الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسلك الأوَّل: الدعاءُ إلى الحق بالحِكمة البُرْهانية، والأدلة القطعية
، وهي أجلُّ المراتب، وأرفعُها، وأقطعُها للتشغيب، وأنفعُها، وعليها المدارُ في القطعي من علم المعقول، وعلم المنقول.
المسلك الثاني: الجدلية:
وهي عبارة عن أقْيِسَةٍ مؤلَّفةٍ مِنْ مقدمات مشهورة؛ غير يقينية. وهي قضايا يُحْكَم بها لاعتراف الناس لمصلحةٍ عامة، أو رِقَّةٍ، أو حَمِيُّة، أو عادات، أو آداب. ولو خُلِّيَ الإِنسانُ ونفسُهُ -مع قطع النظر عمّا وراء العقل- لم يحكم بها، مثل قول البرَهْمي (1):" كشفُ العورة مذموم ". وقول الفلسفي: " تعذيب العاصي قبيح ". مستندين في ذلك إلى مجرد العادة، والرِّقَّة، وقد تصْدُقُ وتَكْذِبُ، والغرض منَ الجدل إقْنَاعُ القاصر عن درْكِ البُرهان، وإلزام الخَصم، هكذا ذكَرَهُ علماءُ هذا الفنِّ.
المَسْلك الثالث: الخطابية
. قال المنطقيون: وهي قياساتٌ مؤَلَّفَةٌ مِنْ مقدماتٍ مقبولةٍ مِنْ شخص معتقد، أو مظنونة، وهي قضايا تُؤْخذ ممن يُعْتَقَد فيه مزيد عقل أو دين، كالموجودات من أهل العلم والزهد، أو مظنونات منْ سائر القرائن، مثل: فلان يطوف بالليل فهو سارق. والغرض مِن الخطابية، ترغيبُ السامع فيما ينفعه مِن تهذيب الأخلاق، وأمر الدين.
المسلك الرابع: الوعظية، وهي نوعان:
التأليف والترغيب، والتخويف والترهيب، ولكلٍّ منهما مكانٌ يليق به، وحال يَصْلُح له، وَمِنْ ثَمَّ اختلَف السمعُ في ذلك؛ ففي موضعٍ يقولُ:{وقُولا لَهُ قَولاً لَيِّناً}
(1) البرهمي واحد البراهمة: وهم طائفة من مجوس الهند لا يجوزون على الله تعالى بعث الأنبياء، ويحرمون لحوم الحيوان.
[طه: 44]، {فَبِمَا رَحْمَةٍ منَ اللهِ
…
} [آل عمران: 159]. وفي موضع: {وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة: 123]، {وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} [النساء: 63]، {قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} [القصص: 18]. ومنْ ثمَّ مدح المؤمنين بالذِّلة في موضع، وبالعزَّةِ في موضع.
أما النوعُ الأول: وهو نوعُ التأليف والترغيب، فهو الدعاء إلى الحقِّ بالملاطفة، وَضرْبِ الأمثالِ، وحُسْن الخُلُقِ، ولِين القولِ، وحسنِ التَّصَرُّفِ في جَذب القلوب، وتَمييل النفوس. وهذا النوع أشهرُ مِنْ أن يُبَيَّنَ بِمثَال، وسوف يأتي في التنبيه السابع ذِكْرُ طرَفٍ يسيرٍ منْ أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم المَرْويَّة في هذا المعنى.
وأما النوع الثاني: وهو نوع التخويف والترهيب؛ وهو الدعاء إلى الحق بذكر الزواجر، وكشفِ غطاء المداهنة مع المخاطَب. وقد وردَ ذلك وروداً كثيراً، في السُّنةِ النبوية، والآثارِ الصحابية، وأخبار العِتْرةِ الزكية.
بل ورَد في كتاب الله تعالى، قال اللهُ -سبحانه- حاكياً عن كليمه موسى عليه السلام:{فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} [القصص: 18].
ومنْ ذلكَ قولُ يوسف لإخوته: {أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا} [يوسف: 77] لَمَّا نسَبُوهُ إلى السَّرقة.
ومنَ الأحاديث الواردة في ذلك قولُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذَر رضي الله عنه: " إنَّك امرءٌ فيكَ جاهلية "(1) رواهُ البخاريُّ. ومنه:
(1) أخرج البخاري في صحيحه (30) و (2545) و (6050)، ومسلم (1661) =
حديثُ سَلَمة بن الأكوع، الثابت في صحيح مسلم أنَّ رجلاً أكَلَ بشِمالِهِ عند رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فَقَال:" كُلْ بيمينك " فقالَ: لا أستطيعُ. فقالَ: " لا استَطعْتَ " مَا مَنعهُ إلا الكبْرُ، قالَ: فما رَفعَها إلى فِيه (1). وهذا الرجلُ صحابيٌّ منْ أهلِ الإسلام، وهو بُسْر بن راعي العِير الأشجعي. ذكره النووي (2). ومِنْ ذلكَ الحديث:" مَنْ سمعَ رجلاً يَنْشُدُ ضَالَّةً في المسجدِ، فليقُلْ: لا رَدَّهَا الله علَيْكَ، فإنَّ المساجدَ لم تُبْنَ لِهَذا ". رواهُ مسلمٌ (3) عن أبي هريرة. وروى مسلمٌ أيضاًً عن بُريدة: أنَّ رَجلًا نشد في المسجد، فقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم:" لَا وَجَدْتَ "(4). ومنه الحديث: " إذَا رَأيْتُمْ مَنْ يبِيعُ أو يبْتَاعُ في المَسْجِدِ، فَقولُوا: لَا أرْبَحَ الله تجارتك "(5)
= من طريق المعرور بن سويد، قال: لقيت أبا ذر بالرَّبذَة وعليه حُلة وعلى غلامه حُلَّة، فسألته عن ذلك، فقال: إني ساببت رجلاً، فعيّرته بأمه، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم:" يا أبا ذر أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده، فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتوهم فأعينوهم عليه " ورواه أحمد 5/ 158 و161، وأبو داود (5157) والترمذي (1945) والبغوي (2402).
(1)
هو في صحيح مسلم (2021) في الأشربة: باب آداب الطعام والشراب.
(2)
في كتابه الأذكار ص 262، وقد ورد اسمه مصرحاً به في رواية الدارمي 2/ 97، وعبد بن حميد، وابن حبان، والطبراني (6235) من طريق عكرمة بن عمار، عن إياس بن سلمة بن الأكوع، عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أبصر بسر بن راعي العير يأكل بشماله
…
قال الحافظ في الإصابة 1/ 148 تعليقاً على قوله " ما منعه إلا الكبر ": واستدل عياض في شرح مسلم على أنه كان منافقاً، وزيفه النووي في شرحه متمسكاً بأن ابن منده وأبا نعيم وابن ماكولا وغيرهم ذكروه في الصحابة. وفي هذا الاستدلال نظر، لأن كل من ذكره لم يذكر له مستنداً إلا هذا الحديث، فالاحتمال قائم، ويمكن الجمع أنه كان في تلك الحالة لم يسلم ثم أسلم بعد ذلك.
(3)
(568) في المساجد: باب النهي عن نشد الضالة في المسجد، ورواه أبو داود (473) وأحمد 2/ 349 و420، وابن ماجه (767) وابن خزيمة (1302).
(4)
رواه مسلم (569) وابن ماجه (765) والطيالسي (804) وابن خزيمة (1301).
(5)
رواه الترمذي (1321) والدارمي 1/ 326، وابن الجارود (562) وابن السني (551) والبيهقي 2/ 447 وإسناده قوي، وصححه ابن خزيمة (1307) وابن حبان (312) والحاكم 2/ 56، ووافقه الذهبي.
رواهُ الترمذيُّ عن أبي هريرة، وقال: حديث حسن. وهذه الأخبارُ عامةٌ في ناشدٍ الضَّالَّةِ، والبائع، والمبتاع، كائناً مَنْ كان.
وقد ذكرَ النواويُّ فصلاً في كتاب " الأذكار "(1)، في أنه يجوز للآمرِ بالمعروفِ والناهي عن المنكرِ، وكُل مُؤَدِّب، أن يقول لمن يُخاطبه في ذلك: ويلك، ويا ضَعِيفَ الحال، ويا قليلَ النظر لنفسه، أو يا ظالِمَ نفسه، وأورد في ذلك أحاديثَ.
منها: حديثُ عَديِّ بنِ حاتِم، الثابت في صحيح مسلم (2): أنَّ رجلاً خطب عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: مَنْ يُطع اللهَ ورسولَه، فَقد رشد، ومَنْ يَعْصهِما، فَقد غَوى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" بِئْسَ الخَطِيبُ أنْت؛ قُلْ: ومَنْ يعْصِ الله ورسوله "(3).
وروى فيه حديثَ جابرِ بنِ عبد الله: أن عبْداً لحاطِبٍ جاء يشكو حَاطِباً، فقال: يا رسُولَ الله ليدخلنَّ حَاطِبٌ النَّارَ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كذبْتَ، لا يدْخُلها فإنَّهُ شهِد بدراً والحُديبية " رواهُ مسلمٌ في الصحيح (4).
(1) ص (304).
(2)
(870) وأخرجه أبو داود (4960) والنسائي 6/ 80، وأحمد 4/ 256 و379 والطبراني 17/ 98، والطيالسي (1026) والبيهقي 3/ 216.
(3)
وهذا النهي موجه لغير النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم هذا القول كما في حديث ابن مسعود في خطبة النكاح:" ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه " رواه أبو داود، وفي حديث أنس " ومن يعصهما فقد غوى " وهما صحيحان، وقال السندي في حاشية النسائي: قال الشيخ عز الدين: من خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه كان يجوز له الجمع في الضمير بينه وبين ربه تعالى، وذلك ممتنع على غيره، قال: وإنما يمتنع من غيره دونه، لأن غيره إذا جمع أوهم إطلاق التسوية،
بخلافه هو، فإن منصبه لا يتطرق إليه إيهام ذلك.
(4)
رقم (2195)، ورواه أحمد 3/ 325، وعبد الرزاق (20418) والترمذي (3956) والطبراني (3064).
وذَكَرَ فيه قولَه عليه السلام لِصاحب البَدنةِ: " ويلَك ارْكَبْها "(1).
وقوله عليه السلام لذي الخُويصرة: " ويلك فَمنْ يَعْدلُ إنْ لَمْ أَعْدِلْ "(2).
ومِنَ الآثار في ذلك: ما روي من قولِ علي عليه السلام: " قَبَّحَ اللهُ مَصقلة، فعَلَ فِعْلَ السادة، وَفرَّ فِرارَ العبيد. فما أنطقَ مادحه حتى أسكته، وما صدق واصفه حتى بكَّتَهُ ". ذكره في " النَّهْجِ "(3). وما رُوي من قوله عليه السلام: لابن عباس رضي الله عنهما: إنك امرؤ تائِه. -حين راجعه في المُتْعَة-، وكلامُ عليٍّ عليه السلام: لأصحابه، في " النَّهْج " مشهور، وفيه من هذا القبيلِ شيءٌ كثير.
وَمِنَ الأثارِ في ذلك: أَثرُ عبد الرحمن بن أبي بكر. وفيه: أن أباه
(1) رواه البخاري (1689) و (1706) و (2755) و (6160) ومالك 1/ 377، ومسلم (1322) وأحمد 2/ 312 و474 و487 و505، والنسائي 5/ 176، والبغوي (1954).
(2)
رواه من حديث أبي سعيد الخدري البخاري (6163) و (3344) و (3610) و (4351) و (4667) و (5058) و (6931) و (6933) و (7432) و (7562) ومسلم (1064) وعبد الرزاق (18649) والبغوي (2552) وابن ماجه (172) وأحمد 3/ 68 و73، وابن أبي عاصم في السنة (910) وأبو داود (4764).
(3)
أي نهج البلاغة، قال الإمام الذهبي في " ميزان الاعتدال " 3/ 124 في ترجمة الشريف المرتضى علي بن الحسين العلوي الحسني: وهو المتهم بوضع كتاب " نهج البلاغة " وله مشاركة قوية في العلوم، ومن طالع كتابه نهج البلاغة، جزم بأنه مكذوب على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، ففبه السبُّ الصراح، والحط على السيدين: أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وفيه من التناقض والأشياء الركيكة، والعبارات التي من له معرفة بنَفس القرشيين الصحابة وبنفسِ غيرهم ممن بعدهم من المتأخرين جزم بأن الكتاب أكثره باطل.
ومصقلَةُ هذا: هو مصقلة بن هبيرة بن شبل الثعلبي الشيباني من بكر بن وائل، قائد من الولاة، كان من رجال علي بن أبي طالب، وإقامه علي عاملاً له في بعض كور الأهواز، وتحول إلى معاوية بن أبي سفيان في خبر أورده المسعودي، فكان معه في صفين .... انظر الأعلام 7/ 249.
ضَيَّف جماعةً، وأجلسهم في منزله، وانصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأخر رجوعُهُ. فقالَ: أَعَشَّيتُموهم؟ قالوا: لا. فأقبل على ابنه عبد الرحمن، فقال: يا غُنثَرُ، فجدَّع وسبَّ (1). وفي هذا المعنى أخبارٌ كثيرةٌ، وآثارٌ واسعةٌ لا سبيلَ إلى استقصائِها.
وهذا النوعُ أقسامٌ: منه ما يقع مع أهل المعاصي، ويتضمَّنُ الذَّمَّ لهم، والدعاء عليهم. وهذا القسم لا يكون في هذا الجواب منه شيءٌ - إن شاء الله تعالى-، لأن هذا الجواب خطاب لأهل العلم والمراتب الشريفة.
ومنه ما يكونُ مع أهل العلم والفضل، ولكن على سبيلِ التأديبِ، مثل قوله صلى الله عليه وسلم لأبي ذَر:" إنَّك امرؤٌ فيك جَاهِلِيةٌ "(2). وقول عليٍّ عليه السلام لابنِ عباس: إنكَ امرؤٌ تائه (3). فهذا أيضاً لا يكون -في هذا الجواب- منه شيءٌ؛ لأنَّ المُجيبَ أحقرُ مِنْ أن يؤدِّبَ مَنْ هو أجلُّ مِنهُ وأكبر، بل هو بأن يُؤدَّبَ أحقُّ وأجدرُ.
ومنه ما يكونُ على جهة التنبيه -لأهل الفضل والعلم- بقوارعِ الكلام
(1) رواه البخاري (602) و (3581) و (6140) و (6141) ومسلم (2057) وأحمد 1/ 198. وقوله: يا غنثر، ضبطه النووي بغين معجمة مضمومة ثم نون ساكنة، ثم ثاء مثلثة مفتوحة ومضمومة: وهو الثقيل الوخم، وقيل: هو الجاهل، مأخوذ من الغثارة بفتح الغين المعجمة وهي الجهل والنون زائدة، وقوله: فجدَّع أي، دعا عليه بالجدع وهو قطع الأنف وغيره من الأعضاء.
(2)
تقدم تخريجه ص (229 - 230).
(3)
رواه النسائي 6/ 125 - 126 من طريق عمرو بن علي، عن يحيى، عن عبيد الله بن عمر، قال، حدثني الزهري، عن الحسن وعبد الله ابني محمد بن علي، عن أبيهما أن علياً بلغه أن رجلاً (هو ابن عباس) لا يرى بالمتعة بأساً، فقال: إنك تائه، إنه " نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر ". وهذا إسناد صحيح، والتائه: الحائر الذاهب عن الصراط المستقيم.
الموقظة -على سبيل الحِدَّة في المَوْجدَه والموعظة- وهذا قد يدخلُ منه شيءٌ في الجواب، لأنه لا أحد بأحقر من أن يقول لغيره: اتق الله، ولا أحد بأكبر من أن يقال له: اتَّقِ الله.
واعلم أن للزجر والتخويف بالألفاظ الغليظة شروطاً أربعة:
شرطين في الإباحة، وهما: أن لا يكون المزجور مُحِقَّاً في قوله أو فعله، وأن لا يكون الزاجرُ كاذباً في قولهِ، فلا يقول لِمن ارتكب مكروهاً: يا عاصي، ولا لِمَن ارتكب ذنباً لا يعلم كِبْرَهُ (1): لا فاسق، ولا لصاحب الفسق -مِنَ المسلمين-: يا كافر. ونحو ذلك.
وشرطين في النَّدب، وهما: أن يظنَّ المتكلمُ أنَّ الشدَّة أقربُ إلى قبولِ الخَصْمِ للحقِّ، أو إلى وضوحِ الدليلِ عليه، وأن يفعلَ ذلك بنيَّةٍ صحيحةٍ، ولا يفْعَلُهُ لمجردِ داعيةِ الطبيعة.
فإن قلتَ: فكيف تكونُ الشِّدةُ أَقربَ إلى القبول؟ قلت: قد يكونُ كذلك -في بعض المواضع- مثل أن يقع مع الصالح الخاشع المتواضع، وذلك قليل.
