الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في أحوال المعدِّلين لِحملة العلم النبويِّ -على صاحبه أفضلُ الصلاة والسلام- فلا يخلو إما أن يُريدَ أن جميعُ المتكلمين في الجرح والتعديل من أئمة العلم وأعلام الهدى مشكوك في إسلامهم، أو يريد أن الأئمة الذين أسلف ذكرهم كذلك دونَ من عداهم من أئمة هذا الشأن، ثم أيضاً إما أن يُريد أن حالهم في ذلك مجهولة له (1) -أيَّده الله- فقط، أو مجهولةٌ لجميع أهلِ العلم، فهذه أربعُ مسائل:
المسألة الأولى: أن يكونَ حالُ أولئك الذين ذكرهم مجهولةً فقط دون سائرِ أهلِ العلم
، ودونَ سائر أئمة هذا الشَّأْنِ.
الثانية: أن يكون حالُهُم مجهولةً له، ولجميع أهلِ العلم.
الثالثة: أن يكونَ جميعُ أئمة علم الرجال مجهولين له دونَ سائرِ أهلِ العلم.
الرابعة: أن يكونوا مجهولين له، ولأهل العلم.
فأما المسألتان الثالثة والرابعة، فلم يتعرض لذكرهما حتى يلزمَ الجوابُ عليه، وإنما نذكر ما تعرَّض له فقط خوفاً للتطويل، ولئلا نلزمه أمرأ قبيحاً مِن غير موجبٍ لذلك من قوله.
فلنتكلَّم على المسألتين الأولَيَيْنِ، فنقول: إما إن يدَّعيَ " السَّيِّد " الجهلَ بأحوال أولئك على جميع أهل العلم أو لا؛ إن ادَّعى ذلك، فهي دعوى باطلة، لأنَّه لا طريق إليها إلا أحد وجهين وكل واحدٍ من الوجهين باطل، وما لا طريقَ إليه إلا الباطل، فهو باطل، وكل هذه المقدِّمات
(1) في ب: عنده.
واضحة إلا انحصارَ الطريق إلى تجهيل جميع أهل العلم في وجهين، فيجب بيانها، والدليل على أنه لا طريق للسَّيِّد إلى تجهيل جميعِ العلماء بأحوال أولئك الحفاظ المشاهير: أن معرفةَ العلماء بأحوالهم وجهلهم لها مِن مكنونات الضمائر، وخفياتِ السَّرائر، وذلك مما لا طريقَ إليه إلا بالخبر، أو القياس، ولا طريقَ سِوى هذين إلى ذلك إلا علم الغيب الذي استأثر اللهُ تعالى به، وكُلُّ واحدٍ منها لا يَصِحُّ.
أمّا القياسُ، فلا يصح هنا، لأنك إما أن تقيسَ على نفسك، أو على غيرك، وكلاهما لا يجوز، لأنَّه قياس على مجرد الوجود، وهو ممنوع.
وأما الخبر، فلا يصح، لأنَّه لم يُوجد خبرٌ صادِقٌ عن الله، ولا عَنْ رسولِ الله يقضي بجهالَةِ العلماء لأحوال الرُّواة، فضلاً عن أحوالِ معدِّليهم، وكذلكَ أهلُ العلم لم يُخبروا عن أنفسهم بالجهل بذلك، فثبت أنه لا طريق للسَّيِّد -أيَّدَه الله- إلى القطعِ على أن جميعَ العلماء لا يعرفُونَ أحوال أولئك الَّذِينَ ذكر من معدِّلي الرّواة.
وبقي القسم الثاني، وهو أن يدَّعي السَّيِّد -أيده الله- أنه يجهل أحوالَهم، فهذه دعوى صحيحة مقبولة بإجماع الأمة، لأنَّ إقرارَ المسلم على نفسه بما يدخل عليه النقضَ، ولا يكون له فيه حظ، ولا على غيره منه مضرَّةٌ إقرارٌ صحيحٌ مقبول، ولكن ليس يَحْصُلُ منه منعُ جميع طلبة العلم مِن تعرُّفِ أحوال معدِّلي الرُّواة، فربّما وجدوا إلى ذلك سبيلاً، فقد قيل: من طلب شيئاً وجدَّ، وجَدَ، ومن دَق باباً وَلَجَّ، وَلَجَ.
ثم إنا لو سلمنا للسَّيِّد -أيَّدَهُ اللهُ- جهلَ جميعِ أهل العلم بأولئك الذين ذكرهم، فإن ذلك لا يَسُدُّ بابَ الرِّوايةِ، فإنَّ اللهَ لو لم يخلق أولئك
المذكورين، ما ضاع الدِّينُ، ولا بَطَلَتْ سُنَّةُ سيدِ المرسلين وأئمة الجرح والتعديل قدرَ ألفي إمامٍ، لو شئتُ لذكرتُهُم بأسمائهم، وفيهم مَنْ هو مِن الشيعة المعتدلين في صحة الاعتقاد وَمِن غيرهم مِن أهل العدلِ والتوحيد.
