الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الجانب الخلقي في الأزمة الاقتصادية
يشهد العالم في العصر الراهن أزمة عنيفة في قضاياه الاقتصادية وتبدو ملامح هذه الأزمة في الصراع حول الطاقة، والأسواق ومشاكل التضخم والبطالة، وقد فجرت هذه الأزمة في كل هذه النواحي الصراع بين ما يسمى بالشمال والجنوب أي الدول الغنية والدول الفقيرة، وبين الدول الغنية بعضها مع بعض وكذلك بين الدول المنتجة للبترول والتي تكاد أن تفقد وحدتها في هذا الصراع الرهيب نحو البقاء في عالم متقاتل متصارع.
وهذه الأزمة العالمية تلفنا من كل صوب لأننا جزء من هذا العالم نتأثر بما حدث فيه، والفرد العادي في أي مجتمع يناله نصيب من هذه الأزمات التي تجتاح العالم، فالمسكن والطعام والمركب والكساء كل ذلك يرتبط بالطاقة والصناعة والتجارة الخارجية، والتضخيم والبطالة، ولذلك فليس هناك من إنسان بمنأى عن هذه الأزمة.
وبالرغم من الاجتماعات المستمرة والمؤتمرات والصراعات فإن الأزمة تزداد تفاقماً عاماً بعد عام ويبدو أن استمر الحال على ما هو عليه أن يصفي الناس بعضهم بعضاً في صراع رهيب على البقاء قبل نهاية هذا القرن.
وقد يظن بعض الناس أن هذه الأزمة راجعة فقط إلى
قلة الإمكانيات وازدياد السكان ولذلك ينصرف النظر إلى توسيع دائرة هذه الإمكانيات ومحاولة التقليل من الانفجار السكاني، ولكن ثمة جوانب لهذه الأزمة لم تراع حق رعايتها ولم يبحث عن علاج حقيقي لها، وهذه الأزمة هي الجوانب الخلقية.
والحق أن معظم مشكلاتنا الاقتصادية هي مشكلات خلقية قبل أن تكون ندرة في الحاجات وزيادة في السكان، وهذه بعض الجوانب الخلقية التي أهملنا علاجها وتسبب وما زالت تتسبب في إيلام العالم وكثرة مشاكله:
أولاً: الإسراف والبذخ والترف، هذه الأمراض الثلاثة وهي من أخلاق الجاهليات القديمة وهي سمة مميزة لجاهلية هذا القرن، وهذه الأخلاق التي أصبحت سمة عامة للمترفين من أغنياء هذا العالم والتي تهدر - ولا نبالغ أكثر من ربع اقتصاد العالم فالرياش الفاخرة، وأدوات الزينة التي تكلف الملايين، وولائم الشهرة وأفراح الشهرة وحفلاتها التي تكلف أضعاف ذلك والإسراف في الطاقة والمياه وباختصار (عدم صون النعمة) الذي أصبح خلقاً مميزاً للإنسان المادي المحب لنفسه المترف هو من أكبر عوامل الأزمة الاقتصادية. وإذا راجع كل منا نفسه فإنه سيجد أن ما لا ينتفع به من طعام وشراب وماء وكهرباء وحفلات فاخرة من الممكن أن تعيش عليه أسرة بكاملها، ولذلك فالفرد العصري الجاهل بوجه عام فرد غير اقتصادي وقد اعتنى الإسلام بتربية الإنسان الاقتصادي الذي يقدر النعمة فنهى عن الترف والبذخ وجعل الإسراف حتى في ماء الوضوء -وهو عبادة- حرام وذلك ليكون غيره من باب الأولى والأحرى وجعل الإسلام الفرد عابداً لله باقتصاده في مأكله ومشربه وحياته كلها، قال تعالى
واصفاً عباده: {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً} .
ثانياً: الجشع والطمع وحب الذات والتكالب على الحطام، وهذه كلها أصبحت أيضاً صفات أساسية لإنسان العصر المادي نتاج الحضارة الأوروبية الخبيثة، وهذا الجشع والطمع لا يقف عند حد فالذين يكسبون الملايين من الأموال كل يوم ومع ذلك يناورون ويغشون ويحتكرون ويغالون ليكسبوا مزيداً من الملايين هؤلاء أناس بلا أخلاق فزيادة المال بالنسبة لهؤلاء لا يعني مطلقاً إلا إشباع صفة الطمع والجشع في الإنسان وذلك أن المال في ذاته وسيلة إلى المنافع وليس منفعة بذاته فأنت لا تلبس الدنانير إذا عريت، ولا تأكلها إذا جعت، ولا تقيك حر الشمس وبرد الشتاء ولكنها وسيلة إلى ذلك والزيادة المطلقة في هذه الوسائل ليس له ثمرة فعلية مطلقاً فيستوي في النهاية من يملك المليون ومن يملك مائة المليون لأن حاجات الإنسان محدودة في الطعام والشراب والمسكن ومهما أوتي من الأموال الإضافية فإنها لا توجد له حاجات وطاقات فوق طاقات الإنسان وإنما تنحرف الفطرة فيكون الطعام تأنقاً وبذخاً وإسرافاً، والزواج إفساداً وعبثاً، والسكن شهرة وبذخاً وتعطيلاً لغرف وقصور ورياش بلا حاجة، وهكذا فالتسابق نحو المال إنما هو تسابق لإشباع الطمع والجشع وهي صفات دميمة أو تسابق لإشباع انحراف الفطرة وانحراف الفطرة مدمر للأمم والشعوب، كما قال تعالى:{وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً} .
