الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كلام أبي طالب، من ذلك ما خرَّجه البخاريُّ، ومسلم، وأبو داود، والترمذيُّ من حديث أبي سعيد الخدري أنه كان بَيْنَ خَالِدِ بنِ الوليد، وعبدِ الرحمن بن عوف شيءٌ، فسبَّهُ خالدٌ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:" لا تَسُبُّوا أصْحابِي، فإنَّ أَحَدَكُمْ لَوْ أَنْفَق مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبَاً ما بَلَغَ مُدَّ أحدِهِمْ ولا نَصِيفَهُ "(1) والحجةُ منه في قوله في خِطاب خالد: " فإنَّ أحدَكم " وهذا محمول على أنَّه قبلَ طولِ صحبة خالد.
ومن ذلك ما رواه أحمدُ بنُ حنبل في " مسنده " عن معاوية بن قرَّة، عن أبيه قال: مَسَحَ رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسي، وفي رواية: سمعتُ أبي وكان قد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم فمسح رأسَه واستغفر له، وفي رواية: قلنا: أصحبه؟ قال: لا، ولكنَّه كان على عهده قد حلب وصر. قال الهيثمي في " مجمع الزوائد " (2) في مناقب قُرَّة المزنيِّ: رواه كُلَّه أحمد بأسانيدَ والبزَّار ببعضه، وأحد أسانيدهما رجالُه رجال الصحيح غَيْرَ معاوية بن قرَّة وهو ثقة.
ولا بُد من
الكلام في فصلين في هذه المسألة:
الفصل الأول: في بيان ظهور ما استغربه السَّيِّد
-أيَّدَه الله- من تسمية ذلك الذي ذكره المحدِّثون صحبة في الكتاب والسنة والإجماع.
(1) تقدم تخريجه في الصفحة 180.
(2)
3/ 436، وانظر " المسند " 4/ 19 و" زوائد البزار " رقم (2749) وقوله: قد حلب وصر، يقال: صر الناقة يصر صراً: شد ضرعها بالصرار -ككتاب- وهو خيط يشد فوق الخلف لئلا يرضعها ولدها. وفي " الإصابة " 1/ 232: قرة بن إياس بن هلال بن رباب المزني جد إياس بن معاوية القاضي .. قال البخاري وابن السكن: له صحبة .. ، وذكره ابن سعد في طبقة من شهد الخندق، وقال أبو عمر: قتل في حرب الأزارقة في زمن معاوية، وأرخه خليفة سنة أربع وستين.
ولنُقَدِّمْ قبلَ ذلك مقدِّمةً: وهي أنَّ الصحبة تُطْلَقُ كثيراً في الشيئين إذا كان بينَهُما ملابسة، سواءً كانت كثيرةً أو قليلة، حقيقيةً أو مجازيةً، وهذه المقدمة تُبَيِّن بما (1) ترى من ذلك في كلامِ الله ورسوله، وما أجمع العلماءُ عليه من العبارات في هذا المعنى.
أمَّا القرآن، فقال (2) الله تعالى:{فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ} [الكهف: 34] فقضى بالصحبة مع الاختلاف في الإسلام الموجب للعداوة لما جرى بينهما من ملابسة الخطاب للتقدم (3)، وقد أجمعت الأمَّة على اعتبار الإسلام في اسم الصحابي، فلا يُسمَّى من لم يُسلم صحابيَّاً إجماعاً، وقد ثبت بالقرآن أنَّ الله سمَّى الكافر صاحباً للمسلم، فيجب أن يكون اسمُ الصحابيِّ عُرفيَّاً، وإذا كان عُرْفياً اصطلاحيّاً كان لكل طائفة إن تصطلح على اسمٍ -كما سيأتي تحقيقُه- قال تعالى:{وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} [النساء: 36] وهو المرافق في السَّفَرِ، ولا شك أنَّه يدخل في هذه الآية الملازم وغيره، ولو صَحِبَ الإنسان رجلاً ساعة من نهار وسايره في بعض الأسفارِ، لدخل في ذلك، لأنَّه يَصْدُق أن يقول: صحبتُ فلاناً في سفري ساعة من النَّهار، ولأن من قال ذلك لم يرد عليه أهل اللغة، ويستهجنوا كلامه.
