الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشهادة، والشهادة مبنيَّة على العدالة، وهما لا يعرفانِ أهلَ اليمن، ولا يخبُرانِ عدالَتَهم، وهم بغيرِ شكٍّ لا يَجِدُونَ شهوداً على ما يجري بينَهم من الخصوماتِ إلا منهم، فلولا أنَّ الظاهِرَ العدالةُ في أهلِ الإسلام ذلك الزَّمان، وإلا ما كان إلى حكمهما بَيْنَ أهلِ اليمن على الإطلاق سبيل.
الأثر الخامسُ: ما ثبت عن عليٍّ عليه السلام أنه كان يستحلِف بعضَ الرُّواة، فإن حلف صدَّقه (1). وقد قدَّمنا أنه رواه المنصورُ بالله محتجاً به، وكذلك الإمامُ أبو طالب. وقال الحافظ ابنُ الذهبي: وهو حديثٌ حسنٌ.
والتحليفُ ليس يكون للمخبورين المأمونين، وإنما يكون لمن يُجْهَلُ حالُه، ويجب قبولُه فيقوى عليه السلام بيمينه طيبةً لنفسه، وزيادةً في قوة ظنه. ولو كان المستحلَفُ ممن يَحْرُمُ قبولُهُ، لم يحلَّ قبولُه بعدَ يمينه.
وفي هذا أعظمُ دليل على أنه عليه السلام إنما اعتبر الظَّنَّ في الأخبار.
الأثرُ السادسُ: حديثُ الجارية السَّوداءِ
راعيةِ الغنم التي أراد عليه السلام أن يتعرَّفَ إيمانَها، ويختبِرَ إسلامها، فقال لها: منْ رَبُّكِ؟ فأشارت، أي: ربها الله، وسألها: من أنا؟ فقالت: رسولُ الله، فقال عليه السلام:" هي مؤمنة ". والمؤمن مقبول. وقد وصف الله رسول الله صلى الله عليه وسلم بتصديقه للمؤمنين في قوله تعالى في صفته: {وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 61] فهذه الجارية حكم عليه السلام بإسلامها مِن غير اختبار، بل لم يَكنْ يَعْرِفُ أنَّها مسلمة إلا حينئذٍ، وحديثُها هذا حديثُ
= وفي البخاري (4341) و (4345) ومسلم (1733) أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا موسى الأشعري ومعاذاً إلى اليمن، فقال: " يَسِّرا ولا تعسِّرا وبشِّرا ولا تنفِّرا وتطاوعا
…
".
(1)
تقدم تخريجه ص 284.
ثابتٌ خرَّجه مسلم في الصحيح (1)، ورواه الشافعي عن مالك. ذكره ابنُ النَّحويِّ في " البدر المنير" وله طُرُق جَمَّةٌ ذكرها ابنُ حجرٍ في " تلخيصه "(2) ويأتي ذكرُها في مسألة الوعيد.
(1) أخرج مسلم (357)، وأبو عوانه 2/ 141، وأبو داود (930) و (931)، وابن أبي شيبة (84) في الإيمان، والنسائي 3/ 14، والدارمي 1/ 353، وابن الجارود في المنتقى ص 113 - 114، والطيالسي (1105) وأحمد 5/ 447 - 448. والبيهقي في " سننه " 2/ 249 - 250 و7/ 387، وفي الأسماء والصفات ص 421 - 422. وابن حبان (165)، وابن خزيمة في " التوحيد " 122، وعثمان بن سعيد في " الرد على الجهمية " 21، 22، والطبراني في " الكبير " 19/ 98 و398، وابن أبي عاصم في " السنة "(489)، وابن عبد البر في " التمهيد " 7/ 135 كلهم من طريق يحيى بن أبي كثير، عن هلال بن أبي ميمونة، عن عطاء بن يسار، عن معاوية بن الحكم السلمي قال: قلت: يا رسول الله إنه كانت لي جارية ترعى قبلَ أحد والجوانية، فاطلعت ذات يوم، فوجدتُ الذئب قد ذهب بشاة من غنمها وأنا رجل من بني آدم آسف كما يأسفون، فصككتُها صكة، فعظم ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله أعتقها؟ قال: ائتني بها، فأتيته بها، فقال لها: أين الله؟ قالت: في السماء، قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال: أعتقها فإنها مؤمنة.