إذا عرفَت هذا، فاعلم أنه لَمَّا كان الكلام في المراسلات لا يكاد يخلو مِنْ هذه المسالك الأربعة، أحببتُ التعريف بها، خوفاً مِمَنْ لا يعرف هذا الشأن، وممَّن لم يتدرَّبْ في هذا الميدان يحْسِبُ أنِّي حين أذكر الطريقة الخطابية، والأمثال الوعظية، قد اكتفيتُ بها عن إيرادِ الأدلةِ
(1) كبر الشيء بكسر الكاف: معظمه، ومنه قول قيس بن الخطيم:
تنامُ عَنْ كِبْرِ شأنها فإذا
…
قامت رويداً تكاد تنغرِفُ
وفي كتاب الله {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} قال ثعلب: يعني معظم الإفك.
العلمية، والبراهينِ القطعية، واهماً أني لا أسبحُ إلا في شريعة هذا الفرات، ولا أجري إلا في ميادين هذه العبارات، ولا يدري أني قد أصَبتُ مَحَزَّ (1) الإصابة، ووضعتُ الهِناء (2) مواضِع النُّقْبِ. ولكل مقام مقالٌ، لا يَلِيقُ سواه بمقتضى الحال. وإنما المجيب يقفو آثارَ مَنِ ابتداه، ويتكلَّم على كلامه (3) بمقتضاه. فحين يتكلم المبتدىءُ في المواضع الخطابية، والمسالك الجدلية، أغزو مغزاه، وأسْتنُ في مجراه، وحين يتكلَمُ في الأدلة القطعية، والبراهين القوية، أقفو على آثاره، وأعشُو (4) إلى ضوءِ ناره، وهذا هو حكمُ المجيب. فليس بملومٍ على ذلك، ولا معيب.
وإذْ قدْ عرفت هذه المقدَمة، فلنشرعْ في الجواب على ما تقدم - من كلام السيِّد -أيَّده الله- في تفسير الاجتهاد، ومنع القول بسهولته.
والجواب على ما تقدَّم مِنْ كلامه يَتمُّ بذكر أحدٍ وعشرين تنبيهاً.
التنبيه الأول: في عبارة " السيد " -أيده الله- رَمي لي بقولٍ مستغرَب في تسهيل الاجتهاد، ورأي مستطرَف يُجانِبُ مذاهب النقاد، ولم أعلم لي في ذلك مذهباً غريباً، ولا رأْيأ حديثاً، وأنا أَشْترطُ في الاجتهاد ما يَشْتَرطُهُ غيري من أهلِ المذهبِ (5) وغيرهِم -كما سيأتي بيان ذلك-. ولا
(1) المحز: هو موضع الحز، يقال: تكلم فأصاب المحَز: إذا تكلم فأقنع.
(2)
الهناء: القطران، والنُّقْب والنُّقَبُ: القطع المتفرقة من الجرب، الواحدة نقبة، وفي شعر دريد بالخنساء:
مُتَبَذِّلاً تبدُو محاسِنُه
…
يضعُ الهناءَ مواضِعَ النُّقْب
وفلان يضع الهناء مواضع النقب: إذا كان ماهراً مصيباً.
(3)
في (ب): على آثاره.
(4)
يقال: عشا إلى النار: إذا رآها ليلاً علي بعد فقصدها مستضيئاً بها، قال الحطيئة:
متى تأتِه تعشُو إلى ضوءِ نَارِهِ
…
تجدْ خيرَ نارٍ عندَها خيرُ مُوقِد
(5)
أي: المذهب الزيدي.
معنى لِمراسَلتي ومناظرتي في ذلك، لأنَّ المراسلةَ فرعُ المخالفةِ، ولمْ يكن الأصل مني -وهو المخالفة- فيكونُ الفرعُ من " السَّيدِ "؛ وهو المراسلةُ والمناظرةُ.
وقد أَخلَّ " السيِّدُ " -أَيَّدَهُ الله- بقاعدَةٍ كبيرةٍ؛ هي أساسُ المناظرة، وأصلُ المراسلة، وهي: إيرادُ كلام الخصْم " بلفظه " أوَّلاً، ثم التَّعَرُضُ لِنَقْضِه ثانياً. وهذا شيء لا يَغْفُلُ عنه أحدٌ من أهل الدِّرْيةِ (1) بالعلوم، والخوض في الحقائق، والممارسة للدَّقائق، وإنما تختلِف مذاهبُ النُّقادِ في ذلك، ولهم فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن يُورِدَ كلامَ الخصْمِ " بنَصِّه "، ويتخلَّص من التُّهمة بتَغْييره وَنقصهِ. وهذا هو المذهبُ المرتضى عند أمراءِ الفنونِ النظريةِ، وأَئِمةِ الأساليبِ الجدَلية.
وقد عاب عبد الحميد بن أبي الحديد (2) على قاضي القضاة (3)؛ أنه
(1) الدرية كالدراية، يقال: درى الشيء دَرياً ودِرياً، ودِرية، ودرْياناً ودِراية: علمه.
(2)
هو عبد الحميد بن هبة الله بن محمد بن محمد بن أبي الحديد المدائني صاحب شرح نهج البلاغة الغالي في التشيع، ولد بالمدائن سنة ست وثمانين وخمس مئة، ثم صار إلى بغداد، فكان أحد الكتاب والشعراء في الديوان الخليفي، وكان حظياً عند الوزير ابن العلقمي لما بينهما من المناسبة والمقاربة والمشابهة في المشرب والمذهب والأدب. توفي ببغداد سنة 655 هـ. انظر " فوات الوفيات " 2/ 259، والبداية لابن كثير 13/ 199.
(3)
هو عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار الهمذاني الأسدابادي، شيخ المعتزلة في عصره، وهم يلقبونه قاضي القضاة، ولا يطلقون هذا اللقب على غيره، قال الخطيب في تاريخه 11/ 113: كان ينتحل مذهب الشافعي في الفروع ومذاهب المعتزلة في الأصول، وله في ذلك مصنفات، وولي قضاء القضاة بالري، وورد بغداد حاجاً وحدث بها. وقال الإمام الذهبي: صنف في مذهبه -أي: الاعتزال- وذب عنه، ودعا إليه، وله مقالة محكية في كتب الأصول، وصنف دلائل النبوة، فأجاد فيه وبرز، أرخ وفاته السبكي في " طبقات " 5/ 97 سنة خمس عشرة وأربع مئة.
ينْقُضُ كلامَ السيِّدِ المرتضى (1) في مراسلات دارت بينهما، ولا يُورِدُ لفظَهُ ولا يَنُصُّ.
واعلم: أن تركَ كلام الخَصْمِ ظلٌم لَه ظاهرٌ وحَيْفٌ عليهِ واضح، لأنَّهُ إنَّما تكلَّم، ليكونَ كلامُه موازناً لكلام خصْمِهِ في كفَّةِ المِيزان الذهني، وموازياً له في جولة الميدان الجَدَلي، لأنَّ المُنْفَرِدَ يرجحُ في الميزانِ، وإن كان خفيفاً، ويسبِقُ في الميدان، وإن كان ضعيفاً. وهذا كُلُّهُ إذا كان للخصمِ كلامٌ يُحْفَظُ، واختيارٌ يصِحُّ أنْ يُنقَض، فمِنَ العدلِ بيانُ قوله، وحكايةُ لفظهِ، وأما إذا لم يكن له مذهبٌ ألبَتَّة، وإنما وُهِمَ عليه في مَذْهبهِ، ورُميَ بما لم يَقُلْ به، فهذا ظُلم على ظُلْمٍ، وظلماتٌ بعْضُها فوق بعض.
المذهب الثاني: من مذاهب النُّقاد في نقضِ كلامِ الخُصُوم: أن يحكوا مذاهبَهم بالمعنى، وفي هذا المذهب شَوبٌ مِن الظلم، لأن الخصمَ قد اختار له لفظاً، وحرَّرَ لدَليلهِ عبارةً ارتضاها لبيان مقصدِهِ، وانتقاها لكيفيةِ استدلاله، وتراكيبُ الكلامِ متفاوتة، ومراتبُ الصِّيغ متباينة، والألفاظُ معاني المعاني، والتراكيبُ مراكيبُ المتناظرين، وما يرْضى المبارزُ لِلطِّرادِ بغير جواده، ولا يرضى الرافعُ للبناء بغيرِ أساسه، مع أن قطعَ الأعذارِ من أعظمِ مقاصدِ النُّظَار.
وهذه الأمور لم تكن مظالم شرعيَّة، وحقائق حِسِّيَّة، فهي آدابُ بينَ المتناظرين رائقة، ولطائفُ بين المتأدبينَ لائِقة، ومراقٍ إلى العدل
(1) هو علي بن الحسين بن موسى العلوي أخو الشريف الرضي، كان يلقب ذا المجدين، وكانت إليه نقابة الطالبيين، وكان شاعراً مكثراً له تصانيف على مذاهب الشيعة. توفي سنة ست وثلاثين وأربع مئة.
والتناصف، وَدَواعٍ إلى الرفقِ والتعاطف. وكل ما خالَفَها من الأساليبِ فارقَ حظَّهُ من هذه الآدابِ الحسان، وكلُّ منْ جانبها من المتناظرين علقته رائحة من قول حسَّان:
.................... إنَّ الخَلَائقَ فَاعْلَمْ شرُّهَا البِدَعُ (1)
استدراك: ما كان من أقوال الخصومِ معلوماً بالضرورة، لا تفاوت العبارات في إعطاءِ معناه؛ كبعض مذاهب المعتزلة والأشاعرة، وسائر الطوائف، فإنها معلومةٌ بالتواترِ، مأمون من منازعةِ أربابها فيها، فلا شين على الخصمِ إذا ذهبَ هذا المذهب في حكايتِها -بالمعنى- إذ لم يكن في معناها غُموضٌ تفاوتُ -في الكشف عنه- العبارات.
والعجبُ أن السيِّد -أَيَّدَه الله- مع ما لَه من جلالةِ القدر والخطر، ومع قطعِ عُمُرهِ في علومِ الجَدَلِ والنظر، أَهْملَ هذا المهمَّ الجليل، وغَفَلَ عن هذا الأصلِ العظيم، فظلمني حظي، ولم يأت بلفظي؛ حتى أُحاميَ عنه، وأُبيِّنَ فسادَ ما أَخَذهُ منه. وإنما تُقَرَّرُ الأُمور على مبانيها، وتُفَرَّعُ العلوم على مباديها، والفرعُ من غير أصل كالبناء من غير أساس، والجواب من غير مبتدأٍ كالطُّنْبِ (2) من غيرِ عمود.
أيها السَّيِّد: كم جمعتَ عليَّ في هذه الدعوى مظالم، وادعيت عليَّ وأنا (3) غائب، ولم تأت ببينة، وحكمت لنفسك، ولم تَنْصِبْ لي وكيلاً،
(1) عجز بيت، وصدره: سجية تلْك منهم غيْرُ مُحْدَثه.
وهو في ديوان حسان ص (145) من قصيدة مطلعها.
إن الذَّوائب منْ فهرٍ وإخوتهم
…
قدْ بيَّنُوا سُنَّة للنَّاس تُتَّبَعُ
(2)
الطُّنْبُ والطُّنُبُ: جل طويل يُشد به البيت والسُّرادق بين الأرض والطرائق، وقيل: هو الوتد، والجمع أطناب وطِنَبَة.
(3)
في ب: وأنت.
ولم تجعل بيني وبينكَ حكماً. فضربت خَيمةَ الدَّعوى على غير عمودٍ ولا طُنُبٍ، ورفعتَ سقفَ الحكومة على غيرِ أساسٍ ولا خُشُب.
التنبيه الثاني: المراجعةُ في أنَّ الاجتهادَ مُتَعَسَرٌ أو مُتيَسِّر من غرائب الأساليب المُتَعَسِّفَة، لأن مقاديرَ التَّسَهُّلِ والتَّعَسُّر غيرُ مُنْضَبِطَةٍ بحَدٍّ، ولا واقفةٌ على مِقْدار، ولا جاريةٌ على قِياس، ولا يصحُّ في معرفة مقاديرها برهانُ العقل ولا نصُّ الشرع، ولا يعرف مقاديرُها بكيلٍ ولا وزن، ولا مساحةٍ ولا خَرْصٍ، فإن من قال: إن حفظ القرآنِ علَيَّ متعسِّرٌ أو متيسِّرٌ، أو حفظَ الفقه، أو طلبَ الحديث، أو الحجَّ، أو الجهاد، أو غيرَ ذلك، كلُّ من ادعى سهولةَ شيءٍ منها -عليه- أو مشقته، لم يعقد له مجلسُ المناظرة، ويُطالب بالبراهين المنطقية، لأن الذي ادَّعاه أمرٌ ممكن، وهو يختلِفُ باختلاف الأشخاص والأحوال، فقد يكون متسهِّلاً على بعض الناس، متعسِّراً على غيره.
فطلبُ العلم متسهلٌ على ذَكيِّ القلبِ، صادقِ الرَّغبةِ، خَليِّ البالِ عن الشواغلِ، الواجدِ للكتب المفيدة، والشيوخ المُبَرِّزِين، والكفايةِ فيما يحتاج إليه، ونحو ذلك من كثرة الدواعي، وَقِلَّةِ الصوارف.
وطلبُ العلمِ متعسِّرٌ على مَنْ فقد هذهِ الأشياءَ كلَّها، وابتُلِيَ بأضدادها، وبينهما في التَّيسُّرِ والتَّعسُّر درجاتٌ غيرُ منحصِرَةٍ، ومراتبُ غيرُ منضبطةٍ، وبينَ النَّاس من التفاوت ما لا يُمْكنُ ضَبْطُهُ ولا يَتَهَيَّأ، وأين الثَّرى من الثُّريَّا!.
وجامدُ الطبع، بليد الذِّهْنِ؛ إذا سَمِعَ من يدَّعي سهولَة ارتجال القصائد والخُطَب، وتحبير الرسائلِ والكتُب، توهم أنه بمنزلةِ من يدعي
إحياءَ الموتى، وإبراءَ الأكمه والأبْرَص، وكذلك الضَّعيفُ الزَّمِن إذا سمعَ من يدَّعي سهولةَ حملِ الأشياءِ الثَّقيلة، وعمل الأعمالِ الشاقَّة. وكذلك الجَبان الفشل (1)؛ إذا سمع من يدعي سهولَة مقارعةِ الأقران، ومنازلة الشُّجْعان.
ولم نعْلَمْ أنَّ أحداً سَنَّ المناظرةَ في دعوى سهولة شيءٍ أو تَعسُّره؛ وسواء كان ذلك الشيء من قِبل العلمِ أو العمل، أو الفضائل أو (2) الصناعات، مهما كان ذلك الشيء المدعى من جِنْسِ المقدورات. وليت شعري! كيف يكون تركيب المقدمات على أن غيبَ القرآن، أو قراءَة الحديث، أو نحو ذلك: مُتَسَهِّلٌ أو مُتَعسِّرٌ؟! فإن قيل: لم يَزلِ العلماءُ يختبرون الأئمة في الاجتهاد، ويُناظرونهم؟ قُلنا: وأين هذا مما نحن فيه، إنما كلامنا فيمن ادعى أن طلب الاجتهاد سهلٌ على من أراده، ولم يَدَّعِ أنَّه مجتهد. وكذا مَن ادَّعى: أن غيب القرآن سهلٌ، ولم يَدَّعِ أنه مُتَغيِّب. فإنا ما علمنا أن أَحداً ترسَّل على من ادعى شيئاً من ذلك حتى يكشِف ما ادعاه من الجهالة، ويهديه إلى الحقِ، ويصدَّهُ عن الضَّلالة، ويطوِّفَ في الرد عليه في المحافل، وُيسيِّر الجواب عليه إلى المدارس.
ومثل هذا لا يحتاج إلى تطويل العبارة، بل ولا يحتاجُ إلى الإيماءِ والإشارة، لكن أحْوَج إليه كثرةُ التَّعسُّف.
وإذا عرفتَ هذا، فنقولُ للسيِّد -أيَّده الله-: ما مرادُك بتعسُّرِ الاجتهادِ، أو تعَذُّرِه، وتصدير الرسالة بالإنكار لسهولته، والاحتجاج
(1) الفشل: هو الضعيف الجبان، يقال: فَشِلَ الرجل فَشَلاً، فهو فَشِلٌ: كَسِلَ وضعف، وتراخى وجبن.
(2)
في ب: و.
الطويل على ذلك؟ هل تريدُ أنه متعسِّرٌ على الخصم الذي كتبتَ إليه، وأوردتَ الأدلةَ عليه؟ فَلسْتُ أُنكرُ عليك هذا، فربما رأيتَ من قصورِ هِمَّتي، وعدم صلاحيتي؛ ما يقضي بذلك، فتكلمت بِما علمت، ولا لوْمَ عليك في ذلك، ولا حَرَجَ، ولكن ما هذا ممّا يحتمل إنشاءَ الرسائلِ، ولا يليقُ في مثله طَلبُ البرهان والدلائل، وإن كنت تريد أن ذلك عسيرٌ على الناسِ كلهم -كما هو ظاهرُ كلامِك، ومفهومُ خطابك- فذلك لا ينبغي صدُوره منْ مِثلِكَ، ولا يَليقُ بفهمك وفضلِك، فإنَّكَ قد عرفتَ أحوالَ الناسِ وتفاوتَها إلى غير حدٍّ، وتباينها إلى غيرِ مقدار، واعْتبِر أحوال الناسِ في قديمِ الزمان وحديثهِ، وبعيدهِ وقريبه.