وقد ذكر أهلُ هذا الشأنِ في كتب الرِّجال خلقاً كثيراً من علماء الشيعة والاعتزال، وعدُّوهُمْ مِن عيون علماء الأثر، ونُقَّاد الرجال، ونسبُوا إلى كثير منهم الكلامَ في الجرح والتعديل، وعوَّلوا على كلامهم كُلَّ التعويل، وكتُب علم الرِّجال طافحةٌ بهذا.
وقد روى الحاكمُ في " شرح العيون " فصلاً في من روى عنه العدلُ مِن رواة الأخبار، وقال: نذكر منهم من اشتهر بذلك. وذكر المخالفين، فذكر من أهل المدينة اثنين وعشرين رجلاً، ومن أهل مكة عشرة، ومن أهل اليمن أربعة، ومن أهل الشام سبعةَ عَشَرَ، ومن أهل البصرة اثنين وسبعين، ومن أهل الكوفة ثمانية.
فهؤلاء مائةُ رجل وثلاثة وثلاثون، ذكرهم الحاكم أو أكثر منهم بيسير. وذكر أنه ذكر ما فيه كفاية، وأن استقصاء ذلك مما يطول به الكتابُ.
وكان فيمن ذكر من أهل المدينة: ابنُ أبي ذئب، ومحمدُ بن عجلان، وشريكٌ القاضي، وثورُ بنُ زيد، وابنُ أبي يحيى: هو إبراهيم ابن محمد (1) صاحب الموطأ الكبير وشيخ الشافعي، والوليدُ بنُ كثير،
(1) هو إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى الأسلمي أبو إسحاق المدني، وهو متروك عندهم وبعضهم كذبه، وقد اعتذر ابن حبان للشافعي في روايته عنه بأنه كان يجالسه في حداثته ويحفظ عنه، فلما دخل مصر في آخر عمره، وأخذ يصنف الكتب احتاج إلى الأخبار، ولم تكن كتبه معه، فأكثر ما أودع الكتب من حفظه، وربما كنى عن اسمه. وانظر ترجمته في " التهذيب " و" ميزان الاعتدال ".
وصالحُ بنُ كَيْسَان، ومحمَّدُ بنُ إسحاق صاحب السيرة وغيرها، ومحمدُ بنُ عبد الله بن مسلم الزُّهري (1). قال: وكان ممن خرج مع زيد بن علي، وجعفرِ بنِ محمد الصادق، ومحمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسين عليهم السلام.
ومن أهل مكة: عمرو بنُ دينار، وعبدُ الله بنُ أبي نُجيح، ومسلمُ ابن خالد الزنجي (2) شيخ الشافعي، وسفيانُ بنُ عيينة، وعبدُ الله بن طاووس، وعطاءُ بنُ يسار.
ومِنْ أهل اليمن: وهبُ بنُ منبِّه، وأخوه همَّام.
ومن أهلِ الشام: مكحولٌ، والأوزاعيُّ، وعبدُ الرحمن بن واسع.
[ومن أهل البصرة]: إياسُ بن معاوية، والمباركُ بن فَضَالَةَ، وسعيدُ بن أبي عَرُوبَة، وهشامٌ الدستوائي، ومعاذ بن هشام، وأبان بن يزيد، ويحيى بن أبي كثير، وغندر، وعبد الرحمن بن مهدي، والأشعث ابن سعيد السمَّان، ومعمر، وأبو العوَّام عمران القطّان. ومُسَدَّدُ بنُ مُسَرْهَد، ومحمدُ بن سلام.
(1) هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الإمام العلم حافظ زمانه أبو بكر القرشي الزهري المدني نزيل الشام المتوفى سنة 144 هـ. له ترجمة حافلة في تاريخ دمشق لابن عساكر، وقد استلت منه، وطبعت بعناية شكر الله بن نعمة الله قوجاني في مؤسسة الرسالة سنة 1982، وله ترجمة موسعة أيضاًً في سير أعلام النبلاء 5/ 326.
(2)
هو مسلم بن خالد المخزومي مولاهم المكي المتوفى سنة 179 أو ما بعدها، وهو فقيه صدوق إلا أنه سيىء الحفظ لا يحتج به، ولكن يصلح للمتابعة، ولقب بالزنجي مع أنه كان أشقر لمحبته التمر، قالت له جاريته: ما أنت إلا زنجي لأكل التمر، فبقي عليه هذا اللقب.