وذلك أن انحراف الفطرة يؤدي إلى إهدار الإمكانيات وإيجاد الصراع والعداوة والبغضاء فأنت لا تكره غنياً يأكل الضروري ويشرب ويلبس ويسكن للحاجة إلى ذلك ولكنك
تحسده أو تحتقره وتزدريه إذا رأيت أنه يتلف الطعام في موائد لا ينتفع بها، ولباس للشهرة، وسكن يتحول الذهب فيه إلى صنابير في دورات المياه، ومن هنا يتولد الحقد والحسد ثم تنفجر هذه الأحقاد في ثورات مدمرة لا تبقي ولا تذر.
ثالثاً: انعدام الشعور بالأخوة وحاجة الفقير، وهذه ثمرة ثالثة من ثمار الإسراف والبذخ والطمع والجشع فالمسرف الطماع الجشع لا يمكن أن يشعر بحاجة الفقير والمسكين وهو في سبيل جشعه لا يمانع أن يزداد ماله من قوت المساكن وعرقهم وسعيهم وكدهم، وكمثال مباشر لهذه الأخلاق الخبيثة التي طغت على مجتمعنا فصاحب العمل الذي يوظف عمالاً هنا ويكسب من وراء عملهم الآلاف والملايين لا يرضى أن يسكن هؤلاء العمال في عماراته السكنية بنصف أجورهم، بل يحتاج العامل الفني (الذي يتقاضى ما بين 90-150 دينار) ، إلى مائة أخر ليسكن في سكن مناسب مع العلم أن السكن على أكبر تقدير هو ثلث حاجة الإنسان واقتصادياً يجب أن يكون ربع دخل الإنسان وذلك أن الفرد العادي يحتاج ليعيش إلى سكن وطعام وكساء ودواء وتعليم وادخار، فإذا استغرق أجر السكن راتب العامل كله، فماذا يصنع في ضروراته الأخرى وهؤلاء إما أن يتجهوا إلى السرقة والغش، وإما إلى الثورة والتدمير وكلا هذين الأمرين مدمر للمجتمعات.
* والعجيب أن الجشع والطمع حمل الأغنياء إلى البناء الفخم المترف وتركوا البناء التجاري المتوسط للهروب من السكان الفقراء والمتوسطين وإسكان الأغنياء، وكل هذه الأموال الفائضة التي توضع في (الرخام والمزايكو والمطاط، والموسيقى الموزعة على الشقق) تؤدي إلى زيادة الإنفاق فيما لا يفيد أصلاً وإن كان الأغنياء يظنون أنها تزيد الإيجارات
وبالتالي يزداد دخلهم، وهذا الخلق الثالث الرديء أعني عدم الشعور بحاجات الفقراء ومحدودي الدخل سيؤدي حتماً إلى الدمار والخراب، فإن أقل ثمرات هذا الخلق هو الحقد والحسد والغش والسرقة واستعجال عذاب الرب ونقمته وهذا ما أصبحنا نسمعه في كل مكان.
* هذه في الحقيقة جولة سريعة في الجانب الخلقي الذي أهملنا بحثه للخروج من مشاكلنا الاقتصادية وإن كنا قد ذكرنا ثلاثة أخلاق فقط، فإنه يندرج تحت هذا آلاف من السلوك السيء الذي رمتنا به الحضارة الأوروبية، فالملايين من الدنانير التي تنفق على (المودات) والمجوهرات والتحف الفارغة، وزينة النساء والأضياع التافهة، والتدخين، كل هذا يعجل بدمار العالم ونهايته والعلاج من هذا الدمار قبل أن ينهي وجودنا هو أننا نستضرع المسؤولين أن ينظروا إلى الجوانب الخلقية وهم يحاولون حل المشاكل الاقتصادية والأخلاق، وإن كان معظمها ذاتياً ولا يفرض بقانون فإن هناك جوانب من الأخلاق من الممكن أن يتدخل القانون لفرضها، وكذلك يجب أن نعالج المشاكل الاقتصادية بنظرة شمولية يراعي حق الجميع في الحياة الطيبة لا حق الأغنياء فقط في الكسب وزيادة رؤوس أموالهم بأي طريق ولو كان بالامتياز على غيرهم والنهب والسرقة.