الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ابن حزم من غير أن يَرْوِيه لها راوٍ، بل عَمِلُوا لأجل الخطِّ، وأنه منسوبٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال عبدُ الله بنُ زيد في كتاب " الدرر المنظومة ": لا خلاف أنه متى عَرَفَ خطَّه أو خطَّ أستاذه، وعلم أنه لا يكتُبُ إلا ما سَمعه، قُبلَتْ روايتُه، وإنما اختلفوا إذا ظَنَّ أنه خطُّه أو خطُّ أُستاذه، فمذهبُنا أنها تُقبل روايتُه، وهو مذهبُ طائفة من العلماء، واحتج بوجهين:
الأول: أن من بحث عن الأخبار، علم أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يكتُبُ إلى الآفاق، ويعمل على ما يأتيه مِن الكتب بالإسلامِ وغيره.
الثاني: أن الصحابة أجمعت على ذلك
، فإن من عرف الأخبار، عَلِمَ ذلك عنهم، ولهذا عَمِلُوا على كتاب عمرو بن حزم مع ما فيه من الأحكام الكثِيرَة من النُّصُب والدِّياتِ وغيرِ ذلك.
وقال الرازي في " المحصول ": (1) ورابعها: أن لا يتذكَّر سماعَه، ولا قراءَته لما فيه، لكن يَظُنُّ ذلك لما يرى مِن خطه، ثم حكى الخلاف كما تقدَّم. ثم قال: لنا الإجماع والمعقول، أمَّا الإجماع، فهو أن الصحابة كانت تعمل على كُتُبِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم نحو كتابه لِعمرو بنِ حَزْمٍ مِن غير أن يقال: إن راوياً رويَ ذلك الكتابَ لهم، وإنَّما عملوا لأجل الخطِّ، وأنه منسوبٌ إلى الرسول، فجاز مثله في سائر الرواة، وأما المعقولُ، فلأن الظنَّ هنا حاصل، والعمل بالظن واجب انتهى.
قلتُ: أكثرُ ما احتجَّ به من تقدَّم ذكرُه حديثَ عمرو بن حزم ويمكن
(1) الجزء الثاني القسم الأول 596 - 597.
الاحتجاجُ ها هنا بغيره، من ذلك الحجةُ العقلية في العمل بالظنِّ، وتقريرها معروف وهي قويِّة جداً.
ومنها حديثُ ابن عمر مرفوعاً: " ما حَقُّ امْرِىءٍ مُسْلِمٍ لَه شَيءٌ يُوصِي فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْن إلا وَوَصِيَّتُه مَكتُوبَةٌ عِنْدَهُ " متفق على صحته (1).
قال ابن تيميَّة عبد السلام (2): رواه الجماعة، واحتج به منْ يَعْمَلُ بالخَطِّ إذا عُرِفَ.
قلتُ: العلة في المعرفة ظن الصحة، فالتعليلُ به أولى من المعرفة.
ومنها عن ابن عباسٍ لما نزلت {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [النساء: 97] قال: كان قومٌ بمكة قد أسلموا، وكانوا مستخفين بالإسلام، فلما خرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إلى بدر وخرج المشركون، أخرجوهم معهم مكرهين، فأصيب بعضُهم يومَ بدرٍ مع المشركين، فقال المسلمون: أصحابنا هؤلاء كانوا مسلمين، أخرجوهم مكرهين، فاستغفِروا لهم، فنزلت، كتبوها إلى منْ بَقِيَ منهم بمكة، فخرجوا حتَّى إذا كانوا ببعض الطَّرِيقِ ظهر عليهم المشركون وعلى خروجهم، فلحقوهم، فردُّوهم، فرجعوا معهم فنزلت {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت: 10]. فكتب المسلمون إليهم بذلك فنزلت: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ
(1) أخرجه البخاري (2738) ومسلم (1627) ومالك 2/ 13، والترمذي (981) والنسائي 6/ 238 - 239، وابن ماجة (2699)، وأبو داود (2862)، والطبراني في " الكبير"(13189) والبغوي في شرح السنة (1457).
