المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفائدة الثانية: في بيان ألفاظ العلماء، ونصوصهم الدالة على ما قلنا - العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم - جـ ١

[ابن الوزير]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الأول

- ‌ترجمة المؤلف بقلم الأستاذ إبراهيم الوزير

- ‌المسلك الأوَّل: الدعاءُ إلى الحق بالحِكمة البُرْهانية، والأدلة القطعية

- ‌المسلك الثاني: الجدلية:

- ‌المَسْلك الثالث: الخطابية

- ‌المسلك الرابع: الوعظية، وهي نوعان:

- ‌الثاني: أنَّ كونَهم جماعة، يُقَوِّيهِ

- ‌الثالث: أنَّ كتب الأئمةِ والأصوليين وأهل العدل متضمنةٌ للاحتجاج به

- ‌الفائدة الثانية: في بيان ألفاظِ العلماء، ونصوصهم الدالة على ما قلنا

- ‌أحدها: أن الكتابَ معلومٌ بالضرورة

- ‌ثانيها: أن أهلَ الكذب والتحريف قد يئسُوا من الكذب في هذه الكتب المسموعة

- ‌ثالثها: أن النُّسَخ المختلفة كالرواة المختلفين، واتفاقُها يدل على صحة ما فيها

- ‌ والدليلُ على ما ذكرنا الأثَرُ والنَّظَرُ، أما الأثر

- ‌الأثرُ الثَّالِثُ: قصةُ الرجل الذي قَتَلَ تسعة وتسعين

- ‌النَّظر الأول: أن الظاهِرَ من حملة العلم أنهم مقيمون لأركان الإسلام الخمسة، مجتنُبون للكبائر

- ‌النظرُ الثاني: أن الأمة أجمعت على الصلاة على مَنْ هذه صفتُه

- ‌إحداهُما: أن كثيراً من الأخبار والشرائع مبناها على الظَّنِّ

- ‌ثالثها: إذا رأى في كتابه بخطه، وظن أنه سمعه، غير أنه لا يتيقن

- ‌الثاني: أن الصحابة أجمعت على ذلك

- ‌الاستدلالُ بالإجماع على تقليد الموتى لا يصح بوجهين:

- ‌أحدهما: معرفة أنها غيرُ منسوخةٍ ولا مخصَّصَةٍ ولا معارَضة

- ‌ الثاني عشر: أن بطلانَ الاجتهادِ لا يجوزُ أن يثبت بالضَّرورة العقلية ولا الشرعية ولا بالدِّلالة العقلية

- ‌المسألة الأولى: أن يكونَ حالُ أولئك الذين ذكرهم مجهولةً فقط دون سائرِ أهلِ العلم

- ‌إحداهما: ردُّ المرسل، والثانية: الجرحُ بالتأويل

- ‌الجواب على ما ذكره السَّيِّد من وجوه:

- ‌الأول: أن كتب الجرحِ والتعديل مثلُ سائرِ المصنَّفات

- ‌الثاني: أن معرفة كتبِ الجرح والتعديل غيُر مشترطة في الاجتهاد عند جماهير العِترة و

- ‌ثانيها، أنه إمَّا أن يترجَّحَ صدقه على كذبه، أو لا

- ‌ثالثها: أن رَدَّ قَولِه تُهمة له بالكذب والخيانة

- ‌رابعها: أن الله -تعالى- إنما شرط في الشاهد أن يكون ذا عدلٍ

- ‌الوجه الأوَّلُ: أن القارىء فيها أن كان ممن يرى رأيَهم

- ‌ثانيهما: روايته أن الفقهاء ذهبوا إلى ما ذهب إليه المحدثون

- ‌الأثرُ السادسُ: حديثُ الجارية السَّوداءِ

- ‌ الكلام في فصلين في هذه المسألة:

- ‌الفصل الأول: في بيان ظهور ما استغربه السَّيِّد

- ‌المسألة الثانية: قبولُ الأعراب

- ‌ ثلاثُ حُجج احتج بها السَّيِّد على بُطْلانِ كثير من أخبار الصحاح

- ‌الوجه الثاني: أنَّا قد ذكرنا أنَّ كل مسلم ممن عاصر النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم ممن لا يُعْلَمُ جرحُهُ، فإنَّه عدلٌ

- ‌الوجه الثالث: لو قدرنا أنَّ هذا مما يجرح به، لكان مما يحتمل النظر والاختلاف

- ‌الوجه الثالث: أنَّ قوله: {لا يعقِلون} ليس على ظاهره لِوجهين:

- ‌أحدهُما: أنهم مكلفون، وشرط التكليف العقلُ

- ‌الثاني: أنَّه -سبحانه- أجلُّ من أن يَذُمَّ ما لا يَعْقِلُ

- ‌الوجه الخامسُ: سلَّمنا أنه جرح فيهم، فنحن نترُكُ حديثَهُم، فأين تعذُّرُ الاجتهادِ وتعسُّره إذا تركنا حديثَ بني تميم

- ‌الوجهُ السادِسُ: أنَّ هذا يُودِّي إلى جرح بني تميم كُلِّهم

- ‌الأول: أنّ إسلامهم يقتضي قبولَ حديثهم ما داموا مسلمين

- ‌الثاني: إمَّا أن يكون السَّيِّد أنكر قبولَهم، لأن من أسلم لا يُقْبَلُ حتى يُختبر، أو لأنهم ارتدُّوا بعد الإسلام

- ‌الثالث: سلمنا أنَّ وفد عبدِ القيس مجاهيل ومجاريح فما للاجتهادِ، والتعذُّر أو التَعَسُّرِ

- ‌الأول: أنه لا معنى للتقليد في التفسير على أصل السَّيِّد

- ‌الثاني: أنّه قد قال: إن اتِّصال الرواية لهم على وجه الصِّحةِ صعبٌ أو متعذِّر

- ‌السؤال الثاني: أنَّ هذا تشكيك على أهل الإسلامِ في الرجوع إلى كتاب ربِّهم

- ‌أحدها: ما السببُ في قطع السَّيِّد بتعذُّرِ الطريق إلى الرواية ها هنا وكان متردداً فيما تقدَّم

- ‌ثالثها: أنَّ الأمة أجمعت على أنَّه لا يجب الإسناد في علم اللغة

- ‌أحدهما: أنَّ الدَّوْرَ محالٌ عند جميع العقلاء

- ‌الوجه الثاني: أنَّ الدَّورَ غيرُ لازمٍ من ذلك

- ‌أحدهما: أنَّ كلامَنا فيمن عَرفَ اللغة، واحتاج إلى ما عداها، فلا يَصِحُّ أن يُجْعَلَ العارفُ للشيء محتاجاً إلى معرفته غيرَ متمكِّنٍ منها

- ‌أحدها: مناقضته الكلامَ القاضيَ بعدمِ المجتهدين

- ‌ثانيها: أنَّ هذه المسألة من مسائل الخلاف الظَّنِّية

- ‌ جواز الوهم على الراوي في تأديته للفظ الحديث النبوي، والدليل على ذلك وجهان:

- ‌الوجه الثاني: أنَّ الجماهير من العلماء قد أجازوا الرواية بالمعنى

- ‌إحداهما: في ذكر مَنْ نصَّ من العلماء على أنَّ ذلك لا يجب

- ‌الحجة الرابعة: ما قَدَّمنا ذكرَه مِن دعوى المنصور بالله

- ‌الحجة الخامسة: أن الصحابة أجمعت أنَّه لا يجب حفظُ النَّصِّ على المجتهد

- ‌أحدهما: أنَّ محفوظ الواحد منهم كان لا يكفيه في الاجتهاد

- ‌أحدهما: أنَّ مثل ذلك معلوم من أحوال البشر

- ‌ثانيهما: أنَّه قد ثبت عنهم ذلك

- ‌الحجة الثامنة: أنَّ الجماهير قد أجازوا روايةَ لفظ النبي صلى الله عليه وسلم بالمعنى

الفصل: ‌الفائدة الثانية: في بيان ألفاظ العلماء، ونصوصهم الدالة على ما قلنا

فَدَلَّ هذا الحديثُ على ما قلناه أوضحَ دلالةٍ، لأنَّهم اجتهدوا مع فقد النَّص في حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقرَّرَهم، ولم يُخْبرهم بتحريمِ ِذلك في حضرته، ولا في غيرها، فَدَلَّ على الجوازِ، والله أعلم.

