الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشعوب والسحرة
..
* يركض الناس في هذه المنطقة (العالم الإسلامي العربي) وراء الأحداث بغباء وبلاهة، وتفاجئهم الأحداث فيصابون بالدهشة والابلاس والحيرة، ويذهبون بعد ذلك في تفسيرها كل مذهب.. ويظلون يختصمون ويتشاجرون حتى يقع لهم حدث يذهلهم عن الماضي فينتقلون للتفكير فيه، وينسون الحدث الماضي تماما وهكذا، شأنهم في ذلك شأن تلاميذ مدرسة تجمعوا لمشاهدة (حاو) أو ساحر ماهر فلا يزال يذهلهم بحركاته وألاعيبه، وبين كل لعبة وأخرى يختصمون ويتشاجرون كيف خرجت البيضة من مؤخرة التلميذ، وكيف طارت الحمامة من فمه!!.
* ونحن في هذه المنطقة التي يتحكم فيها الساحر الأمريكي والحاوي الروسي، والشيطان اليهودي نرى في كل يوم ألاعيب مدهشة، وحوادث مضحكة مبكية!!.
* ويظن الناس أنه لا ارتباط بتاتاً بين الأسباب ومسبباتها، ولا بين الأمور ونتائجها. لأنهم يرون دائماً أن نتيجة كل شيء على غير أسبابها الظاهرة تماما. فقليل جداً من كان يعلم أن زحف الجيوش العربية نحو إسرائيل عام 1967 سيؤدي إلى هزيمة لا مثيل لها في التاريخ وقليل أيضاً تصوروا أو تخيلوا أنه سيأتي اليوم الذي يصاب
بعض منا فيه بعقدة الذنب لأنهم حاربوا اليهود في الماضي، وأنهم كانوا يحاربون في غير قضية، ويموتون هدراً وغباء!!
* وهذا قليل الذي يرى نتائج الحوادث قبل أن تقع ومآل الأمور قبل وقوعها يعيش في أحزان متصلة وينظر الناس إليه دائماً نظرة الريبة والاستغراب وقد يثني الناس على فهمه وعقله بعد حدوث ما توقع ولكن السحرة الماهرون لا يمهلون الجمهور حتى يشغلوهم بحادث جديد.
* دعونا نسأل أنفسنا لماذا نفاجأ دائماً بالقرار السياسي؟ ولماذا نذهب دائماً في تفسيره كل مذهب!!.
والجواب باختصار: أننا نعل ذلك لسببين:
أولاً: إننا لا نشترك في القرار السياسي، فالشعوب في الوطن الإسلامي كم ولا وزن له مطلقاً في قرار سياسي. وتزييف اراداته سهل جداً في أي استفتاء. ونستطيع أن نجد للرأي ونقيضه مؤيدين ومشايعين. بل يستطيع الدهاة أن يستخرجوا من القرآن والسنة أيضاً ما يؤيد الرأي ونقيضه فإذا اتخذنا قرار الحرب مثلاً قال القائلون وافتى المفتون:
{فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الاعلون} وإذا اتخذنا قرار السلم خطب الخطباء وتكلم أهل الإفتاء قائلين: {فإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله} ، وإذا أردنا حب اليهود والإشادة بهم قلنا أنهم أبناء العمومة وقد قال الله فيهم:{يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم واني فضلتكم على العالمين} . وقوله تعالى أيضاً:
{ولقد اخترناهم على علم على العالمين} . وإذا اتخذنا قرار بغضهم ومذمتهم قلنا: إنهم.. وأنهم.. وقال الله فيهم: {ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا ألا بحبل من الله
وحبل من الناس. وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة..} الآية.
وهكذا يستطيع المزيفون أن يزيفوا إرادة الشعب لأنه لا رأي له، وكذلك حكم الله وحكم رسوله.. لأن الذين يفتون بهذا أيضاً لا رأي لهم. واقتطاع الآيات وتحريف الكلم عن مواضعه سهل أيضاً لمن أراد ذلك.
وأما السبب الثاني فهو ما ذكرت في صدر المقال من أن الجمهور الذي يشاهد السحر تنحبس أنفاسه دائماً عن رؤية الماضي والمستقبل ويعيش فقط في ظل اللعبة الحاضرة والتي لا يربطها بأسبابها الماضية ولا يفكر بتاتاً في نتائجها الآتية أنه يفكر فقط مشدوداً مدهوشا كيف ستنتهي هذه اللعبة العجيبة؟!.