وأمَّا السنَّة، فكثير غيرُ قليل، وَمِنْ أوضحها ما ورد في الحديثِ الصحيحِ مِن قوله عليه السلام لِعائشة رضي الله عنها: "إنَّكُنَّ
(1) في (ج): ما.
(2)
في (ب): فقد قال.
(3)
في (ب): للمتقدم.
صَواحِبُ يُوسُف" (1) فانظر أيُّها المنصف ما أبعدَ هذا السبب الذي سمَّيت به النَّساء صواحب يوسف، وكيف يستنكر مع هذا أن يُسمّى من آمن برسول الله ووصل إليه وتشرَّف برؤية غُرّته الكريمة صاحباً له، ومن أنكر على من سمَّى (2) هذا صاحباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فليُنْكِرْ على رسول الله حين سمَّى النساء كُلَّهُنَّ صواحبَ يوسف.
ومن ذلك الحديثُ الذي أُشيرَ فيه على النبيِّ صلى الله عليه وسلم أن يقتل عبدَ الله بن أُبيٍّ رأسَ المنافقين فقال عليه السلام: " إنِّي أَكْرَهُ أَنْ يُقَال: إنَّ مُحَمَّداً يقْتُلُ أَصْحَابَه "(3) فسمَّاه صاحباً مع العلم بالنِّفاق للملابسة الظاهرة مع العلم بكُفرِه الذي يقتضي العداوةَ، ويمحو اسم الصحبة (4) في الحقيقة العرفية.
ومما يَدُلُّ على التوسع الكثير في اسم الصحبة إطلاقها بين العقلاء وبين الجمادات كقوله تعالى: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ} [يوسف: 39] ومثل تسمية ابنِ مسعود صاحب السِواد (5) وصاحب النعلين والوِسادة.
وأمَّا الإجماع، فلا خلاف بينَ الناسِ أنَّه كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا لاقى المشركين في الحرب فقُتِل من عسكر النبيِّ صلى الله عليه وسلم جماعةٌ، ومِن المشركين
(1) أخرجه أحمد 6/ 96 و109 و202 و210، والبخاري (3384) ومسلم (420)، ومالك 1/ 170، والدارمي 1/ 39.
(2)
في (ب): يسمي.
(3)
أخرجه البخاري (3518) و (4905) و (4907) ومسلم (2584)(63)، والترمذي، (3315) وأحمد 3/ 393 من حديث جابر بن عبد الله.
(4)
في (ج): الصحابة.
(5)
السَّواد: السرار، انظر " سير أعلام النبلاء " 1/ 468 - 469 بتحقيقنا طبع مؤسسة الرسالة.
جماعة أن يُقال: قُتِلَ مِن أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، ومن المشركين كذا وكذا، وبذا جرى عَمَلُ المؤرِّخين والإخباريِّين، يقولون في أيَّام صِفِّين: قُتِلَ من أصحاب عليٍّ كذا، ومن أصحاب معاوية كذا، ولا يَعْنُونَ بأصحابِ عليٍّ من لازمه، وأطال صحبتَه، بل من قائل معه شهراً، أو يوماً، أوَ ساعة. وهذا شيء ظاهر لا يستحق مَنْ قال بمثله الإنكار.
ومن ذلك أصحابُ الشافعي، وأصحابُ أبي حنيفة، وأصحاب النَّصِّ، وأصحابُ الحديثِ والفقه، وأصحابُ الظاهر، يُقال هذا لمن لم ير الشافعيَّ، ولا يصحبُه قليلاً ولا كثيراً لملابسة ملازمة المذهب، ولو دخل في مذهب الشافعيِّ في وقتٍ، لقيل له في ذلك الوقت: قد صار مِن أصحابه، من غير إطالة ولا ملازمة للقول بمذهبه، وكذا (1) تسميتُه عليه السلام صاحبَ الشفاعةِ قبل أن يَشْفَعَ هذه ملابسة بعيدة، وكذا أصحابُ الجنة قبلَ دخولها، وأمثال ذلك. وكذلك سائرُ هذه الأشياء مما أُجْمعَ على صحته. كُلُّ هذا دليل على أنَّ اسمَ الصحبة يُطلق كثيراً مع أدنى ملابسة، والأمرُ في هذا واسع، وهي لفظة لغوية، والاختلاف فيها على أُصولنا أهونُ من الاختلاف في الفروعِ الظنيَّة التي كُلُّ مجتهدٍ فيها مُصيب (2)، لأنَّ
(1) في (ج): وكذلك.