الحجة الخامسة: أنَّ العلمَ بجميع النصوص إنَّما يجب لو وجب، لترجيح القول: بأنَّ العَمَلَ بالظنِّ حرامٌ، ولو حَرُمَ العملُ بالظن، لحرم العملُ بخير الواحد، وحينئذ لا يجبُ العلمُ (1) بشيءٍ من أخبار الآحاد، فكان في تصحيح هذا القولِ إبطالُهُ، وفي هذا بحثٌ تركتُهُ اختصاراً، والأدلَّةُ على هذا كثيرة فلا نُطَوِّلُ بذكرها.

‌الفائدة الثانية: في بيان ألفاظِ العلماء، ونصوصهم الدالة على ما قلنا

، وذلك ظاهر شائع، والتعرُّضُ لنقل ألفاظهم في ذلك يُفضي بنا إلى باب واسع، ولكن نُشير إلى نُبْذةٍ يسيرة مِنْ كلامِ بعض الأئمة والعلماء، فَمِن ذلك قولُ الإمام المنصور بالله (2) عليه السلام في " صفوة الاختيار " في صفة المجتهد: ويجب أن يكونَ عارفاً بطرَفٍ مِن الأخبار المرويِّة عن

= المصنف رحمه، وأخرجه أحمد 1/ 98 و99، و115، وأبو داود (2280) والترمذي (1904) والطحاوي في " مشكل الآثار " 4/ 173، 174، والبيهقي 8/ 6 والحاكم 3/ 120، والخطيب في " تاريخه " 4/ 140، ورواه الطبراني عن أبي مسعود البدري كما في " المجمع " 4/ 323، ورواه العقيلي في " الضعفاء " لوحة 472 عن أبي هريرة وضعفه يوسف ابن خالد السمتي، ورواه ابن سعد في " الطبقات 4/ 35 - 36 عن محمد بن علي مرسلاً ورجاله ثقات.

(1)

في (ب) لا يجب العمل العلم.

(2)

هو عبد الله بن حمزة بن سليمان بن حمزة أحد أئمة الزيدية في اليمن ومن علمائهم وشعرائهم بويع له سنة 593 هـ وتوفي سنة 614 هـ وله عدة مصنفات انظر وصفها في فهرس الجامع الكبير بصنعاء ص 111 و129 و217 و145 و129 و75 و76 و590 و591 و256 و167 و257 و168 و366 و173 - 176 و179 و180 و209 و290 و205 و124.

ص: 286

النبي صلى الله عليه وسلم. فهذا نَصُّهُ عليه السلام كما ترى مفصحاً بأنه لا يجب إلا معرفةُ طرَفٍ مِنَ الأخبار، والمعلوم أنَّ كل الأخبار لا تُسمى طرفاً لها، بل الظاهرُ أنَّ نِصفَ الشيء لا يُسمى طرفاً له.

وكذلك قال صاحب " الجوهرة "(1) التي هي مِدْرَسُ الزيدية في الأصول: إنه يجب أن يكونَ عارفاً بطرف من الأخبار الفقهية -بهذا اللفظ- ولم نعلم أن أحداً اعترضه في ذلك، مع كثرة الدرسِ والتدريس في هذا الكتاب، واعتناءِ النُّقاد من علماء الزيدية بتحقيقه.

وقال الإمام يحيى بنُ حمزة (2) عليه السلام في كتاب " المعيار " في صفة المجتهد -ما لفظه- وأما السُّنَّة، فلا يلزم أن يكون حافظاً لها من ظاهر قلبه، بل لا بد أن يكون معتمداً على كتاب منها يكونُ مُسْتَنَداً له في فتواه.

(1) هو أحمد بن محمد الرصاص كما صرح به المؤلف فيما بعد، ترجمه الجنداري في تراجم الرجال ص 5، وأرخ وفاته سنة 656 هـ، واسم كتابه " جوهرة الأصول وتذكرة الفحول " ومنه نسخة خطية بالجامع الكبير بصنعاء كما في الفهرس ص 328 كتبت سنة 789 هـ. وقد كرر صاحب معجم المؤلفين ترجمته فنسبه في الأولى 1/ 191 إلى جده الحسن، ونسبه في الثانية 2/ 90 إلى أبيه.

(2)

هو يحيى بن حمزة بن علي بن إبراهيم الحسيني العلوي الطالبي من أكابر أئمة الزيدية وعلمائهم في اليمن، صنف التصانيف الكثيرة الحافلة في جميع الفنون، وكان - كما قال الشوكاني في البدر الطالع 2/ 332: له ميل إلى الإنصاف مع طهارة لسان، وسلامة صدر، وعدم إقدام على التكفير والتفسيق بالتأويل، ومبالغة في الحمل على السلامة على وجه حسن، وهو كثير الذب عن أعراض الصحابة المصونة رضي الله عنهم، وعن أكابر علماء الطوائف رحمهم الله. قلت: وهو صاحب كتاب " الطراز المضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الاعجاز " المطبوع في ثلاث مجلدات في مصر سنة 1914 بتصحيح سيد بن علي المرصفي.

ص: 287

وقال الشيخ أبو الحسين في كتاب " المعتمد "(1) فيمن يجوز له أن يقضي بظاهر الخِطاب وعمومه: والواجبُ أن يقال: إنَّ منْ كان مِن أهل الاجتهاد، إذا لم يجد ما يَعْدِلُ بالحكم عن ظاهره، فالواجب أن يحمِلَه على ظاهره في تلك الحال، لأنه قد كُلِّفَ الاستدلالَ به، إما ليُفتيَ غيرَه وإما لِيُفتي نفسَه وغيرَه، فلا يجوز أنْ لا يُجْعَلَ له طريقُ إلى ما كُلِّفَ، سواء انتشرت السنن أو لم تنْتَشِرْ، إلا أنَّه إن لم تنتَشِرِ السُّنن، قطع المكلَّفُ أنه فرضهُ في الحال، وفرضُ مَنْ يستفتيه العملُ بظاهر ذلك الخطابِ. وجُوَّز أن يكونَ في السنن ما يعْدِلُ بالخطاب عن ظاهره، وإذا بلغه تلك السنة تغيَّر فرضُهُ. ولهذا يجبُ أن يجوز منْ عاصر النبي صلى الله عليه وسلم ممَّن غاب عنه، أن يكونَ ما يلزمُهُ مِن العبادات قد نسخه النبي صلى الله عليه وسلم. وإن لم يبلغ النسخ بعدُ، وأنَّه إذا بلغه النسخ، تغيَّر فرضُه، وتغيَّر فرضُ القياس عليه. انتهى.

