الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كارتر و "القاضي سليم
"
* الرئيس الأمريكي كارتر قد صرح عدة تصريحات متناقضة حول قضية واحدة وهي قضية فلسطين، وهذه التصريحات المتناقضة صدرت عن الرئيس بعد قراءة لتقرير أو لقاء مع رئيس، فبينما كان الرئيس الأمريكي يقوم بحملته الانتخابية هاجم هو الرئيس فورد بأنه لم يعط إسرائيل الدعم الكافي لصمودها ضد جيرانها العرب الذين يريدون تدميرها، ومعلوم أن فورد قد ساعد إسرائيل بما لم يساعدها رؤساء أمريكا جميعاً الذين تعاقبوا قبل فورد منذ عام 1948، وبهذا التصريح حصل كارتر على نصيب الأسد من دعاية اليهود في أمريكا وأصواتهم وبعد أن تولى كارتر الحكم وفاز على منافسه اعتمد تقريراً لمعهد برزنسكي وضع كأساس لحل (عادل) بين العرب واليهود وهذا التقرير يوصي بانسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة بعد عام 1967 وقيام مناطق منزوعة السلاح وإقامة سلم دائم وعلاقات طبيعية بين إسرائيل وجيرانها، ويبدو أن كارتر الذي أخذ على عاتقه منذ أول شهر تولى فيها الرئاسة أن يحكم بمبادئ خلقية وأن يدافع عن حقوق الإنسان وجد أن الشعب الفلسطيني قد اضطهد فصرح تصريحاً غريباً وهو أن يكون قرار الأمم المتحدة الصادر سنة
1947 والذي ينص على تقسيم فلسطين بين العرب واليهود هو الأساس لحل المشكلة وأن يعوض تبعاً لذلك العرب الذين تركوا ديارهم في حرب سنة 1948 وهذا شيء لم يطالب به حتى رؤساء العرب أنفسهم الذين يسعون للصلح والسلام. وبعد هذه التصريحات تنامت حملة الدعاية ضد كارتر ووصف بأنه "صاحب الفم المفتوح" ولذلك وجدناه قد غير آراءه هذه ثانية عندما قابل الرئيس السادات، واقترح أن ينسحب الإسرائيليون إلى حدود 67 شريطة أن تكون لهم حدود أخرى على نهر الأردن يبنون عليها وسائل لدفاعهم وأمنهم وهذا ما رفضه الرئيس السادات وأخبر أنه اختلف بشأنه مع كارتر. ويبدو أن كارتر غير رأيه ثانية أيضاً بعد لقائه مع الأمير فهد ولي عهد المملكة العربية السعودية.
والشيء العجيب حقاً. أن كارتر نفى بشدة تصريحات بيغن عندما افتتح مستعمر "قدوم-سبسطية" وقال عن الضفة العربية أنها أرض محررة لأن الإنسان لا يحتل وطنه. وقد رد بيغن على استنكار كارتر قائلاً "أن كارتر يؤمن بالتوراة فلماذا يستنكر تحريرنا لأرض الآباء وسأناقشه في هذا عند زيارتي له" وقد كان، فقد استقبل كارتر بيغن استقبالاً حاراً وكان نقاشهما السياسي مستنداً إلى نصوص التوراة وبينما كان بيغن (اليهودي المتعصب) يتلعثم أحياناً في قراءته لبعض نصوص التوراة كان كارتر يكمل له النص بقراءة سليمة من الذاكرة فكارتر يحفظ التوراة تماما. وغني عن البيان أن بيغن قد اقنع كارتر بوجوب بقاء اليهود في الضفة الغربية وباستحالة انسحابهم منها ولذلك افتتح ثلاث مستعمرات جديدة في الضفة الغربية بعد عودته، وظن البعض هذه خيانة من بيغن لكارتر ولكن الصحيح أنه اتفاق فإن كارتر قد سئل -كما نشرت التايم- عن فعلة بيغن هذه وموقف أمريكا منها فقال كارتر "أنا لا أستطيع أن
أتكلم باسم بيغن وتصرف بيغن هذا يخالف موقف أمريكا الوطني" ومفهوم المخالفة لهذا القول يعني أن موقف كارتر الشخصي لا يتنافى مع موقف بيغن وتصرفاته السياسية وبذلك تخلى كارتر عن كل تصريحاته ومواقفه السابقة وتحول من النقيض إلى النقيض. وتشبه مواقف كارتر هذه القصة المشهورة عن القاضي سليم الذي ما كاد يعين قاضياً حتى آتاه رجل فعرض عليه شكوى مؤثرة حزينة فتأثر لها ورأى قبل أن يسمع الطرف الآخر - أن الحق معه فقال له: الحق لك وحكمت لك بكذا وكذا. ولكنه ما كاد يفعل حتى أتى خصمه وقص قصة أشد تأثيراً وأعمل في النفس من قصة خصمه فتراجع القاضي سليم عن حكمه السابق وقال: لا الحق معك أنت وحكمت له بكذا وكذا! ولكنه ما كاد يدخل ليستريح عند زوجته حتى بادرته قائلة: ويحك يا سليم!! كيف تصنع هذا يا رجل. تسمع من الخصم الأول ثم تحكم له. دون أن تسمع من الطرف الآخر ثم تسمع من خصمه وتحكم له. فقال القاضي سليم: الحق معك أنت.
