الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وتعالى- في هذه الآية رفع الإشكال، وبيَّن أنّ الكتابة هي الغايةُ القصوى في الاحتراز من الشَّكِّ والبعد من الرَّيْب، ونصَّ على أنَّها أقسطُ وأقومُ، وجاء بأفعلِ التفضيل، وحذف المفضَّل عليه تعميماً لتفضيل الكتابة على سائر الوجوه المبعدة من الريب، المقربة من اليقين، كما في قوله تعالى:{وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45] وفي قول المصلي.
وهذا في الشَّهادة المبنيَّة على العلم، فكيف في الاجتهاد المبنيِّ على الظنِّ، وهذا في حقوق المخلوقين المبنيَّةِ على المبالغة في الاحتراز بحيث إنَّه لا يُقبل فيها قولُ العدلِ الواحد، ولا قولُ جماعةِ العدولِ فيما يدَّعونَهُ لنفوسهم ونحو ذلك من الخصائص، فكيف في حقوق الله التي لم يُشترط فيها شيءٌ مِن ذلك. وهذه الآية حجة لمن يُجِيز الشهادة على الخطِّ المعروفِ، وهي على أصله أظهرُ في المقصود هنا، وإن كانت حُجَّة على كلا المذهبين، لأن مَنْ لا يُجِيزُ الشهادة على الخطِّ يتأوَّلُها بأنَّ الخط مذكِّرٌ لمن نسي تذكيراً يعودُ معه العلمُ الضروريُّ، فثبت أنَّ الشاهدَ لا يجب أن يكونَ حافظاً حتَّى يشهدَ، ويجوزُ أن ينسى، ثم يتذكرَ، فالمجتهدُ أولى بذلك.
الحجة الثامنة: أنَّ الجماهير قد أجازوا روايةَ لفظ النبي صلى الله عليه وسلم بالمعنى
، ولم يُوجِبُوا حفظَه بلفظه، واحتجُّوا على ذلك بحجج أقواها رواية الحديث للعجم بلسان العجم، ومنها إجماعُ الصَّحابة على جوازِه حيثُ يروون الحديثَ الواحِد في الواقعة الواحدة بألفاظ مختلفة من غير مناكرة بينهم. فإذا تقرر هذا الذي ذهب إليه الجمهورُ، والذي قامت عليه الأدِلَّةُ أنَّه لا يجبُ حِفْظُ لفظِ حديث رسولِ الله صلى الله عليه وسلم على من سمعه منه عليه السلام بغير واسطة، فكيف يجب على من بلغه حديث
بوسائط كثيرة أن يحفظ ألفاظَهم التي لا يدري: أهي لفظُ النبي صلى الله عليه وسلم أم (1) معنى لفظه؟
الحجة التاسعة: أجمعت جماهيرُ العِترة الطاهرة عليهم السلام على اختيار الإمام في الاجتهاد ولم يزل الأعيان من سادات أهلِ البيتِ والعلماء من شيعتهم يختبرون كُلَّ مَنْ دعا إلى الإمامة منذ عصورٍ كثيرة، وقرونٍ عديدة، فلم نعلم أنَّ أحداً منهم اختبر أحداً من الأئمة في حِفْظِ أقوالِ اللهِ وأقوالِ رسوله ومسائلِ الإجماع عن ظهر قلبه مع تعرُّضهم لامتحان الأئمة في جميع شرائط الاجتهاد ومع تعنُّتِ كثيرٍ منهم في الاختبار. وكذلك الأئمةُ لم يختبروا القضاةَ في ذلك، وكذلك من اعتقد اجتهاد عالم من المتقدِّمين، وأراد تقليده، وكان ممن يستجيز ذلك، فإنه لم ينقل عن أحد أنَّه يلزمه أن يبحثَ حتَّى يظن أنَّه كان يحفظ أقوال اللهِ، وأقوالَ رسوله، ومسائلَ الإجماع عن ظهر قلبه، وهذا يُفيد ظهور الإجماع على عدم وجوب ذلك.