هذا أميرُ المؤمنين عليه السلام اخْتُصَّ مِنْ بَيْنِ الصحابة والقرابة بالعلم الذي لم يُمَاثَلْ فيه، ولم يُشارك ولم يُشابَه فيه، ولم يُقارَبْ، بحيث إنه لم يُعْلَمْ -بعدَ الأنبياء عليهم السلام نَظيرٌ لهُ في عِلْمِهِ؛ الذي حَيَّرَ العقول، وأسكت الواصفين، فما كأنََّه نشأ في جزيرة العرب العرباء، ولا كأنَّهُ إلا مَلَكٌ نَزَل من السماء، على من درس علوم الأذكياء، وتَلْمَذ في مغاصات الفطناء؟! إنما هي مِنحٌ ربانية، ومواهبُ لَدُنِّيَّة. ولكثرة علمه عليه السلام اتُّهِم أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أخبره مِن الشريعة بما أَخفاه عن الناس، فسأله رجلٌ: ما الذي أسرَّ إليك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم؟ فغَضِبَ وقال: واللهِ ما أسرَّ إليَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم شيئاً كَتَمَهُ عنِ الناسِ، وإنما عندنا كتابُ الله، وشيء من السُّنَّة ذكره عليه السلام، أو فهم أُوتيهِ رَجُلٌ (1).
(1) رواه البخاري (111) و (3047) و (6907) و (6915) وأحمد 1/ 79، والطيالسي (91)، والدارمي 2/ 190، والنسائي 8/ 23، وابن الجارود (794) وابن ماجه (2658) والبيهقي 8/ 28 من طريق أبي جحيفة -وهب بن عبد الله السوائي- قال: =
وهذا مع صحة إسناده؛ صحيح المعنى، فإنه ليس يجوزُ على النبي صلى الله عليه وسلم أن يُسِرَّ شيئاً من أمرِ الشريعة، فإنه بُعِثَ مبيناً للناس، وإنما كان يسرُّ إليه شيئاً من الملاحم والفِتن، ونحو ذلك مما لا يتعلق بالحلالِ والحرامِ، وشرائع الإسلام، فقد أوضحَ أميرُ المؤمنين عليه السلام في كلامه هذا: أن فَضْلَهُ في ذلك على القرابة والصحابة ومَنْ عدا الأنبياء والمرسلين من الناس أجمعين، إنما كان بالفهمِ الذي آتاه الله. وأما القرآن الذي كان معه عليه السلام والأخبارُ النبوية، فإنه يُمْكِنُ غيْرُهُ معرفةَ ذلك، ولكن ما
= قلت لعلي: هل عندكم شيء من الوحي إلا ما في كتاب الله؟ قال: لا والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة ما أعلمه إلا فهماً يُعطيه الله رجلاً في القرآن، وما في هذه الصحيفة، قلت: وما في الصحيفة؟ قال: " العقل، وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر ".
قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " 1/ 204: وإنما سأله أبو جحيفة عن ذلك، لأن جماعة من الشيعة كانوا يزعمون أن عند أهل البيت -لا سيما علياً- أشياء من الوحي خصهم النبي صلى الله عليه وسلم بها لم يطلع غيرهم عليها. وقد سأل علياً عن هذه المسألة أيضاً قيس بن عُبَادَ والأشتر النخعي، وحديثهما في مسند النسائي.
وروى البخاري (1870) و (3172) و (3179) و (6755) و (7300) من طريق إبراهيم التيمي، عن أبيه، قال: خطبنا علي رضي الله عنه على منبر من آجر وعليه سيف فيه صحيفة معلقة، فقال: والله ما عندنا من كتاب يقرأ إلا كتاب الله وما في هذه الصحيفة فنشرها، فإذا فيها أسنان الإبل، وإذا فيها:" المدينة حرم من عير إلى كذا، فمن أحدث فيها حدثا، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفاًً ولا عدلاًً، وإذا فيه: ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلماً، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاًً ولا عدلاًً، وإذا فيها: من تولى قوماً بغير إذن مواليه، فعليه لعنة الله، والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً ".
وأخرج أحمد 1/ 118 و152، ومسلم (1978) في الأضاحي من حديث أبي الطفيل عامر بن واثلة، قال: سئل علي: أخصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء؟، فقال: ما خصنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء لم يعم الناس كافة إلا ما كان في قراب سيفي، قال: فأخرج صحيفة مكتوب فيها: " لعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من غير منار الأرض، ولعن الله من لعن والده، ولعن الله من آوى محدثا " وأخرج عبد الله بن أحمد 1/ 151 بإسناد صحيح بل هو من أصح الأسانيد عن الحارث بن سويد، قال: قيل لعلي: إن رسولكم كان يخصكم بشيء دون الناس عامة؟ قال: ما خصنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء لم يخص به الناس إلا بشيء في قراب سيفي
…
يُمْكِنُ غيرُهُ أن يفهمَ مِن ذلك مثلَ فهمه، ولا يستنبط منه مثلَ استنباطه (1)، وكذلك سائرُ الصحابة كانوا في ذاتِ بينهم متفاضلين، فلم يكن أبو هريرة في الفقه مثلَ معاذ، ولا كان معاذ في الرواية نظيرَ أبي هريرة، وكان زيدٌ أَفْرضهم، وأُبيٌّ أقرأهم، ومعاذ أفَقهَهُم (2)، وكذلك أَحوالُ الخلق منْ بعدهم من السَّلفِ والخَلَفِ.
وكم عاصرَ أئمة العترة عليهم السلام من طلاب للعلم، مجتهد في تحصيله فلم يبلغ مَبْلَغهُم، ولا قارب شأوَهم. وكذلك عاصرَ أئِمةَ الحديث والفقهِ والعربيةِ، وسائرِ العلوم: من لا يأتي عليه العدُّ، فلم يبلغ المقصود، ويتميز عن (3) الأقران إلا أفراد من الخلق، وخَواص مَنحهم اللهُ -تعالى- الفهمَ والفِطْنَة، وآتاهم الفقهَ والحِكْمَةَ، {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269].
وقد فاضلَ اللهُ -تعالى- بينَ الأنبياء عليهم السلام: قال تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة: 253]. وقال
(1) ألفاظ الأثر تعم ولا تخص أمير المؤمنين رضي الله عنه: " ما أعلمه إلا فهماً يعطيه الله رجلاً في القرآن "" ما علمته إلا فهماً يعطيه الله رجلاً في القرآن "" إلا أن يرزق الله عبداً فهماً في كتابه "" أو فهم أعطيه رجل مسلم "" إلا فهماً يعطى رجل في كتابه ".
(2)
بشهادة الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه عنه أنس بن مالك ولفظه بتمامه: " أرحم أمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأفرضهم زيد، وأقرؤهم أُبيّ، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، ولكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح " أخرجه أحمد 3/ 184 و281، والترمذي (3793) وابن ماجة (154) والطحاوي في " مشكل الآثار " 1/ 35، والطيالسي (2096) وابن سعد 3/ 2/60، وأبو نعيم 3/ 222، والبغوي (3930) وصححه ابن حبان (2218)، (2219) والحاكم 3/ 422 ووافقه الذهبي.
(3)
في أ: على.
تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79]
فهذا تفضيلٌ في الفهم بَيْنَ سليمان وداود عليهما السلام، مع الاشتراكِ في النبوة، والتفاوت ما بيْنَ الأُبوة والبنوة.
وكذلك قد فَاضَلَ اللهُ بينَهم فيما دُونَ هذه المرتبة، وهي مرتبةُ البيان، ووضوحِ العبارة، مثلَ ما نصَّ عليه من إيتاءِ داود فصلَ الخطاب، ومثل قول موسى في أخيه عليهما السلام {هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا} [القص
ص: 34].
وعمودُ التفاوتِ الذي يدورُ عليه، وميزانُهُ الذي يُعتبر به في أغلب الأحوال هو: التفاوت في صِحَّة الفَهْمِ، وصفاء الذِّهن، واعتدالِ المِزَاج، وسلامةِ الذوق، ورُجحانِ العقل، واستعمالِ الِإنصاف. فهذه الأشياء هي مبادىء المعارف، ومباني الفضائل ولأجلها يكون الرجلُ جواداً من غير إسراف، وشجاعاً من غير تَهوُّر، وغنياً من غير مال، وعزيزاً من غير عشيرة، إلى غير ذلكَ من الصفات الحميدة، وعكسها مِن الرذائل الخسيسة.
ومِنْ ها هنا حَصَلَ التفاوتُ الزائد، حتى عُدَّ ألفُ بواحد، وقد أنشد الزَّمخشريُّ (1) رحمه الله في ذلك:
(1) هو أبو القاسم محمود بن عمر بن محمد بن عمر الخوارزمي الزمخشري الإمام الكبير في التفسير والنحو واللغة وعلم البيان كان إمام عصره غير مدافع، تُشد إليه الرحال في فنون، له التصانيف البديعة، إلا أنه غفر -الله له- كان داعية إلى الاعتزال، وقد أودع في تفسيره المسمى بـ " الكشاف " كثيراً من آراء أهل الاعتزال، وقد أولع الناس به، وبحثوا عليه، وبينوا أغاليطه، وأفردوها بالتأليف، ومن رسخت قدمه في السنة وقرأ طرفاً من اختلاف المقالات، انتقع بتفسيره، ولم يضره ما يخشى من أخطائه. كانت وفاته رحمه الله سنة ثمان وثلاثين وخمس مئة. =
ولم أرَ أمْثَالَ الرِّجَالِ تفاوتاً
…
لَدَى المجْدِ حَتَّى عُدَّ ألفٌ بِوَاحِدِ
وقال ابنُ دُريْدٍ (1) في المعنى:
والنَّاسُ ألفٌ منْهُمُ كواحِدٍ
…
وَوَاجدٌ كالألْفِ إنْ أمْرٌ عَنى
وأنشدوا في هذا المعنى:
يا بني البُعْد في الطِّبَا
…
عِ مَعَ القُرْب في الصُّوَر
وفي الآثار: " النَّاسُ كإبل مئة لا تَجدُ فيها راحِلَة "(2) وقالت العربُ
= وفيات الأعيان 5/ 168، و" ميزان الاعتدال " 4/ 78، و" لسان الميزان " 6/ 4 والجواهر المضية 2/ 160.
(1)
هو أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي من أزد عمان من قحطان، إمام عصره في اللغة والآداب والشعر الفائق، صاحب المؤلفات المعتبرة كالجمهرة في اللغة والاشتقاق في الأسماء، وكلاهما مطبوع متداول، توفي سنة 321 هـ وهذا البيت من مقصورته الشهيرة التي مدح بها آل ميكال ومطلعها:
يا ظبية أشبه شيء بالمها
…
ترعى الخزامى بين أشجار النقا
(2)
هو حديث صحيح رواه من حديث ابن عمر البخاريُّ (6498)، ومسلم (2547) وأحمد 2/ 7 و44 و70 و88 و109 و121 و123 و139، والترمذي (2872) وابن ماجه (3990) والطبراني في " الصغير" 1/ 147، وأبو نعيم في " الحلية " 9/ 23 و231، والبغوي (4195) ورواه عن أنس وأبي هريرة أبو نعيم في " الحلية " 6/ 334 و7/ 141.
قال الخطابي: العرب تقول للمئة من الإبل: إبل، يقولون: لفلان إبل، أي: مئة بعير، ولفلان إبلان أي: مئتان، فقوله: مئة تفسير للإبل. الراحلة قال ابن الأثير: الراحلة من الإبل: البعير القوي على الأسفار والأحمال، والذكر والأنثى فيه سواء، والهاء فيها للمبالغة، وهي التي يختارها الرجل لمركبه ورحله على النجابة، وتمام الخلق، وحسن المنظر، فإذا كانت في جماعة من الإبل، عرفت، وقال أيضاًً: يعني أن المرضي المنتخب من الناس في عِزَّةِ وجوده كالنجيب من الإبل القوي على الأحمال والأسفار الذي لا يوجد في كثير من الإبل. وقال الحافظ في " الفتح ": قال القرطبي: الذي يناسب التمثيل أن الرجل الجواد الذي يحمل أثقال الناس والحمالات عنهم، ويكشف كربهم، عزيز الوجود، كالراحلة في الإبل الكثيرة. وقال ابن بطال: معنى الحديث: أن الناس كثير، والمرضي منهم قليل.
في أمثالها: المَرْءُ بأصْغَرَيْه: قَلْبِهِ ولسَانِهِ. وفي الحديث عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: " رُبَّ حامِلِ فِقْهٍ غيرُ فقيهٍ، ورُبَّ حَاملِ فِقهٍ إلى مَنْ هُوَ أفقهُ مِنْهُ "(1).
(1) ورد هذا الحديث عن عدة من الصحابة، فأخرجه من حديث ابن مسعود الترمذيُّ (2657) وابن ماجه 1/ 85، وأحمد (4157) والحميدي 1/ 47، وابن حبان 1/ 227، والشافعي في " الرسالة " ص 411 والمسند 1/ 14، والرامهرمزي في " المحدث الفاصل " ص 165 - 166، وأبو نعيم في " الحلية " 7/ 331، " وأخبار أصبهان " 2/ 90، والخطيب في " الكفاية " ص 29 و173، و" شرف أصحاب الحديث " ص 10، والحاكم في " معرفة علوم الحديث " ص 22 والبغوي في " شرح السنة " 1/ 235، وابن عبد البر في " جامع بيان العلم " 1/ 40، والبيهقي في " معرفة السنن والآثار" 1/ 15، وابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " 1/ 9.
وأخرجه من حديث زيد بن ثابت أحمد 5/ 183، والدارمي 1/ 75، وأبو داود (3660) والترمذي (2794) وابن حبان (72) و (73) والرامهرمزي ص 164، وابن عبد البر 1/ 38 و39، والخطيب في " الفقيه والمتففه " 2/ 71، وشرف أصحاب الحديث ص 10، وابن ماجه (230)، والطحاوي في " مشكل الآثار " 2/ 232، والطبراني في " الكبير "(4891) و (4924) و (4925) وابن أبي عاصم (94).
وأخرجه من حديث جبير بن مطعم أحمد 4/ 72 و80 و82، والدارمي 1/ 74 و75، وابن ماجه (231) والطحاوي في " مشكل الآثار " 2/ 232، والحاكم 1/ 87، وابن عبد البر 1/ 41، والخطيب في " شرف أصحاب الحديث " ص 10، والطبراني في " الكبير "(1541) وابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل 1/ 10، 11، وأبو يعلى في " مسنده " 349/ 1.
وأخرجه من حديث أنس بن مالك أحمد 3/ 225، وابن ماجه (236) وابن عبد البر 1/ 42.
وأخرجه من حديث النعمان بن بشير الحاكم في " المستدرك " 1/ 88، والرامهرمزي ص 168.
وأخرجه من حديث أبي سعيد الخدري الرامهرمزي ص 165، وأبو نعيم في " الحلية " 5/ 105.
وأخرجه من حديث عبد الله بن عمر الخطيبُ في " الكفاية " ص 190، ومن حديث بشير بن سعد الطبراني في " الكبير"(1225)، ومن حديث معاذ بن جبل أبو نعيم في " الحلية " 9/ 308، ومن حديث أبي هريرة الخطيبُ في " تاريخه " 4/ 337، ومن حديث أبي الدرداء الدارمي 1/ 76، ومن حديث ابن عباس الرامهرمزي ص 166، ومن حديث أبي قرصافة الطبراني في " الصغير " 1/ 109، ومن حديث ربيعة بن عثمان ابن منده كما في =
وليس كُلُّ مَن قَرأ النحو والأدب، صنَّف مثلَ " الكشاف "، ولا كُلُّ مَنْ قَرأ الأُصولَ والجدلَ، ركب بحر الدقائق الرَّجَّاف.
ومَا كُلُّ دَارٍ أقْفَرتْ دَارُ عَزَّةٍ
…
وَلا كُلُّ بَيْضَاءِ التَّرائِب زَيْنَبُ
فإذا تقرر أن المواهب الربانيّة لا تنتهي إلى حد، والعطايا اللَّدُنيَّة لا تَقِفُ على مقدار، لم يَحْسُنْ من العاقل أن يقطع على الخلق بتعسيرِ ما اللهُ قادِرٌ على تيسيره، بل لم يلِقْ منه أن يِقطعَ بتعسير ما لم يَزَلِ الله -سبحانه- يُيسره لِكثير من خلقه، فيُقَنِّطُ لكلامه طامعاً، ويتحجَّرُ من فضل الله واسعاً، ويُفتَّرُ بتخذيله همةً ناشِطة، ويَفُلُّ بتقنيطه عزيمةً قاطعة، بل يخلِّي بينَ الناسِ وهمَمِهم وطمعِهم في فضل الله عليهم، حتى يَصِلَ كلُّ أحدٍ إلى ما قسَمَهُ الله له من الحظِّ في الفهم والعلم، وسائر أفعال الخير. وهذا مما لا يحتاج إلى حِجاج، ولا يفتقِرُ إلى لَجاج.