وأخرجه مالك في " الموطأ " 2/ 776 - 777، ومن طريقه الشافعي في " الرسالة "(242) عن هلال بن أسامة، عن عطاء بن يسار، عن عمر بن الحكم قال: أتيت رسول الله بجارية، فقلت: يا رسول الله، علي رقبة أفأعتقها؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أين الله؟ قالت: في السماء، فقال: ومن أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال: فأعتقها ".
قال الإمام السيوطي في " تنوير الحوالك " 3/ 5: قال النسائي: كذا يقول مالك: عمر ابن الحكم، وغيره يقول: معاوية بن الحكم السلمي، وقال ابن عبد البر: هكذا قال مالك: عمر بن الحكم، وهو وهم عند جميع أهل العلم بالحديث، وليس في الصحابة رجل يقال له: عمر بن الحكم، وإنما هو معاوية بن الحكم، كذا قال فيه كل من روى هذا الحديث عن هلال أو غيره ومعاوية بن الحكم معروف في الصحابة، وحديثه هذا معروف له، وممن نص على أن مالكاً وهم في ذلك البزار وغيره.
وأما رواية المؤلف -وقد رواها بالمعني- فهي في " المسند " 2/ 291، وسنن البيهقي 7/ 388 وفي سنده عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة المسعودي -وكان قد اختلط- وراويه عنه وهو يزيد بن هارون قد سمع منه أحاديث مختلطة. وانظر لزاماً سنن البيهقي 7/ 387، والأسماء والصفات ص 422 - 423، والتمهيد 7/ 135.
(2)
3/ 222 - 223.
الأثر السابع: أن الأعرابيَّ الكافِرَ كان يأتي النبيَّ صلى الله عليه وسلم فَيُسْلِمُ، فيأمرُه عليه السلام إلى قومه داعياً لهم إلى الإسلام، ومعلماً لهم ما علمه النبيُّ صلى الله عليه وسلم من شرائعه فلولا عدالتُه ما أقرَّه على ذلك، ولا أمره به، ولقال له: إنَّه لا يَحِلُّ لقومك أن يعملوا بشيءٍ مما علمتهم مِن شرائع الإسلام حتى يختبروك بعدَ إسلامك، وهذا كثير في السيرة النبوية، وكتب السُّنة مثل خبرِ الطُّفيل بنِ عمرو (1) وغيره.
الأثر الثامن: حديثُ عقبة بن الحارث المتفق على صحته (2) وفيه أنَّه تزوَّجَ أمَّ يحيى بنت أبي إهاب، فجاءت أمةٌ سوداء، فقالت: قد أرْضَعْتُكُما، فَذَكَرْتُ ذلك لِلنبيِّ صلى الله عليه وسلم فأعرضَ عَنِّي، قالت: فتنحيتُ، فذكرتُ ذلك له. قال: وكيفَ قد زَعَمَتْ أنْ قَدْ أرْضعَتْكُمَا؟ -هذا لفظُ
(1) في الأصل: عامر، والتصحيح من " أسد الغابة " 3/ 78، والاستيعاب 2/ 230، والإصابة 2/ 255، قال ابن عبد البر: هو الطفيل بن عمرو بن طريف بن العاص بن ثعلبة بن سليم بن فهر بن غنم بن دوس الدوسي من دوس، أسلم وصدق النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، ثم رجع إلى بلاد قومه من أرض دوس، فلم يزل مقيماً بها حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر بمن تبعه من قومه، فلم يزل مقيماً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قبض صلى الله عليه وسلم، ثم كان مع المسلمين حتى قتل باليمامة شهيداً، وانظر خبر إسلامه مطولاً في " أسد الغابة " 3/ 68 - 81، وشرح المواهب 4/ 37 - 41، و" زاد المعاد " 3/ 624 - 628 بتحقيقنا، وفي البخاري (2937) و (4392)(6397) ومسلم (2524) وأحمد 2/ 243 و448 و502، والحميدي (1050) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء الطفيل بن عمرو إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إن دوساً قد هلكت، عصت وأبت، فادع الله عليهم، فقال:" اللهم اهْدِ دوساً وائت بهم ".
