان ذلك مما يتعلق بالمسائل الفرعية، والمسالك الفقهية.

وأما ما يختص بالقواعد الإسلامية -التي أجمعت على صِحَّتها العِتْرةُ الزَّكية، مثل تصحيح الرجوع إلى الآيات القرآنية، والأخبار النبوية، والآثار الصحابية، ونحو ذلك منَ القواعد الأصولية -فرأيتُ القدحَ فيها

(1) أي: تمشي مشية المعجب بنفسه، من قولهم: خطر في مشيته: إذا رفع يديه ووضعهما.

(2)

الخطرا جمح خطير كأمير: الشريف من الرجال، العظيم القدر والمنزلة.

ص: 222

ليس أمراً هَيِّناً، والذبِّ عنها لازماً متعيناً، فتعرضتُ لجواب ما اشتملت عليه مِنْ نقضِ تلكَ القواعد الكبار، التي قالَ بها الجِلَّةُ مِنَ الأئمة الأطهار، والعلماءِ الأخيار، مضمناً له النداء الصريح ببراءتي عن مخالفة أهل البيت عليهم السلام في تلك القواعد العظام، غير متعرضٍ لجواب ما يَخُصُّني في هذه الرسالة المذكورة، إلا أنْ يتخلل شيءٌ مِنْ ذلك؛ -في معْرِضِ الكلام- على هذه القواعد المشهورة.

وقد قَصَدْت وجهَ الله تعالى في الذبِّ عن السنن النبوية، والقواعد الدينية، وليس يَضُرُّني وقوفُ أهل المعرفة على ما لي منَ التقصير، ومعرفتهُم أنّ باعيَ في [هذا] الميدان قصير، لاعترافي أني لستُ مِنْ نُقَّاد هذا الشَّان، وإقراري أني لستُ مِنْ فُرْسَان هذا الميدان، لكنِّي لم أجد من الأصحاب مَنْ يتصدَّى لجواب هذه الرسالة، لمَا يَجُرُّ إليه ذلك منَ القالة.

فتصدَّيتُ لذلك مِن غيرِ إحسان، ولا إعجاب، ومنْ عدمَ الماء تيمم التراب، عالماًً بأني لو كنت باريَ قوسهَا ونبالها، وعنترة فوارسها ونزالها.

فلا يخلو كلامي مِنَ الخطأ عند الانتقاد، ولا يصفو جوابي منَ الغلط عند النُّقاد، فالكلامُ الذي لا يأتيه الباطل مِنْ بين يديه، ولا مِنْ خَلْفِهِ؛ هو كلامُ الله في كتابه العزيز الكريم، وكلامُ مَنْ شهد بعصمته الذِّكرُ الحكيم. وكُلُّ كلام بعد ذلك، فله خطأٌ وصواب، وقِشْرٌ ولُباب.

ولو أن العلماء رضي الله عنهم تركوا الذَّبَّ عن الحق؛ خوفاً مِنْ كلام الخلق، لكانوا قد أضاعُوا كثيراً، وخافوا حقيراً.

ومن قَصدَ وَجهَ الله -تعالى- في عملٍ من أعمال البِرِّ والتُّقى، لم يَحْسُنْ منه أن يترُكه، لِمَا يجوزُ عليه في ذلك مِنَ الخطا، وأقصى ما يخاف أن يَكِلَّ حُسامُهُ في معترك المناظرة، وَينْبُوَ، ويعْثُر جوادُهُ في مجال

ص: 223

المجادلة ويَكبُو، فالأمر في ذلك قريب؛ إنْ أخطأ، فَمَن الذي عُصمَ، وإن خُطىءَ فمَن الذي ما وُصِم. والقاصد لوجه الله لا يخافُ أن يُنقد عليه خَلَلٌ في كلامه، ولا يهاب أن يُدلَّ على بطلان قوله، بل يحب الحق من حيث أتاه، ويقبل الهُدى ممن أهداه، بل المخاشنة بالحق والنصيحة، أحبُّ إليه من المداهنة على الأقوال القبيحة، وصديقك من أصْدَقَكَ لا من صَدَّقَك، وفي نوابغ الكلِمِ، وبدائع الحكَم، عليك بمن يُنذر الإبسالَ والإبلاس، وإياك ومَنْ يقول: لا باسَ ولا تاس.

فإن وقف على كلامي ذكي لا يسْتقويه، أو جافٍ يَسْخرُ منه وَيسْتَزْريه، فالأولى بالذكي أن يحفظ لي جنَاحَ الذُّلِّ من الرحمة، ويشكرَ اللهَ على أن فَضَّلهُ عليَّ بالحكمة، وأما الآخر الزَّاري، وزَنْد الجهالةِ الواري؛ فإن العلاج لِترقيق طبعه الجامد، هو الضرب في الحديد البارد، ولذلك أمَرَ اللهُ بالإعراض عن الجاهلين، وَمدَح به عبادَهُ الصالحين.