(2)
اختلف العلماء في الواقعة التي لا نص فيها على قولين، أحدهما: أنه ليس لله تعالى فيها قبل الاجتهاد حكم معين، بل حكم الله تعالى فيها تابع لظن المجتهد، وهؤلاء هم القائلون بأن كل مجتهد مصيب، وهم أبو الحسن الأشعري، والقاضي أبو بكر الباقلاني، وجمهور المتكلمين من الأشاعرة والمعتزلة، قال في " جمع الجوامع " وشرحه: والصحيح وفاقاً للجمهور أن المصيب فيها واحد، ولله تعالى فيها حكم قبل الاجتهاد، قيل: لا دليل عليه، بل هو كدفين يصادفه من شاء الله، والصحيح أن عليه أمارة، وأنه، أي: المجتهد مكلف بإصابته، أي: الحكم لإمكانها، وقيل: لا لغموضه، وإن مخطئه لا يأثم، بل يؤجر لبذله وسعه في طلبه. =
الفروع الظَّنيَّة مشتملة على التحليل والتحريم، هذه لفظة لغوية ليس تحتها ثمرة.
فأمَّا عدالةُ الصحابة وعدمها، فهي مسألة ثانية بدليل منفصلٍ عن التسمية.
وأما الاحتجاجُ بقول الصحابيِّ، وجواز تقليد المجتهد، فليس بصحيح عندنا حتى نُفرِّعه على هذه المسألة.
وأما ترتيبُ معرفة إجماعهم على هذا، فغلط، وهَّمه عبد الله بن زيد رحمه الله، لأنَّه لا يكون إجماعاً حتى يُصْفِقَ عليه أهلُ ذلك العصر: من رأى النبي صلى الله عليه وسلم ومَنْ لم يره، ومن رآه مرةً أو أكثر، لأن الحجَّة هي إجماعُ المؤمنين، لا إجماعُ مَن صَحِبَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم منهم، وهذا واضح -والله سبحانه أعلم-.
فبان لك أنَّ الأمرَ قريبٌ في هذه التسمية، وأنَّ قول السَّيِّد: إنَّ قول المحدثين باطل قول بديع، وأن المسألة أهونُ من ذلك.
وقد قال غيرُ واحدٍ من العلماء بجواز إثبات اللغة بالقياس، واختاره المنصورُ بالله في " الصفوة " ولم يُنْكِرْ ذلك أحدٌ عليهم، وهو أعزبُ من
= وفي " التحرير والتقرير ": والمختار أن حكم الواقعة المجتهد فيها حكم معين أوجب طلبه، فمن أصابه " فهو المصيب، ومن لا يصيبه، فهو المخطىء ونقل هذا عن الأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، وذكر السبكي أن هذا هو الصحيح عنهم، بل نقله الكرخي عن أصحابنا جميعاً، ولم يذكر القرافي عن مالك غيره، وذكر السبكي أنه هو الذي حرره أصحاب الشافعي عنه، وقال ابن السمعاني: ومن قال عنه غيره، فقد أخطأ عليه.
ومن أراد التوسع في هذه المسألة، فليراجع " المحصول " للفخر الرازي ج/2/ق/3/ 47 - 91 من مطبوعات جامعة الإمام محمد بن سعود.
قول المحدثين، وأكثرُ ما في الباب أن يُضَعَّف دليلُهُم، فما شأنُ الإنكارِ على من اتّهم بدعوى الاجتهاد، والسَّيِّد ذكر ذلك في الاستدلال على الشكِّ في تعذُّرِ الاجتهاد والقطع بتعسُّره، وأين ذلك الذي قصد من اسم من رأى النبي صلى الله عليه وسلم في اللغة وما بيْنَ هذين من الملابسة.
الفصل الثاني: في بيان المختار.