(2)
هو الإمام أبو البركات شيخ الحنابلة مجد الدين عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم الحراني المعروف بابن تيمية جد شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم المتوفى سنة 621 هـ. وكلامه هذا في " المنتقى " 6/ 142 مع شرحه نيل الأوطار في أوله كتاب الوصايا.
رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيم} [النحل: 110] فكتبوا إليهم بذلك. رواه البزَّار برجال الصحيح غير محمد بن شريك وهو ثقة. وروى البخاري بعضَه، قاله الهيثمي (1).
وفيه عملُهم الجميع بالخطِّ بالفطرة، كما عَمِلُوا بخبر الثقة بالفطرة، وظهور ذلك من غير نكير يقتضي إجماعهم، وهو حجة شرعية.
وقال الشيخُ الحافظُ ابنُ الصلاح في كتابه " علوم الحديث "(2) -ما لفظه-: القسم الثامِنُ: الوِجَادة، وهو مصدر أوجد يجِدُ مُوَلَّدٌ غيرُ مسموعٍ من العَرب. وروينا عن المعافى بن زكريا النَّهرواني العلَاّمة في العلوم: أن المولَّدِين فرَّعُوا قولَهم وِجَادَة فيما أُخِذَ من العلم مِن صحيفة، من غير سماع ولا إجازة ولا مناولة من تفريق العرب بين مصادرِ وجَد للتمييز بين المعاني المختلفة، يعني قولَهم: وجَدَ ضالَّته وُجْدَاناً، ومطلوبه وُجوداً، وفي الغضب مَوْجِدَةً، وفي الغنى وُجْداً، وفي الحبِّ وَجْداً.
(1) في " مجمع الزوائد " 7/ 9 - 10، وأخرجه ابن جرير (10260) من طريق أحمد بن منصور الرمادي، حدثنا أبو أحمد الزبيري، حدثنا محمد بن شريك، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس، وهذا إسناد صحيح، أبو أحمد الزبيري: هو محمد بن عبد الله بن الزبير وذكره السيوطي في " الدر المنثور " 2/ 205، وزاد نسبته لابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه. ورواية البخاري المختصرة هي في صحيحه (4596) من طريق حيوة بن شريح وغيره، قالا: حدثنا محمد بن عبد الرحمن أبو الأسود الأسدي، قال: قُطِعَ على أهل المدينة بعث، فاكتُتِبْت فيه، فلقيت عكرمة مولى ابن عباس، فأخبرته، فنهاني عن ذلك أشد النهي، ثم قال: أخبرني ابن عباس أن ناساً من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي السهم يُرمى به فيصيب أحَدَهم فيقتله، أو يضربُ فيقتل، فأنزل الله {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} الآية.
(2)
ص 157 - 159.
مِثالُ الوِجادَة: أن تَقِف على كتاب شخص فيه أحاديثُ يرويها بخطِّه، ولم يلقه أوتقِيه، ولكن لم يسمع منه ذلك الذي وجده بخطِّه، ولا له منه إجازة ولا نحوها، فله أن يقول: وجدتُ بخطِّ فلان أو قرأتُ بخط فلان، أو في كتاب فلان بخطه أخبرنا فلانُ بنُ فلان، ويذكر شيخه، ويسوق سائر الإسناد والمتن. هذا الذي استمر عليه العملُ قديماً وحديثًا، وهو مِن باب المنقطع والمرسلِ غير أنه أخذ شوباً من الاتِّصال بقوله: وجدتُ بخط فلان.
وإذا وجد حديثاًً في تأليفِ شخص، وليس بخطِّه، فله أن يقول: ذكر فلان، أو قال فلان، وهذا منقطع لم يأخذ شوباً من الاتصال. وهذا كُلُّه إذا وَثِق بأنه خطُّ المذكور وكتابُه، فإن لم يكن كذلك، قال: بلغني عن فلان، أو وجدت عن فلان أو نحو ذلك من العبارات، ولْيُفْصِحْ في المستند فيه بأن يقول ما قاله بعضُ من تقدَّم: قرأتُ في كتاب فلان بخطه، وأخبرني فلان أنه بخطه، أو يقول: وجدت في كتاب ظننت أنه بخط فلان، أو في كتاب ذكر كاتبه أنه فلانُ بن فلان، وفي كتاب قيل: إنه بخطِّ فلانٍ، فإذا أراد أن يَنْقُلَ مِن كتابٍ منسوبٍ إلى مصنف، فلا يقل: قال فلان كذا وكذا، إلا إذا وَثِقَ بصحةِ النُّسخةِ بأن قابلها هو، أو ثقة غيره على أصول متعدِّدَةٍ، كما نبَّهنا عليه في آخِرِ النوع الأول.
