الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهو حديث مَشهور مُتَلقّى بالقبول، وقد خالف بعضُ أهلِ الحديث في صحَّتهِ على وفق شروطهم، وَطَعنَ فيه بأنه مَرويٌّ عن ناسٍ من أهلِ حِمْص من أصحاب معاذ عن معاذ رضي الله عنه.
وأجيبُ عن هذا بوجوه:
الأول: أن له شواهد كثيرة من طُرقٍ متعددة، فقد قال الحافظ ابنُ كثير البصروي (1): هو حديثٌ حسنٌ مشهورٌ اعتمد عليه أئمةُ الإسلام في إثباتِ أصل القياسِ، وقد ذكرتُ له طرُقًا وشواهدَ في " جزءٍ مفرد " فلله الحمد. انتهى.
الثاني: أنَّ كونَهم جماعة، يُقَوِّيهِ
، وكونهم مِن أصحاب معاذ يُعَرِّفُهم بعض التَّعريف، فالظاهر مِن أصحاب معاذ أنَّهم من أهلِ الخير.
الثالث: أنَّ كتب الأئمةِ والأصوليين وأهل العدل متضمنةٌ للاحتجاج به
، قاضية بصحته، فقد احتج به السَّيِّد الإمام أبو طالب في آخر كتاب " المجزىء " فقال -ما لفظه-: وهذا الخبرُ قَد تلقَّاه العلماءُ بالقبُولِ، وقد احتجَّ به الشيخُ أبو الحسين (2) في " المعتمد "، ورواه الترمذي وأبو داود
(1) يغلب على الظن أن كلامه هذا في الكتاب الذي خرج فيه أحاديث مختصر ابن الحاجب في الأصول، واسمه " تذكرة المحتاج في تخريج أحاديث المنهاج " ومنه نسخة في فيض الله (283) باستنبول.
(2)
هو أبو الحسن محمد بن علي بن الطيب البصري المتكلم شيخ المعتزلة في عصره، والمنافح عن آرائهم بالتصانيف الكثيرة، وكتابه " المعتمد " في أصول الفقه، وهو شرح لكتاب " العهد " للقاضي عبد الجبار، وهو أحد الكتب الأربعة التي عول عليها الفخر الرازي في كتابه المحصول، واستمد منها. توفي سنة 432 هـ في بغداد، وصلى عليه القاضي أبو عبد الله الصيمري، ودفن في مقبرة الشونيزي. انظر " وفيات الأعيان " 4/ 271.
في " سُنَنِهما " وقال الأمير الحسينُ بنُ محمد في كتاب " شفاء الأوام "(1): إنَّهُ حديث معلوم.
وأمَّا قولُ الترمذي (2): لا نعرفُهُ إلا من هذا الوجه، وليس إسنادُه عندي بمُتَّصل. فلا يُعتَرَضُ به على ما ذكرناه، لأنَّ غيرَ الترمذي قد عرفه مِن غير ذلك الوجه، وَمن عرف حجةٌ على مَنْ لم يَعْرِفْ.
ووجهُ الدلالة في الحديث -على ما ذكرناه-: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قرَّرَه على الاجتهاد عند أن لا يجد النَّصَّ، لا عند عدمِ النَّص. ولا شكَّ أن الفرقَ بينهما ظاهر وقد نَصَّ الله تعالى على جواز التيمم عند أن لا يجدَ الماء قال اللهُ تعالى:{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43]، وفَهِمَ أهلُ اللغةِ: أن المعتبرَ في ذلك أن لا يَظُنَّ وجودَ الماء في الأماكنِ القريبة، وأجمعَ العلماءُ على ذلك، فإنَّ الماء موجودٌ في البحار معلوم أنه لم يَخْلُ من جميع الأقطار، وكذلكَ قولُ النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ: " فإن لم تجد
…
" فإنَّهُ يقتضي أن المعتبرَ الظَّنُّ، وأنَّهُ لا يجب على المجتهد الطلبُ للنَّصِ إلا في بلدهِ.
أما أنَّ المعتبر الظَّنُّ، فلأن عدم الوجدانِ لا يدلًّ على عدم الوجود -كما تقدم- وقد يتذكرُ الإنسانُ الشيء، ويتطَّلبُهُ فلا يجده، ولا يهتدي إليه، ثمَّ يَذْكرُهُ بعدَ ذلك، وهذا معلوم.
(1) في التمييز بين الحلال والحرام، ومنه عدة نسخ في المكتبة الغربية بالجامع الكبير بصنعاء انظر وصفها في الفهرس 85 - 89 ومؤلفه: هو الحسين بن محمد بن أحمد بن يحيى من نسل الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين من علماء الزيدية وفقهائهم. توفي سنة 662 هـ.
تاريخ اليمن للواسعي: 32.
(2)
في " سننه " 3/ 617.