(2)
هو في البخاري (88) و (2052) و (2640) و (2659) و (2660) و (5104) وليس هو في مسلم كلما توهم المؤلف كما في " تحفة الأشراف " 7/ 299 - 300، وأخرجه الترمذي (1161) وأبو داود (3586) و (3587) وأحمد 4/ 7 و8 و383 و 384، وعبد الرزاق (13967) و (15436) والطبراني في " الكبير " 17/ 351 - 354، والنسائي كما في " التحفة ".
البخاري ومسلم (1) - وفيه اعتبارٌ خبرِ هذه الأمَةِ السوداءِ، والفرقُ بَيْنَ زوجين بكلامهما، ولم يأمره بطلاقٍ، ولا أخبره أنَّ ذلك يُكره مَع الجواز. وفي رواية الترمذي (2): أنه زعم أنها كاذبة، وأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم نهاه عنها. وهو حديث حسن صحيح.
وقال ابنُ عباس: تُقْبَلُ المرأةُ الواحِدة في مِثْلِ ذلك مع يمينها. وبه قال أحمد وإسحاق.
قلتُ: إنما اعتبر اليمين من أجل حقِّ المخلوقين، وكذا من خالف من أهل العِلم في هذه المسألة، فأما حقوقُ الله -تعالى- فخبرُ المرأة الواحدة فيه مقبول اتفاقاً.
الأثر التاسعُ: ما رواه المِسْوَرُ بن مَخرَمَةَ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام في المسلمين، فأثنى على الله، ثم قال:" أمَّا بَعْد، فإنَّ إخْوَانَكُم -يعني هَوازِنَ- قد جاؤوا تائِبينَ، وإنِّي قد رأيتُ أن أرُدَّ إلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ، فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُم أن يُطَيِّبَ ذلِكَ، فَلْيفْعَلْ " إلى قوله: فقال الناسُ: قد طيَّبْنَا ذلِكَ فقال: " إنا لا نَدْرِى مَنْ أَذِنَ مِنْكُمْ مِمَّنْ لَمْ يَأْذَنْ، فَارْجِعُوا حتَّى يَرْفَعَ عُرَفَاؤُكُم أمرَكُم " الحَدِيثَ. رواه البخاري (3).
(1) تقدم التنبيه على أن الحديث من أفراد البخاري، ولم يخرجه مسلم.
(2)
بل هي في إحدى روايات البخاري (5104) في النكاح: باب شهادة المرضعة.
(3)
برقم (4318) في المغازي: باب قول الله: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ .... } ولفظه بتمامه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام حين جاءه وفد هوازن مسلمين فسألوه أن يرد إليهم أموالهم وسبيهم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: معي من ترون، وأحب الحديث إلي أصدقه، فاختاروا إحدى الطائفتين: إما السبي، وإما المال، وقد كنت استأنيت بكم -وكان أنظرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بضع عشرة ليلة حين قفل من الطائف- فلما تبين لهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير رادٍّ إليهم إلا إحدى الطائفتين، قالوا: فإنا نختار سبينا، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسلمين، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أما بعد، فإن إخوانكم قد جاؤونا تائبين،
فالظاهر عدمُ معرفةِ حالِ العُرَفَاء في العدالةِ، فهذا من الأثر.