ثم إني ترددتُ في كيفية الجواب منَ الإيجاز والإطناب، إذ كان في كلٍّ منهما محامد، ولكلٍ فيهما مقاصد، ففي الإيجاز تأليفُ النفوس الأوابد، وفي الإطناب توسيعُ دائرة الفوائد.

وصَدَّني عن التوسيع والتكثير خشية التنفير والتأخير. أما التنفير، فلأنه يُمِلُّ الكاتبَ والمكتوبَ إليه، والمتطلع إلى رؤية الجواب، والوقوف عليه، مع أنَّ القليل يكفي المنصفَ، والكثير لا يكفي المُتعَسِّف، وضوء البرق المنير يدُلُ على النور الغزير.

وأما التأخير: فلأن التوسيع يحتاج إلى تمهيل عرائس الأفكار، حتى يستكمل الزينة، ومطالعة نفائس الأسْفار الحافلة بالأنظار الرصينة، والآثار

ص: 224

المتينة. فهذا البحر -وهو الزَّخّار- يحتاجُ مِنَ السُّحبِ إلى مدَدٍ، والبدرُ -وهو النَّوَّار- يفتقر مِنَ الشمسِ إلى يَد. ومِنْ أين يتأتَّى ذلك، أو يتهيأ لي، وأنا في بَوادٍ خَوالي، وجبالٍ عوالي (1)، فَتَمَصَّصْتُ مِنْ بلل أفكاري بَرَضا، وما أكفي ذلك وأرضى، إذا كان طيباً محضاً.

سامحاً بالقَليلِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ

رُبَّمَا أقْنَعَ القَلِيلُ وأرْضى

ولكن هيهات لذاك، لا محيص لي عن أوفر نصيب من طَف الصَّاع، ولا يد لي منَ الانخداع بداعيةِ الطِّباع.

وقد سَلكتُ -في هذا الجواب- مسَالكَ (2) الجدليِّينَ، فيما يُلْزِمُ الخصم على أصوله، ولم أتَعَرَّض في بعضه لبيان المختار عندي، وذلك لأجل التقية من ذوي الجهل والعصبية، فليتنبه الواقفُ عليه على ذلك، فلا يجْعلْ ما أجَبْتُ به الخصم مذهباً لي، ثم إني قد اختصرتُ هذا الكتاب في كتاب لطيف سَمَيْتهُ:" الروضَ الباسم "(3). وهو أقلُّ تَقِيَّة مِن هذا، ولن يخلو، فالله تعالى المستعان.

" إنَّ هذا الدينَ بَدأ غريباً، وَسيعُودُ غريباً كما بدأ، فطُوبى للغرباء "

رواهُ مسلم، من حديث ابن عمر، ومِن حديث أبي هريرة معاً، وصححه الترمذيُّ من حديث ابن مسعود، وَحسَّنه مِنْ حديث عمرو بن عوف بنحوه، ورواه ابنُ ماجة مِنْ حديث أنس، ونحوه مِنْ حديث معاذ (4).

(1) في هامش (أ) ما نصه: لأن الرسالة التي أجابها بهذا الكتاب، جاءته وهو مقيم ببادية خالية عن الكتب التي يحتاج المجيب إلى مطالعتها.

(2)

في (أ): مسلك.

(3)

وهو في مجلد لطيف، طبع بالمطبعة المنيرية، ثم صورته دار المعرفة سنة 1399 هـ.

(4)

رواه من حديث أبي هريرة مسلمٌ (145) وابن ماجه (3986) وأحمد 2/ 389 =

ص: 225

ثم وَجدتُ شيخَ الإسلام الأنصاري (1): قد روى مِنْ طريق أهل البيت عن عليٍّ عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وسلم: " طلبُ الحق غُربة "(2)