* والآن بصرف النظر عما يقال من تبرير لهذه التناقضات بأنها سياسية أو (دبلوماسية) فإنها توجب علينا أن نراجع حساباتنا مع أمريكا قبل أن تحل الكارثة. وذلك أن سياسة الكذب لا تعتمد على التناقض ولكن على الانسجام فالذين يكذبون في سياستهم يعتمدون تسوية كذباتهم وانسجامها ولذلك فإن تصريحات كارتر المتناقضة ما هي إلا تنازلات حقيقية وتغييرات جذرية لفهمه لقضية فلسطين ومعنى هذا أنه مستعد لتغيير موقفه غدا إذا لاح في الأفق أبواب جديدة من الضغط والتأثير وليس صحيحاً أيضاً أن الرئيس في بلد كأمريكا منفذ فقط لآراء المؤسسات السياسية القائمة بل أن طباع الرئيس ومزاجه وعقيدته ومثالياته وأخلاقه لها تأثير كبير في اتخاذ القرار السياسي في بلد كأمريكا وهذا
يعني أن تعاملنا مع أمريكا فورد مثلاً ليس كتعاملنا مع أمريكا كارتر للاختلاف الهائل بين الرجلين. والطرف الآخر في مشكلتنا نحن هم اليهود وهم شعب كان وما يزال دائماً على استعداد لأن يدمر نفسه ويدمر العالم إذا حوصر في الموقف الصعب. وقد ذكرنا مراراً أن انسحاب إسرائيل من الضفة الغربية وغزة وإقامة كيان فلسطيني فيهما هو الموقف الصعب بالنسبة لإسرائيل وما زلنا نقول أنها لن ترضى به مطلقاً مهما حدث وقد استطاعت إسرائيل كسب الجولة الآن بإقناع كارتر بعدم الانسحاب من هذه الأراضي والبحث عن حل آخر. والرؤساء العرب الذين تعاقبوا على أمريكا وحصلوا على وعود كارتر السابقة قد جاء بيغن بعدهم ونسفها من أساسها (والله أعلم ما الذي اتفقا عليه في الخفاء) والمشكلة التي كانت قائمة أمام أمريكا هي مشكلة البترول ويبدو أن إسرائيل قد دبرت امراً الآن لاحتلال منابع النفط والحيلولة دون قطع امداداته عن أمريكا في حالة نشوب حرب جديدة، وبذلك أخذت إسرائيل الآن طرف الخيط من أمريكا التي كانت قد دربت فرقاً من جيوشها على حرب الصحراء عندما هدد كيسنجر باحتلال منابع النفط.
* الذي يبدو الآن أن الدول العربية قد فقدت خيار السلم وقد سقط سلاح الضغط على أمريكا الذي شهره العرب واستطاعت إسرائيل الآن أبطال مفعوله وليس أمام الساسة العرب الآن إلا القبول بالاستسلام الكامل لإسرائيل فيما حصلت عليه من أراض بل والتنازل لها عن حصة من البترول العربي، أو الاستعداد لحرب خامسة جديدة، ولقد حذرنا منذ قرابة عام بأننا سنصل حتماً إلى هذه النتيجة وأن إسرائيل لن تتنازل عن شبر واحد من الأرض حتى في مقابل السلام.
والآن على الدول العربية المسارعة بتحصين منابع
النفط، والاستعداد للحرب الخامسة التي ستبدأها إسرائيل.. ولتعلم الأنظمة العربية التي أرادت أن تسابق إسرائيل في كسب ود أمريكا والحصول على تأييدها والقيام بالدور الذي تقوم به إسرائيل لأمريكا أنها لن تجاري إسرائيل في ذلك فقد صرح مسؤول كبير في المخابرات الأمريكية أن إسرائيل قد زودت الولايات المتحدة بمعلومات طيلة السنوات الماضية لا تقدر بثمن!! فقيام بعض الأنظمة العربية بدور الشرطي الأمريكي في المنطقة لن يفيد أيضاً في كسب ولاء أمريكا وإنما سيؤدي في النهاية إلى تقسيم الدول العربية بين روسيا وأمريكا وإلى قتل المسلم بيد المسلم ولاية لأعداء الله وهذه هي الردة الحقيقية كما قال تعالى:{يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض، ومن يتولهم منكم فإنه منهم أن الله لا يهدي القوم الظالمين} . أقول يجب على الساسة العرب الآن الدعوة إلى مصالحة حقيقية تحت شعار الأمة الإسلامية الواحدة واطلاع الشعوب على حقيقة الخلاف بين البلاد العربية عملاً بقوله تعالى: {وأن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا أن الله يحب المقسطين} .
ثم بعد ذلك قطع حبل التنازلات للعدو وملاقاته صفاً واحداً، وتوكيل طرف واحد للتفاوض عن الدول الإسلامية العربية كلها بدلاً من هذه التناقضات في المواقف وسماع مبعوث أمريكا كلاماً مختلفاً في كل بلد عربي يصل إليه، واطلاع الأمة أولاً بأول عما يدور من مفاوضات وبهذا نستطيع أن نقف صفاً واحداً في وجه أعدائنا، وبذلك نطلع الرئيس كارتر أو القاضي سليم على مشكلتنا بصورة سليمة.
12 أغسطس 1977