الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوجه الثالث: أنَّ قوله: {لا يعقِلون} ليس على ظاهره لِوجهين:
أحدهُما: أنهم مكلفون، وشرط التكليف العقلُ
.
الثاني: أنَّه -سبحانه- أجلُّ من أن يَذُمَّ ما لا يَعْقِلُ
، كما لا يَصِحُّ نزولُ آيةٍ في ذَمِّ الأنعامِ بعدم العقل، إذ من لا عقلَ له، فلا ذنب له في عدم العقل. إذا ثبت ذلك، فالمراد ذمُّهم بالجفاوة، وعدم التمييز للعوائد الحميدة، وآداب أهل الحياءِ والمروءة وهذا ليس من الجرح في شيء، فإنَّ لطفَ الأخلاق، والكيْسَ في الأمور، ليس مِن شرط الراوي. ومبنى الرِّواية على ظنِّ الصِّدق كما قَدّمناه، وأولئك الأعرابُ -لا سيَّما ذلك الزمان- كانوا من أبعدِ النَّاسِ عن الكذب، والظنُّ لصدقهم قويٌّ، لا سيَّما في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا بُدَّ -إِن شاء الله- من الإشارة إلى أنه لا داعي للمسلم إلى الكذب على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم في غالب الأحوال، وقد قدمنا الأدلة على أنهم عدول بدخولهم في الإسلام ما لم يَدُلَّ دليل على الجرح.
الوجه الرابع: أنَّ صدور مثلِ هذه القوارع، على جهة التأديب للجاهلين والإيقاظ للغافلين من الله تعالى، أو من رسوله عليه السلام لا تدُلُّ على جرح منْ نزلت فيه، أو بسببه ما لم يكن فيها ما يَدُلُّ على فسقه وخروجه من ولاية الله، فقد ينزل شيءٌ من القرآن العظيم، وفيه تقريع لبعض الأنبياء عليهم السلام وتأديبٌ لبعض الرسل الكرام، وقد قدَّمنا كلاماً في العدالة، ودللنا عليه، وقد قال الله تعالى لخيار المهاجرين والأنصار:{لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 68] وأنزل اللهُ أولَ سورة الممتحنة في شأن حَاطِبِ بنِ أبي
بَلْتَعَه، وَشَدَّدَ على مَنْ والى أعداءَ اللهِ ولم يكن ذلك جرحاً في حاطب، فقد عَذرَهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ونهي عمر عنه، وقال له:" إنَّك لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ اطَّلَعَ على أهلِ بَدْرٍ، فقَالَ لَهُمْ: اعْملُوا ما شِئْتُمْ، فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ "(1).
وقد ثبت في صحيح مسلم (2) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنَّ حاطباً يَدْخُلُ الجنة رضي الله عنه.
وقد نزل الوعيدُ في رفع الأصواتِ عند رسولِ الله، فأشفق (3) بعضُ الصحابة (4) من ذلك وكان جهوريَّ الصوتِ (5). ولم يكن ذلك جرحاً في أولئك.
(1) أخرجه من حديث علي بن أبي طالب البخاري (3007) و (3081) و (3983) و (4274) و (4890) و (6259) و (6939) ومسلم (2494) وأبو داود (2650) و (2651) والترمذي (3302).
(2)
رقم (2195) من حديث جابر، وأخرجه أحمد 3/ 325 و349، والترمذي (3956)، وعبد الرزاق في " المصنف "(20418) والطبراني في الكبير (3064).
(3)
في (أ) و (ج): وأشفق.
(4)
هو ثابت بن قيس خطيب الأنصار كما في هاش الأصول الثلاثة.
(5)
أخرج البخاري (4846) من حديث موسى بن أنس، عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم افتقد ثابت بن قيس، فقال رجل: يا رسول الله أنا أعلم لك علمه، فأتاه، فوجده في بيته منكساً رأسه، فقال له: ما شأنك؟ فقال: شر، كان يرفع صوته فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم، فقد حبط عمله، فهو من أهل النار، فأتى الرجل النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره أنه قال كذا وكذا، قال موسى: فرجع إليه المرة الآخرة ببشارة عظيمة، فقال: اذهب اليه، فقل له: إنك لست من أهل النار، ولكنك من أهل الجنة. وأخرجه مسلم (119) من طريق ثابت البناني عن أنس قال: لما نزلت هذه الآية {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي
…
} إلى آخر الآية جلس ثابت في بيته
…
وأخرجه أحمد 3/ 137 بنحوه وفي آخره: قال أنس: وكنا نراه يمشي بين أظهرنا ونحن نعلم أنه من أهل الجنة، فلما كان يوم اليمامة، كان فينا بعض الانكشاف، فجاء ثابت بن قيس بن شماس وقد تحنَّط ولبس كفنه، ففال: بئسما تعودون أقرانكم، فقاتلهم حتى قتل.