قلت: قال النواوي في " شرح مسلم "(1) -وقد ذكر قول ابنِ الصَّلاح هذا-: بل يكفيه أن يُقابِلَ الكتابَ على أصْلٍ واحدٍ صحيحٍ ولا يجبُ أن يُقابل على أصولٍ متعدِّدة.
(1) 1/ 14.
قلتُ: صدق النَّواوي، فإن الظَّنَّ يحصلُ بالمقابلة على أصلٍ صحيح، وإن كان واحداً.
قال ابنُ الصلاح: فإذا لم يُوجَدْ ذلك ولا نَحْوُه، فليَقُلْ: بلغني عن فلان، أو وجدتُ في نسخة من الكتاب الفلاني، وما أشبه هذا من العبارات. وقد تسامَحَ أكثرُ النَّاس في هذه الأزمان بإطلاق اللفظ الجازم في ذلك من غير تحدٍّ وتثبتٍ، فيطالع أحدهم كتاباً منسوباً إلى مصنف معيَّن، وينقل منه عنه مِن غير أن يَثِقَ بصحة النسخة قائلاً: قال فلان كذا وكذا، أو ذكر فلانٌ كذا وكذا. والصواب ما قدَّمناه، فإن كان المطالعُ عالماً فَطِناً بحيث لا يخفي عليه في الغالب مواضِعُ الإسقاط، وما اختلَّ عن جهته رجونا أن يجوزَ له إطلاقُ اللفظ الجازم فيما يحكيه مِن ذلك.
وإلى هذا فيما أحْسِبُ استروح كثيرٌ من المصنفين فيما نقلوه من كُتُبِ الناس، والعِلْمُ عندَ اللهِ تعالى. هذا كُلُّه كلامٌ في كيفية النقل بطريق الوِجادة.
وأما جوازُ العمل اعتماداً على ما يُوثَقُ به منها، فقد روينا عن بعض المالكيَّة: أن مُعظم المحدِّثين والفقهاء من المالكيِّين وغيرهم لا يَرَوْن العَمل بذلك. وحُكيَ عن الشَّافعي وطائِفةٍ من نُظَّارِ أصحابه [جواز العملِ به، قلت: قَطع بعضُ المحققين من أصحابه](1) في أصول الفقه بوجوبِ العملِ به عند حصولِ الثِّقة به. وقال: لو عرض ما ذكرناه على جملة
(1) ما بين حاصرتين سقط من الأصول كلها، واستدرك من المقدمة، ونص المؤلف في " تنقيح الأنظار " 2/ 348: وحكي عن الشافعي جواز العمل به، وقالت به طائفة من نظار أصحابه، وهو الذي نصره الجويني، واختاره غيره من أرباب التحقيق، قال ابن الصلاح: قطع بعض المحققين من أصحابه في أصول الفقه بوجوب العمل به عند حصول الثقة.
المحدثين لأبَوْهُ، وما قطع به هُوَ الذي لا يَتَّجِه غيرُه في الأعصارِ المتأخرةِ، فإنه لو توقَّف العملُ فيها على الرِّواية، لا نسدَّ بابُ العمل بالمنقول، لتعذَّر شرطُ الرواية فيها على ما تقدَّم في النوع الأول -والله أعلم-. انتهي كلامُ ابن الصلاح.
وفي كتاب " المعتمد "(1) لأبي الحسين عن قاضي القُضاة ما يشهد لقوله: إنه يجوزُ لِلعالم الفَطِنِ بمواضع الأغلاطِ أن يقول فيما يَنْقُلُ: قال فلان، متى ظنَّ الصدق في ذلك، جازماً بنسبة القول إلى المصنف -وهذا لفظه في " المعتمد "- قال: وأمَّا ترجيحُ المُرْسَلِ على المسندِ، فلم يذهب إليه أكثرُ النَّاسِ، وذهب عيسى ابنُ أبان إلى الترجيح بهِ، لأن الثقة لا يُرسِلُ الحديثَ، ويقول: قال النَّبي صلى الله عليه وسلم، إلا وقد وَثِقَ أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قاله.
