الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هل أنت واقعي
؟!
من أخطر المصطلحات السياسية المستعملة الآن لفظ "الواقعية" وهذا اللفظ يستخدمه مروجوه في مقابلة "الخيالية" والجري وراء الأحلام والعواطف، وكان هؤلاء المروجين لهذه اللفظة يريدون أن يقولوا لقد سار العرب في سياستهم السابقة بالعواطف والأوهام والآن لابد وأن يكونوا "واقعيين" ويعالجوا أمورهم الواقعة الحادثة بدلاً من الجري وراء أمانيهم وأحلامهم الكاذبة، ويهدف إلى أن إسرائيل أصبحت حقيقة واقعة ولا بد من التعامل معها على هذا الأساس وفكرة تدميرها، أو إلقائها في البحر كما كان يُقال فكرة خيالية ومن العبث الجري وراءها.
وهذا القول هو من الحق الذي يراد به الباطل فلا يجحد الواقع أصلاً غير مجنون معتوه، ولكن الناس بإزاء الواقع السيء ينقسمون إلى قسمين: قسم يرضى بهذا الواقع السيء ويستكين له، وقسم آخر يعمل على تغييره وإزالته ولكن اللفتة البارعة لدعاة الواقعية إنما كانت في صرف نظر الناس عن المستقبل وتركيزها إلى الوراء دائماً، وبهذا قطعوا الأمة عن آمالها المستقبلة وأشغلوها في مشاكلها الحاضرة.
كان هم الناس صغيرهم وكبيرهم قبل عام 1967م هو إزالة إسرائيل وكان هذا شغلهم الشاغل من أجل هذا الأمل
أزيلت عروش الملوك، ونصبت عروش الرؤساء وعلى هذا الأمل قامت الثورات وهي لا تحمل من شعار إلا هذا الشعار.
وبالرغم من أن إسرائيل كانت حقيقة واقعة فإن الاستجابة لهذا الواقع والرضا به كان معدوماً مفقوداً، وبالرغم من هزيمتين مني بهما العرب سنة 1948م و 1956م.. ولكن اللفتة البارعة لشياطين الإعلام وأبالسة السياسة تحققت بعد عام 1967م حيث تحول نظر الناس عن آمالهم المستقبلية بأمر جديد وهو (إزالة آثار العدوان) لقد كانت هذه الكلمة المنتقاة المختارة "ضرب معلم" صرفت الناس عن النظر المستقبلي المتوافق مع آمال الأمة وأحلامها إلى النظر للوراء.. ومنذ هذا الوقت للآن والأمة تنظر إلى الوراء، ولا نجد الفرصة لتنظر إلى المستقبل، بل لا تجد أصلاً وقتاً للتفكير فيه وذلك بالحركة الدائبة والتشويش الدائم والبلبلة الدائمة.
وبالرغم من أن حرب رمضان سنة 1973م كانت نشازاً عن محاولة الإقناع الدائم بوجود إسرائيل وبقاء إسرائيل والرضا بواقع إسرائيلي، وذلك أنها أنعشت آمال المسلمين بتحقيق حلمهم التاريخي بإزالة إسرائيل، بل كان هذا الأمل قاب قوسين من تحقيقه باعتراف اليهود أنفسهم فإنه سرعان ما أحبطت آثارها في نفوس المسلمين ووضعت هذه الحرب مع نتائجها قهراً وقسراً لتكون جزءاً من العمل على إزالة آثار العدوان وبذلك ظهرت هذه الحرب نشازاً في كل شيء وكأنها فلتة من فلتات التاريخ و (غلطة) من (غلطات) السياسة وبدلاً من أن تكون خطوة نحو الهدف الأعظم أصبحت خطوة نحو الوراء.
مشكلتنا نحن العرب ليس في أننا لا نرى الواقع، ولكن في أننا لا نحب أن نفكر في المستقبل، وقطع الصلة بين الواقع
والحاضر والمستقبل سيودي بنا في النهاية إلا أن نعيش ولا نرى إلا الماضي وهذه هي مشكلتنا فليس هناك واقع في الحقيقة لأنه لا يوجد إلا زمنان فقط مستقبل وماض، وذلك أنك إذا جزأت أجزاء الزمان إلى لحظات أو ثوان، ستجد أن أمامك ثانية ستبدأ وخلفك ثانية قد انتهت، وليس هناك حاضر أو واقع، فكل ما وقع قبل لحظة فهو زمن ماض وكل ما سيقع بعد لحظة فهو زمن مستقبل، والواقعيون أرادوا صرفنا عن المستقبل وإدارة وجوهنا إلى الماضي فقط فسموه بالواقع، وجعلوه في مقابلة الخيال والأحلام، وبهذا تمت لهم أكبر عملية تزوير في السياسة واللغة وابتدأ بحثنا واجتهادنا كله منصباً على الماضي ماذا حدث وكيف يمكن علاجه، ونادراً ما نجد من يقول ماذا يمكن أن يحدث وما يمكن فعله إن كان خيراً.. وكيف يمكن تلافيه إن كان شراً.
وهكذا أصبح شأنناً مع أعدائنا هم يخططون للمستقبل ويعملون له من الآن ولمائة سنة آتية ونحن نفكر في الماضي ولا نزال في شغل به ونركض وراء الأحداث وعيوننا إلى الخلف ونجد أن الأعداء قد حفروا لنا حفرة أخرى فنسقط فيها ثم ننشغل بها مدة وهكذا..
هل نستطيع بعد كل هذه المآسي أن نقف وقفة نراجع فيها حساباتنا الماضية ونضع خطتنا للمستقبل محددين أهدافنا وما نصبو إليه ثم نعمل وفق خطة موضوعة لنصل إلى ما نريد؟
هل نستطيع أن نحقق ذلك في عالم السياسة المضطرب وفي عالم الاقتصاد المتردي..؟ أم ستسمر عملية التزييف والإلهاء.. وإلى متى؟..
نرجو ألا يصل مزيفو هذه اللفظة "الواقعية" إلى
تزييف كل تاريخنا كله وبالتالي تضيع آمالنا وأمانينا في العزة والنصر، ويجب أن نعلم أن إسرائيل باطل واقع وأنها "كانت" بفعل التزييف والتهويش والفرقة، وأنها ستزول عندما نواجه الحقائق ولا نزيفها ولا نضخمها ويوم نعمل لإزالتها متحدين متكاتفين وسيكون هذا إن شاء الله ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله.
20 مايو 1977م