ومن أهل الكوفة: الشَّعبِيُّ (1)، وداودُ ابن أبي هِندٍ، وسلَاّم بنُ مطيع، وأبَو شهاب الَحنَّاط (2)، وعمرو بن مرَّة، ومسْعَرُ بنُ كِدام، ومحمد ابنُ شُجاع، وعلي بنُ المديني. قال: أخذ المذهبٌ عن ابن أبي دُواد (3) -هكذا ذكره الحاكم- وبهذا نَقَمَّوا عليه في كتب الرِّجال، ومن العجائب أن " السَّيِّد " ذكر خمسةُ معينين بأسمائهم من أئمة الجرح والتعديل فما سلموا له، بل غَلِطَ على أعرفهم بهذا الشأن، وفارِسِهم في هذا الميدانِ، وهو الحافظُ الجليل علي بنُ المديني المسمَّى عند رجال هذا العلم " حَيَّة الوادي "(4) لتميُّزه عن الحفَّاظ بفرطِ الذَّكاءِ، وشِدَّةِ الحفظ والتَّيقُّظِ للاستدراكات الخفِيَّة، والمعارف اللطيفة، وهو شيخُ البخاري، وشيخُ شيخِ البخاري الذُّهلي (5)، وشيخُ أبي داود صاحب السنن، وشيخُ البغويِّ (6).
قال أبو حاتِم: كان ابنُ المديني علماً في الناس في معرفة الحديث
(1) هو عامر بن شراحيل الشعبي ثقة فقيه فاضل مشهور روى له الستة.
(2)
في الأصل: الخياط وهو تصحيف، وهو موسى بن نافع الأسدي، ويقال: المدني، ويقال: البصري أخرج حديثه الشيخان.
(3)
قال الإمام الذهبي في " ميزان الاعتدال " 3/ 138: ذكره العقيلي في " الضعفاء "(لوحة 267) فبئس ما صنع، فقال جنح إلى ابن أبي دُواد، وحديثه مستقيم إن شاء الله. وابن أبي دواد: هو أحمد بن أبي دُواد فرج بن جرير بن مالك قاضي القضاة أبو عبد الله الإيادي كان فصيحاً مفوَّهاً شاعراً جواداً ممدَّحاً رأساً في الاعتزال، وهو الذي شغب على الإمام أحمد وأفتى بقتله، وبسببه وفتياه امتحن الإمام أحمد وأهل السنة بالضرب والهوان على القول بخلق القرآن. توفي سنة 240 هـ.
(4)
يقال: فلان حية الوادي: إذا كان نهاية في الدهاء والعقل.
(5)
هو محمد بن يحيى بن عبد الله بن خالد بن فارس بن ذؤيب الذهلي ثقة حافظ جليل، وقد وقع بينه وبين البخاري جفوة بسبب مسألة اللفظ. انظر التفصيل في مقدمة الفتح 490 - 491.
(6)
هو الحافظ الثقة الكبير مسند العالم أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز بن المرزبان البغوي الأصل البغدادي المتوفى سنة 317 هـ. مترجم في " تذكرة الحفاظ " 2/ 737 - 740.
والعلل، وما سمعتُ أحمدَ بنَ حنبل سمَّاه قطُّ، ولكنه كان يُكنيه تَبجيلاً له.
وعن ابن عُيينة قال: يلومونني على حُبِّ عليِّ بن المديني، واللهِ لما أتعلَّمُ مِنه أكثرُ مما يتعلَّمُ مني.
وقال أحمد بن سِنان: كان سفيانُ بن عُيينة يسمي علي بن المديني " حية الوادِي ".
وقال رَوْحُ بنُ عبد المؤمن: سمعتُ عبد الرحمن بنَ مهدي يقول: عليٌّ ابن المدينيِّ أعلمُ الناس بحديثِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وخاصة بحديث سفيان بن عُيينة.
وقال القواريري (1): سمعتُ يحيى القطَّان يقول: أنا أتعلَّمُ مِن عليٍّ أكثرُ مما يتعلَّم مني.
وقال النَّسائي: كأن عليَّ بنَ المديني خُلِقَ لهذا الشأن.
وقال إبراهيمُ بن مَعْقِل: سمعت البخاريَّ يقول: ما استصغرتُ نفسي عندَ أحدٍ إلا عند علي بن المديني.
وقال أبو داود: ابن المديني أعلم من أحمد بن حنبل باختلاف الحديث.
وقال النواوي: لابن المديني نحو من ثمانين مصنفاً، وقال الذهبي: علي بن المديني (2) حافظُ العصرِ، وقدوةُ أرباب هذا الشأن، وقال فيه: مناقب هذا الإمام جمَّة (3).
(1) هو عبيد الله بن عمر بن ميسرة القواريري ثقة ثبت من رجال الشيخين.
(2)
من قوله: وقال أبو داود إلى هنا سقط من (أ) وهو بهامش ب، وقد ذكر في نهايته: صح.
(3)
ذكر ذلك في " تذكرة الحفاظ " 2/ 428، ووصفه في " سير أعلام النبلاء " 11/ 41 =