الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
انطماسِ معالم العلم، وتعفي رسوم الهُدى إلا تقليد الموتى، للزِم من ذلك أن تبطل الطريق إلى جواز تقليد الموتى، لأن التقليد لهم لا يجوز إلا بدليل يستند إلى معرفة الكتاب والسنة، و
الاستدلالُ بالإجماع على تقليد الموتى لا يصح بوجهين:
أحدُهما: أنه قد ادُّعي الإجماعُ على تحريمه.
رواه المؤيَّد بالله عليه السلام في " الإفادة " في باب كيفية إزالة المنكر -ولفظُه-: وكثير من العلماء قالوا: إنه لا يجوز تقليدُ الميِّت، وادَّعوا الإجماعَ في ذلك. انتهي بحروفه. فالرجوع إلى الإجماع يُوجِبُ المنع منه.
الثاني: سلَّمنا أنه لم يَصِحَّ الإجماعُ على تحريمه، فلا شك أن قولَ الجماهيرِ من المعتزلة والزيدية تحريمُه، فأمَّا إجماعُ العامَّة عليه في الأعصار المتأخرة، فلا يُعتبر، إذ لا عِبرة في الإجماع بالعامة منفردين بالاتفاق، وانعقادُ الإجماع بعد الخلاف الكثير الشائع متعذِّر عادة، ولو سلمنا هذا الإجماع، فهو إجماع ظنيٌّ لا تثبت صحتُه إلا اجتهاداً بالاتِّفاق، وذلك لا يصح إلا معَ صحة الرجوعِ إلى الكتاب والسُّنَّةِ والقياس، والاستدلالُ بقوله تعالى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُون} [النحل: 43] يحتاج إلى معرفة أنها غيرُ منسوخةٍ ولا مخصَّصة ولا معارَضة، ويحتاج إلى معرفة معناها، فهذان أمرانِ:
أحدهما: معرفة أنها غيرُ منسوخةٍ ولا مخصَّصَةٍ ولا معارَضة
، والمعرفة لهذا تنبني على أن هنا سنة معروفة، وإلى معرفة ما فيها طريق مسلوكة بها يعرف أن فيها ناسخاً ومخصصاً ومعارضاً، أو وأنه ليس فيها شيءٌ من ذلك. والاستدلال بالأخبار يحتاج أيضاً إلى بقاء طريق الأخبار.
وثانيهما: معرفةُ معناها، ولا بُدَّ فيه من النظر، إذ ليسَ معلوماً
بالضرورة، فاحتاج الناظرُ فيه إلى أن يكون من أهل الاجتهاد.
فإن قلت: إن دلالتَها على التقليد جليةٌ لا تحتاج إلى اجتهاد.
قلتُ: ليس كذلك، فإن في معناها غموضاً واختلافاً. والذي يدلُّ على ذلك: أنَّ السؤال من الأفعال التي تتعدَّى إلى مفعولين، تارةً بواسطة حرف جر مثل: سألت العالم عن الدَّليل، وتارة بغير واسطة مثل: سألت الأمير مالاً، وسألت العالمَ دليلاً. إذا عرفت هذا، فاعلم أنه لا بُدَّ من مسؤول ومسؤول عنه، فالمسؤول في الآية مذكورٌ وهم أهلُ الذكر، والمسؤول عنه محذوف، فالقولُ بأن المسؤولَ عنه هو أقوالُ المجتهدين مِن هذه الأمة دعوى مجردة عن الأدلة مما لا يدل عليه دليل. وهذا المحذوف يحتمل أن يكون هو الأدلة، ويحتمل أن يكونَ هو المذاهبَ من غير أدلة. وقد قال بعضُ العلماءِ وهو السُّؤال عمَّا أنزل الله لقوله تعالى:{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأعراف: 3] فلما أُمرنا بسُؤالِ أهلِ الذِّكر، وكان الظاهرُ أنه أُمرنا بسؤالهم عما أُمرنا باتباعه مما أنزله علينا من الشرائع، وهذه الأقوال كُلُّها ضعيفة فيما يَظْهَرُ على اعتبارِ قواعد العربية، والمختار: أن المرادَ السؤالُ عن الرُّسُلِ: هل كانوا بشراً أم لا؟ لأن ذلك هو المذكورُ في أوَّل الآية، والعرفُ العربي يقضي بأنَّ ذلك هو المرادُ، والقرائن تسُوقُ الفهم إليه.
