الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
على هذا، فلا حاجة إلى إعادته هنا.
ثم إنَّا نقولُ قد بيَّن السَّيِّد المنسوخ مِن القرآن العظيم في تفسيره، فإمَّا أن يكون بنقل العدل عن العدل، فالذي سهَّل ذلك له يُسَهِّلُه لِغيره، أو يكون على غير تلك الصفة، فالسَّيِّدُ أجلُّ من ذلك، ثمَّ إن السَّيِّد ختم كلامَه بقوله: وأمَّا قول الراوي: هذا ناسخ أو منسوخ ونحو ذلك، فقد ضعُّفوه وهو أكثرُ ما يتفق.
والجواب عليه: أنَّ هذه الطريق التي ذكرها مما اختلف أهلُ العلمِ فيه، فمنهم من ذهب إلى النسخ بها كالشيخ أبي عبد الله البصريِّ، وأبي الحسن الكرخيِّ (1)، حكاه عنهما السَّيِّدُ أبو طالب في كتابه " المجزي " وقوَّى ذلك، وأطال في الانتصار له، ومنهم من منع ذلك. فقول السَّيِّد: إنَّهم ضعَّفوه، هكذا من غير احتجاجٍ مع أنَّها مسألةُ خلاف مما لا يرتضيه أهلُ البصر بعلم المناظرة والنظر، لأنَّا نقولُ: هل قال السَّيِّد ذلك، على سبيل التقليدِ لأولئك الذين ضعَّفوه كما هو ظاهر كلامه في خلوِّ الزمان عن المجتهدين، فليس له أن يحتَجَّ بتقليده، ولا هذه المسألة من مسائل التقليد، أو قال ذلك على سبيل الاجتهاد على بعد ذلك من ملاءمة رسالته، فإنها مبنيّة على استبعاد الاجتهاد، فهذا لا ينبغي منه لوجوه:
أحدها: مناقضته الكلامَ القاضيَ بعدمِ المجتهدين
.
و
ثانيها: أنَّ هذه المسألة من مسائل الخلاف الظَّنِّية
ولا معنى للترسُّلِ على من ذهب فيها إلى مذهبٍ قد سبقه إليه غيرُه من أهل العلم.
وثالثها: أنَّ هذا موضع إظهار الأدِلَّة، فلا مخبأ بعدَ بوس، ولا عِطر
(1) انظر المحصول 1/ 3/566 - 567، و" نهاية السول " 2/ 607 - 609.
بعْدَ عروس (1)، فإذا لم تستهلَّ وجوهُ الأدِلَّة في هذا المكان، فمتى يكون طلوعُ هذا البيان؟!
ثم إنُّا نبيِّنُ حُجَّة من ذهب إلى هذا المذهب الذي استضعفه السَّيِّد -أيَّده الله- ليعرف الناظرُ فيه أنَّه محتمل، غيرُ مقطوع ببطلانه فنقول: لا يَخلو إمَّا أَنْ يُريدَ أنَّ ذلكَ ضَعِيفٌ، لأنَّه لا يُفيدُ العِلمَ، أَوْ لأنَّهُ لا يُفيد الظَّنَّ، الأول ممنوع (2)، والثاني مُسلَّم، ولا يضرُّ تسليمُه.
بيانُ منع الأول أنَّه يلزم أن لا يُقبل لو أسندَ النسخَ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، لأنَّ الطريق إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال ذلك طريقٌ ظنيّةٌ، فلم يحْصُلِ العلمُ لكن السَّيِّد مُقِرٌّ بصحة هذه الطريق الظنيَّة، فدلَّ على أنَّ العلم غيرُ مشترط إلا في نسخ المتواتر على خلافٍ في ذلك شديد، وسيأتي ذكرُه -إن شاء الله تعالى- وذكرُ أدلةِ الفريقين فيه.