* وتعالوا الآن نشاهد هل قرار السلم مع اليهود الذي اتخذته القيادات السياسية مفاجأة؟! ونتيجة غير متوقعة؟ أم هو نتيجة منطقية لأسباب ومسببات واقعية؟! وقبل أن نتفهم معا الجواب دعونا من أن نقع فريسة للحادث الوقتي الذي يشغل بالنا، وهو زيارة القدس ومؤتمر القاهرة.. للنس هذه الحوادث الحاضرة ولنفكر في أساس المشكلة ولبها. ولست في مجال استعراض تاريخ هذه المشكلة فإن هذا أمر يطول ولكن بتعريف موجز لمشكلتنا مع اليهود نقول: اليهود شعب مشرد منذ ألفي سنة وكانت له دولة يوما ما في فلسطين ويريد العودة إلى هذا المكان ليبني دولته من جديد وهذه الأرض يحكمها شعب اعتنق الإسلام وهو جزء من أمته وقد تكلم العربية ونسب إليها. هذه القضية الواضحة انتقلت في مدى ثلاثين سنة فقط على النحو التالي من قضية تهم كل مسلم إلى قضية تهم كل العرب فقط ثم إلى قضية تهم الفلسطينيين أولاً لأنهم حسب قول القائلين أهل
المشكلة وأصحابها ثم قضية تحملها منظمات متنافسة على الأقل أن لم نقل متعادية متحاربة وفي إطار هذا التنافس تختلف الأنظمة السياسية والشعوب أيضاً من الذي يحق له أن يمثل الشعب الفلسطيني هل هي منظمة التحرير أم عرب الضفة؟؟ وهكذا بتقليص هذه المشكلة من أن تكون هما يحمله كل مسلم في الأرض ويطالب شرعاً وديناً وسياسة بتحريرها إلى قضية يمثلها عرب الضفة الغربية فقط!! أو منظمة التحرير فقط!! ويظل السحرة والحواة يشغلون الجمهور بالألاعيب السحرية: من الخائن ومن الوطني؟ ويضحك الساحر اليهودي ملء شدقيه وهو يجد تلاميذ المدرسة يتخاصمون ويتجادلون ويقولون.. كيف خرجت هذه اللعبة العجيبة!!.
* صلينا المغرب وجلسنا بعد الصلاة، وعرفني أحد الزملاء بشاب في مقتبل العمر أراه لأول مرة وسألني ما رأيك في الأحداث الجارية فانبرى لشاب قائلاً قبل أن أجيب: بصراحة: السلم والصلح مع اليهود هو الخير. فنحن لم نكسب من الحرب شيئاً، ومنذ وصولي إلى الكويت تأسفت على الأيام التي حاربتها وأنا جندي في الجيش الثالث (المصري) . أن الفلسطينيين يحاربونني في رزقي هنا بل يحاربون كل مصري!!.
فقلت له: اي أخي انظر خطورة القرار الذي وصلت إليه! لقد وصلت إلى أن اليهود أقرب لك من إخوانك الفلسطينيين وهم مسلمون وعرب أيضاً. فقال لقد كنا في الجيش الثالث وكنا نتبادل القذف بالنيران مع اليهود كل يوم وكان بيننا وبينهم أمتار قليلة وكان معنا مهندس زراعي مصري وقال: والله لأذهب إلى اليهود لأعلم لماذا يحاربوننا..
وذهب إليهم فأكرموه غاية الإكرام وتحدث معهم طويلاً وخرجنا بنتيجة أنه لا فائدة من حربنا معهم!! بصراحة لو دعيت إلى الحرب مرة ثانية فلن استجيب!. وقال آخر: لماذا أحارب من أجل الفلسطينيين.. هم أغنى منا وهم أولى بالدفاع عن وطنهم.. وكنا نتحدث مع بعض المثقفين فانبرى فلسطيني منهم قائلاً: أنا لا تمثلني منظمة التحرير.. لقد اثروا من ورائنا!! الخ.. انظروا كيف وصلنا، وكيف تناقضت آراؤنا في مشكلتنا بعد أن طورناها إلى الحد الذي أصبح لكل واحد منا رأي يخالف الآخر فيها، وانظروا على الجانب الآخر الأفكار اليهودية التي تجمع اليهود عليه في أول مؤتمر صهيوني لهم في سويسرا هي نفس الأفكار والمبادئ التي يعلنها اليهود ويفاوضون عليها في السلم ويقاتلون عليها في الحرب. الموقف اليهودي من إقامة الدولة اليهودية لم يتغير قيد شعرة منذ بدأ العمل الحقيقي لإقامتها والموقف العربي يتلون ويتغير ويتناقض كل يوم. وما ذلك إلا لأن السحرة والحواة يشغلون الناس عن المشكلة الحقيقة بألاعيب شيطانية تخطف أبصارهم، وتبلبل عقولهم، وحول هذه الألاعيب تتفرق الشعوب ويلعن بعضها بعضاً، وتتمزق الجماعات ويلعن كل منا الآخر ثم نلعن جميعاً الأمة التي ننتمي إليها، ويبدوا من سير الأحداث أن الأمة التي ننتمي إليها لن تفيق إفاقة حقيقية، وتتخلص من سحر السحرة، ولعب الحواة، إلا إذا وجد العرب أنفسهم غداً عمالاً في مؤسسات اليهود نهاراً، وخماراً وسكارى في حاناتهم ليلاً، وقد وجدوا بناتهم وأخواتهم أيضاً يمتهن كل شيء ليحصلن على لقمة الخبز وعند ذلك قد تدب الحمية في النفوس من جديد، وعند ذلك أيضاً قد ينقلب السحر
على الساحر ويقوم في الأمة من ينقذها بكتاب الله وسنة رسوله فيوحد صفوفها، وينهي خلافها وتفرقها، ويقودها إلى العزة والمجد.
23 ديسمبر 1977