فإنه تعالى لما قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي (1) إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْر} [النحل: 43] كان السابقَ إلى الأفهام: فاسألوهم عن كوننا ما أرسلنا إلا رجالاً، كما لو قال القائل: واجهتُ اليومَ الخليفةَ
(1) هي قراءة حفص بالنون وكسر الحاء، وقرأ الباقون:(يُوحى) بضم الياء على ما لم يسم فاعله. انظر " حجة القراءات " ص 390.
وسأل وزراءَه، كان المفهوم: وسألهم عن كوني واجهته، وهذا الذي ذكرت أنه المحذوفُ هو الذي اختاره العلامةُ الزمخشري (1) رحمه الله لم يَذْكُرْ سواه، ولكن لم يذكرِ الوجهَ في ذلك لجلائه.
وأيضاً فقوله: {إن كنتُم لا تَعْلمونَ} يفهم منه: أن الحكمة في سؤالهم الخروجُ مِن الجهل إلى العلم، أو يحتملُ ذلك، وهذا مانع مِن الاستدلال بها في التقليد. والذي يَدُلُّ على ذلك أن مَنْ قال: اشرب إن كنتَ ظامئاً، فُهِمَ منه أن المرادَ شربُ ما يُزيلُ الظمأ، فلو أن المأمورَ شَرِبَ سمناً أو عسلاً، وزعم أنه أراد امتثالَ ما أمر به، لعُدَّ أعجميَّ اللسان، أو بهيميَّ الجنان، وكذلك قولُه تعالى، {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] فإنَّه يُفِيدُ سؤالاً يُخْرِجُ من الجهل إلى العلم، ولا شَكَّ أن التقليدَ لا يُفيدُ العلمَ بالإجماع، ولهذا لم يَحِلَّ التقليدُ في المسائل التي يجبُ العلمُ بها، ويمكن أن يقال: إنما فهم ذلك في قوله: اشرب إن كنت ظامئاً بالقرينة، ولذا يفهم عكسُه بالقرينة في قوله: سَلِ الأغنياءَ إن كنتَ فقيراً، فلا يفهم سؤالاً يُغني ويُخرج من الفقر. وقد يتجرد الشرط عن القرائن في الجنبتين، فلا يُفيد شيئاً، كقوله: صَلِّ إن شئت، ولكن في الآية مجرد احتمال، وهو مما يمنع القطعَ في الاستدلال.
فإن قيل: إنها مما ورد على سببٍ، ولا يُقصر عليه.
قلنا: ليسَ كذلك، لأن شَرطَ ذلك عمومُ لفظه ومعناه، ولفظ هذه الآية فيه حذف، فهو غيرُ ظاهرٍ، ومعناها خاصٌّ غيرُ عام، والعجب أن الأصوليين استدلوا بهذه الآية على جواز التقليد، من غير بيان لوجه
(1) الكشاف 20/ 410 و411.
الدَّلالة، ولا ذكر لهذا الإشكال مع جلائه.
وأما الاستدلال بالإجماع على جواز التقليد، فإنه يحتاجُ أيضاً إلى معرفةِ الكتابِ والسنةِ، لأنهما هما اللذان دلاّ على أن الإجماعَ حُجَّة، والأدلة من الكتاب على أن الإجماع حجَّة هيَ من الظواهر، ولا بدَّ من معرفة عدم النسخ والمعارض والمخصص. وأيضاًً قد منع السَّيِّد من معرفة اللغة، وقطعَ القولَ وجزمه بتعذُّرِ معرفتها، ومعاني الكتاب والسنةِ المستنبطِ منها جوازُ التقليد، وكونُ الإجماع حجَّةً مما يفتقِرُ إلى معرفة اللغة فإذا بَطَلَ معرفة تفسير القرآن، وبطلت طريق معرفة الأخبار، بطل أيضاًً ما هو فرعُ معرفة ذلك مِن جواز التقليد، فيلزم بطلانُ التكليف تقليداً واجتهاداً.