فإن قلت: إن كلام الشيخ أبي الحسين هذا إنما هو في الحُكم قبلَ انتشار السُّنَنِ، فما الحكمُ عنده بعد انتشارها؟

قلتُ: قال أبو الحسين في " المعتمد "، قبل هذا الكلام ما لفظه: فإن كانَتْ قدِ انتشرت كعصرنا هذا، فالواجبُ أن يقضِيَ بعموم الخطاب، وثبوتِ حُكمه، لأن السنن ظهرت ظهوراً لا يخفي معه على من التمسها.

ولم يختلِفْ قول أبي الحسين -أن هذا حكم المجتهد بعد انتشارِ السنن- وإنما اختلف قولُهُ في حكمه قبل الانتشار، فقال مرة: لا يجوز له أن يقضيَ بالظاهر والعموم، لِعدم معرفته بالسنن، ثم رجع عن هذا القول إلى ما قدمنا من كلامه، واحتج بحديث معاذ، إِذ هو واضح الدَّلالة في

(1) 2/ 926.

ص: 288

المسألة، واحتج بالنظر المقدَّم، وكلامهُ هذا في من لم يلزمه التكليفُ بما ينظُر فيه، ولا تناوله الخِطابُ، كالرجل ينظر في أحكام الحيض ونحوه مما لا يتعلق به. وأما إذا تناوله التكليفُ مثل من ينظر في أمرٍ، يختصُّ به، فإن أبا الحسين قطع القولَ فيه على أنه يجوز له العمل بالعموم والظاهر بعد أن يطلب فلا يجد. وقال في الاحتجاج على هذا ما لفظه: لأنه لا يجوزُ أن يسمعه الله خطاباً عاماً، وُيريد منه فهمَ مراده، ولا يُمكنه مِن العلم بمراده بنصب دلالةٍ يتمكَّن من الظَّفَرِ بها، فإذا فَحَصَ، فلم يُصب الدّلالة، قطع على أَن الله لم يرد الخصوص. انتهى.

وقال الفقيه علي بن يحيى الوشلي (1) رحمه الله في شرح قوله في " اللمع ": وقال أبو العباس: لا تكون عالماً بما تقضي حتى تكونَ عالماًً بكتاب الله وسنة رسولِ الله صلى الله عليه وسلم. قاله في كتاب " أدب القاضي ".

قال الفقيه رحمه الله ما لفظه: قال الغزاليُّ: وحَدُّ ذلك أن يعلمَ من الكتاب مما يتعلَّق بالأحكام الشرعية، وهو قدر خمس مئة آية، ويكونَ بظهر الغيب بحيث إذا عرضت الحادثة، أمكنه الرجوعُ إلى موضعها.

قلت: قوله " بظهر الغيب " فيه تسامح في العبارة، لأنه أراد أن يكون قريباً مِن الغيب لكثرة درسها، وأنه لا يجب غيبُها بدليل قوله: بحيث إذا عرضت الحادثة أمكنه الرجوع إلى موضعها. وبدليل أنه حاكٍ لِكلام الغزَّالي وكلام الغَّزَّالي مشهور نصّ فيه على أنه لا يجبُ الغَيْبُ، وقد حكاه " السَّيِّد " عن الغزالي في كتابه على الصَّواب.

قال الفقيه علي بن يحيى الوشلي: وَمِن السُّنّة " المُوطَّأ " أو

(1) تقدمت ترجمته في الصفحة 274.

ص: 289

" سنن أبي داود " ومِن الفروع الإجماع، وأن يكون قد قال في المسألة قائل، ومِن أصولِ الدين أن يعرفَ الله تعالى، وما يجوزُ عليه وما لا يجوز، ومِن أصولِ الفقه ما يُمكنه أن يردَّ الفروعَ إلى الأصول، وَيعْرِف المجمَلَ، والمبيَّن، والعامَّ والخاصَّ، والناسخَ والمنسوخَ، وأن يكونَ معه طرفٌ مِن النحو ليعرف الأوامرَ والنواهي، وطرفٌ من اللُّغَةِ. هذا كلام الفقيه علي بن يحيى في تعليقه على " اللمع "، الذي هو مِدْرَسُ أفاضل علماء الزيدية.

فلم يزَلِ الأفاضِلُ يتدارَسُونَ هذا الكتاب، وهذا التعليقَ، ويُملون ما فيه على طلبة العلمِ في مساجد الزيدية، وحلق الذكر، ولم يُعْلَمْ أن أحداً من علماء الزيدية أنكر هذا التمثيل لسنن أبي داود، وقال: إنها لا تُحيط بالحديِث، ولا قال: إنها كتاب كافر تصريح، وإن راويها غيرُ مقبول.

وقال القاضي العلَاّمة عبدُ الله بن حسن الدوّاري رحمه الله في " تعليق الخلاصة "(1) في صفة المجتهد: والعلم بأخبارِ النبيّ صلى الله عليه وسلم يكفي في ذلك كتابٌ مما يشْمَلُ الأحاديثَ المتعلِّقة بالأحكام، كأصولِ الأحكام، أو أحد الكتب الصحيحة المشهورة. انتهى. وفيه ما ترى مِن نصِّ هذا العالِم الجليلِ على ما بالغ السَّيِّد في إنكاره من صِحّة هذه الكتُب، وعلى خلاف ظاهر كلامه في وجوب الإحاطة بصحيح الأخبار.

وقال الفقيه العلامة عليُّ بن عبد الله بن أبي الخير رحمه الله في تعليقه على " الجوهرة " ما لفظُه: أما الكتابُ، ففيه تحقيقان:

(1) واسمه " جوهرة الغواص وشريدة القناص " منه نسخة في المكتبة الغربية بجامع صنعاء انظر الفهرس ص 153 - 154. توفي مؤلفه سنة 800 هـ مترجم في " البدر الطالع " 1/ 381 - 382.

ص: 290

أحدهما: أنه لا يجب أن يُعلم جميعُ ما يتعلق بالكتاب، وإنما الواجبُ مقدار خمس مئة آية، وهي التي تتعلَّقُ بالأحكام الشرعية.

الثاني: أنه لا يجبُ علمُها، بل إذا علم بمواضعها، وتمكَّن مِن النَّظَرِ فيها عند الحادثة كفي ذلك.

وأما السُّنَّة، فيكفيه منها كتاب جامع لأكثر الأخبار الشرعية كسنن أبي داود وغيره، ولا يجب أن يعلمه بالغيب -كما تقدَّم في الكتاب-.

وأما الإجماع، فلا يلزمه أن يعلم جميعَ مسائله غيباً، بل يكفيه إذا وردت الحادثة أن يطلب وينظر في حكمها، فإن وجد فيها إجماعاً لم يُخالفه، وإن لم يجد فيها إجماعاً، حكم بما أدَّاه إليه اجتهادُهُ. انتهى كلامُهُ رحمه الله تعالى.

وفيه ما ترى من التمثيل بسنن أبي داود، وهذا فرع على صحتها.