الحجة العاشرة: ثبت عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "إنَّ اللهَ فَرَضَ فَرَائِضَ، فلا تُضَيِّعُوهَا، وَحدَّ حُدُوداً فَلا تعْتَدُوهَا، وَسكَتَ عنْ أشْيَاءَ رَحْمَةً بِكُمْ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ فلا تَتَعرَّضُوا لَهَا" رواه النَّواوي في " الأربعين "(2) المسمّاة بـ " مباني الإسلام " وقال: هو حديث حسن،
(1) في (أ) و (ج): أو.
(2)
ص 261 بشرح الحافظ ابن رجب الحنبلي المسمى (جامع العلوم والحكم) وهو حديث حسن بشواهده رواه الدارقطني: 502، والحاكم 4/ 115، والبيهقي 10/ 12 - 13 من طرق عن داود بن أبي هند، عن مكحول، عن أبي ثعلبة الخشني، وهذا سند رجاله ثقات إلا أن مكحولاً لا يصح له سماع من أبي ثعلبة، وله شاهد من حديث أبي الدرداء بلفظ " ما أحلَّ الله في كتابه، فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه، فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسى شيئاً، ثم تلا هذه الآية {وما كان ربك نسيا} أخرجه الحاكم =
ويشهد له ما ثبت في " الصحيحين " عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: " ما نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ ومَا أمَرْتُكُم بِهِ فأتُوا مِنْه ما اسْتَطَعْتُمْ، فَإنَّما أهْلَكَ: مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَثْرَةُ مَسَائِلِهمْ واختلافُهُم على أنْبِيَائِهِمْ "(1).
وهذا مِن جملةِ ما سَكَتَ الله عنه ورسولُه، ولم يَحْصُلْ فيه قياسٌ صحيحٌ يقْوَى على تخصيصِ هذه العموماتِ، وَقَدْ أذِنَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لجماعةٍ منْ أصْحَابِهِ بالقضاءِ والفُتيا، وَسَكَتَ عن هذَا ولم يُبَيِّن لهم أنَّه شرطٌ في ذلك.
وقد ثبت بالإجماع أنَّ علينا أن نَقْضِيَ بكتاب اللهِ، ثم بِسُنَّة رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وهذه سنةُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم دلَّت على أن الله سَكَتَ عن إيجابِ حفظِ أقوالِهِ وأقوالِ رسولِهِ رحمةٌ لنا مِنْ غيرِ نسْيَانِ، فَقَبِلْنَا رحمَة اللهِ تعالى لنا، وَشَكَرْنَا نعمته سبحانَه علينا، ولم نَتعَرَّضْ لِمَا لم نُؤْمرْ به في كتابِ ربِّنا ولا في سُنَّةِ نَبِيِّنا، ولم نَكُنْ مِن الَّذِينَ قَال الله تعالى فيهم:{وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} (2)[النساء: 66].
= 2/ 375 وصححه، والبيهقي 1/ 12، وقال الهيثمي في " المجمع " 7/ 75 بعد أن عزاه للبزار: ورجاله ثقات، وفي الباب عن سلمان الفارسي قال:" سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السمن والجبن والفراء، فقال: الحلال ما أحل الله في كتابه، وما سكت عنه، فهو مما عفا عنه " وسنده ضعيف. وانظر " مجمع الزوائد " 1/ 171 - 172.
(1)
أخرجه من حديث أبي هريرة البخاري (7288) ومسلم (1337) والنسائي 5/ 110، وابن ماجة (2) والبغوي (99) وابن حبان (19) بتحقيقنا، والترمذي (2681) وأحمد 2/ 247 و258 و428 و447 و448 و457 و467 و508 و517.