ومِنَ النَّظَرِ أن صِدقَهم مظنونٌ، وفي مخالفته مضرَّةٌ مظنونةٌ، والعملُ بالظَّنِّ من غير خوفٍ مضرَّةٍ حسنٌ عقلاً. ومع خوف المضرَّة المظنونة واجبٌ عقلاً، وإنما خصصناهم بذلك، لما علمنا من صدقهم وأمانتهم في غالب الأحوال، والنادِرُ غيرُ معتبر، إذ قد يجوزُ أن يَكْذِبَ الثِّقَةُ، ولكن ذلك تجويزٌ مرجوحٌ نادر الوقوع فلم يعتبر، والذي يدلُّ على صِحَّة ما ذكرنا: أن أخسَّ طبقات أهل الإسلامِ من يتجاسرُ على الإقدامِ على الفواحش من الزنى وغيره من الكبائر لا سيّما فاحشة الزنى، وقد علمنا أن جماعة مِن أهلِ الإسلام في زمان رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وقعوا في ذلك من رجالٍ ونساءٍ، فَهُمْ فيما يظهرُ لنا أقلُّ الصحابة دِيانةً، وأخفُّهم أمانةً، ولكنهم مع ذلك فعلوا ما لا يكادُ يفعلُه أورعُ المتأخرين، ومن يَحِقُّ له منصِبُ الأمانةِ في زُمرة الأولياء والمتقين، ومَنْ بَذَلَ الروح في مرضاة اللهِ، أو المسارعة بغير إكراهٍ إلى حُكْمِ اللهِ، مثلَ المرأةِ التي زنت، فجاءت إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم تُقِرُّ بذنبِها، وتسألُه أن يُقِيمَ عليها الحَدَّ، فجعل عليه السلام يستثبتُ في ذلك، فقالت: يا رسولَ الله إنِّي حُبلى به، فأمرها أن تُمهل حتَّى تَضَعَ، فلمَّا وَضَعَتْ، جاءت بالمولود فقالت: يا رسولَ اللهِ هو هذا قد ولدتُه. فقال: " أرضِعِيه حتى يَتِمَّ رضاعُه ". فأرضعتْهُ حتَّى أتمت مُدَّةَ الرَضاعِ، ثم جاءت به في يده كِسْرَةٌ مِن خُبْزٍ، فقالت: يا رسولَ اللهِ ها
= وإني قد رأيت أن أرد إليهم سبيهم، فمن أحب منكم أن يُطَيِّبَ ذلك، فليفعل، ومن أحب منكم أن يكون على حظه حتى نُعطيَه إياه من أول ما يُفيء الله علينا فليفعل، فقال الناس: قد طيبنا ذلك يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لا ندري من أذِنَ منكم في ذلك ممن لم يأذن، فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم، فرجع الناس، فكلمهم عرفاؤهم، ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبروه أنهم قد طيّبوا وأذنوا.
هو هذا يأكُلُ الخُبْز، فأمر بها فَرُجِمَتْ (1). فانظر إلى عزمها هذه المدَّة الطويلة على الموت في طلب رضا الله تعالى.
وكذلك الرجلُ الذي سرق، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فطلبه أن يُقيم عليه الحدَّ، فأمر عليه السلام بقطع يده، فلمَّا قطعوها، قال السارِقُ: الحمدُ لله الذي أبعَدِك عني، أَرَدْتِ أن تُدْخِلِيني النَّارَ (2).
ومثل ما رُوِي في حديثِ الذي وقع بأمرأته في رمضان (3).
وحديثُ الذي أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسولَ الله إنِّي أتيْتُ امرأةً، فَلَمْ أتْرُكْ شيئاً مما يفعَلُه الرِّجالُ بالنِّساءِ إلا فعلتُه، إلا أنِّي لم أُجَامِعْها (4). وغير ذلك مما لا (5) أعرفه.
فأخبرني على الإنصاف: مَنْ (6) في زماننا من الأبْدَالِ قد سار إلى
(1) نقدم تخريجه ص 260 تعليق (3).
(2)
أخرجه ابن ماجه (2588) والطبراني في " الكبير "(1385) من طريق سعيد بن أبي مريم، عن عبد الله بن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الرحمن بن ثعلبة الأنصاري، عن أبيه أن عمرو بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إني سرقت جملاً لبني فلان، فطهرني، فأرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إنا افتقدنا جملاً لنا فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم، فقطعت يده، قال ثعلبة أنا أنظر إليه حين وقعت يده وهو يقول: الحمد لله الذي طهرني منك، أردت أن تدخلي جسدي النار، وهذا سند ضعيف لضعف ابن لهيعة كما قال البوصيري في " الزوائد " ورقة 165/ 2/166/ 1 وعبد الرحمن بن ثعلبة مجهول.