فهؤلاء علماءُ الزيدية، وأهلُ التدريس في مساجدها، متطابقون (1) على خلاف ما ذكره السَّيِّد من تحريم الرجوع إلى كتب الحديث، وتحريم الاجتزاء بها، وأما غيرُهُم، فإنه أكثر ترخيصاً منهما، وقد اشتهر عن شيوخ المعتزلة البغدادية تحريمُ التقليد على العامة، وتسهيلُ الاجتهاد لهم، فإنهم زعموا أن العامي متى سَمِعَ من العالم الدليلَ في المسألة، وفهَّمَهُ الدليل مثلَ ما يُفَهِّمُهُ الفتوى، صار مجتهداً في المسألة، فجعلوا الاجتهادَ ممكناً للبُلدَاءِ من الحرّاثينَ والعبيد، والنساءِ وجميعِ المكلفينَ، كما جعلتِ المعتزلةُ كُلُّها معرفةَ الله عز وجل بالبراهين الصحيحةِ واجبةً ممكنةٌ لأولئك أجمعين.

(1) في " أ " و" ب ": متطابقين، والوجه ما أثبتنا.

ص: 291

وبهذا يظهر أن الاجتهاد أمرٌ خفي، غيرُ ضروري ولا قطعيٌّ، وأنَّ كُلٍّ مجتهدٍ في تفسيره واعتبارِ شروطه مصيب لِعدم النص الجليِّ المتواتر في تفسيره ولله الحمد.

وقد ذكر العلماءُ قديماً وحديثاً حُكْمَ القاضي والمجتهد إِذا خالفا النَّص، ثم وجداه، وهذه مسألة مشهورة.

وقد رَجَع كثيرُ من العلماء عن أقوالهم، ورجع عليٌّ عليه السلام عن قولِه في أمِّ الولد، وكان يقول: إنَّ بيعها حرام، ورَجَعَ إلى القول بجواز بيعها، وقال لَهُ عَبيدَة السَّلماني: رأيُك مع الجماعة أحبُّ إلينا من رأيك وحدَك (1).

وقد يكونُ رجوعُ العالِم للوقوفِ على النص، ولغير ذلك من انكشاف ضعف دليله المتقدم.

وقد رجع عُمَرُ بنُ الخطاب رضي الله عنه عن رأيه في دِيَةِ الأصابِعِ، وعن المنعِ من توريث المرأةِ مِن دِيَةِ زوجها (2). واحتجَّ بذلِكَ الإمامُ المنصورُ بالله عليه السلام في " الصفوة " فقال -ما لفظه-: وما كان يذهبُ إليه من التفضيل في دية الأصابع فإنه كان يجعل في الإِبهام خَمْسَ عشرةَ، وفي البِنصِر تسعاً، وفي الخِنْصَر ستاً، وفي الباقيتين في كُلِّ

(1) في " المصنف "(13224) عن معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن عبيدة السلماني، قال: سمعت علياً يقول: اجتمع رأيي ورأي عمر في أمهات الأولاد أن لا يبعن، قال: ثم رأيت أن يبعن. قال عَبيدة، فقلت له: فرأيك ورأي عمر في الجماعة أحبُّ إلي من رأيك وحدك في الفرقة، أو قال: في الفتنة - قال: فضحك علي. وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين، وأخرجه البيهقي 10/ 348 من طريق هشام بن حسان عن ابن سيرين به.

(2)

سيأتي تخريجه قريباً.

ص: 292

واحدةٍ عشراً، فرجع عن ذلك لكتاب عمرو بن حزم (1).

وكان لا يُورِّثُ المرأةَ مِن دِية زوجِها، فورَّثها لرواية الضَّحّاكِ بنِ سفيان عنِ النبي صلى الله عليه وسلم توريثَهَا (2).

(1) أخرج عبد الرزاق في " المصنف "(17698) من طريق الثوري، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب أن عمر جعل في الإبهام خمس عشرة، وفي السبابة عشراً، وفي الوسطى عشراً، وفي البنصر تسعاً وفي الخنصر ستاً حتى وجدنا كتاباً عند آل حزم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأصابع كلها سواء، فأخذ به. رجاله ثقات، وأخرجه البيهقي 8/ 93 من طريق جعفر ابن عون، عن يحيى بن سعيد به. وَجَعْلُ دية الأصابع سواء، وأنها عشر من الإبل لكل إصبع ثابتٌ عنه صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عباس عند البخاري (6895) في الديات، وأبي داود (4559) و (4561) و (1391) وابن حبان (1528) ومن حديث أبي موسى الأشعري عند أبي داود (4557) والنسائي 8/ 56، وابن ماجه (2654) والدارقطني 3/ 211، ومن حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عند أبي داود (4562) و (4563) و (4566) وأما كتاب عمرو بن حزم، فأخرجه مالك في " الموطأ " 2/ 849 في أول كتاب العقول عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه .. مرسلاً، ووصله النسائي 8/ 57، 58 في القسامة، والدارقطني 376، وابن حبان (793) والبيهقي 4/ 89، والحاكم 1/ 397 من طريق الحكم بن موسى، عن يحيى بن حمزة، عن سليمان بن داود، قال: حدثني الزهري، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه عن جده .. وقد غلط الحكم بن موسى على يحيى بن حمزة في قوله: سليمان بن داود، والصواب قول محمد بن بكار عنه: سليمان بن أرقم كما رواه النسائي وهو في أصل يحيى كذلك، نبَّه عليه غير واحد من الحذاق. وسليمان بن أرقم متروك الحديث فسند الموصول لا يصح وانظر التفصيل في " الجوهر النقي " 4/ 86 - 89.

(2)

أخرجه الشافعي 2/ 229، وأحمد 3/ 452، وأبو داود (2927) والترمذي (2111)، وابن ماجة (2642) وعبد الرزاق (17764)، والطبراني (8139) و (8140) و (8141) و (8142) من طرق عن الزهري، عن سعيد بن المسيِّب أن عمر بن الخطاب كان يقول: الدية للعاقلة، ولا ترث المرأة من دية زوجها شيئاً حتى أخبره الضحاك بن سفيان أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إليه أن يورِّث امرأة أشيم الضبابي من ديته، فرجع إليه عمر. وهذا إسناد رجاله ثقات إلا أن في سماع سعيد بن المسيب من عمر خلافاً، وله شاهد يتقوى به من حديث المغيرة بن شعبة عند الدارقطني ص 457، وفي سنده زفر بن وثيمة البصري وهو مجهول الحال، وأخرج الدارقطني من حديث ابن المبارك عن مالك، عن الزهري، عن أنس ابن مالك أن قتل أسلم كان خطأ، ورواه الطبراني (8143) من طريق عبد الله بن أحمد، حدثني عبد الله بن عمر بن أبان، حدثنا عبد الله بن المبارك، عن مالك به وهو في " الموطأ " =

ص: 293

وكاد يُهْدِرُ الجنينَ لولا خبرُ حمَلِ بني مالكٍ أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أوجبَ فيه الغُرَّة عبداً أو أمة (1).

وقال عليه السلام قبلَ هذا -ما لفظُه-: وطلب أبو بكر حُكْمَ الجَدَّةِ وكان يرى فيه برأيه حتى أخبره المُغيرةُ ومحمدُ بنُ مسلمة أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَرَضَ لها السُّدُسَ (2).

= 2/ 867 عن الزهري بغير ذكر أنس، قال الدارقطني في " غرائب مالك " فيما نقله عنه الحافظ في " الإصابة " في ترجمة الضحاك: وهو المحفوظ.