وأما أن المجتهد لا يَلْزمُهُ طلبُ النَّص بغير بلده، فلأنَّهُ عليه السلام لم يُلْزمْ معاذاً أن يَطْلُبَ النَّصَّ منه عليه السلام من المدينة، مع العلم بأنَّه عليه السلام لو سئلَ عن الحكم، لَنَصَّ على الجواب، فكيف يجب على المجتهدِ الطلبُ مع تجويزه أن لا يجدَ النَّصَّ؟ وهذا معاذٌ لم يَجبْ عليهِ الطَّلبُ مع علمهِ بأنه يجدُ النَّصَّ، وقد رويَ هذا القولُ عن أبي الحسين، والله أعلم.
الحجة الثالثة: أنَّهُ قد ثبت عن أميرِ المؤمنين علي عليه السلام أنه قالَ: كنْتُ إذا سَمِعتُ مِن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حديثاًً نفعني اللهُ بما شاءَ أن ينفعني منه، فإذا حدثني عنه غيرُهُ حَلَّفتُهُ، فإن حلف صَدَّقتُهُ، وحَدَّثني أبو بكر، وصدقَ أبو بكر (1). رواه الإمام المنصور بالله في كتاب " الصفوة " بهذا اللفظ، ورواه أيضاًً الإمام أبو طالب عليه السلام، ورواه الحافظ ابن الذهبي في " تذكرته " (2) وقال: هو حديثٌ حسن، رواه مِسْعَرُ، وشريكُ، وسفيانُ، وأبو عَوانةَ، وقيسٌ، كُلُّهم عن عثمانَ بنِ المغيرة الثَّقفي، عن علي بن ربيعةَ، عن أسماء بنِ الحكم الفزاري: أنه سَمعَ عَلياً يقول
…
وساقَ الحديث، وفيه بعدَ قولهِ: وصدق أبو بكر. قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " مَا منْ عَبْدٍ يُذْنِبُ ذنباً ثُمَّ يَتَوَضَّأ ويُصَلِّي ركْعَتَيْن، ثُمَّ يسْتَغْفِرُ اللهَ إلا غَفَرَ اللهُ لَهُ "(3).
(1) سيأتي تخريجه قريباً.
(2)
1/ 10 - 11.
(3)
رواه أحمد (2) و (47) و (56) وأبو بكر المروزي في مسند أبي بكر (1) وأبو يعلى في " مسنده "(1) والطيالسي (1)، والترمذي (406) و (3009) والبغوي (1015) وابن جرير (7853) و (7854)، والحميدي (1) وابن ماجه (1395) وإسناده صحيح، وصححه ابن حبان (2454) وأورده السيوطي في " الدر المنثور " 2/ 77 وزاد نسبته لابن أبي شيبة، =
ووجهُ الدِّلالةِ من هذا الحديث: أنَّ قَبُولَه عليه السلام لِحديث غيره دليلٌ على أنَّهُ لم يعلم أنه قد أحاط بالنصوص، وإذا كان عليه السلام غيرَ محيطٍ بالنصوص حتى احتاج إلى حديث من يُتَّهَمُ، ولا تطيبُ النفسُ بحديثه إلا بعدَ اليمينِ، مع الإجماع على أنه عليه السلام مجتهد قبل أن يعلم بذلكَ الحديثِ الذي سَمِعَهُ، بل كان مجتهداً في زمن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فلا شَكَّ أن ذلك يدلُّ على أنَّ المجتهدَ لا يجب عليه أن يُحيطَ بالنصوص، لأنه عليه السلام أعلمُ هذِهِ الأمةِ على الإطلاق.
وقد نصَّ المؤيد بالله (1) في " شرح التَّجريد " على: أنَّهُ لا يجب أن يكون عليٌّ عليه السلام قد عرَفَ جميعَ النصوص وأنه يجوز أن يعْرِفَ النَّصَّ، وَيشْتَبِهُ عليهِ المرادُ. ذكره في بيع أُمِّ الولد.
الحجة الرابعة: ما ثبت في " الصحيحين " عن البراء بن عازب قال: خرجَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم -يعني مِن مكة-، فَتبِِعَتْهُمُ ابْنَة حمزة، تنادي: يا عمّ، يا عمَ فتناولَها عليٌّ، فأخذها بيدها، فاختصم فيها عليٌّ وزيدُ وجعفرٌ، فقال عليٌّ: أنا أحقُّ بها، وهي ابنةُ عَمِّي، وقال جعفر: ابنةُ عَمِّي، وخالتُها تحتي، وقال زيدٌ: ابنةُ أَخي. فقضى بها النبيُّ صلى الله عليه وسلم لخالتها، وقال:" الخالَةُ بِمَنْزِلَةِ الأُمِّ "(2).
= وعبد بن حميد، والنسائي، والدارقطني، والبزار، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في " الشعب ".
(1)
هو أحمد بن الحسين بن هارون بن الأقطع، وقد تقدمت ترجمته في ص 191 رقم (1)، وشرح التجريد هو في عدة مجلدات، انظر وصفها في فهرس مخطوطات الجامع الكبير بصنعاء ص 262 - 264.
(2)
رواه البخاري (2699) و (4251) وهو من أفراده وليس في صحيح مسلم كما توهم =