التنبيه الثالثُ: التعرضُ لمقادير المَشَاقِّ التي في أنواعِ التكاليف والعبادات من الصلاة والزكاة والتلاوة والصيام والحج والجهادِ والعلم والفُتيا، وسائِرِ الأعمال الصالحة، ومتاجر الخير الرابحة، مما لم تجرِ عادة الأنبياءِ عليهم السلام، ولا الأئِمَةِ، ولا العلماءِ، ولا الوعاظِ، ولا سائرِ الدعاة إلى الله تعالى -بالحكمة والموعظة الحسنة- أن يُهوِّلوها، ويُعظِّموا التعرضَ لفعلها، وُيعسِّروا الإحاطة بشرائطها؛ من الإخلاص، وعدم العُجْب، والتحرز من الإحباط؛ فإن في الجهاد التعرضَ لفواتِ
= " الإصابة " ومن حديث جابر بن عبد الله الطبراني في " الأوسط " كما في " المجمع " 1/ 138، ومن حديث زيد بن خالد الجهني ابن عساكر في تاريخه كما في "الجامع الكبير" ص 853 ومن حديث عائشة الخطيب في " المتفق والمفترق " كما في " الجامع الكبير " ص 853، ومن حديث سعد بن أبي وقاص الطبراني في " الأوسط " كما في " المجمع " 1/ 138.
الروح، مع ما يصحَبُ المجاهد من حُبِّ الثناء. وفي الورع مِن الشُّبهات، ومحاسبة النفس في كل وقت، وذمها عن الشَّهوات، إلى غير ذلك من التكاليف المحبوبة (1) والمفروضة -مشاق كثيرة- قلَّ مَنْ يَصْبِرُ عليها.
وللسيِّد -أيَّدهُ الله- قدوةٌ في الأنبياء والأئِمّة والعلماء: أما الأنبياء، فَدَعُوا الناس إلى محابِّ الأعمال، ومعالي الأمور، ورَغَّبُوا في الفضائل، وهَوَّنوا ما فيها من المشاق؛ بذكر الثواب في فعلها، والعقاب الحاصِل في ترك الواجب منها، ولم يعلم منهم أنَّهم خَذَّلوا طالباً لشيءٍ من الأعمال المحبوبات، ولا قصروا أحداً عن التطلع إلى رفيع الدرجات. وأما الأئمة والعلماء، فصنفوا العلمَ، وبيَّنُوا الواجبات، وذكروا شروطها؛ فذكروا شروط الصلاة، وما يجب من الطهارة وسائر الفروض والشروط، ولم يلحقوا بهذه -فصلاً- مُنَفِّراً عن العزم على أداء الصلوات في أوقاتها بخشوعها، وجميع شروطها، وسننها وهيئاتها، وحضورِ القلب فيها، وَحِل ثياب المصلي، وعدم دخول الحرام والشبهة في أثمانها، وعدم مطالبته بحقٍّ من حُقوق المخلوقين في حال تأديتها. ولا علمنا أنهم قالوا: فعل الصلاة على أفضل الوجوه وأكمل الأحوال متعسرٌ أو متعذر، فلا ينبغي من أحد أن يهتمَّ بذلك. وكذلك في الحَج والجهاد، لم يزيدوا على ذكر الشروط، فمن أحبَّ تأديةَ ذلك الفعلِ الشَّاقِّ بتلك الشروط الشاقة، فالله -تعالى- يُعينه ويَلْطُفُ به مِن دُونِ أن تُوضع رسالة إلى منْ حَدَّثَ نفسَه بالحَجِّ، يُذكر له فيها مشاق الحجَ، ويُنَفَّر عن الحجّ. وأخصُّ من هذه الأمثلة البعيدة ذكر مسألتنا بعينها، وذلك أن العلماءَ ما زالوا يذكرون شروط
(1) في أفوق هذه الكلمة: المستحبة.
الاجتهاد في مصنفاتهم وتآليفهم مجردةً عن التَّعسير له، والتَّنفير عنه، واستبعادِ إدراكه، والحثِّ على العكوف على التقليد، والإضراب عن الاجتهاد بالمرَّة، وهذه تصانيفُ العلماء -أرنَا أيُّها السَّيِّد أيَّدَك الله- مَنْ سَبقك إلى التنفير من الاجتهاد، والحث على التقليد؟!. وذلك لأن العُسْرَ واليسر أمرُهُما إلى الله تعالى، واللهُ -سبحانه- إنما أخذ على العلماء أن يُبَيِّنُوا ولا يَكتُمُوا، ولم يَأخُذْ عليهم أن يُعسِّرُوا ولا يُسَهِّلُوا، فلو أن السَّيِّد -أيَّدهُ الله- ذكرَ شروط الاجتهاد، وأودعها مُصَنفاً، أو أوقفني على ذكرها مُبيَّنةً بأدِلتِها، وحثَّ عليها، أو سكت مَن الحثِّ على الخير والتنفيرِ عنه، لكان له فيهم أُسْوَةٌ حسنة، ولكان ذلك أشبة بطرائق المتهادين للنَّصائح، وأقربَ إلى فعل السَّلَف الصَّالح.
التنبيهُ الرَّابعُ: كان اللائقُ بالسَّيِّد -أيَّده الله تعالى- أن يذكر الشرط الذي خالفتُ فيه العلماءَ، فيقول: أنت قلت: إن علم العربية ليس بشرط، أو معرفةَ الأصول، أو معرفةَ الحديث، أو غيرَ ذلك، أن كان عَلِم بخلافٍ لي في ذلك، حتى يُبين لي أني قد خالفت الإجماعَ، وخرجتُ إلى حَدٍّ أسْتحِقُّ بِه الإنكار.
أما إذا قلت: إن تحصيل شرائطِه المعروفة متيسرة على أهل الذَّكاء والهِمَمِ، فما وجهُ التَّرسُّلِ في هذا، والتطويل والتكثير فيه، والتهويل، وطلب البراهين القاطعات والتعرض للمعارضات والمناقضات؟! الأمرُ أهونُ مِن أنْ تلتقيَ الشفتانِ بذكره، وتجريَ الأقْلَامُ بِسطْرهِ. والذي يليق من الحليم تهوينُ العظائم، لا تعظيمُ العظائم؛ على تسليم أنَّ ذلك شرط عظيم، وعوائد الحكماء جارية بهذا، وكتبهم ناطقة به، ولهذا قيل:
إذا ضيَّقْتَ أمراً زاد ضِيقاً
…
وإنْ هوَّنتَ ما قَد عَزَّ هانا
والسيِّد -أيَّده الله- قد رقيَ إلى مرتبة الدعاء إلى الله -تعالى- بالحكمة والموعظةِ الحسنة، فلهذا عِبْتُ عليه ما خالفَ طرائق الفضلاء، وباينَ عادات العلماء، وإلا فلي مُدَّةٌ طويلة صابر (1) على الأذى والفُحْش، الذي يتَنَزَّه -أيَّده الله- عن سماعه، دع عنك النُّطْقَ به. فلم أتكلم إلى أولئكَ، ولم أجاوبْهم بشيء؛ علماً بما في الإعراض عن الجاهلين مِن خير الدنيا والآخرة، مع التمكن مِن المجازاة في الأقوال، والمجازاة في الأفعال، لكني آثرتُ الحِلْمَ، وصبرت على الظُّلْم، وجعلت الصبرَ والكَظْمَ مكانَ النثر والنظم. فأما السيِّد -أيَّده الله- فلم أعُدَّه من الجاهلين فَأعرِضَ عنه، بل عَدَدْتُهُ من أهل الذكر، فرغِبْتُ في الجواب عليه، وبسطت إلى التصدير بما عينتُهُ إليه.
التنبيه الخامس: فرعٌ مِن فروعِ الشَّجرة النبوية، وغُصْنٌ مِن أفنان الدَّوحةِ العَلَوِيَّةِ، وَنَشءٌ مِن أهل البيت عليهم السلام ومِن أولاد العِترة (2) الكِرام، ومِن أهل الذكر وبيوت العلم، تشَوَّفَ إلى الاجتهاد في العلم، وتشوَّقَ إلى مراتب الفضل، فلمَّا شِمتم بارقة جهدِهِ صَيِّبة، وَشَمِمْتُم رائحةَ سعيه طَيِّبَة، وتوسمتُم فيه للفائدة سِماتٍ، وحسِبْتُم أنَّهُ قارَب وهيهات؛ تواترت عليه الرسائل، وتواردت عليه الدلائِلُ، تُفتِّرُهُ عن عمله، وتقنِّطُه مِنْ أمَلِهِ: مَن قد سَبَقكم إلى هذا -من الأئمة الهادين-، أو العلماء الراشدين؟! وإنما بَلَغَنا أنَّ أهل العلم يفرحون بِمَن عَلَتْ هِمَّتُهُ، وَظَهرت فِطْنَتُهُ، وُيرَغِّبُونَهم بأنواع الترغيب، ويجعلون التصويبَ لهم مكانَ التثريب. وانظر أيَّدَكَ اللهُ في سِيرة الإمام " المنصور بالله " عليه السلام
(1) في أ: صابراً.
(2)
العِترة بكسر العين: نسل الرجل ورهطه وعشيرته.
وكيف كانت سياستُهُ لِطلَبَةِ العلم، وكذلك سائرُ الأئمة-عليهم السلام.
وأرنَا -أيدكَ الله- مَنْ صَنَّف منهم رسالةً إلى المتعلمين في زمانه، يُحَذِّرهم مِنَ الاجتهاد، ويُلزمهم العكوفَ على التقليدِ. ولو أنَ العلماء فعلوا كما فعلت -أيدكَ اللهُ تعالى- لتَعفَّتْ رسومُ العلمِ قبلَ هذا الزمان، وتعطَّلَتْ منازلُهُ قبل هذا الأوانِ، لأنَّ الناسَ أتباعٌ لهم، خاصةً إذا دَعَوْهُمْ إلى ما هو أسْهَلُ عليهم.
فإن قلتَ: إنك إنَّما نَهيتَني عن طلب الاجتهاد من كُتُبِ أهل الحديث؛ دونَ كُتُب أهلِ البيت.
فالجواب مِن وجهين:
أحدُهما: أني لم أترُكْ أحاديث أهلِ البيتِ -كما سيأتي بيانُهُ في موضعه- إن شاء الله تعالى.
الثاني: لم تأمرْني بالاجتهاد من كتب أهل البيت قطُّ، بل صَرَفت عنه هِمَّتي على كل حال، وَصَدَّرت رسالتَكَ بالاستدلال على تَعْسيره، وتوقفتَ في إمكانه وتجويزه، وقلت تارةً: إنه كالمتعذِّر، فشبَّهت الجائز بالمُحال، وتارة: إنه متعسِّرٌ أو متعذِّرٌ، فَشكَّكْتَ في دخوله في الإمكان -كما سيأتي بيانُ ذلك-. فسَدَدت عليَّ أبوابَ المعارف، وقطعتَ عليَّ طريق الاتصال بجميع الطوائف، وَفَتَّرْت هِمَّتي جُهدَك، وبذلتَ في صَرفي عن العلم وُسْعك.
التنبيه السادس: طلبُ الاجتهاد مِن فروض الكفايات، ومن جملة الواجبات، وقد أخبر اللهُ في كتابه المبين، وهو أصدقُ القائلينَ أنه: ما جعل علينا في الدين من حرج، وقال تعالى: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ اليُسْرَ ولا
يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ} [البقرة: 185] وقال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إلَاّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286].
وقال " السَّيِّدُ " في تفسيره لها: وليس معنى الوُسع: بذل المجهودِ، وأقصى الطاقةِ، والمعنى: أنَّ الذي كلَّفناهم سهْلٌ مُتَيَسِّرٌ، فلا عُذرَ لهم في تركه، وأن لا يكتسبوا به أبلغَ ما يكونُ من الخيرات، انتهى بحروفه. وهو في الردِّ عليه كافٍ شافٍ، ولكنْ عند ذوي الإنصافِ.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بُعثْتُ بالحنيفية السَّمحة "(1)، " والسَّيِّد " -أيَّدَهُ الله- مُقِرٌّ بأنَّ الله تعالى يريدُ منا اليُسرَ ولا يريد منا العُسْرَ، وَمُقِرٌّ أنه مريدٌ منا الاجتهاد. فقولُهُ: إنه مُتَعسِّرٌ، يُفيد أن الله يريدُ مِنَّا التَّعَسُّرَ، بل لم يقنع -أيَّدهُ الله- بقوله: إنه متعسِّر؛ حتى قال: إنَّهُ مُتعسِّر أو مُتَعَذِّر.
فاستلزمَ أن اللهَ -تعالى- يريدُ المتعسِّرَ والمتعذِّرَ. فإن أرَادَ -أيَّدَهُ اللهُ- في ذلك مشقةً، فمجردُ المشقةِ لا تُسَمَّى عُسراً في العُرف العرَبي، فإنَّ المشقةَ مُلازِمَةٌ لأكثرِ الأعمال الدنيويةِ والأُخرويةِ، وقد يَشُقُّ على الإنسان قيامُهُ من مجلسه إلى بيته، وخروجُهُ من بيتِهِ لقضاءِ حاجتِهِ. والعُسْرُ في عُرْف اللِّسان العربي يُستعملُ في الأمورِ العِظام، لا في كل أمر فيه مشقةٌ؛ فإذا قيل: فلانٌ في عُسْر؛ أفادَ أنَّهُ في شِدَّةٍ عظيمةٍ مِن مرَضٍ أو خوفٍ أو فَقرٍ شديدٍ، أو غَيْر ذلك. وقد يُطلَقُ على ما هو دونَ ذلك -مع القرينة- فأما إذا تجرُّد الكلامُ عن القرينة وقيل: إن فلاناً في عُسْرٍ، وأريدَ العُسْرُ المعروفُ السابق إلى الأفْهَام، لم يَسْبِق إلى الفهم أن معنى قولنا: فلانٌ في عسْر؛ أنَّهُ في قراءةٍ دارَّةٍ، ورغبةٍ في العلمِ عظيمةٍ، ومطالعةٍ للكتُب، وتعليقٍ للفوائدِ، ولا أحدَ يسمِّي هذا عُسْراً.
(1) تقدم تخريجه في الصفحة (175).
ولو كان هذا عُسراً في العُرف العربي، لكان الجهادُ عُسْراً، والصلاة عُسْراً، والورعُ الشَّحيح عُسْرَيْنِ اثنين، وعبادة اللهِ كأنَّك تراه، والصلاةُ كأنَّها صلاة مُوَدِّعٍ أعْسَرَ وأعْسَر، ولكانت الشريعةُ أو كثير منها تشديداً وتعسيراً وتحريجاً وتغليظاً.
وما بهذا نَطَق القرآنُ، ولا به جاء صاحبُ بيعةِ الرضوان، بل نفى اللهُ الحرجَ، ووصفَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم شريعته: بالسماحةِ والسهولةِ. وإنما الحرجُ في الصدور، كما قال تعالى:{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 125].
وانظُرْ في أحوال الناس، تجدْ قاطِع الصلاةِ في غايةِ الاسْتِعسار لها؛ وليسَ كذلك المؤمنُ، قال الله تعالى:{وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِين} [البقرة: 45] فنصَّ اللهُ تعالى على هذا المعنى الذي ذَكرتُ لك هو أن الشيءَ المُعيَّنَ يكونُ عسِيرَاً عَلى هذا، سَهْلاً على هذا، فَلَوْ كانَ عَسِيرَاً في نَفْسِهِ، لَكَانَ عَسيراً عليهما، ولكنه يسيرٌ في نفسه، وإنما يتعسَّرُ بحرجِ الصُّدور، والكسَلِ، وقلَّةِ الدَّواعي، وَيَتَسهَّلُ بنقيض ذلك.
ولهذا لو وُهِبَ لقاطِعِ الصلاةِ دِرْهمٌ -في عمل أشقَّ من الصلاة- لقامَ إليه سريعاً، ووثبَ إليه نَشيطاً. وكذلك سائرُ التكاليفِ الشرعية؛ إنما العُسرُ فيها من قبيل قِلَّةِ اليقين، وعدم الرياضة، وقساوةِ القلب، وكثرةِ الذنوب، ألا ترى إلى ما في قيامِ الليل مِن المشقة على النفوس متى طلبت لإحيائه بالصلاة والقراءة، وهو يَتَسهَّلُ عليها سَهرُةُ في كثيرٍ من الأحوال من العُرُسَاتِ والأسمار، والسَّرَوات في الأسفار.
فإذا عَرَفت هذا فاعلم أن من النَّاس من يحصل له من شِدَّةِ الرغبةِ إلى
أعمال الآخرةِ، ونيل الفضائل ما يُسَهِّلُ عليه عزيزَها، وَيُقرِّب إليه بَعيدَها.