(1)

أخرجه عبد الرزاق في " المصنف "(18343) ومن طريقه الحاكم 3/ 575، والطبراني (3482) عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن طاووس، عن ابن عباس، قال: قام عمر على المنبر، فقال: اذكِّرُ الله امرءاً سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في الجنين، فقام حمل بن مالك بن النابغة الهذلي، فقال: يا أمير المؤمنين كنت بين جاريتين -يعني ضرتين- فجرحت أو ضربت إحداهما الأخرى بالمسطح بعمود ظلتها، فقتلتها وقتلت ما في بطنها، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم بغُرَّةٍ: عبدٍ أو أمة. فقال عمر: الله أكبر لو لم نسمع بهذا ما قضينا بغيره.

وهذا إسناد صحيح، وأخرجه أبو داود (4573) من طريق عبد الله بن محمد الزهري عن سفيان بن عيينة به، وأخرجه أبو داود (4572)، وأحمد 4/ 79، وابن ماجه (2641) من طرق عن ابن جريج، حدثني عمرو بن دينار، عن طاووس، عن ابن عباس.

وفي الباب عن أبي هريرة عند أحمد 2/ 236 و274 و438 و498 و535 و539 والبخاري (6904) و (6909) و (6910) ومسلم (1681) وأبو داود (4576) والنسائي 8/ 47 و48، والترمذي (1410) والدارمي 2/ 197، والطيالسي، (2301) و (2346) ومالك 2/ 854، وابن الجارود في المنتقى (776) والطحاوي في شرح معاني الآثار 3/ 205، والبيهقي 8/ 70 و105 و112. وعن المغيرة بن شعبة عند أحمد 4/ 245 و246 و249، والبخاري (6905) و (6908) ومسلم (1682) والترمذي (1411) وأبي داود (4568) و (4569) و (4571) والدارمي 2/ 196، والطحاوي 3/ 205 - 206، وابن الجارود (778) والطيالسي (696) والنسائي 8/ 49 والبيهقي 8/ 106 و109 و114.

(2)

أخرجه مالك في " الموطأ " 2/ 513، ومن طريقه أخرجه أبو داود (2894) والترمذي (2102) وابن الجارود (959) والدارقطني ص 465، والبيهقي 6/ 234، وابن حبان (1224) والحاكم 4/ 338 عن ابن شهاب الزهري، عن عثمان بن إسحاق بن خرشة، عن قبيصة بن ذؤيب أنه قال: جاءت الجدة إلى أبي بكر الصديق تسأله ميراثها، فقال لها أبو بكر: مالك في كتاب الله شيء وما علمت لك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً، فارجعي حتى =

ص: 294

ورجع عن قضيته بخبر رواه له بلال (1) انتهي كلامُهُ عليه السلام.

وروى أبو داود في السنن عن ابنِ مسعودٍ أنه أفتى في مسألة بالرأي، ثم وَجَدَ النَّصَّ (2).

وأفتى ابنُ عباس أنه لا رِبا إلَاّ في النَّسِيئَة، ثم وجَدَ النَّصَّ، كما ذلك مشهورٌ عنه (3).

= أسال الناس، فسأل الناس، فقال المغيرة بن شعبة: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاها السدس فقال أبو بكر: هل معك غيرك؟ فقام محمد بن مسلمة الأنصاري، فقال مثل ما قال المغيرة، فأنفذه لها أبو بكر الصديق

وصححه ابن حبان والحاكم والذهبي وغيرهم وقال الحافظ ابن حجر في " التلخيص " 3/ 82: إسناده صحيح لثقة رجاله إلا أن صورته مرسل، فإن قبيصة لا يصح له سماع من الصديق ولا يمكن شهوده للقصة.

(1)

وثمت أشياء لم يكن يعلمها رضي الله عنه، فأخبره غير واحد من الصحابة بما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، فيرجع إليها، ويأخذ بها انظر مسألة " رفع الملام عن الأئمة الأعلام " لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وهي موجودة في الجزء العشرين من " مجموع الفتاوى " ص 234 - 238.

(2)

أخرجه أبو داود (2114) و (2115) و (2116) وأحمد 1/ 431 و447 و4/ 289 و280، والنسائي 6/ 121، 123، والترمذي (1145)، والدارمي 2/ 155، وابن الجارود (718) وابن ماجه (1891) والبيهقي 7/ 245 عن ابن مسعود أنه سئل عن رجل تزوج امرأة ولم يفرض لها صداقاً، ولم يدخل بها حتى مات، فقال ابن مسعود: لها صداق نسائها لا وكس ولا شطط، وعليها العدة ولها الميراث، فإن يك صواباً، فمن الله، وإن يكن خطأً فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان، فقام معقِل بن سنان الأشجعي، فقال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بَرْوَع بنت واشق -امرأة منا- مثل ما قضيته، ففرح ابن مسعود فرحاً شديداً حين وافق قضاؤه قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وصححه الترمذي، وابن حبان (1263) و (1264)، والحاكم 2/ 180، ووافقه الذهبي، وهو كما قالوا.

(3)

في صحيح مسلم (1218) عن عطاء بن أبي رباح أن أبا سعيد الخدري لقي ابن عباس، فقال له: أرأيت قولك في الصرف، أشيئاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أم شيئاً وجدته في كتاب الله عز وجل؟ فقال ابن عباس: كلا، لا أقول، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنتم أعلم به، وأما كتاب الله فلا أعلمه، ولكن حدثني أسامة بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" ألا إنما الربا في النسيئة " وانظر لزاماً الأحاديث من رقم (428) إلى (459) في " المعجم الكبير " للطبراني.

ص: 295

وقد نص المنصورُ على أنه قد يخفي على المجتهد بعضُ النُّصوصِ، ولا يَقْدَحُ ذلك في الاجتهاد، وكذلك أبو الحسين وغيرُهُما مِن الأصوليين.

وقد نصَّ الهادي عليه السلام في غير حديثٍ في الأحكام أنه لا يدري: أهو صحيحٌ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أم لا؟ وذلك يقتضي اعترافَهُ بأنه لم يُحِطْ بمعرفةِ الصَّحيحِ، ولو كان محيطاً به، لقطع بأنَّ ذلك الحديثَ غيرُ صحيح، مستدلاً بأنه لو كان صحيحاً، لوجب أن يكونَ فيما قد عرفه.

وكذلك الشافعيُّ قد توقَّف في أحاديثَ كثيرة، ووقَّف القولَ على صحةِ بعضِ الأخبار، وقد اشتهر عن البغدادية القولُ بوجوب الاجتهادِ على كُلِّ مكلَّف. حكاه عنهم الحاكم (1) في " شرح العيون ".

وقال المنصور (2) في " الصفوة ": هو مذهب الجعفريين ومن طابقهما مِن متعلمِّي البغدادية.

وقال أبو الحسين في " المعتمد "(3) ما لفظه: منع قومٌ من شيوخنا البغدايين رحمهم الله من تقَليد العامي في فروع الشريعة.

وقال الإمام أبو طالب في كتاب " المجزى ": ذهب جعفرُ بنُ

(1) هو الإمام أبو سعد المُحسن بن محمد بن كرامة الجشمي البيهقي مفسر عالم بالأصول والكلام، حنفي، ثم معتزلى فزيدي، وهو شيخ الزمخشري، قرأ بنيسابور وغيرها واشتهر بصنعاء اليمن، وتوفي شهيداً مقتولاً بمكة سنة 494 هـ " أعلام الزركلي " 5/ 289، وكتابه شرح عيون المسائل منه نسخة خطية في جزئين في المكتبة الغربية بالجامع الكبير بصنعاء، كتبت سنة 807 هـ. انظر الفهرس ص 184.