والمختار أنَّ ذلك أمرٌ عرفيٌّ اصطلاحيُّ يختلفُ باختلاف الأزمانِ والبُلدان، وقد يُوضَعُ في بعضِ الأزمان اصطلاح لم يكن قبلَ ذلك الزمان، مثل اسم النَّحو، فإنَّهُ اسمٌ مُوَلَّدٌ غيرُ عربي (1) وقد يصطَلِحُ بعضُ أهلِ الفنون في فَنِّهم ما لم يصطلح عليه غيرُهُم مثلَ الكلام، فإنَّه عند النحاة المفيد، وعند المتكلمين: ما تركَّبَ مِن حرفين فصاعداً، فإذا ثبت ذلك، لم يمتنِعْ أن يصطَلِحَ المحدِّثون على أمرٍ في تسمية الصحابة، ويصطَلِحَ الأصوليُّون على خلافه، ويكونَ المفهوم من اصطلاحِ كل فريق ما اصطَلَحُوا عليه، مثل ما يفهم من النحاة متى أطلقوا اسم الكلام أنَّه المفيد، وأنَّ الكلمة الواحدة لا تُسمَّى كلاماً. ويُفهم من المتكلمين متى أطلقوا ذلك خلافَ ما فهمنا من النحاة، ومثل هذا لا حَجْرَ فيه، ولا تضييق -والحمد لله-.
ومدارُ كلام السَّيِّد في هذه الأمور كلها على إنكار مخالفة المحدِّثين لاختياره -أيده الله- في التصحيح وشرائطه، وهذه غفلة عظيمة، لأن تصحيحَ الحديثِ ظنيٌّ اجتهادي، ولذلك اشتدَّ الخلافُ في شرائطه، ألا ترى أنَّ شرط البخاري غيرُ شرطِ مسلم في الرجال والاتصال، وكذلك
(1) انظر " اللسان " 15/ 309.
الاختلافُ في قبول المتأولين، والفرق بينَ الداعية وغيره، وبين من بلغ الكفرَ، ومن لم يبلغه، ومع ذلك، فالخلافُ في تصحيح الحديث، كالخلاف في فروع الفقه لا يستحق النكيرَ، وقد ذكر ابنُ حجر في مقدمة شرح البخاري (1) مما خُولِفَ البخاريُّ في تصحيحه أكثرَ مِن مئة حديث بأعيانها غيرَ ما خُولِفَ فيه من القواعد، مثل حديث عكرمة (2) وقبول عنعنة المدلسين (3) في بعض المواضع.
فالمحدثون قصدوا تدوينَ السنن على ما اختاروه في مواضع الخلاف والسَّيِّد ظن أنُّهم ادَّعوا الإجماع أو الضرورة في التصحيح، فبنى على غير أساس- وسيأتي زيادة بيان لهذا. وبقية ما ذكره السَّيِّد -أيَّده الله تعالى- يشتمل على مسألتين:
أحدهما: من قاتل علياً عليه السلام من البُغاة والخوارج
(1) ص 346 - 383.
(2)
هو عكرمة البربري أبو عبد الله المدني مولى ابن عباس، أصله من البربر، كان لحصين بن أبي الحر العنبري، فوهبه لابن عباس لما ولي البصرة لعلي، احتج به البخاري وأصحاب السنن، وتركه مسلم فلم يخرج له سوى حديث واحد في الحج مقروناً بسعيد بن جبير، وإنما تركه مسلم لكلام مالك فيه، وقد تعقب جماعة من الأئمة ذلك، وصنفوا في الذب عن عكرمة، منهم أبو جعفر بن جرير الطبري، ومحمد بن نصر المروزي، وأبو عبد الله بن مندة، وأبو حاتم بن حبان، وأبو عمر بن عبد البر وغيرهم. له ترجمة حافلة في " سير أعلام النبلاء " 5/ 12 - 36.
(3)
في " توضيح الأفكار" 1/ 355 ما نصه: وفي أسئلة الإمام تقي الدين السبكي للحافظ أبي الحجاج المزي: وسألت عما وقع في " الصحيحين " من حديث المدلس معنعناً، هل نقول: إنهما اطلعا على اتصالها. قال: كذا يقولون، وما فيه إلا تحسين الظن بهما، وإلا ففيهما أحاديث من رواية المدلسين ما يوجد من غير تلك الطريق التي في الصحيح.
قال الحافظ ابن حجر: وليست الأحاديث التي في " الصحيحين " بالعنعنة عن المدلسين كلها في الاحتجاج، فيحمل كلامهم هنا على ما كان منها في الاحتجاج فقط، وإما ما كان في المتابعات فيحتمل التسامح في تخريجها كغيرها.