فلا معنى للمبالغةِ في تعسير الشيء الشرعي في نفسه، لأنَّ ذلك يخالف كلامَ الله تعالى، وكلامَ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واعلم أنَّ من العُقوقِ لومَ الخليِّ المَشُوق، وفي هذا يقول أبو الطيب:
لا تَعْذُلِ المُشْتاقَ عن أشْواقِهِ
…
حتَّى يَكُونَ حشَاكَ في أحْشَائهِ (1)
واعلم أن حُبَّ المعالي يُرخِصُ الأمور الغَوالي، ويقوِّي ضعف الصُّدُور على الصبرِ للعوالي، وربما بُذِلَتِ الأرواحُ لما هو أنفسُ منها من الأرباح، قال:
بذلتُ لهُ رُوحِي لرَاحَة قُرْبِهِ
…
وغيْرُ عَجِيبٍ بذْليَ الغالِ بالغَالِ (2)
وفي كلام العلَاّمة (3) رحمه الله: عِزَّةُ النفسِ وبُعْدُ الهِمَّة: الموتُ الأحمر، والخطوبُ المُدْلَهمَّة، ولكن مَنْ عرَفَ منهل الذُّلِّ فعافهُ، استعذبَ نقيعَ العِزِّ وَزُعَافَهُ (4).
وقد أجادَ وأبدعَ منْ قال - في هذا المعنى:
(1) ديوانه (343).
(2)
البيت لابن القارض المتوفى سنة 632 هـ من قصيدة مطلعها:
أرى البُعْدَ لَم يُخْطِر سِوَاكُم علُى بَالِي
…
وإن قرَّب الأخطار من جسدي البَالِي
انظر ديوانه ص 174 - 176.
وفي شعره مؤاخذات عقيدية نبه عليها العلماء الثقات الأعلام، وقد نقلها عنهم البرهان البقاعي في كتابه " تنبيه الغبي .. " وهو مطبوع فراجعه.
(3)
هو الزمخشري في " أطواق الذهب " ص 22.
(4)
يقال: أنقع السم: عتقه، وسم ناقع ونقيع ومنقوع، أي: بالغ قاتل، وسم زعاف: قاتل.
صَحِبَ اللهُ راكِبينَ إلى العزِّ
…
طريقاً مِن المَخَافة وَعْرا
شَرِبُوا المَوْتَ في الكرِيهَةِ حُلواً
…
خوفَ أن يشْرَبُوا من الضيمِ مُرَّا
هذا وإنَّ الدواعي تُحرِّك القُوى، وإن القلوب ليست بِسَوا (1). إن الإبلَ إذا كَلَّت قُواها، وَنَفخَتْ في بُراها (2)، أطربها السائقُ بحُداها، فَنَفَختْ (3) في سُراها، فعلَّلُوها بحديث حاجِرٍ (4)، وَلتصنع الفلاةُ ما بدا لها. هذا وهي غليظةُ الطبعِ بهيميةٌ، فكيف بأهلِ القلوبِ الروحانية.
فإياك والاستبعادَ لِكل ما غزَّ عليك، والاستنكارَ لما خَرَجَ من يديك، طالبُ المعالى لا يعنو كَمَداً، ولا يهدأ أبداً، وكلما قيل له: قِفْ تسْترِحْ، جُزتَ المَدَا، قال: وهل نِلْتُ المدا؟!
التنبيهُ السابع: لو فَرَضنا أن في الواجبات والأعمال الصالحاتِ ما هو متعسّرٌ في نفسه، لم يَحْسُنْ من أحدٍ من العامَّة، فضلاً عن الخاصة أن يتصدَّر لتعسيره، وتخذيلِ الراغب فيهِ عن نهوضه في طلبه وتشميره بذكر ما فيه من الحَرَجِ، وتهويلِ ما في طلبه من النَّصَبِ، بل السُّنةُ النبوية تيسِيرُ الأمورِ على من عَسُرَتْ عليه، وتذكيرُ القلوبِ الغافلةِ، وتنشيطُ النفوس الفاتِرة. ولهذا شُرِعتِ الخطب، وصنَّفَ الوعاظُ كُتُبَ المواعظ، وَدَوَّن
(1) أي بسواء، فحذف الهمزة للسجع.
(2)
البُرى: وهي الحلقة في أنف البعير للتذليل.
(3)
يقال: نفحت الدابة تَنفَحُ نفحاً وهي نفوح: رمحت برجلها، ورمت بحد حافرها ودفعت وهذا ينبىء عن نشاطها، والسُّرى: السير بالليل.
(4)
في " الصحاح " الحاجر: ما يمسك الماء من شفة الوادي، وزاد ابن سيده: ويحيط به وفي التهذيب: والحاجر من مسايل المياه ومنابت العشب: ما استدار به سند أو نهر مرتفع، ومن هذا قيل للمنزل الذي في طريق مكة: حاجر، وفي الأساس: وفلان من أهل الحاجر وهو مكان بطريق مكة.
الحفاظُ أحاديثَ الرقائق، لتسهيل ما يصْعُبُ على النفوس، وتقريبِ ما تباعد على أهلِ القُصور.
وقد تكاثرتِ الأحاديثُ النبوية في الحثِّ على ذلك، فكان عليه السلام إذا بَعَثَ سرِّيةً قال:" يَسِّرُوا ولا تُعَسِّرُوا، وَبَشِّروا ولا تُنَفِّروا "(1). وقال عليه السلام: " قارِبُوا وَسَدِّدُوا وأبْشِرُوا ". هكذا في الصحيح (2).
ولَمَّا أخبروه: أن عمرَو بن العاص صلَّى بهم وهو جنابة، ولم يغتسل من شدَّة بردِ الماء. سأله عليه السلام عن ذلك. فقال: إني سمعتُ الله يقول: {لا تَقْتلُوا أنْفسَكُم} [النساء: 29]. فضحك النبيُّ صلى الله عليه وسلم (3). وهذا اجتهادٌ من عمروٍ، وعملٌ بالعموم. فلم يُعَنِّفْهُ عليه السلام
(1) تقدم تخريجه ص 173.
(2)
رواه بهذا اللفظ مسلم (2816) من حديث أبي هريرة، وقد ورد بألفاظ أخرى عن غير واحد من الصحابة.
(3)
عن عمرو بن العاص قال: احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل، فأشفقت إن اغتسلت إن أهْلِكَ، فتيممتُ ثم صليتُ بأصحابي الصبحَ، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال:" يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟ " فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال، وقلت: إني سمعت الله يقول: {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً} فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئاً. أخرجه أحمد 4/ 203، 204، وأبو داود (334) والدارقطني 1/ 178، والحاكم 1/ 177، والبيهقي 1/ 226 من طريق يزيد بن أبي حبيب، عن عمران بن أبي أنس، عن عبد الرحمن بن جبير المصري، عن عمرو بن العاص. وهذا إسناد رجاله ثقات إلا أن عبد الرحمن بن جبير لم يسمعه من عمرو فيما قاله البيهقي، وقد رواه موصولاً بذكر أبي قيس مولى عمرو بن العاص عن عمرو الدارقطني 1/ 179، وابن حبان (202) والحاكم 1/ 177، وإسناده صحيح على شرط مسلم، لكن ليس في هذه الرواية ذكر التيمم، بل فيها أنه غسل مغابنه، وتوضأ وضوءه للصلاة، وقاله أبو داود عقب الرواية الأولى: روى هذه القصة عن الأوزاعي عن حسان بن عطية، قال فيه: فتيمم، وعلق البخاري في صحيحه 1/ 454 الرواية =
ويقل له: إنه لا يحِلُّ لكَ العملُ بالعموم، حتى يظنَّ أنه لا مخصِّصَ له.
وليس يَحْصُلُ هذا الظنُّ إلا لِمن اجتهد في حفظ النصوص، وأمعنَ النظرَ في العموم والخصوص. وأيضاً لا بُدَّ لكَ من معرفة عدمِ المعارض، وأعسرُ مِن هذا معرفتُك لِعدم الناسخ.
وكذلك: لما جاء الأعرابيان وأخبراه أنهما تيمما، ثم وَجدا الماءَ -في الوقت-، فتوضأ أحدُهُما وأعادَ الصَّلاة، واجتزأ أحدُهما بتيممه وصلاتِهِ الأولى. فقال -للذي لم يُعِدْ-:" أصبت السُّنة، واجزأتْكَ صلَاتُك " وقال للذي أعاد: " لكَ الأجرُ مرتين "(1). فهذا اجتهاد منهما،
= التي فيها التيمم وانظر الكلام عليه باستيفاء للحافظ ابن حجر في كتابه " تغليق التعليق " 1/ 181 - 191 بتحقيق الأستاذ الفاضل سعيد بن عبد الرحمن بن موسى القزقي.
(1)
أخرجه أبو داود (337)، والدا رمي 1/ 190، والنسائي 1/ 213، والدارقطني 1/ 189 من طرق عن عبد الله بن نافع الصائغ المخزومي مولاهم، عن الليث بن سعد، عن بكر بن سوادة، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري. وعبد الله بن نافع قال الحافظ في " التقريب ": ثقة صحيح الكتاب في حفظه لين، ورواه النسائي من طريق عبد الله بن المبارك عن الليث بن سعد، حدثني عميرة وغيره، عن بكر بن سوادة، عن عطاء بن يسار مرسلاً.
وقال أبو داود: وغير ابن نافع يرويه عن الليث، عن عميرة بن أبي ناجية، عن بكر بن سوادة، عن عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، وذكر أبي سعيد في هذا الحديث ليس بمحفوظ، وهو مرسل، وقال الدارقطني: تفرد به عبد الله بن نافع عن الليث بهذا الإسناد متصلاً، وخالفه ابن المبارك وغيره. قال ابن القطان في " الوهم والإيهام " فيما نقله الزيلعي في " نصب الراية " 1/ 160: فالذي أسنده أسقط من الإسناد رجلاً وهو عميرة، فيصير منقطعاً، والذي يرسله فيه مع الإرسال عميرة وهو مجهول الحال، قال: لكن رواه أبو علي بن السكن في " صحيحه ": حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد الواسطي، حدثنا عباس بن محمد، حدثنا أبو الوليد الطيالسي، حدثنا الليث بن سعد، عن عمرو بن الحارث وعميرة بن أبي ناجية، عن بكر بن سوادة، عن عطاء عن أبي سعيد أن رجلين خرجا في سفر .. الحديث
…
قال: فوصله ما بين الليث وبكر بعمرو بن الحارث وهو ثقة، وقرنه بعميرة، وأسنده بذكر أبي سعيد.
وقول ابن القطان في عميرة بن أبي ناجية: مجهول الحال مردود، فقد وثقه النسائي ويحيى بن بكير وابن حبان وأثنى عليه أحمد بن صالح وابن يونس وأحمد بن سعد بن أبي مريم كما في " التلخيص " 1/ 156.
ولما أخبراه به، لم يُعَنِّفْهُما ويُلزمهما الاحتياطَ حتى يستيقنا.
وكذلك لَمَّا أمَرَ عليه السلام: جماعةً من أصحابه أن لا يُصلوا العصرَ إلا في بني قرَيْظَةَ (1) -وكادت الشمس تَغيبُ- اختلفوا في مراده عليه السلام بقوله: " لا تصلوا العصر إلا في بني قُريظة " فمنهم من قال: إنما أراد أن يكونَ وقتُ الصلاة ونحنُ معه، فنُصليها في وقتها معه، فصلى قبلَ الغروب، وقيَّد إطلاقَه عليه السلام بالقرينة، ومنهم من بقيَ على الظاهر، وأخرها إلى بعدِ العشاء، وصلاها في بني قُريظة بعدَ خروج وقتها، وَعَلِمَ صلى الله عليه وسلم فلم يُعنِّفِ أحداً من الطائفتين.
ولمَّا أخبره معاذٌ أنه يحكم في اليمن باجتهاده، قال عليه السلام:" الحمدُ لله الذي وفَّقَ رسُولَ رسولِ الله "(2) ولم يُشدِّد عليه، ويعقِدْ له مجلساً للاختبار والمناظرة.
(1) تقدم تخريجه في الصفحة 192.
(2)
في أزيادة: لما وفق له رسوله، وهي عند أكثر من خرج هذا الحديث بلفظ: لما يرضي رسوله. والحديث أخرجه أحمد 5/ 236 و242، وأبو داود (3592) والترمذي (1327) والطيالسي 1/ 286، وابن سعد 2/ 347، 348، والخطيب في " الفقيه والمتفقه ": 188، 189 والبيهقي 10/ 114 وابن عبد البر في " جامع بيان العلم " 2/ 55 كلهم من طريق شعبة عن أبي عون الثقفي، عن الحارث بن عمرو بن أخي المغيرة بن شعبة، عن أناس من أهل حمص من أصحاب معاذ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يبعث معاذاً إلى اليمن قال:" كيف تقضي إذا عرض لك قضاء "؟ قال: أقضي بكتاب الله، قال:" فإن لم تجد في كتاب الله "؟ قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:" فإن لم تجد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا في كتاب الله "؟ قال: اجتهد رأيي، ولا آلو، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره وقال:" الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله ".
وقد ضعفه بعضهم بجهالة الحارث بن عمرو، وبجهالة شيوخه، وغير واحد من الأئمة المحققين يصححه، ويقول به، منهم أبو بكر الرازي، وأبو بكر بن العربي، والخطيب البغدادي، وابن قيم الجوزية، وقالوا: إن الحارث بن عمرو ليس بمجهول العين، لأن شعبة بن الحجاج يقول عنه: إنه ابن أخي المغيرة بن شعبة، ولا بمجهول الوصف، لأنه من كبار التابعين في طبقة =
وكذلك أبو موسى الأشعري، بَعَثهُ عليه السلام إلى اليمن والياً وقاضياً (1). وسيأتي -لهذه الجملةِ- مزيدُ بيان، إن شاء الله تعالى؛ عند ذكر بعض شروط الاجتهاد، فإن ذلكَ موضعها. وإنما ذكرت ها هنا لبيان تيسيره عليه السلام في الأمور -صغيرِها وكبيرِها- مِن غير ترخيصٍ في حرامٍ، ولا تضييعٍ لواجب.
ومن ذلك: أنه عليه السلام نهي أصحابَهُ عن انتهار الأعرابي الذي بال في طائفةِ المسجد، وقال:" إنَّ منكم مُنَفِّرين "(2). وتَغيَّظَ عليه السلام على معاذٍ واشْتَدَّ تغيُّظه عليه، وقال:" أفَتَّانٌ أنتَ يا معاذ "(3)؟ لَمَّا طوَّلَ الصلاة بقومهِ حتى شكى عليه رجلٌ منهم.
= شيوخ أبي عون الثقفي المتوفى سنة 116 هـ، ولم ينقل أهل الشأن جرحاً مفسراً في حقه، ولا حاجة في الحكم بصحة خبر التابعي الكبير إلى أن ينقل توثيقه عن أهل طبقته، بل يكفي في عدالته وقبول روايته أن لا يثبت فيه جرح مفسر عن أهل الشأن لما ثبت من بالغ الفحص على المجروحين من رجال تلك الطبقة، فمن لم يثبت فيه جرح مؤثر منهم، فهو مقبول الرواية، والشيوخ الذين روى عنهم هم من أصحاب معاذ، وليس أحد من إصحاب معاذ مجهولاً ويجوز أن يكون في الخبر إسقاط الأسماء عن جماعة، ولا يدخله ذلك في حيز الجهالة، وإنما يدخل في المجهولات إذا كان واحداً، فيقال: حدثني رجل أو إنسان، وشهرة أصحاب معاذ بالعلم والدين والفضل وبالصدق بالمحل الذي لا يخفى، وقد خرج الإمام البخاري (3642) الذي شرط الصحة حديث عروة البارقي: سمعت الحي يتحدثون عن عروة، ولم يكن ذلك الحديث في جملة المجهولات، وقال مالك في القسامة 2/ 877: أخبرني رجال من كبراء قومه، وفي صحيح مسلم (945) عن الزهري: حدثني رجال، عن أبي هريرة " من صلى على جنازة فله قيراط ".
(1)
أخرجه البخاري (4341) و (4342) و (4345) ومسلم (1733) وأحمد 4/ 312 و417، والطيالسي (496) والبغوي (2476) عن أبي موسى الأشعري، وفيه أنه بعث معاذاً معه.
(2)
تقدم تخريجه في الصفحة 173.
(3)
أخرجه البخاري (701) و (705)، ومسلم (465)، والشافعي 1/ 132 وأحمد 3/ 299 و308 و369، وأبو عوانة 2/ 158، والطيالسي (1728) وابن الجارود (165) و (166) والبغوي (599) من طرق عن جابر بن عبد الله.
ولَمَّا وَقعَ الأعرابيُّ على زوجته في رمضانَ، شدَّدَ عليه قومُهُ وعَنَّفُوه، وعَظَّموا الأمر ولاموه، فَقَدِمَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يزِدْ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على أن أخبره بما يجبُ عليه (1)، من غير لومٍ ولا تعنيفٍ ولا شراسةٍ، ولا تعبيس ولا تجريح ولا تشديد، مع أنه قد ارتكب عظيماً.
وكذلك الرجلُ الذي قالَ لهُ: يا رسولَ اللهِ، إني وجدتُ أمرأةً ما تركتُ منها شيئاً -مما يفعلُه الرجالُ بالنساء- إلا فعلتُهُ، إلا أني ما جامعتُها (2).