(2)

هو عبد الله بن حمزة بن سليمان المتوفى سنة 614 هـ.

(3)

2/ 934.

ص: 296

حرب، وجعفر بن مبشِّر ومن تابعهما مِن أصحابنا البغداديين إلى أن العاميَّ لا يجوزُ له تقليدُ العالم، وإنما يلزمه الرجوعُ إليه، لِيعرفَه طريقة النظرِ فيها، وينُبهه على أصولها، فيعمل بما يُوجِبُه نظرُه فيها.

وفي مذهب البغدادية هذا غايةُ التسهيل في الاجتهاد، إذ جعلوه ممكناً لِكُلِّ مكلَّفٍ من النساء والإماء والزُّرَّاع، وسائرِ أهل الغَبَاوةِ والبَلادة، ولم يزلِ العُلماءُ يذكرون مذهبَ البغدادية، ولا يذكرون في الرد عليهم تعذر الاجتهاد ولا استحالته.

وقد فسَّر البغدادية كيفية اجتهاد العامي، وقالوا: إنه إذا سأل العالم عنِ الدليل، وأخبره به، جازَ له أن يعملَ به من غير طلبٍ لما يُعارضه، أو ينسخه، أو يَخُصُّه من غير ذلك العالم.

ولهذا أُوجبوا على المفتي أن يبين للعاميِّ الدليلَ، لِيكون العاميُّ مجتهداً خارجاً بذلك عن التقليد، فهذا غاية الترخيص، ولم نعلم أن أحداً من العلماء أثَّمهم في ذلك، بل ولا ردَّ عليهم بأن ذلك لا يفيد العامي الاجتهاد، وإنما رد العلماء عليهم القول بوجوب الاجتهاد لا القول بتسهيله، وهذا ما وعدناه مِن الزيادة في ذكر سُهُولَةِ الاجتهاد في التنبيه الخامس عشر والمتقدِّم، وإنَّا لو قدَّرنا أنا رخَُّصنا في الاجتهاد، فإنا لم نَشِذَّ بذلك، على أنا بحمد الله لم نذهبْ إلى هذا، وإنما منعنا القولَ بتعذره باستحالته (1)، بل من التَّشديدِ في صعوبته وتعسُّره، لأنه من جملة التكاليفِ الشرعية.

وقد أخبرنا سبحانه وتعالى أنه ما جعل علينا في الدين مِن حرج،

(1) في ب: واستحالته.

ص: 297

وأنه يُريد بنا اليُسْر ولا يُرِيدُ بنا العُسْر، وامتثالاً لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم حيث قال:" يسِّروا ولا تعسِّروا وبَشِّرُوا ولا تُنفِّرُوا "(1)، وقد جمعتُ هذا المعنى في كتاب مفرد سميته:" قبولُ البُشرى بتيسير اليُسرى "(2).

ثم إنا لا نحتاجُ إلى الاجتهاد الكاملِ في الانتفاع بمعرفة الحديثِ النبوي، بل يكفينا الاجتهادُ فيما تَمَسُّ إليه الحاجةُ في بعض المسائل، وذلك ينبني على القول بتجزي الاجتهاد، وهو مسلكٌ ظنيُّ اجتهاديٌ صحيح، قال به كثير من أهل العلم كما أوضحته في مصنف مفرد في ذلك، فليُرَاجَعْ فيه، على أن من لم يتمكَّن من ذلك، أو لم يذهب إليه يكون بقراءة الحديث مقلِّداً مرجحاً بالحديث، فتقليدُ عالمٍ محتج بحديثٍ صحيحٍ مشهورٍ أقوى عندَ أهلِ التميبز من المقلدينَ من تقليد عالمٍ محتج بقياسٍ، أو حديثٍ مشهور بالضعف عند أهل هذا الشأن. وسوف يأتي في هذا الكتاب -إن شاء اللهُ تعالى- ما أورد " السَّيِّد " على هذا والجواب عليه.

الفائدة الثالثة: قد تبيَّن للناظِر في هذا أن مذهبيَ المختارَ في عدمِ اشتراط الإحاطة بالأخبار، هو مذهبُ الأئمة الأطهار، والعلماء الأخيار، وأني لم آتِ غريباً ولا قلت بديعاً، وأني لا أستحقُّ النهيَ والإنكار، لأنَّ الإنكار على منْ قال بهذا القولِ خلافُ إجماع الأئمة والأمة والخاصة والعامة.

أما ما رُوي عن أحمد من التَّشديد في الإحاطَةِ بالجمِّ الكثير من

(1) تقدم تخريجه ص 173.

(2)

منه ثلاث نسخ بالمكتبة الغربية بالجامع الكبير بصنعاء ضمن المجاميع (96) و (119) و (206).

ص: 298

الحديث، فلم يثبت ذلك عنه، وإنما رواه الحاكم قال: حدثنا أبو علي الحافظ، قال: سمعتُ محمدَ بنَ المسيَّب، سمعتُ زكربا بن يحيى الضرير يقول: قلت لأحمد بن حنبل: كم يكفي الرجلُ من الحديث حتَّى يكونَ مفتياً؟ يكفيه مئة ألف؟ فقال لي: لا. إلى أن قال: فيكفيه خمس مئة ألف؟ قال: أرجوه. حكاها الذهبيُّ في " النبلاء ".

ولا أدري مَنْ هذا زكريا بن يحيى، ولا الراوي عنه. وفي المجروحين جماعة ممن اسمه زكريا بن يحيى، وبالجملة فهذا لا يصح القولُ به قطعاً، لأنه ليس في الموجود من أحاديث الأحكام الصحاح إلا اليسير. وقد قال الذهبي:" وقد ذُكِرَ أن محفوظَ أحمد بن حنبل كان ألفَ ألفِ حديث - ما لفظُه وكانوا يعدُّون في ذلك المكرَّر، والأثرَ، وفتوى التابعي، وما فسَّر ونحو ذلك، وإلا فالمتونُ المرفوعة القوية لا تبلُغ عشر معشار ذلك "(1) انتهى.

وعُشر المعشارِ من ذلك عشرةُ آلاف حديث، وهذا فيما يتعلق بالأحكام، وما لا يتعلق بها مما لا يلزم المجتهدُ معرفته، ومما هو مختلَفٌ في صحته.

فالذي يتعلق بالأحكامِ خاصةً، مما اتفق على صحته خمس مئة حديث مع خلاف في بعضها.

وفي ترجمة مسلم من " النبلاء "(2)، قال ابن مندة: سمعتُ محمدَ

(1)" سير أعلام النبلاء " 11/ 187.

(2)

12/ 565، 566.

ص: 299

ابنَ يعقوبَ الأخرمِ يقول -ما معناه-: قلَّما يفوتُ البخاري ومسلماً مِن الحديث.

ولما ذكر الذهبي قول أحمد بن سلمة -أن صحيح مسلم اثنا عشر ألف حديثٍ- قال: يعني بالمُكَرَّرِ بحيث إنه إذا قال: حدثنا قتيبةُ، وأخبرنا ابن رُمح يعدَّانِ حديثين اتفق لفظُهما، أو اختلفَ في كلمةٍ.