فإن قلتَ: هلا جوَّزتَ أن تُقَلِّد في كون التقليد جائزاً.
قلت: هذا لا يجوزُ على القول بأن أصل التقليد القبحُ إلا ما خصَّه الدليلُ، وهو قولُ المعتزلة والزيدية، وأكثرِ المتكلمين، ولا أعلم أحداً من أهل المذهب نصَّ على جوازه. ودليلُهم على أنه لا يجوز: أن العموماتِ قد دَلَّت على تحريمه، والتقليد إنَّما جاز في المسائل التي أفتى فيها الصحابةُ، ولم يذكروا الدليلَ كما قرَّره السَّيِّدُ الإمامُ أبو طالب عليه السلام، والصحابة إنما أفْتَوْا بمسائل الفروعِ دونَ مسائل أصولِ الفقه، وهذا الحكم مما نَظُنُّ أن السَّيِّد لا يُنازِعُ فيه، فلا حاجة إلى التطويل فيه.
فثبت بهذا أنه لا بُدُّ مِن صحة الرجوعِ إلى القرآن العظيم، والسنة الشريفة، وأن الطريقَ إلى معرفتهما متى تعذَّرت، تعذَّرَ الاجتهادُ والتقليدُ.
وأما قول السَّيِّد: إنه يجوز التقليدُ في القطعيَّات والعمليَّاتِ لمن وافق الأدِلَّة القطعيَّة عملاً لا اعتقاداً دون من خالفَهَا، فهذا يحتاج إلى تمييز المقلد بين القطعيَّات والظنيّاتِ وحصرها، وهو يؤدي إلى إيجابِ الاجتهادِ عليه. وقد فَهِمَ هذا السَّيِّدُ، فأجاب بأنه مكلَّفٌ بالسؤال والبحث عن القطعيات حتى يتواتَرَ ذلك، وبعد تواترِ القطعياتَ، لا يَحِلُّ له تَقليدُ منْ خالَفَهَا، ذكره في آخر جوابه على ابن عثمان.
والجواب: أن هذه غفلة عظيمة، فإن شرط المعلوم بالتواتر أن يستند في الطَّرَفِ الأول إلى الضرورة المحسوسة وهذا إجماع، ولولا ذلك لتواتر للعامة أن الله ربُّهم، واسْتغْنوْا بذلك عن غيره، فاعلم ذلك على أن في القطعيات ما يختلِفُ العلماءُ: هل هو قطعي كالقياسِ الجليِّ والتأثيم به والتفسيق والتكفير، على أن ابن الحاجب وغيرَه من المحققين منعوا مِن وجودِ القطعيِّ الشرعي غيرِ الضروري، وحكموا بأنَّه لا واسطةَ بين الظَّنِّ والضرورة في فهم المعاني، كما أنَّه لا واسِطَة بينهما في تواتر الألفاظ بالاتقاق، والحجة على إثبات هذا القطعي المتوسط بينهما غير واضحة، وإثباته مِن غير حجة ممنوعٌ، والأصلُ عَدَمُ القطعيِّ غير الضروري، والمدِّعي له مثبت، وعليه الدِّلالةُ، والله سبحانه أعلم.
فإن أراد أن يتواتر الإجماعُ القاطعُ للعوام، لم يُغنهم حتى يعلموا أنَّه حُجَّةٌ، وقد تِقدَّم ما في ذلك، ثم حصولُهُ بعدَ انتشار الإسلام لمثلهم خصوصاً متعذِّر.
الجواب الحادي عشر: أنه لو تعذَّرَ الاجتهادُ في جميع المسائلِ لأجل تعسُّرِ شروطه، لتعذَّرَ التقليد في جميعِ المسائل لمثل ذلك، فإن معرفةَ جميعِ نصوصِ المقلِّدِ بإسنادٍ صحيح إليه مثلُ معرفة جميعِ ما يتعلَّق