وكذلك المُقِرونَ بالزِّنى؛ الذين حدَّهُمْ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِن رجالٍ ونساءٍ (3)،
(1) أخرجه البخاري (1936) و (1937) و (2600) و (5368) و (6087) و (6164) و (6709) و (6710) و (6711) و (6821) ومسلم (111)، وأبو داود (2390)، والترمذي (724) والدارمي 2/ 11، وابن ماجة (1671)، والبغوي (1752) والبيهقي 4/ 221 و222 و224 و226، وابن الجارود (384)، وأحمد 2/ 208 و241 و281 من طرق عن أبي هريرة.
(2)
رواه من حديث ابن مسعود البخاري (526) و (4687) ومسلم (2763) والترمذي (3111) وأبو داود (4468) وأحمد 1/ 445 و449، والطيالسي 2/ 20، والطبري (18668) و (18669) و (18670) و (18671) و (18672) وابن ماجه (1398) و (4254) وأورده السيوطي في الدر المنثور 3/ 352، وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن حبان، وعبد الرزاق، وابن مردويه، والبيهقي في " الشعب " والطبراني.
ورواه بنحوه الترمذي (3115) والطبري (18684) و (18685) والبخاري في " التاريخ الكبير " 7/ 221 من حديث أبي اليسر، وفي سنده قيس بن الربيع وهو ضعيف.
ورواه الترمذي (3113) والطبرى (15678) عن معاذ بن جبل، وإسناده منقطع.
(3)
انظر في هذا حديث أبي سعيد الخدري عند مسلم (1694) وأبي داود (4432) و (4433)، وحديث بريدة عند مسلم (1695) وأبي داود (4433) و (4434) و (4441)، وحديث أبي هريرة عند البخاري (6815) ومسلم (1691) والترمذي (1428) وأبي داود (4428)، وحديث نعيم بن هزال عند أبي داود (4419) وحديث جابر بن عبد الله عند البخاري (6820) ومسلم (1701) وأبي داود (4420) و (4430) =
ولم يلْعَنْ أحداً ولا شَتَمَهُ (1) ولا عبس عليه، ولا انتهره، إيناساً للقلوب وتأليفاً، وتنشيطاً للنفوسِ وترغيباً.
وما زال عليه السلام آمراً بتركِ الغُلُو والتَّشْدِيد. وقالت عائشة:
" ما خُيِّر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بين أمريْنِ إلا اختارَ أيْسَرَهما؛ ما لم يَكن فِيهِ إثمٌ أو قَطِيعَةُ رَحِمٍ "(2).
وَلَمَّا جاءَ اليهودُ فقالوا له عليه السلام: السَّام عليكم -والسَّامُ: هو الموت- قال: " وعليكم ". هكذا -بالواو- في أكثر الروايات. فسمعتهم عائشة، فقالت: السَّام واللَّعْنةُ يا إخوان القردة والخنازير. فلَمَّا خرجوا منْ عنده عليه السلام قال لها: لمَ قُلْتِ لهم ما قُلْتِ؟! قالت: أَلم تَسْمَعْ إلى ما قالوا؟ قال: " بلى، وقد قلتُ: وعليكم ". ثم قال لها: " إن الرِّفْقَ مَا دَخَلَ في شيءٍ إلا زَانَهُ "(3).
= وحديث ابن عباس عند البخاري (6824) ومسلم (1693) والترمذي (1427) وأبي داود (4421) و (4426) و (4427) وحديث عمران بن حصين عند مسلم (1696) والترمذي (1435) وأبي داود (4440) و (4441).
(1)
بل نهي عن شتمهم، وزجر أصحابه عن ذلك، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه أمر برجم الغامدية، فرجمت، فأقبل خالد بن الوليد بحجر، فرمى رأسها، فنضح الدم على وجهه فسبها، فسمع نبي الله صلى الله عليه وسلم سبَّه إياها، فنهاه وقاله له: مهلاً يا خالد، فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له " أخرجه مسلم (1695) وأبو داود (4433) و (4434) و (4446) والدارمي 2/ 179، 180، وأحمد 5/ 348.
(2)
أخرجه أحمد 6/ 85 و144 و116 و162 و182 و189 و191 و209 و223 و263، ومالك 2/ 903، والبخاري (3560) و (6126) و (6786) و (6853)، ومسلم (2327) وأبو داود (4785).
(3)
أخرجه من حديث عائشة أحمد 6/ 37 و199، والبخاري (6024) و (6030) و (2935) و (6256) و (6395) و (6401) و (6927) ومسلم (2165) والترمذي (2701) والبغوي (3314).
وكذلك كانت اليهُودُ يتعاطَسُونَ عند رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم، لعلَّه يقول: يَرْحَمُكمُ اللهُ. فيقول: " يَهْدِيكُمُ الله ويُصْلحُ بَالَكُم "(1). وهذا منه عليه السلام حِرْصٌ على رِعايةِ ما آتاهُ اللهُ من الخُلُقِ العظيمِ، لَما حُرِّمَ عليه لفظُ التَّشميت المعتاد، وكان الدعاء للعاطس معتاداً، لم يستحسِنْ ترك الدُّعاء لهم في الموضعِ الذي يُعْتَادُ فيه الدُّعاء. فاحتال عليه السلام فَعَدَل إلى دعاء آخر يَجْبُرُ بذلك قلوبَ أشدَّ النَّاس عداوةً له وللمؤمنين، ويُخالِقُ مَنْ يَكتُمُ ما عنده في التوراة من ذكره، ومن يَسْخَرُ منه ويستهزيءُ به. هذا -والله- هو الخُلُقُ العظيم، فنسألُ الله أن يهدينا لاتباعه، والتأسي به في أحواله.
فجديرٌ بمَنِ انتصب في مَنْصِب الفُتيا، أو تَرَقَّى إلى مرتبة التدريس، وتَمكَّن في دَسْت التَّعليم، وتهيأ للرد على الجاهلين، والدُّعاء إلى سبيل ربِّ العالمين: أن يكون مقتفياً لِرسول الله صلى الله عليه وسلم، عامِلاً بما قال الله -تعالى- من الدُّعاء إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة.
وكان يُمْكِنُ للسَّيِّد -أيَّدهُ الله- أن يجعل عوَضَ التنفير عن الاجتهاد غاية التنفير، والتعسير لمناهجه والتَّوعير: أن يحُثَّ على الصبر على طلب فوائدِه، وتَقْييدِ شواردِهِ.
التنبيه الثامن: أن " السَّيِّد " -أيَّده الله- يعلمُ أن الاجتهاد مِن فروض الكفايات، وأن الفَرض لا بُدَّ أن يكون من المقدورات، وأن الصدَّ عن
(1) أخرجه من حديث أبي موسى الأشعري البخاريُّ في " الأدب المفرد "(940) وأبو داود (5038) والترمذي (2739) والطحاوي في شرح معاني الآثار 4/ 302، وابن السني في " عمل اليوم واللية "(456) وإسناده صحيح، وصححه الترمذي، والحاكم 4/ 268، ووافقه الذهبي.
أدائه مِن أعظم المكروهات المحرمات، وأن الأمرَ بهِ، والترغيب فيه من أعظم الطاعات. فليتَ شِعري، لمَ اختارَ الصَّدَّ عنه والتنفير على الحث عليه والترغيب؟!
التنبيه التاسع: أن السَّيِّد -أيَّده الله- بالغ في الاستبعاد لوجود الاجتهاد في هذِهِ الأزمان حتى شكَّ في إمكانه، وقال: إنَّهُ مُتَعذِّر، أو مُتَعَسِّر. وهذا يقتضي أنه يعتقد خُلوَّ الزَّمانِ عن المجتهدين، لأنَّه لو كان في الزمان مجتهد، لزال الشكُّ في التعذر، ووجبَ القطعُ بالإمكان.
وكلماتُهُ -أيَّده الله- بائحةٌ بخُلُوِّ الزمان من المجتهدين، وقد غَفَل -أيَّده الله- عما يلزم من هذا، فإنه يلْزمُ مِن هذا: أن يكونَ طلبُ الاجتهاد فرضَ عَينٍ عليه، وعلينا مَعاً، لأن هذا حكمُ فرضِ الكفاية إذا لم يقم به.
فكان الواجبُ من السَّيِّد -أيَّده الله تعالى- على مقتضى تعسيره أن يقول: إن الزَّمان خالٍ عن الاجتهاد، وإنه يَتعيَّنُ علينا القيامُ لما يجب مِن فريضته، فنتعاون على ذلك. هذا كلامُ العلماءِ العاملين بمقتضى ما علمهم اللهُ تعالى.
وأمَّا أنا نقِرُّ أنَّا لا نعلم مجتهداً، وَنُقِرُّ أنَّه فَرض كفاية، ونتركُ القيامَ بما أوجبَ اللهُ علينا من طلبهِ، بل نَترَسَّل على منِ اتهمنا أنه يَهِمُ بأداءِ ما افترض الله علينا من القيام به. فهذا ما لا أرضاه للسَّيد -أيَّده الله تعالى-.
التنبيه العاشر: أفْرطَ السيد -أيَّده الله- في تعسير الاجتهاد؛ حتى قال في غير موضع: إنه مُتعَذِّر أو متعسِّر -على الشك- ولم يمكنْهُ القطعُ بأنَّه متعسِّر!
وقد ثبت أنه من الفروض، فيجب أن لا يكون متعذراً على القطع، لأن المتعذر غيرُ مطاق، والاجتهاد مفروض، فلو أوجبهُ الله -وهو مُتعَذِّر- لكان هذا يستلزِمُ القولَ بجواز تكليف ما لا يطاق، تعالى الله عن ذلك عُلوّاً كبيراً.
فانظر إلى هذا الغلو العظيم في التَّعسير، والبلوغِ إلى الغايةِ التي لا وراءها. حتى ما رضي -أيَّده الله- أن يقطع بدخوله في جملة المقدورات البشرية، تهويلاً لشأنِهِ، وتبعيداً لِشَأوه، والغلوُّ لا يأتي بخير، وخيرُ الأمور أوساطُها، لا تَفْرِيطُها ولا إفراطُها.
التنبيه الحادى عشر: أن السَيِّد -أيَّده الله- كان يقول بإمامة الإمام النَّاصر عليه السلام، وقد ذكر في رسالته: أن الاجتهادَ شَرْطٌ في صحة الإمامة. فأين هذا التشكيك العظيمُ في استحالة الاجتهاد وَتَعذُّره، فإنما كان ممكناً في زمان الإمام الناصر عليه السلام، كيف جَوَّزْتَ أن ينقلِبَ مُتَعذِّراً بعد بضعةَ عشر عاماً من تاريخ وفاته -سلام الله عليه-.
وقد قال السُّيد -أيَّدهُ الله- بإمامةِ الإمام الناصر وتولَّى منه، وأجرى في ولايته أحكاماً عِظاماً لا تجوزُ إلا بولايةٍ صحيحة. وهو -أيَّده الله تعالى- محمولٌ على السَّلامة في جميعِ ذلك؛ ولكن ما علمنا أنه نَصَح الإمامَ النَّاصر مثل ما نَصَحَنَا. وفي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:" الدين النصيحة "(1). قالوا: لمن يا رسولَ الله، قال:" لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئَّمَّةِ المُسْلمين، ولِعامَّتِهم "(2).
(1) في ب: نصحناه.
(2)
تقدم تخريجه ص 214 - 215.
وعانت العنايةُ بنصيحة الإمام عليه السلام أحقَّ وأولى، لِما في الإمامة من الأخطار، ولِما كان في ولاية السَّيِّد -أيَّده الله- من ذلك.
وأما اجتهادي، فهو في وضع اليمنى على اليسرى، والتأمين. ولم يقل أحدٌ من خلق الله أجمعين: إنَّ ذلك يُوجب العذاب الأُخروي، ويُخافُ منه العقابُ السَّرمدي.
وكذلك لم يبْلُغْنَا أن السَّيِّد -أيده الله تعالى- تشدَّد في اختيارِ الإمام النَّاصر مثل ما تشدَّدَ في رسالته، فسأله عن طُرُقِ الجرح والتعديل، وسلك معه مثلَ مسلكِه مع محمد بن إبراهيم (1)؛ من التفصيل والتعليل، وسأل الإمامَ من أينَ حَصَلتْ له عدالةُ الرواة؟ ومَن عَدَّلهم له؟ ومَن عَدَّل المُعَدِّل؟ حتى ينتهي إلى وقته، ولا أوجبَ عليه في الاجتهاد أن يحفظ علومه عن ظهرِ قلبه مثل ما نصَّ على ذلك في رسالة محمد بن إبراهيم.
وكذلك لم يحذر الإمام عن القراءة في كتب الحديث النبوي التي صنفها الفقهاء، فإنه عليه السلام هو الذي نشر محاسنها، وجمع نفائِسها، وعَرفَ غرائبها، ولم يشتهر الدرسُ فيها والتدريسُ في ديار الزيدية اليمنية مثل ما اشتهر في زمانه عليه السلام.
وأيضاً فاختيارُ الإمام واجب، والإمامة من المسائل القطعيات، واختيار محمد بن إبراهيم غيرُ واجب، فأين رسالة السَّيِّد -أيده الله- إلى الإمام الناصر وما بال اجتهاده كان ميسراً، غير متعذر ولا متعسر. مع كثرة اشتغاله بأُمور العامة، وسَدَّ الثُّغُور، وتجنيد الجنود، وتجهيز الغزوات. ولو لم يكن إلا مواجهة الناس، واستماع كلامهم، وجواب مكاتباتهم.
(1) أي: المصنف نفسه.
وقد رأينا طالب العلم يتكدر بأدنى مُكدِّر، فكيف يَسْهُلُ الاجتهادُ عليه، ثُمَّ يَعْسُرُ على الناسِ أجمعين.
وكذلك قد بالغ السَّيِّد -أيده الله- في التسميع بمحمد بن إبراهيم، وأنه قد خالف جماهيرَ العِترة، وأن هذا عملُ مَنْ ليس بمعظمٍ لهم. قال -أَيَّده الله تعالى-: لأن المعظِّمَ لهم لا يُخالِف قولَ جماهيرِهم.
فنقول له: ما أنكرت على الإمام الناصِر المِزْمارَ ولا لباسَ المجاهدين للحرير في غيرِ وقت الحرب، وهذان يُخالفان مذاهبَ جماهيرِ العِترة، فلم يُعاتبه السيد -أَيده الله- ويستخرج له أنه غيرُ معظم للعِترة عليه السلام كما استخرج ذلك في حق محمد بن إبراهيم.
والإمام الناصر عليه السلام محمولٌ على السلامة في جميعِ ذلك، وإنما الكلامُ في اختصاص محمد بن إبراهيم بالإنكار والتعنت، والتعسير والتَّعسف في أمرٍ هَيِّن لم يقع مِن السَّيِّد -أيده الله- العنايةُ بأهمَّ منه، ولا بما هو أخصُّ منه، وليس تُعابُ هذه الأمورُ إلا على مَنْ مِثْل السَّيِّد -أيده الله- لأنه من عيون السادة، وعلماء العِترة، فينبغي منه حِراسةُ نفسه مما لا يَليق بمنصبه الشريف، ومحلِّه المنيف.
وقد نُسِبَ إلى كثير من الأئمة عليهم السلام مخالفةُ جماهيرهم فيما انفردُوا به، ولم يُستنبط لهم من ذلك كراهةُ مَن خالفوه، بل قد ذكر السيد في تجريده للكشاف المزيد فيه النكت اللطاف أقوالاً مخالفةً لإجماع العِترة، أو لجماهيرهم، مقرراً لها، غيرَ منكرٍ على قائلها؛ مع أنها متضمنة للقدح، وفي أدلة أهلِ البيت، وذلك أنه قال في تفسير قوله:{قل لا أسئلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إلا المَودَّةَ في القُرْبى} [الشورى: 23]:
" اختُلِفَ في معنى الآية على أقوال (1): أحدها: أن المراد أن تَوَدُّوني لقرابتي منكم، قاله ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، وغيرهم.
قال ابنُ عباس: لم يكن بطنٌ مِن بطون قريش إلا ولرسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم قرابة (2).
الثاني: إلا أن تودوا قرابتي، قاله علي بن الحسين، وسعيد بن جُبير، والسُّدي، وغيرهم.
ثم بالمراد بقرابته صلى الله عليه وسلم قولان:
أحدهما: أنهم عليٌّ وفاطمةٌ والحسنُ والحسينُ، وقد رويَ مرفوعاً (3) إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
(1) انظر هذه الأقوال في " زاد المسير " لابن الجوزي 7/ 284 - 285 بتحقيقنا.
(2)
أخرجه البخاري برقم (4818) وتمامه فقال: إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة وهو الصحيح في تفسير الآية كما سيأتي مبيناً في التعليق الآتي.