قلتُ ذكر زينُ الدين في " علوم الحديث "(1) له عن النَّواوي: أن حديثه نحو أربعة آلاف (2).

قلتُ: والَّذي يتعلَّق بالأحكام من ذلك يسير، فالذي اتفقا عليه فيها كتاب " العُمدة "(3) خمس مئة حديث.

الوجه الثاني: من الجواب على كلام " السَّيِّد " -أيده الله-: أنه أبطل صحة كتب المحدثين، وأهلِ البِدَعِ بما لا زيادةَ عليه -كما سيأتي مفصلاً مواضعه- ثم إنه عسَّر على المجتهد معرفة الحديث، وهذا يتناقض. فإن كلامَه يقتضي السهولة، لأنه إما أن يمنعَ مِن معرفة حديثِ أهل البيت عليهم السلام كما هو ظاهرُ كلامه، فإنه قد منع قبولَ المراسيلِ، وأوجب معرفةَ عدالة رجالِ الأسانيد، وهذا غيرُ موجودٍ في حديثِ أهل البيت عليهم السلام لِقبولهم للمرسل، لا لقصورهم في العلم، فحينئذٍ تحصل السهولة العظيمة، لأن ما لا يُمْكِنُ معرفةُ صحته لا يتعلَّق التكليفُ به، فيجوز الاجتهادُ حينئذ من غير معرفة لشيءٍ من الأخبار

(1) ص 27.

(2)

عدة ما في صحيح مسلم في طبعة محمد فؤاد عبد الباقي (3033) بحذف المكرر.

(3)

لعبد الغني المقدسي المتوفى سنة (600 هـ).

ص: 300

الآحادية، كما حكى أبو طالب عليه السلام أنه مذهبُ كثيرٍ من شيوخِ البغدادية والبصرية.

وإمَّا أن لا يمنعَ مِن معرفة حديثِ أهلِ البيت عليهم السلام ويُخالف هذا ظاهرَ كلامه، فحينئذٍ يسْهُلُ الأمرُ أيضاً، لأنه لا يجب علينا إلا معرفة كتابٍ واحدٍ من كُتبهم عليهم السلام: كـ " شفاء الأوام "(1) أو " أصول الأحكام "(2)، وإنما يزدادُ الأمرُ مشقةً، متى وجبت معرفة كتب المحدثين مع معرفة كُتُبِ أهلِ البيت المُطَهَّرِين عليهم السلام.

فقد أراد السَّيِّد -أيَّده الله- أن يستدِلَّ على الصُّعُوبة فدلَّ على السُّهُولَة.

الوجه الثالثُ: قال السَّيِّد -أيَّده اللهُ-: ذكر هذا كثيرٌ من العُلماء، ولم يذكر حُجَّةً، فلا يخلو إمَّا أن يُريدَ أن قولَ كثير من العلماء حجَّةٌ أم لا؟

إن أراد أنه حجة، فهو -أيده الله- ممَّن لا يخفى عليه فسادُ ذلك عند جميعِ الفِرَقِ، وإن لم يرِدْ أنه حجةٌ، فقد أورد الدعوى مِن غيرِ بيِّنَةٍ، وادعى الحقَّ من غير دِلالة، وليس هذا مِن عادة أهل العلم.

الوجه الرابع: أنه قال: ذكر هذا كثيرٌ من العلماء منهم الغزاليُّ والرازيُّ مستأنِساً بموافقتهما، محتجاً على خصمه بذلك، وليس له ذلك، لأنه مذهبُ الرجلين، ومقصدُهما نقيضُ مذهبك ومقصدك، وإنما قصدا سُقوطَ البحثِ عن الإسناد مع بقاء التعبد بأخبار الآحاد، وأنت قصدتَ

(1) تأليف الحسين بن محمد بن أحمد بن يحيى بن الهادي المتوفى 663 هـ انظر" الفهرس " 85 - 89.

(2)

اسمه الكامل: أصول الأحكام في الحلال والحرام وما يتبعها من الأحكام، تأليف شمس الدين أحمد بن سليمان بن محمد بن المطهر المتوفى سنة 566 هـ ومنه عدة نسخ في الجامع الكبير بصنعاء انظر الفهرس ص 50 - 52.

ص: 301

تحريمَ العمل بالأخبارِ، والمنعَ مِن التمسك بالسنن والآثار، فكلاًّ منهما عليك لا لك، وهما لألسنتهما منْ مِثْلِ مقالتك أزمُّ (1) وأملك. مع أنك بعد هذا رويتَ عن الغزاليِّ أنه قال: يُكتفي بتعديلِ أئمة الحديثِ (2)، فناقضتَ قولَك، وأكذبتَ نفسَك.

قال: " فإن قيل: نحن نقول بما قال الغزاليُّ: إنا نكتفي بتعديل أئمة الحديث كأحمد بن حنبل، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وعليِّ بنِ المديني، ويحيى بنِ معينٍ، ومحمد بن إسماعيل البخاريِّ، فإن هؤلاء قد تكلَّمُوا في الرواة، وبيَّنوا العدلَ مِن سِواه.

قلنا: هذا لا يصِحُّ لِوجوه؛ أحدها: أنَّا إن قبِلْنَا تعديلَهم في مَنْ كان متقدماً، فما يكون فيمن بعدَهم من الرُّواة فإن اتصالَ رواية الحديثِ من وقتنا إلى مصنفي الكتب الصِّحاح كالبخاري ومسلم على وجه الصحة متعسِّر أو متعذِّر لأجل العدالة، فإن من بيننا وبينَهم المشبهة والمجبرةُ والمرجئة ونحوهم مما يجرح به، وأقَلُّ الأحوال أن يكونوا مجهولين في هذا الاعتلال ".

أقول: قد شرع السَّيِّدُ -أيَّده اللهُ- يُبيِّنُ وجوهَ التعسُّرِ في معرفة السُّنة، وأخذ يفْتَنُّ في أساليب التنفير عن قراءة كُتُب الحديث، وقد تمسَّك في ذلك بوجوه خمسة:

الوجه الأولُ: دعوى التعذُّرِ أو التعسُّرِ في صحةِ كتبِ الحديثِ عن أهلها - دع عنكَ صحتَها عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بل أراد السَّيِّد -أيَّده الله- أن

(1) أزم بالزاي من: زمَّ الشيءَ يزمُّه زماً فانْزَم: شدّه.

(2)

على هامش (أ) ما نصه: وبمثل كلام الغزالي قال الرازي في " المحصول " والإما م- يحيى بن حمزة في " الحاوي ".