(3)
أخرجه من حديث أبي هريرة أحمد 2/ 208 و241 و281، والبخاري (1936) و (1937) و (2600) و (5368) و (6087) و (6164) و (6709) و (6710) و (6711) و (6821) ومسلم (111)، والترمذي (724) والبغوي (1752) وأبو داود (2390) والدارمي 2/ 11، وابن ماجه (1671) وابن الجارود (384) والبيهقي 4/ 221 و222 و224.
(4)
تقدم تخريجه ص 260.
(5)
في (أ) و (ج): لم.
(6)
لم ترد في (ج).
الموت نشيطاً كما فعل هؤلاءِ؟ وهل علم أنَّ أحداً في غيرِ تلك الأعصار أتى إلى أهلِ الوِلايةِ ليقتلُوه؟ وهذه الأشياءُ مما تُنبِّه الغافل، وتُقوي بصيرةَ العاقل، وإلا ففي قولِه تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] كِفايةٌ مع ما عضَدَها من شهادةِ المصطفي عليه السلام بأنهم خيرُ القرونِ (1)، وبأن غيرَهم لو أنْفَقَ مِثْلَ أُحدٍ ذهباً ما بلغ مُدَّ أحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَه (2).
وقد ذكر ابنُ عبد البر في ديباجة كتاب " الاستيعاب " جملةً شافيةً مما يدُلُّ على فضل أهلِ ذلك الزمان، وأن ظاهِرَهم العدالةُ كُلّهم إلا مَنْ عُلِمَ جَرْحُهُ بطريق صحيحٍ؛ والجرْحُ جرحانِ: جرحٌ في الدِّيانة، وجرح في الرواية، فأما الجرحُ في الدِّيانة، فيثبتُ بفعل الحرام المقطوعِ بتحريمه سواءً كان فاعلُه متأولاً، أو غيرَ ذلك، مثل حربِ أميرِ المؤمنين عليه السلام وغيره مِن الفتن، وقد قبلت الزيديّةُ مَنْ حارب عليّاً وكفَّره من الخوارِج، صانه الله مِن ذكرِ (3) ذلك -كما سيأتي بيانُه- فكيف يُنْكَرُ على المحدِّثينَ قبُولُ مَنْ حاربه ولم يكفِّره، وعُذْرُ الزيديَّة في قبول الخوارجِ من كونهم متأوِّلين هو بعينه عذرُ أهلِ السنة، ومدركُ العمدِ والخطأ خفيٌّ، بل محجوبٌ لا يَعْلَمُهُ إلَاّ اللهُ، ولذلك جاء في الحديث:" إنِّي لَمْ أُومَرْ أنْ أفَتِّشَ عنْ قُلُوبِ النَّاس "(4) فلذلك رَجَعَ أهلُ السُّنَّة فيه إلى ما ظهر من
(1) تقدم تخريجه ص 182.
(2)
تقدم تخريجه ص 180.
(3)
كلمة ذكر لم ترد في (ج).
(4)
أخرجه أحمد 3/ 4، والبخاري (4351) ومسلم (1064)(144) من حديث أبي سعيد الخدري، ولفظ البخاري " إني لم أومر إن أَنْقُبَ قلوب الناس، ولا أشق بطونهم " ولفظ أحمد ومسلم " إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس، ولا أشق بطونهم ".
الشخصِ، ووكلوا باطِنَه إلى اللهِ -تعالى- إلا مَنْ ظَهر نِفاقُه، أو رِدَّتُهُ، أو قامتِ القرائن الضرورية على فجوره، وتعمُّدِه وجُرأتِه. وسيأتي تحقيقُ الكلام في هذه المسألة إن شاء الله تعالى في الفصل الثاني، وفي الوهم الثالث والثلاثين.