(3)
ضعيف جداً أخرجه الطبراني في " الكبير "(12259) من طريق حسين الأشقر، عن قيس بن الربيع، عن الأعمش، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لما نزلت (قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى) قالوا: يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم؟ قال: " علي وفاطمة وابناهما رضي الله عنهم " وأورده السيوطي في الدر المنثور 6/ 7، وزاد نسبته إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وحسين الأشقر قال البخاري: فيه نظر، وقال مرة: عنده مناكير، وقال أبو زرعة: منكر الحديث، وقال أبو حاتم: ليس بقوي، وقال الجوزجاني: غالٍ شتام للخيرة، وقال ابن معمر الهذلي: كذاب، وقال الدارقطني والنسائي: ليس بالقوي، وقال الحافط ابن حجر في تخريج أحاديث الكشاف: ضعيف ساقط، وقيس بن الربيع لما كبر تغير، فأدخل عليه ابنه ما ليس من حديثه، فحدث به، وأيضاً فإن سورة الشورى مكية، وفاطمة رضي الله عنها لم يكن لها إذ ذاك أولاد بالكلية، فإنها لم تتزوج بأمير المؤمنين علي إلا بعد بدر من السنة الثانية للهجرة، وقد عارض هذا الحديث ما هو أولى منه، ففي البخاري (4818) من رواية طاووس عن ابن عباس أنه سئل عن هذه الآية، فقال سعيد بن جبير: فربى آل محمد صلى الله عليه وسلم، فقال ابن عباس: عجلت، إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة، فقال: إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة. =
وثانيها: أنهم الذين تحرم عليهم الصَّدقة.
والثالث: أن المعنى: إلا أن توددوا إلى الله فيما يُقرِّبُكم إليه من العمل الصالح، قاله الحسن وقتادة.
الرابع: إلا أن تودوا قرابتكم، وتَصِلُوا أرحامكم. حكاه الماوردي.
ثم حكى عن ابن عباس: أن الآية منسوخة بقوله تعالى: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُم} [سبأ: 47]، وعن الثعلبي والواحدي: أن القول بالنسخ غلط مبني على أن الاستثناء متصل، وهو منقطع (1) ". انتهى ما حكاه وفي آخره اختصار.
فالعجبُ كيف لم يَنْصُرْ لفظَ العِتره بلفظةٍ واحدة في مثل هذا الأصل
= وقال الحافظ ابن كثير في التفسير: 7/ 189 والحق تفسير الآية بما فسرها به الإمام حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس كما رواه عنه البخاري، ولا تنكر الوصاة بأهل البيت، والأمر بالإحسان إليهم، واحترامهم وإكرامهم، فإنهم من ذرية طاهرة، من أشرف بيت وجد على وجه الأرض فخراً وحسباً ونسباً، ولا سيما إذا كانوا متبعين للسنة النبوية الصحيحة الواضحة الجلية كما كان عليه سلفهم كالعباس وبنيه وعلي وأهل بيته وذريته رضي الله عنهم أجمعين.
(1)
قال ابن الجوزي في " زاد المسير " 7/ 284: وفي الاستثناء ها هنا قولان: أحدهما: إنه من الجنس، فعلى هذا يكون سائلاً أجراً، وقد أشار ابن عباس في رواية الضحاك إلى هذا المعنى، ثم قال: نسخت هذه بقوله: {قل ما سألتكم من أجر فهو لكم} وإلى هذا المعنى ذهب مقاتل.
والثاني: إنه استثناء من غير الأول، لأن الأنبياء لا يسألون على تبليغهم أجراً، وإنما المعنى: لكني أذكركم المودة والقربى، وقد روى هذا المعنى جماعة عن ابن عباس، منهم العوفي وهذا اختيار المحققين، وهو الصحيح، فلا يتوجه النسخ أصلاً.
وقال ابن جرير الطبري: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب وأشبهها بظاهر التنزيل قول من قال: معناه: قل لا أسألكم عليه أجراً يا معشر قريش إلا أن تودُّوني في قرابتي منكم وتصلوا الرحم التي بيني وبينكم.
الكبير، ولا بدأ به (1)، مع احتجاجهم بالآية على الناس في دعواتِهم ومراسلاتِهم ومخاطباتهم. وقد بالغ في رسالته في توعيرِ التفسير وتعسيره، وتعظيم خطره، وفي تحريمِ مخالفة أهل البيت، فكيف حَسُنَ منه مخالفةُ ما أَمَرَ به في هذين الأمرين. ووجد لنفسه محملاً حسناً ولم يجد لغيره محملاً حسناً فيما هو دونَ ذلك!! وليس القصدُ إساءةَ الظَّنِّ به مِني، إنما القصدُ حُسْنُ الظنِ بي منه، لكني توصلتُ إلى ذلك بما يُوقظه من الغفلة.
جعلنا الله جميعاً ممن تنفعُه الذَكرى، وجمع كلمتَنا على ما يُحمد في الأخرى.
التنبيه الثاني عشر: أن في زماننا جماعةً من أهل البيت قد ادَّعوا الاجتهادَ، وطلبوا المناظرةَ لمن أراد الانتقاد، وكلُّ منهم قد ادَّعى الإمامة الكبرى، ودعى إلى الاختيار جهراً، ولم يُعْلَمْ أن السَّيِّدَ -أيده الله- تَرسَّلَ على أحد منهم، ومَحَضَه النُّصْحَ، وقال له مِثْلَ ما قال لمحمد بن إبراهيم: إن الاجتهاد متعذِّر أو متعسِّر، وأورد عليه تلك الفصولَ، وبَعَّدَ عليه البلوغَ إلى تلك المرتبة والوصول. وهم كانُوا أحقَّ بالنُّصحِ مني وأولى، لِما تعرَّضوا له مِن سفكِ الدِّماء، وأخذِ الأموال، وسائرِ ما يتعلَّق بالإمامة من الأعمال.
فينبغي أن السَّيِّد -أيَّده الله- يُساوي بيننا في نصيحته، وَيَعُمُّنا بشفقته، ويترسَّلُ على هؤلاء السادة كما ترسَّلَ على محمد بن إبراهيم.
فهداية جماعة أفضلُ من هداية واحدٍ، كما لا يخفي على السَّيِّد -أيده الله-.
التنبيه الثالث عشر: أني ادعيتُ الاجتهاد في مسائلَ يسيرة فروعية،
(1) على هامش " أ " تفسير جملة ما بدأ به، ونصه: أي: ما صدره.
عملية، ظنية من مسائل الصلاة. فأنكرتُم هذا وأنتم مدَّعون لأكبر منه.
فإنَّكم متصدِّرُونَ للتدريس في العلوم عَقْلِيها وَسَمْعِيِّها، وكثيرٌ منها لا يَصِحُّ التدريس فيه على جهة التقليدِ كالعربية، والأصولَيْن (1)، والمَنْطقِ، والمعاني، والبيان. فدرسُكم في هذه الفنون فرعٌ على دعوى المعرفة لها، فما علمنا أن أحداً أنكرَ عليكم دعوى العلم بالعربية، وهي تشتمل على معرفة أُلوف من المسائل. وكذلك ما علمنا أنكم أنكرتم على أحدٍ دعوى يدَّعيها في المعرفة بمسألة نحوية، أو معنوية (2)، أو أُصولية، أو منطقية، بل ما أنكرتُم على من ادعى معرفة فنٍّ مِن هذه الفنون اشتمل على أُلوفٍ من المسائل، ولا مَن ادعى معرفة فَنين، ولا أكثر، حتى جاء محمد ابن إبراهيم فادعى أنه عرف دليلَ وضعِ اليُمنى على اليُسرى (3)، فتقحَّمْتم
(1) قال العلامة محمد أمين بن فضل الله المحبي في كتابه " جنى الجنتين في تمييز نوعي المثنيين " ص 20: الأصلان يقعان في عبارة المؤرخين كثيراً يريدون بهما أصل الدين وأصل الفقه.
(2)
أي تتعلق بعلم المعاني أحد أنواع فن البلاغة.
(3)
جاء في كتاب " هيئة الناسك في أن القبض في الصلاة هو مذهب الإمام مالك " للإمام محمد بن عزوز المالكي التونسي ما نصه: والأحاديث الواردة في ذلك (أي: في وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة) نحو عشرين حديثاً عن نحو ثمانية عشر صحابياً، أكثرها صحاح وحسان، وما قصر عن تلك الدرجة يرتفع بشواهده ومتابعاته كما يعرفه أهل فنه، والعمدة على صحاحها، وحديث واحد يثبت به الحكم، فمن الصحابة الذين حفظت عنهم هذه السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق، وعلي بن أبي طالب، وابن مسعود، وابن عباس، وحذيفة، وعائشة، وأبو هريرة، وأبو الدرداء، ومعاذ بن جبل، ووائل بن حجر، وجابر بن عبد الله، وابن الزبير، وسهل بن سعد وابن عمر، وغيرهم رضي الله عنهم، ودواوين السنة الحافظة لرواية الصحابة المذكورين وغيرهم بأسانيدها هي الكتب الستة وكتب الأئمة الأربعة وصحيح ابن حبان، وصحيح ابن خزيمة، وصحيح ابن السكن، وسنن الدارقطني، والبيهقي ومسند البزار، وغيرها " فالعشرة التي يقال لها أصول الإسلام، وهي الكتب الستة وكتب الأئمة الأربعة كلها روت وضع اليدين سنة قائمة، وليس فيها ولا في غيرها من كتب الحديث ما يدل على السدل في الصلاة.
في الإنكار عليه الطريقة العُسرى، كأنما اغتصبَ أموالَكم قَسْراً، أو ادعى نظير معجزة الإسرا.
التنبيه الرابع عشر: أنكم أوجبتم على كلِّ مكلف -من حر وعبد وذكر وأُنثى، وبليد وفطين، وقاريءٍ وأُمي- أن يَعْرِف الله، وصفاتِه، وسائرَ مسائل الاعتقادِ المعروفة بالدليل الصحيح المحرَّر معناه في علم الكلام مِن غير تقليد للمتكلمين في ذلك الدليل، وإن لم يَعْرفْ عبارتهم بعد أن عرف معناها. ولسنا نُنْكِرُ إيجابَ المعرفة لله -تعالى- فنحن نقول به، ولكن نكرر عليك أنك اعتقدت أن معرفة تلك الأدلة مُتَسَهِّلة على العامَّةِ، والنساء والإماء والعبيد، والفلاحين، وجميع أهل البَلادَة والغباوة، وَقطَعْت أن ذلك غيرُ متعذِّر عليهم.
وأما معرفة محمد بن إبراهيم لمسائل يسيرة فروعية؛ فلم يُمكنك القطعُ بأنها متعسرة، بل شَكَكْت أنها متعذرة أو متعسِّرة، مع أن تلك المسائل التي لم يُرخَّصْ لأحدٍ التقليدُ فيها، هي (1) محارَاتُ الأذكياء، ومواقفُ الفُطنَاء، ومداحِضُ الأقدام، ومهاوي الأفهام، وفيها مسائلُ الوعدِ والوعيد، والولاءِ والبَراء والأسماء والإمامات، وهذه هي سمعيات محضة، ولا يسْلَمُ الخائضُ فيها من التقليد ما لم يعرف ما يتعلَّق بها من العربية، وعدم المُعارض والمُخَصِّصِ، وفي الولاء والبراء والإمامات.
ولا بُدَّ مع ذلك مِن معرفة عدم النسخ، وذلك لا يَصِحُّ إلا بَعْدَ البحث الكثير. فما بالُ هذا أمكنَ جميع المكلفين، ولم يتعذَّرْ عليهم، وأما محمد بن إبراهيم، فتعذَّرَ عليه ما هو أهونُ مِن هذا مع اشتغاله بالعلم منذ عَرَف يمينَهُ من شمالِهِ.
(1) في ب: وهي.
فإنه قلت: لأن تلكَ مسائل علمية عليها أدلة قطعية.
قلت: وليس كُلُّ علمٍ تحصيلُه أسهلُ من تحصيل الظَّنِّ، فإن كلامَنا في السُّهولة والصعوبة؛ ولعله لا يَخفي عليك أن تحصيل أدلة التأْمين، ووضع اليمنى على اليُسرى أسهل من معرفة أدلة العلم الكلامي على الوجهِ الصحيح من غيرِ تقليد ألبتة، ولو كان الظن أعسَر مِن العلم مطلقاً؛ كان ظنُّ إصابة جهةِ القبلة أعسرَ مِن العلم بدليل الأكوان، بل أعسرَ مِن علم المنطق والكلام، وهذا ما لا يليق التطويلُ فيه.
التنبيه الخامس عشر: القول بسهولة الاجتهاد قد قال به كثير من المتقدمين والمتأخرين من أهل المذهب، وغيرهم من أهل العصر، ومن تَقَدَّمهم.
حدثني حي الفقيه العلامة علي بن عبد الله بن أبي الخير (1) أن الشيخ أبا الحسين لم يكن يشترط في الاجتهاد إلا أُصولَ الفقه -يعني بعدَ معرفةِ الكتاب والسُّنة-، قال: ولم يُرِدْ إن العربيةَ ليست بشرطٍ، وإنما أراد أن المحتاج إليه منها قد صار في أُصول الفقه، وبقيتُها إنما يتعلَّق بإعراب الألفاظ.
وهذا القولُ لستُ أقولُ به، ولا أرتضيه، وإنما القصدُ الحكايةُ عن العارف الثقة.
وقد تكلَّم الفقيهُ عبد الله بن زيد (2) في الاجتهاد، ورخَّص فيه،
(1) من مؤلفاته " الدرة الفاخرة في كشف أسرار الخلاصة الزاهرة " والفوائد الجامعة في الخلاصة النافعة " و" واسطة النظام في التقليد والاستفتاء والنقل والالتزام " انظر فهرس مخطوطات المكتبة الغربية بالجامع الكبير بصنعاء " ص 160 و197 و318.
(2)
له في المكتبة الغربية بالجامع الكبير " شمس المشرقين والمغربين في دليل الجمع بين الصلاتين " ضمن مجموع (120).
وكذلك القاضي العلامة عبد الله بن حسن الدَّواري (1) رحمه الله كان يُقَرِّبُهُ كثيراً. وكذلك حي الفقيه العلامة علي بن عبد الله رحمه الله قال لي: إن الاجتهاد عنده أسهلُ مِن معرفة الفروعِ. والسَّيِّد -أيده الله- قد حكى ذلك عن الغزالي (2) وغيره. قال السَّيِّد -أيده الله-، في رسالته: إن الغزالي وغيرَه ذكروا أنه يكفي المجتهدَ أن يَعْرِفَ في كلِّ فَنٍّ مختصراً، ولا يلزمُه حِفظُه عن ظهر قلبه، بل يكفيه معرفتُه نظراً. هذا لفظ السَّيِّد -أيده الله-، لكنه تأوَّل كلامَ الغزالي وغيرِه بما لا يُوجبُ التأويل، كما سيأتي في موضعه -إن شاء الله تعالى-.
وكذلك تاجُ الدِّين السُّبكي قد وسَّطَ الأمرَ فيه ونصَّ: على أنه لا يجبُ عليه حفظُ المتون، ذكره في كتابه " جمع الجوامع "(3). ولم يذكر فيه خلافاً مع توسُّعِهِ في النقل.
وأنا -بحمد الله- لم أَقلْ كما قالوا، وأعوذ بالله من أن أعتقِدَ أنه يكفي في كل فَنٍّ مختصرُه -هكذا على الإطلاق-، هذا قولٌ نازلٌ جدًّا وسيأتي الكلامُ على فساده لا على تأويله -إن شاء الله تعالى-، وإنما القصدُ بيانُ أن تسهيلَ الاجتهاد قولُ لم يزل في الناس مَنْ يقولُه في قديم الزمان وحديثه، ولم يُعلم أن أَحداً ترسَّلَ على أحد في ذلك. وقد أشار
(1) ترجمه الشوكاني في " البدر الطالع " 1/ 381، فقال: عبد الله بن الحسن اليماني الصعدي الزيدي الملقب بالدواري باسم أحد أجداده وهو دوار بن أحمد، والمعروف بسلطان العلماء، ولد سنة 715 هـ، وقرأ على علماء عصره، وتبحر في غالب العلوم، وصنف التصانيف الحافلة في الأصول والفروع، وكان الطلبة للفنون العلمية يرحلون إليه، ويتنافسون في الأخذ عنه، وليس لأحد من علماء عصره ما له من تلامدة، وقبول الكلمة، وارتفاع الذكر، وعظم الجاه. توفي سنة 800 هـ.
(2)
انظر كلام الغزالي في " المستصفي " 2/ 350 - 351.
(3)
انظر ص 422 - 424 من الجزء الثاني من شرح الجلال المحلى على جمع الجوامع، وحاشية العطار عليه.
إلى سهولته غيرُ واحدٍ؛ كالإمام يحيي بن حمزة (1)، والفقيه علي بن يحيى الوشلي (2) رحمه الله، وغيرهم. وسيأتي لهذا مزيدُ بيان - إن شاء الله تعالى.
التنبيه السادس عشر: أنَّ السَّيِّد -أيَّده الله- يُملي على تلاميذه الخلاف في الفروع، ويروي عن كثير ممن لا يعلم أنه مجتهد بنقل ثقة معلوم العدالة بتعديل ثقة، وذلك الثقة الذي عدَّلَه مُعدِّل، وَهَلُمَّ جراً حتى ينتهي إلى زمانه. ولا السَّيِّد -أيَّده الله- يعلمُ نزاهتهم عن معاصي التَّأويل بمثل هذه الطريقة التي ألزمنيها، فهو على شك في اجتهادهم، وفي عدالتهم.