وبيانُ أن تسليم الثاني لا يَضُرُّ أنَّا نقول: إنَّ خبر الثقة المأمون بأنَّ هذا الحكم منسوخ، إمَّا أن لا يُفيد الظَّنَّ بصدقه لكثرة وهمه في ذلك، وحينئذٍ لا يجوز قبولُه، كمن كَثُرَ وهمُه في الحديث المرفوع، وذلك لأنَّ
(1) قال الزمخشري في " المستقصى " 2/ 263: لا عطر بعد عروس، ويروى لا مخبأ لعطر بعد عروس، وأصله أن رجلاً هُديت إليه امرأة، فوجدها تَفِلَة، فقال لها: أين الطيب؟ فقالت: خبأته، فقال ذلك. وقيل: عروس اسم رجل مات، فحملت امراته أواني العطر، فكسرتها على قبره، وصبت العطر على قبره، فوبخها بعض معارفها، فقالت ذلك. يضرب على الأول في ذمِّ ادِّخار الشيء وقت الحاجة إليه، وعلى الثاني في الاستغناء عن ادخار الشيء لعدم من يدخر له. وانظر " فصل المقال " ص 426 - 427، و" مجمع الأمثال " 211 - 212، و" تاج العروس " 16/ 243 - 244 طبعة الكويت.
(2)
في (أ) فوق كلمة ممنوع بخط دقيق ما نصه: تضعيفه، لأنه لا يفيد العلم، لأن الظن كاف هنا ما لم ينسخ معلوماً.
ذلك يقتضي الشَّكَّ المتساوي الطرفين، فالحكمُ بأحدهما ترجيحٌ لما ليس براجح من غير مرجَّح، وذلك قبيحٌ عقلاً، وإمَّا أن يُفيد الظَّنَّ الراجحَ لِصدقه، وحينئذٍ يكون القولُ بالنسخ راجحاً، والقولُ بعدمه مرجوحاً، فوجب العملُ بالراجح، لأنَّا لو لم نعمل به، لكُنَّا إمَّا أن نتوقَّفَ، أو نعمل على عدمِ النسخ، وفي الأوَّلِ المساواة بين الراجح والمرجوح، وفي الثاني ترجيحُ المرجوحِ على الراجع، وكلاهما قبيحٌ في العقل.
فإن قلتَ: إنَّه يجوز أن ينبني النسخُ على الظَّنِّ والاجتهاد.
فالجواب: ما ذكر أبو طالب في " المجزي " من أنَّ ذلك خلاف الظاهر، فإن ظاهر (1) قوله: هذا منسوخ، الخبرُ، ولهذا فإنَّه لو بيَّن مستندَه في ذلك، لم يجُزِ الرجوعُ إلى قوله: هو منسوخ، لأنَّه حين بيَّن المستندَ قد وكَل الناظرَ إلى النظر فيما أبداه من حجته، وحين أطلق القول بالنسخ ولم يُضف ذلك إلى اختياره وظنه، ولا إلى دليل معيَّن كان ظاهره الخبر.
قال: وكذا إذا قال الصحابيُّ في الشيء: إنَّه حرام، ولم يُضفْ ذلك إلى نظره، ولا استدل عليه، فإنَّ ظاهره الخبرُ في طريقة شيخنا يعني أبي عبد الله البصريِّ.
فإن قلت: إن خبر الثقة بأنَّ هذا منسوخ يجوز أن يبنيه على الوهم، فلا يجوزُ تقليدُه فيه، مثالُ ذلك أنَّ العالم قد يعتقِدُ أنَّ النَّصينِ متعارضان وليسا كذلك، ثم إنَّه يَطَّلعُ على أنَّ أحدهما متأخرٌ، وأحدهما متقدم، فيقضي بنسخ المتقدم لاعتقاده لتعارضهمما، وهذا هو حجة لمن ردَّ ذلك.
والجواب على ذلك: أنَّه لا يلزم ذلك إلا في من كَثُرَ وَهْمُهُ حتَّى كان
(1) في (جـ) ظاهر خلاف.