= بلفظ: " بدأ الإسلام غريباً، وسيعود كما بدأ غريباً، فطوبى للغرباء " ورواه مسلمُ (146) عن ابن عمر بلفظ: " إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، وهو يأرزُ بين المسجدين كما تأرز الحية في جحرها " ورواه الترمذي (2629) عن عبد الله بن مسعود وقال: هذا صحيح غريب، ورواه أيضاً (2630) والطبراني في " الكبير "(10081) والبغوي (64) وابن ماجه (3988) والدارمي 2/ 311 و312 وأحمد 1/ 398 من حديث عمرو بن عوف، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، كذا قال، مع أن في إسناده كثير بن عبد الله وهو ضعيف، لكنه قوي بشواهده، ورواه ابن ماجه (3987) عن أنس بن مالك وإسناده حسن، ورواه أحمد 1/ 184 عن سعد بن أبي وقاص وإسناده صحيح، ورواه أحمد 2/ 177 و222 عن عبد الله بن عمرو بن العاص بلفظ آخر انظر " مجمع الزوائد " 7/ 278 و10/ 258، ورواه أحمد 4/ 73 عن عبد الرحمن بن سنة. ورواه الطبراني في " الكبير "(5866) وفي " الصغير " 1/ 104 والدولابي في " الكنى " 1/ 192 و193 عن سهل بن سعد الساعدي، وقال الهيثمي في " المجمع " 7/ 278: ورجاله رجال الصحيح غير بكر بن سليم وهو ثقة، ورواه الطبراني في " الكبير "(11074) عن ابن عباس، وأورده الهيثمي في " المجمع " 7/ 309 ونسبه للطبراني في " الأوسط " و" الكبير " وقال: وفيه ليث بن أبي سليم وهو مدلس، كذا قال ولا نعلم أحداً من الأئمة المتقدمين وصفه بالتدليس سواه وإنما ضعفوه لسوء حفظه، ويغلب على الطن أنه وهم في ذلك ثم رأيت الحافظ ابن حجر تعقب الهيثمي في زوائده على مسند البزار ورقة 297 تعليقاً على قوله في المجمع 3/ 27 و5/ 189 على ليث: ثقة ولكن مدلس، فقال: ما علمت أحداً صرح بأنه ثقة ولا وصفه بالتدليس، وانظر " نظم المتناثر " للكتاني ص 34 و35، وقد شرح هذا الحديث شرحاً موسعاً ثلاثة من الأئمة الأعلام: شيخ الإسلام ابن تيمية، والإمام الأصولي النظار أبو إسحاق الشاطبي " صاحب " الموافقات "، والحافظ الفقيه ابن رجب الحنبلي، ولكل واحدٍ مشربٌ في شرحه، وهي جديرة بأن تنشر في كتاب واحد، ولعلنا فاعلون إن شاء الله.

(1)

هو أبو إسماعيل عبد الله بن محمد بن علي الهروي الحنبلي الصوفي، المتوفى سنة (481) هـ، وهو صاحب كتاب " منازل السائرين " الذي شرحه الإمام ابن القيم في ثلاث مجلدات ضخام، وقد تعقبه رحمه الله في غير ما موضع، ونقده في أكثر من مسألة جانب فيها الصواب.

(2)

هذا الحديث رواه الهروي في " ذم الكلام " وهو غير مطبوع، ورواه ابن عساكر في " التاريخ " 5/ 161، في ترجمة حمزة بن محمد الجعفري، ففال: أخبرنا أبو القاسم عبد الواحد بن أحمد الهاشمي الصوفي، حدثنا أحمد بن منصور بن يوسف الواعظ الصوفي قال: =

ص: 226

وهذه كلمة حق، وحكمة جاءت من مَعْدِنِها. فنسألُ الله أن يَجْبُرَ غُرْبَتنا فيه بسطوع أنواره، وظهور خوافيه، إنه جَوَاد كريم. وهذا حينَ أشرع في الجواب، والله الهادي إلى الصواب.

قال: " أما المسألة الأولى، وهي: سهولةُ تَرقِّي مَرْتبَة الاجتهاد.

فأقولُ: الاجتهاد مبني على أصول:

منها: معرفةُ صحيح الأخبارِ.

ومنها: معرفةُ التفسير المحتاج إليه من الكتاب والسُّنة.

ومنها: معرفةُ الناسخ والمنسوخِ.

ومنها: رسوخ في علوم الاجتهاد أيُّ رُسُوخٍ، وكُلٌّ منها صعبٌ شديد، مدركُهُ بعيد ".

أقول: الكلام في المحاضرات والمراسلات والمناظرات والمحاورات وإن تفاوتت مراتبُهُ، وطالت مساحبُهُ، وتباينت تراكيبُهُ، وتنوَّعت أساليبُهُ، واستنَّت فرسانُهُ في ميادينه الرحيبة، وافتنَّت نُقادُهُ في أساليبهِ العجيبَةِ، فمسالِكُهُ المستجادة: أربعةُ مسالك، ولا يليق التعدي إلى وراء ذلك.

= سمعت أبا محمد جعفر بن محمد الصوفي يقول: سمعت الجنيد بن محمد الصوفي يقول: سمعت السري بن المغلس السقطي الصوفي عن معروف الكرخي الصوفي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب مرفوعاًً وفي إسناده من لا يعرف وأورده السيوطي في " الجامع الكبير " 1/ 567 وزاد نسبته إلى الديلمي والرافعي في " تاريخه "، وذكره الذهبي في " ميزانه " 3/ 107 وحكم عليه بالوضع، وأقره الحافظ في " اللسان " 4/ 187 والمناوي في " الفيض " 4/ 269.

ص: 227