(2)
قال أبو جعفر الطبري في " جامع البيان " 8/ 528: يعني -جل ثناؤه- بذلك: ولو أن هؤلاء المنافقين الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أُنْزِلَ اليك، وهم يتحاكمون إلى الطاغوت، ويصدون عنك صدوداً - {فعلوا ما يوعظون} يعني ما يذكرون به من طاعة الله، والانتهاء الى أمره {لكان خيراً لهم} في عاجل دنياهم وآجل معادهم، و {أشد تثبيتاً}: وأثبت لهم في أمورهم =
الحُجَّة الحادية عشرة: قالَ صاحبُ كتابِ " الإجماع " في آخره: أجْمَعوا على أنَّ حِفْظ شيء مِن القرآن واجبٌ، وعلى أنَّ من حَفِظَ الفاتحَةَ مع البسملَةِ قَبْلَهَا، وسورةً أخرى معها، فقد أدَّى فرضَ الحفظ، وأنَّه لا يلزمُهُ حِفظٌ أكثرُ من ذلك (2). انتهي من كتاب الرَّيمِيِّ (3) الجامِعِ لكتب ابن حزم وابن المنذر (1) وابنِ هُبيْرَةَ (2) في الإجماعِ.
وفي هذه الحُجَجِ كفايةٌ إن شاء اللهُ تعالى، ثُمَّ بعدَها نذكر حُجَجَ
= وأقوم لهم عليها، وذلك أنَّ المنافق يعمل علي شك، فعمله يذْهَب باطلاً، وعناؤه يضمحلُّ، فيصير هباء، وهو بشكله يعمل على وفاء وَضَعف، ولوعمل على بصيرة، لاكتسب بعمله أجراً، ولكان له عند الله ذخراً، وكان على عمله الذي يعمل أدرى، ولنفسه أشد تثبيتاً، لإيمانه بوعد الله على طاعته، وعمله الذي يعمله.
(2)
النص في " مراتب الإجماع " ص 156 لابن حزم، لكن فيه لفظ " اتفقوا " بدل " أجمعوا "!!
(3)
هو الإمام الفقيه العلامة جمالُ الدين محمد بن عبد الله الحثيثي الرَّيْمي اليمني الشافعي المتوفى سنة 792 هـ. من مؤلفاته " شرح التنبيه " في أربعة وعشرين سفراً، و" اتفاق العلماء "، و" المعاني البديعة في اختلاف علماء الشريعة " وغير ذلك. مترجم في " الدرر الكامنة " 3/ 486 و" العقود اللؤلؤية " 2/ 218، و" شذرات الذهب " 6/ 325، و" كشف الظنون " 49، و" إيضاح المكنون " 1/ 21 و435 و2/ 505.
(1)
هو الإمام الحافظ الفقيه أبو بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري المتوفى سنة 318 هـ صاحب التآليف المهمة النافعة في الإجماع والخلاف وبيان مذاهب العلماء، ترجمه الإمام الذهبي في " سير أعلام النبلاء " 14/ 490 - 493، ونقل فيه قولَ الإمام النووي: له مِن التحقيق في كتبه ما لا يُقاربه فيه أحد، وهو في نهايةٍ من التمكن من معرفة الحديث، وله اختيار، فلا يتقيد في الاختيار بمذهب بعينه، بل يدور مع ظهور الدليل.
وعلق الإمامُ الذهبي على كلام النووي، فقال: ما يتقيد بمذهب واحد إلا من هُوَ قَاصِرٌ في التمكن من العلم، كأكثرِ علماء زماننا، أو مَنْ هو متعصب، وهذا الإمام، فهو من حملة الحُجَّةِ، جارٍ في مضمار ابن جرير وابنِ سُريج، وتلك الحَلَبَة رحمهم الله.
قلت: وكتاب الإجماع نشر في دار طيبة بالرياض سنة 1982 م بتحقيق أحمد بن محمد حنيف.
(2)
هو أبو المظفر الوزير يحيى بن محمد بن هبيرة بن سعيد بن المحسن بن أحمد بن =
" السَّيِّدِ " التي احتَجَّ بها على أنَّه يجبُ حفظ أقوالِ اللهِ، وأقوالِ رسوله، وأقوالِ الأمَّةِ عن ظهرِ قَلْبٍ.