أما الاجتهاد، فلأنه قد نَسَبَ مالكَ بن أنس إلى البَلَهِ، وحكى أن أبا حنيفة لا يَعْرِفُ العربية ولا الحديث.
أما الاعتقاد، فلأنه قد قَطَعَ بكُفْرِ أحمد بنِ حنبل، وشكَّكَ في إسلامِ الشافعي، ومالك، أمَّا الشافعي، فقال: قد رُويت عنه الرُّؤية، وهذا يحتمل أن يكون بِكَيفٍ وهذا تجسيم، وأما مالك؛ فإنه توقف في تفسير الاستواء، وهذا يحتمل أنه تجويز للتجسيم.
فإذا كان هذا في الأئمةِ الأربعة الذين طُرِّزَت بأقاويلهم كُتُبُ
(1) ستأتي ترجمته ص 287.
(2)
ترجمه زيارة في ملحق البدر الطالع ص 183، فقال: الفقيه العلامة المحقق علي ابن يحيى بن حسن بن راشد الوشلي اليمني ينتهي نسبه إلى سلمان الفارسي، ولد سنة 662 هـ، وأخذ عن السيد محمد بن عبد الله الحسيني الموسوي وغيره، وكان عالماً محققاً حجة في كل مطلب نقح الفروع، وبين التأويل والتعليل، وأتى بالفرق والجمع بين المسائل بما لما يأت به غيره. مات بصعدة سنة 777 هـ.
الزيدية، ورسَخَتْ بمذاهبهم تصانيفُ العِترةِ الزكيةِ، وعُطِّرَتْ بذكرهم حِلَقُ الذِّكر بُكرةً وعشية؛ فما ظنُّك بالليثِ بنِ سعد المصري، وأشهب، والمُزَنِي، والإصطَخْرِي، وأبي ثورٍ، وداودَ، والقفالِ، والشَّاشِي، والمروزي، والقاشاني، وبعض أصحاب الشافعي، هكذا على الإجمال من غير تعيين. فروايةُ الخلافِ فرعٌ على معرفة الإسلام أولاًً، ثم معرفةِ العدالة التامة من جهة التصريح إجماعاً، ومن جهةِ التأويل على قولك -أيَّدك اللهُ- في ذلك بطريق صحيحةٍ، متسلسلة بالعُدولِ المعروفين منهم إلى " السَّيِّد ". مثل ما ألزمني في معرفة عدالتهم، وقال: لا تَحِلُّ الرواية عنهم إلا بعدَ معرفة العدالة في التصريح والتأويل، ومعرفةُ العدالة متَعسِّرةٌ أو متعذِّرة. فكذلك أنتَ لا يَحِلُّ لك رواية خلافهم إلا بعد ذلك. فمِن أين حصل لك، وتيسَّر، وتَسَهَّل أنهم عدولُ، بل أنهم مجتهدون في العلم مع العدالة؟! وأما أنا، فما تيسَّر لي معرفةُ العدالة وحدَها مِن دون معرفة الاجتهاد، مع أن التحري في النقل عنهم مما يلزمُكَ ويخُصُّك، وليس اجتهادي مما عليك فيه تكليفٌ. فتركت التَّحري فيما يخُصُّك، وتفرغت لتسيير الرسائلِ إليَّ مِن غير مُوجب مني لِذلك.
التنبيه السابع عشر: الظاهر من أحوال السَّيِّد -أيده الله- أنه لا يقطعُ بتضليل الأئمة المتأخرين مِن بعد الإمام أحمد بن الحسين عليه السلام، كالإمام المنصور الحسن بن محمد (1)، والإمام إبراهيم بن تاج الدين، والإمام المطهر بن يحيى (2)، وولده محمد بن المطهر (3)،
(1) المتوفى سنة 670 هـ مترجم في " بلوغ المرام "409.
(2)
المتوفى سنة 697 هـ مترجم في بلوغ المرام ص 50 و406.
(3)
المتوفى سنة 728 هـ مترجم في " البدر الطالع " 2/ 271.
وحفيده الواثق (1)، والإمام يحيي بن حمزة (2)، والإمام علي بن محمد (3)، والإمام علي بن صلاح بن تاج الدين، والإمام أحمد بن علي بن أبي الفتح عليهم السلام وحي والدك السَّيِّد العلامة محمد بن أبي القاسم رحمه الله، وهؤلاء الأئمة قد ادَّعَوا الاجتهادَ، وطريقهم في تصحيح الأخبار لم تُرفع ولم تعذر، لأنه ليس بيننَا وبينَهم قرونٌ عديدة، ولا أعصارٌ بعيدة. فإن كان السَّيِّد يجوِّزُ أنهم اجتهدوا، فَخَلِّ الناس يطلبون ما طلبوا، ولعلَّ الذي فَتَحَ على أُولئك يفْتَحُ على غيرهم، فإنه -سبحانه- باقٍ، وقدرتُ باقية، ولا معنى للتخذيل من طَلَب المقدورات. وليس المرادُ أني مثلُهم، ولا مِثل الإمام النَّاصر (4)، لأن كلامي ليس هو في نفسي، إنما هو في الاجتهاد، فإنَّ السَّيِّد بَعَّدَه وعَسَّره، وشَكَّ في دخوله في جملة المقدورات، ولم يُفرق في ذلك بيني وبينَ غيري.
والقصد الكلام أن الاجتهاد إذا كان ممكناً في زمان هؤلاء الأئمة، وإليه طريق معروفة، فالعهد قريب. والظاهر أن تلك الطريق ما تَعَفَّت في هذه المدة اليسيرة. والله أعلم.
التنبيه الثامن عشر: أنَّ السَّيِّد -أيده الله- ذكر أن الاجتهاد ينبني على معرفةِ تفسير المحتاج إليه من القرآن، وذكر أن ذلك صعبٌ شديدٌ، مَدركُه بعيد. ثم إنّا رأينا السَّيِّد -أيده الله- صَنَّف تفسيراً للقرآن الكريم، محكمِه ومتشابِهه من أوَّلِه إلى آخره، وذكر جميع ما فيه من دقيق وجليل،
(1) المتوفى بعد سنة 765 هـ مترجم في بلوغ المرام: 51.
(2)
المتوفى سنة 705 هـ مترجم في البدر الطالع 2/ 333.
(3)
المتوفى سنة 773 هـ مترجم في البدر الطالع 1/ 485.
(4)
على هامش أما نصه: هذا محض التواضع، وإلا فآثارك تقضي بأنك فوق الكل.
فعسَّر علينا معرفة تفسير المحتاج إليه، وهو شيءٌ يسير، وتعرض لذلك الذي عَسَّره بعينه، ولِأكثرَ منه بأضعافٍ مضاعَفةٍ. فإن كان ذلك تيسر للسَّيِّد -أيده الله- فلعل الله يُيسرهُ لغيره، وإن كان لم يتيسر له فهو أجلُّ من أن يقولَ على الله في كتابه بما لا يعلم، وقد روي في التفسير وعيدٌ شديدٌ. وسيأتي -إن شاء الله- لهذا مزيدُ بيان.
ومن العجب أنه أكثر في تفسيره " تجريد الكشاف " مع زيادة " النُّكت اللِّطاف " من الرواية لتفسير كتاب الله -تعالى- من طريق الرازي، وابن الجوزي -من مشاهير المخالفين- الذين (1) يأتي تصريح السيد أنهم عنده كفَّارُ عمدٍ وتصريحٍ لا خطأ وتأويل. وكيف جاز له مثلُ ذلك؛ مع قَدحه على المحدثين بالرواية عن مالك والشافعي وأحمد بن حنبل والبخاري، فكيف تجاسر -مع المنع عن الرواية عن مثل هؤلاء- على رواية فضائل السُّور الموضوعة باتفاق العارفين بعلوم الأثر مع معرفته لدلك في كتاب ابن الصلاح في " علوم الحديث ". وهلَاّ تورَّعَ من ذلك للخروج من الاختلاف، وكيف تجاسرَ على ذلك مع منعه من رواية الحديث المتفق على صحته بين علماء الأثر، فالله المستعان.
التنبيه التاسعَ عشَرَ: أن السَّيد -أيده الله- ألزمنا معرفةَ معنى الآيات المتشابهة على التفصيل؛ سواء كُنّا مجتهدين أو مقلدين. ولم يُرَخص لنا في التوقف في التأويل، وجعل معرفة المتشابه مما يمكن كلَّ مكلف مِن عالم وعامِّي، وقارىء وأمِّي على مقتضى كلامه -كما سيأتي- إن شاء الله تعالى. ثم عَسرَ علينا معرفةَ الآياتِ المحكمةِ النازلةِ في تحريم الرِّبا،
(1) في ب: الذي.
والزِّني، وإفطار رمضان، وإتيانِ الحائض، وفي مواريث الأولاد مثل قوله تعالى {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيض} [البقرة: 222] وقوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12]، ومثلُ قوله:{وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِد} [البقرة: 187]. وأمثال ذلك من الآيات الكريمةِ في تحريم الفواحش، وإقامة الحدود، وجواز البيع، وتعليم النَّاس معالم الخير، وإرشادهم إلى أعمال البِرِّ من الخشوع في الصلوات، والمسابقة إلى الخيرات، وإخبات القُلُوب، والوَجَل من الذنوب. فما أصعبَ ما سَهَّلَ السَّيِّد -أيده الله- من معرفة المتشابه جميعِه، وما أقربَ ما عسَّرَه من معرفة بعضِ آيات الأحكام.
فإن قلت: إنما عسرت آيات الأحكام لتوقُّف العمل بها على فقد النَّسْخ، والمعارضة، والتخصيص.
قلت: ذلك أمرٌ آخر أفردتُ الكلامَ فيه كما سيأتي كلامُك، وجوابُهُ: بل عَسَّرْتَ مجرَّدَ التعسيرِ (1) المتعلِّق بالنحو واللغة، وفي تفسير معرفة معنى المحكم، وتسهيلُ معرفة معنى المتشابه تَعَسُّفٌ كثير، فالله المستعان.
التنبيه العشرون: أنَّهُ -أيده الله- إما أن يكون يعتقِدُ في نفسه أنه مجتهد، أو لا، أن كان يعتقِدُ ذلك في نفسه، فقد زالَ تعذُّرُ الاجتهاد،
(1) في أ: التيسير.
ونُفِيَ تعسُّره، ولعلَّ الذي يَسَّره له، أو صَبَّرَهُ على طلبه حتى ناله يَهَبُ لِغيره ما وَهَبَ {وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء: 20]. وإن لم يكن مجتهداً فهو لا يَعْرِفُ الاجتهادَ، فلا يَصِحُّ منه الحكمُ عليه بتعذرٍ ولا تعسُّر، ولا سُهولةٍ ولا تيسُّر، ولا نفيٍ ولا إثبات. وفي هذا مباحثُ طويلة، قد جمعتُها في رسالةٍ مفردَةٍ، وبعضُها أو كلُّها لا يخفي على الذكِيِّ مع التَّأمُّلِ.
التنبيه الحادي والعِشرين: أنَّ السَّيِّد -أيَّده الله- عَظَّمَ الكلام في معرفة الجرح والتعديل، وعَوَّل عليه في التَّعسير كُلَّ التعويل، وهو عمودُ تعسيره الدي يدور عليه، وأصلُه الذي يعود عليه، ولم يُنبِّهِ السَّيِّد -أيده الله- على أن فيه خلافاً ألبتة، كأنه لا يَعْرِفُ فيه لأحدٍ قولاً، والقولُ بتركِ البحث عنه، وبأنَّه غيرُ واجب، هو القولُ المشهور المستفيض بينَ علماء الزَّيدية والمعتزلة، وهو قولُ المالكية، والحنفية. وادعى ابن جرير الطَّبري. أنه إجماعُ التابعين، وهو قول الشافعي في بعض المراسيل، وهو الذي عليه عَمَلُ النَّاسِ في بلاد الزَّيدية، وليس يُوجد في خزائنِ الأئمة كتاب في الجرح والتعديل بخلاف سائر العلوم.
فليت شعري ما سببُ الإضراب عن ذكرِ هذا؟! ومن أين للسَّيِّد -أيده الله- أني أشترط معرفة الجرح والتعديل؟ وما أمِنَهُ أني أقبلُ المرسل من الثقة، فإن كان يُنْكِرُ على مَنْ لم يشترط ذلك، فليُنْكِرْ على غيري من جماهير العلماء، وما خَصَّني بالنكير، وإن كان لا يُنكرُ ذلك؛ فما باله عَسَّر وشدد، وهَوَّلَ وحَرَّجَ في أمرٍ الخلافُ فيه أظهرُ من الشمس عند مَنْ لَهُ أدنى معرفة بالأصول، وَهَلَاّ وقف التَّعسير على القول بإيجابِ معرفة ذلك، ولكنَّ كتابه -أيَّده الله- مبنيٌّ على الميلِ إلى التغليظ في الأمور والتحريج،
وترك ما لا يَخفي -على مثله- من التسهيل، بحيث إنه لا يترك شيئاً من الأمور المعسرة، ولا يخفي عليه وإن دقَّ، ولا يلتفت إلى شيءٍ مما فيه شهولة ويُسر، وان جلَّ وتجلى وما هذا عملَ الإنصاف.
وقد اقتصرتُ على هذه التنبيهات الإحدى والعشرين وإن كان يُمكن الزيادة فيها، لكن مما أخاف أن ذِكْرَه يُوحِش السَّيِّد -أيَّده الله-.
قال " أما معرفةُ صحيح الأخبار، فمبنيٌّ على معرفةِ عدالة الرواة، ومعرفةُ عدالَتهم في هذا الزمان مع كثرة الوسائط كالمتعذر. ذكرَ هذا كثيرٌ مِن العلماء، ومنهم الغزالي والرَّازي. فإذا كان ذلك في زمانهم؛ فهو في زماننا أصْعبُ، وعلى طالبهِ أتعبُ، لازدياد الوسائط كثرةً، والعلوم دروساً وفَتْرَة ".
أقول: قد تقدَّم الكلام على تعسير الاجتهاد على الإطلاق. وقد شرع السَّيِّد يتكلم على تعسيرِ (1) كلِّ شرط من شروط الاجتهاد. فبدأ بمعرفة صحيح الأخبار فتكلم على تعسيرها، والجوابُ عليه مِن وجوه:
الوجه الأولُ: أنَّ ظاهر كلامِهِ يقتضي إيجابَ الإحاطةِ بمعرفة الصحيح مِن الأخبار، وهذا الشرطُ لم أعلم أحداً اشترطَهُ، ولا دليلَ على اشتراطه، وإنَّما اختلفوا في الأخبار الآحادية الصِّحاح، هل يجبُ العلمُ بشيء منها؟ بل هل يجوزُ العملُ بشيء منها؟، فالجمهور على الوجوب.
وقال السَّيِّد أبو طالب عليه السلام ما لفظه: وذهب كثيرٌ من شيوخ
(1) لم ترد في أكلمة تعسير.
المتكلمين، من البصريين، والبغداديين: إلى أن التعبد بخبر الواحد لا يجوز عقلاً، ثمَّ قال بعد هذه المسألة: قد بَيَّنا فسادَ قول مَنْ منع منه مِن جهة العقل. فأما القائلون بجواز العمل بمقتضاه، فقد ذهب بعضُهم إلى المنع مِن العمل به، لأن العادة لم تَرِدْ بذلك. قالوا: وقد ورد السمعُ أيضاًً بالمنع، وهو قولُ نفرٍ من المتكلمين، وبعضُ أصحاب الظاهر كالقاشاني وغيره.
فإذا عرفت هذا، فلنتكلم على فوائد:
الفائدة الأولى: أنه لا يشترط الإحاطة بالأخبار، والدليل عليه وجوه:
الحجة الأولى: إنه لو وجبَ معرفةُ جميع الأخبار الصِّحاح، لبطل التكليف بالاجتهاد، لكنَّ التكليفَ به معلوم، فما أدى إلى بطلانه، فهو باطل. وبيانُ الملازمة أنه لا طريق للمكلف إلا بالعلم بأنَّه لم يبق حديثُ واحد عند أحد من أهل العلم في جميع أقطار الإسلام إلا وقد أحاط به علماً، والذي يدلُّ عليه أنه لا طريق له إلى العلم بذلك أن نهاية الأمر أن يطلبَ فلا يَجِدُ، ولكن ليس عدم الوُجدانِ يدُلُّ على عدمِ الوجود.
الحجة الثانية: حديثُ معاذ رضي الله عنه وفيه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لَمَّا أراد بَعْثَهُ إلى اليمن والياً وقاضياً -قال له- عليه السلام: " بمَ تحكم؟ " قال: بكتاب اللهِ. قال: " فإن لم تجد؟ " قال: فَبسُنَّةِ رسولِ اللهِ. قال: " فإن لم تجد؟ " قال: اجتهدت رَأَيي. فقال عليه السلام: " الحمد لله الذي وَفَّقَ رسولَ رسول الله لما وَفَّقَ له رسوله "(1).
(1) تقدم تخريجه والكلام عليه ص 258.