قال قاضي القُضاة: هذا الكلامُ إنما يتوجَّهُ إذا قال الرَّاوي: قال النبي صلى الله عليه وسلم، وأما إذا قال: عن النبيِّ، فإنه لا يتوجَّه، وأيضاً فإن قولَ الراوي: قال النبي عليه السلام يَحْسُنُ مع الظن، لكونه قائلاً لذلك كما يَحْسُنُ مع العِلْمِ، فَمِنْ أين أنه لم يقل: قال النبيُّ، إلا وظنُّه آكد مِن الظن الحاصِل برواية المسند المعارض. انتهى.
وقد اختلف العلماءُ في جواز عمل القاضي بكتاب قاضٍ آخرَ إليه في حقوق المخلوقين مع ما فيها من التشديد الذي لم يَرِدْ في الرواية، فحكى الرَّيْمِي (2) في " المعاني البديعة " عن الإمام مالكٍ، والحسنِ البصري،
(1) 2/ 180 - 181.
(2)
هو محمد بن عبد الله بن أبي بكر الحثيثي اليمني الريمي بفتح الراء بعدها ياء ساكنة =
وسوَّارٍ القاضي، وعبد الله بنِ الحسن العنبري، وأبي يوسف: إذا عرف المكتوبُ إليه خطَّ الكاتب، وختْمه، جاز له قبولُه والعملُ به، وبه قال أبو سعيد الإصطخري من الشافعية، وعند أبي ثورٍ يجوزُ العَمَلُ بموجبه وقبولِهِ مِن غير شهادة عليه، ونسب مرةً ذلك إلى مالك وقال: في إحدى الروايتَيْنِ عنه.
الجواب التاسعُ: لو قدَّرنا صحةَ ما ذكره السَّيِّد من اختلال طريقٍ المعرفة لهذه الشريعة -وصانها الله تعالى عن ذلك- لم يَسْقُطْ وجوبُ العمل بالمظنون، وذلك لأن الأخبارَ الواردةَ في الواجبات والمحرَّمات، إمَّا أن نَظُنَّ صِدقَها أو لا؛ إن لم نَظُنَّ صدقَها، لم نخالف السَّيِّد في عدمِ وجوب العمل بها، وإن ظننَّا صدقها، ففي مخالفتها مضرَّةٌ مظنونةٌ وهي مضرَّةُ العِقاب على ترك الواجب وارتكابِ الحرام، ودفعُ المضرةِ المظنونة عن النفس واجب عقلاً. وهذا الدليلُ عوَّل عليه السيدُ الإمام أبو طالب، والإمام المنصورُ بالله عليهما السلام، وكذلك الشيخُ أبو الحسين رحمه الله وسيأتي تحقيقُه، وهو قائم في كل خَبَرٍ من أخبار المتأوِّلين، والمجاهيل، والمجروحين بجرحٍ مختلفٍ فيه أو بجرح مطلقٍ غيرِ مفسَّر، وفيما يُوجد بخطوط العلماءِ في الكتب وغيرِ ذلك متى أفاد الظنَّ، إلا ما أجمعت الأمةُ على ردِّه من أخبار الكفَّار المصرِّحين، والفساقِ المصرِّحين.
الجواب العاشر: أنَّه لو صحَّ ما ذكره السَّيِّد -والعياذُ بالله- من
= نسبة إلى ريمة ناحية باليمن. ولد سنة 710، وتفقه بمذهب الشافعي على جماعة من مشايخ اليمن، وسمع الحديث من الفقيه إبراهيم بن عمر العلوي، وشرح التنبيه في نحو عشرين سفراً، ودرس وأفتى، وكثرت طلبته ببلاد اليمن، واشتهر ذكره، وبعد صيته، وكانت وفاته سنة 791 هـ. " الدرر الكامنة " 3/ 486، و" شذرات الذهب " 6/ 325.