قال: ولا يغرَّنَّكَ قولُ الغزاليِّ (3) أو غيرِه: يكفيهِ أن يحْفَظَ في كُلِّ فَنٍّ مختصراً، ولا يلزَمُهُ حفظُهُ عن ظهرِ قلبِهِ، بل يكفيهِ أن يعْرِفَه نَظَراً، فإنَّ ذلِكَ غيرُ صحيحٍ ألا ترى إلى قولِه:
مَا العِلْمُ إِلَاّ مَا حَوَاهُ الصَّدْرُ
…
لَيْسَ بِعلْمٍ مَا يَعِي القِمطْرُ (4)
أقولُ: قد احتَجَّ " السَّيِّد " بثلاثِ حُجَجٍ هذه أُولاها وما أدري مما عُذْرُ " السَّيِّدِ " في تصديرِ الاحتِجَاجِ بقولِ الشاعر في مسألة مِن قوعِدِ الدِّين التي يَنْبنِي عليها كثيرٌ مِن مسائل الإسلامِ من الإمامَةِ العُظْمَى، ومرتبتي
= الحسن الشيباني الدوري البغدادي الحنبلي المتوفى سنة 560 هـ. مترجم في " سير أعلام النبلاء " 18/.
قال ابن الجوزي في " المنتظم " 10/ 214: كانت له معرفة حسنة بالنحو واللغة والعروض، وتفقه وصنف في تلك العلوم وكان متشدداً في اتباع السنة، وسير السلف.
وقال ابن رجب في " ذيل الطبقات " 1/ 252: صنف الوزير أبو المظفر كتاب " الإفصاح عن معاني الصحاح " في عدة مجلدات، وهو شرحُ صحيحي البخاري ومسلم، ولما بلغ فيه إلى حديث " من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين " شرح الحديث، وتكلم على معنى الفقه، وآل به الكلامُ إلى أن ذكر مسائل الفقه المتفقَ عليها والمختلفَ فيها بين الأئمة الأربعة المشهورين، وقد أفرده الناسُ من الكتاب، وجعلوه مجلدةً مفردة، وسَمَّوه بكتاب " الإفصاح " وهو قطعة منه.
قلت: وقد طبع هذا الجزء بعناية علامة حلب الشيخ راغب الطباخ، مصدراً بترجمة حافلة للمؤلف.
(3)
في " المستصفي " 2/ 350 - 351.
(4)
القِمَطْر: ما يُصان فيه الكتب، وهو شبه سَفَطٍ يُسَفُّ من قَصَبٍ، والبيت غيرُ منسوب في " الصحاح " و" اللسان " و" العُباب " و" تاج العروس " وروايته عندهم:
لَيْسَ بِعِلْم ما يَعِي القِمَطرُ
…
ما العِلْمُ إلَاّ مَا حَوَاهُ الصَّدْرُ
القضاءِ والفتيا، وهذه الأمور هي التي تَدُورُ عليها رَحَا المصالِحِ الإسلاميةِ وَترْجِعُ إليها أمهاتُ القواعِد الدينيّةِ، وهذا شيءٌ لم يَسْبِقْ إليهِ أحدٌ من العلماءِ، ولو كان قولُ الشاعِرِ حُجَّةً في الحلالِ والحرام، ومهمَّات قواعِدِ الإسلام، لم يَعْجِزْ أحدٌ عن الاحتجاجِ على كُلِّ ما أراد، فإنَّ في كُلِّ طائفةٍ شعرَاءَ، وفي كُلِّ فرقةٍ بُلغاءَ، يُجيدُونَ الأشعارَ وُيحَبِّرون القصائدَ.
تم بعونه تعالى الجزء الأول
من
العواصم والقواصم
ويليه الجزء الثاني وأوله
قال: ويروى عن الشافعي أنه
…