ص: 302

يُحرِّم نسبةَ ما في هذه الكتب إلى أربابها، والجواب عليه في ذلك مِن وجوه:

الأول: أنه لا فرقَ بين كتبِ الحديثِ وبينَ غيرها من سائر (مصنفاتِ) علماء الإسلام، بل كتبُ الحديثِ مختصَّة بصرفِ العنايةِ مِن العلماء إلى سماعها وضبطِها وتصحيحِها، وكِتابة خطوطِهم عليها شاهدٌ لمن قرأها بالسَّماع، ناطقة لمن سمِعَها بالإذن في روايتها، ولا يُوجد في شيء منْ كُتُبِ الإسلامِ مثلُ ما يُوجد فيها مِن العِنايةِ الكثيرة في هذا الشأن حتى صار كأن هذا خصيصةٌ لها دونَ غيرِها مِن العلماء رضي الله عنهم وتعظيمٌ لِشعارها، ورفعٌ لمنارها، ومعرفة أنها أساس العلوم الإسلامية، وركن الفنون الدينية. فلا يخلو السَّيِّد -أيَّده الله- إما أن يخُصَّها بتعفي رسومِ الإسناد إلى أربابها دونَ سائرِ المصنفات، فهذا عكسُ المعقول، لأنَّا بيَّنا أنها أقوى العلومِ أثراً في هذا الشأن، وإمَّا أن يُورِدَ هذا الإشكال على العلوم السمعية كلُّها، فهذا إشكالٌ على أهل الإسلام لأنه يلزم منه القدحُ في إسناد فقه الأئمة إليهم، وكذلك مصنفاتُ أتباعِهم، فيتعذَّرُ إسنادُ " اللمع "(1) إلى صاحبه وسائر مصنفات الفقهاء وحينئذٍ يتعذَّرُ الاجتهادُ والتقليد، أو يتعسَّران، وإذا كان كذلك، فما خصَّ علمَ الحديث بالترسُّلِ على مَنْ أراد معرفتَه، والتعسير لها، والتنفير عنها. وهلَاّ وضع السَّيِّد -أيده الله- رسالةً ثانيةً إلى مَنْ أراد قِراءة فِقه العلماء من الأئمة وغيرهم، وأخبر أنه لا يَصِحُّ معرفةُ قولهم، ونسبتُها إليهم حتى تعرف عدالة الرُّواةِ بينَنا وبينَهم، وأن ذلك متعسِّر أو متعذِّر.

(1) هو في فقه آل البيت، وصاحبه: علي بن الحسين بن يحيى بن الهادي، وفي الجامع الكبير بصنعاء الجزء الرابع منه انظر الفهرس ص 284.

ص: 303

فإن قلتَ: إنك إنَّما خَصَصْتَ كُتُبَ الحديثِ لما ذكرتَ مِن أن بينَنا وبينَهم المجبرة والمشبهة والمرجئة.

قلنا: سوف يأتي عند الكلامِ على هذه المسألة أنها مسألةُ خلاف بَيْنَ الخَلَف وأن قبولَهم إجماعُ السَّلَفِ، وأن الإنكارَ على المخالف فيها إجماعُ الخلف والسَّلَف، فأنت إمَّا أن تذهب إلى ما ذهبنا إليه من قبولهم أو سكت عن المنعِ مِن ذلك، ويسعُك في السُّكوتِ ما وَسَعِ أمَّة النبي صلى الله عليه وسلم منذ تُوفي عليه السلام إلى سنةِ تسعٍ وثماني مئة فإنه ما عُلم أحَدٌ أنكر على مَنْ ذَهَب إلى أحد المذهبين، وسيأتي الكلامُ على هذه المسألة.

الجواب الثاني: أجمعت الأمَّة على جواز إسناد ما في كتب الحديث إلى أهلها بعدَ قراءة مَنْ يُوثَقُ به من الشيوخ، والدليلُ على ذلك أن العلماءَ ما زالوا يقولُون في كتبهم: هذا الحديث رواه البخاري، أو رواه مسلم، أو غيرُهما من أهل الحديث مِن غير نكير في هذا على الرَّاوي مع كثرة وقوع هذا منذ صنفت هذه الكتبُ إلى هذا التَّاريخ وذلك قريبٌ مِن خمس مئة سنةٍ ما علمنا أنَّ أحداً من المسلمين حرَّم على مَنْ قرأها على العلماء أن يَنْسُبَ ما وَجَدَ فيها إلى مُصنِّفيها ولا حَرَّجَ في هذا حتى السَّيِّد -أيَّده الله- فإنه مع تحريمه لهذا روى عن البخاري ما زعم أنه يدلُّ على أنه مِن الجبرية كما سيأتي بيانُه في موضعه، وبيان الغلطِ على البخاري في ذلك المأخذ، فالاحتجاج على كفره بما يُوجد في كتابه فرعٌ على صحة كتابه عنه.

والسيِّد -أيَّده الله- لا يزالُ يقرأ فيها، وَينْسُبُ الحديثَ الذي فيها إلى أربابها، ويقول في تفسيره في بعض الأحاديث: رواه مسلم، وفي بعضها: رواه البخاري بهذا اللفظ. فثبتَ بذلك انعقادُ الإجماع على جواز روايتها عن أربابها، والإجماعُ حجة مقدمة على اختيارِ السَّيِّد، وقاطعة

ص: 304

للتشغيب الذي ذكره، ومزيلة للتشويش الذي أورده.

الجواب الثالث: أن العِتْرة عليهم السلام أجمعت على جواز نسبة مذاهبِ الفقهاءِ إليهم مِن غيرِ ذكر إسنادٍ، وذكْرِ عدالةِ رجاله، ومن عدل المعدل مع أن بينَنا وبيْنَ الفقهاء وغيرهم مثل ما بيننا وبين المحدثين من غير فرق، فكما يجوز إسنادُ فقه الفقهاء إليهم ولم يكنْ ذلك الاحتمالُ مانعاً منه، فكذلك يجوزُ نسبةُ ما في كتب المحدثين إليهم، ولا يكونُ الاحتمالُ مانعاً.

الجواب الرابع: أن كلام السَّيِّد -أيَّده الله- مبنيٌّ على أن المرسل غيرُ مقبولٍ، وما أدري لمَ بنى كلامَه على هذا! فالظاهرُ مِن كلام الجماهير من العِترة أنه مقبولٌ، وهو الذي نصَّ عليه المنصورُ بالله في " الصَّفوة " والسَّيِّد أبو طالب في " المجزي " والإمام يحيى في " المعيار " وجميع المصنفين من شِيعهم، وهو قولُ المالكية، وروى أبو عمر بنُ عبد البرِّ في كتاب " التمهيد "(1) عن ابن جرير الطبري العلَاّمة أنه إجماع التابعين، وهو المختارُ على تفصيل فيه، وهو قبولُ مراسيلِ الصحابة وبعضِ التابعين والأئمةِ المعروفين بالتحرِّي في الرواية، والعلة معرفة شرط المرسل في التصحيح، أو ظهور شرطه بالنص كأئمة الحديث، وهو قوي، أو بالقرائن كمراسيل الصحابة رضي الله عنهم (2).

(1) في 1/ 4 طبع المغرب ولفظه: إن التابعين أجمعوا بأسرهم على قبول المراسيل ولم يأت عنهم إنكاره، ولا عن أحد من الأئمة بعدهم إلى رأس المئتين وقال ابن عبد البر: كان ابن جرير يعني أنَّ الشافعي أول من أبى قبول المراسيل. وفيه أنه قد نقل عدم الاحتجاج عن سعيد ابن المسيب وابن سيرين، فأين الإجماع؟ فلو قيل: باتفاق جمهور التابعين، لكان صحيحاً، وقال أبو داود في رسالته إلى أهل مكة: وأما المراسيل، فقد كان يحتج بها العلماء فيما مضى مثل سفيان الثوري ومالك والأوزاعي حتى جاء الشافعي، فتكلم فيه، وتابعه على ذلك أحمد ابن حنبل.

(2)

انظر تفصيل المسألة في " توضيح الأفكار" 1/ 287 - 315.

ص: 305