وأما الجرحُ في الرواية، فلا يثبت الجرحُ فيه بارتكاب بعضِ الحرام الذي يُمكن تأويلُه مع دعوى التأويلِ، وظهورِ الصدق. وسيأتي تفصيلُ هذه الجملة عند الكلام على المتأولين إن شاء الله، ونبينُ هناك أنَّ الذي ذهبنا إليه في هذه المسألة هو الذي ذهب إليه جمهورُ العِترة عليهم السلام وإنَّا لا نقبل منْ لم يقبلوا ممن ظهر منه عدمُ التأويل، كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.
فقد تبيَّن بهذا أنَّ السَّيِّد اعترض المحدِّثين بقبول مجهولِ الصَّحابة أو العاصي منهم على جهة التأويل.
فأما المجهول، فقد بينَّا أن قبوله مذهبٌ شائعٌ بينَ العلماء من أهل البيت وأشياعهم، والمعتزلة والفقهاء، وسائر من خاض في العلم من المتقدمين والمتأخرين، وأنَّ كتب الأصوليين مشحونةٌ بذكره، والخلاف فيه.
وأما المتأول، فسوف نبيِّن فيه ما يشفي ويكفي -إن شاء الله تعالى- فلا معنى لِقدح السَّيِّد على المحدِّثين بذلك، ولا عَيْبَ على من قرأ كُتُبَ الحديث في ذلك، وهذا مما كنتُ أتوهَّمُ أنَّه لا يقع فيه إنكارٌ، ولا يَمُرُّ القدح به على خاطر.
الوجه الرابع: أنّ قوله: إنه يَبْطُلُ بذلك كثير مما في الصحاح، كلامُ مَنْ لم يعرف ما معنى الصحاح: فإنَّ الصَّحاح لم تُصَنَّفْ لمعرفةِ الحديث المجمع عليه لا سوى، بل وُضِعَتْ لذلك، وللقسم الآخر
المختلف فيه، وسيأتي بسطُ ذلك، وبيانُ اختلاف المحدِّثين في التصحيح وشروطه وأنه ظنيٌّ، وأنَّ اختلافهم فيه كاختلاف الفقهاء في الفروع.
وتلخيص هذا الجواب: أن يقول ما يعني بأنّه يبطل بذلك كثير، هل عند جميع الأمَّة أو عندك وعند بعض الأمَّة؟ الأول ممنوع، والثاني مُسلَّم (1) كما سيأتي مبسوطاًً مبرهناً.
المسألة الثانية التي أنكرها السَّيِّد، وزعم أنَّه يبطل ببطلانها كثير من حديثهم، هي قولهم: إنَّ الصحابي هو من رأى النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به مصدقاً له، وقد تحامل السَّيِّد على المحدِّثين في هذه المسألة فأطلق عليها اسمَ الباطل الَّذي لا يُطلق على أمثالها من المسائل المحتملة، وهذه المسألة مشهورة في الأصول متداولة بين أهل العلم، وقد ذكر ابنُ الحاجب أنها لفظيَّة يعني أنَّ النزاعَ فيها راجعٌ إلى إطلاق لفظيٍّ، وهو مدرك ظنيٌّ لغويٌّ (2) أو عرفيٌّ. وقد قال السَّيِّد أبو طالب في كتاب " المُجزي ": إنَّ الذي ذكره المحدثون يُسمَّى صحبةً في اللغة، قال عليه السلام ما معناه، ولكنَّه لا يسمَّى صحبةً في العُرف السابقِ إلى الأفهامِ. ولا شكَّ أنَّ المقرَّرَ عند المحققِّين تقديمُ الحقيقة العرفيَّة على الحقيقة اللغوية الوضعيَّة. وكلامه عليه السلام هذا جيِّد قويٌّ.
وقد (3) خالف الفقيهُ عبدُ الله بن زيد، فقال في " الدُّرَر المنظومة ": إنَّ من رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخذ عنه مرةً واحدة يُسمَّى صحابيَّاً في العُرف، ولا يُسمَّى بذلك لغةً وفي الحديث ما يَدُلُّ على صحة
(1) في (ب) زيادة هنا: ولا يقر تسلمه.
(2)
في (ج): لغوي ظني.
(3)
"قد" لم ترد في (ج).