الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فلنسم الأشياء بأسمائها
الأسماء هي العناوين التي نطلقها على المسميات ومن خلالها نتعرف على ما أطلقت عليه، فإذا سمعنا -مثلاً- لفظ الشجاعة فإننا نتصور في عقولنا صفة حميدة تعني الإقدام والجرأة، ورباطة الجأش، وعزيمة القلب، وإذا سمعنا لفظ الخيانة تصورنا معنى واضحاً محدداً، فإذا قلنا إن فلاناً شجاع وقع في نفوسنا إنصاف هذا المذكور بهذه الصفة، وهكذا في كل ما يوصف به الأفراد والأشياء، والمقصود إننا نتعرف على الأشياء من خلال الأسماء التي نطلقها نحن عليها، فما بالكم إذا أطلقنا أسماء مغايرة تماماً للمسميات التي نقصدها، فنطلق مثلاً على النار لفظ الماء وعلى البارد لفظ الحار، عل الخيانة لفظ الظرافة (وخفة الدم) ، وعلى الشجاعة لفظ التهور والجنون، لا شك أننا سنعيش في فوضى لا حد لها، بل سنعيش في عالم مختلط مضطرب.
* وهذا الذي افترضه ليس فرضاً بعيداً، وإنا هو واقع نمارسه الآن ونعيشه، إننا نعيش الآن عصراً يصح أن نسميه عصر فوضى الأسماء، فلست واجداً شيئاً قد تسمى باسمه -الذي يجب أن يتسمى به- إلا القليل النادر وهاكم البيان:
إذا طالعنا قاموسنا السياسي بكل ألفاظه المتداولة بين
أيدينا وجدنا أنها موضوعة في غير مواضعها ومنطوقة على غير معانيها وفي غير أماكنها، فالهزيمة المنكرة نكسة والهاء الشعوب ترفيه، والاستبداد حزم، وإفساد الناشئة تربية، ومحاربة الفساد تعني في هذا القاموس قمع الذين يأمرون بالقسط والعدل من الناس والكذب والخيانة سياسة وذكاء.
ألسنا يا قوم نسمي الإذعان للعدو والاستسلام له والرضى بالذل حلاً!! وسلمياً أيضاً، وقد نتصافح فنسميه صلحاً، والحال هذا لا يجوز أن يسمى حلاً ولا سلماً، ولا صلحاً ولا شيئاً من هذا أصلاً، والمثال واضح وسهل، فأنت لو جاءك عدو فلطمك على وجهك وأخرجك من منزلك الذي تملكه، ثم أراد منك أن توقع أمام الناس وثيقة تثبت تنازلك عن دارك، وفعلت هذا الذي أراده ثم قابلت الناس فسألوك عما صنعت مع عدوك فقلت لهم: تصالحت معه، وحللت قضيتي معه سلمياً.. لضحك الناس منك (وهنأوك على شجاعتك) آسف لوبخوك على جبنك هذا إذا لم تكن لك مقدرة على إخراجه، وأما إذا كنت قادراً على إخراجه وقلت ذلك لبصقوا في وجهك ولعجبوا من وقاحتك.
وحالنا مع أعدائنا من اليهود ليس بعيداً عن ذلك، فهم مغتصبون والذين أخرجوا من ديارهم وملكها اليهود بعدهم لم يموتوا بعد، ونحن إما أن نكون غير قادرين على إخراجهم فمن (العبث) أن نقرهم على الباطل وآسف لاستعمالي كلمة العبث وهي والله كلمة في غير موضعها!! وأما أن نكون قادرين على إخراجهم.. فهل نسمي ما نفعله الآن معهم سلماً وصلحاً وحلاً.. حرام عليكم لا تظلموا الكلمات.
وإن تركنا القاموس السياسي وجئنا إلى قاموسنا الاجتماعي وجدنا العجب: هذه التفاهة التي تطالعنا كل يوم
على صفحات الجرائد من أن فلانة أعدت العدة لاستقبال زوجها، وتلك احتفلت ودعت الصديقات لأنها عزمت على مذاكرة دروسها، والثالثة عزمت على تغيير فراش بيتها وذلك الطرطور دعا الأصدقاء ليهنئوا زوجته بعيد ميلادها، كل هذا ومثله كثير يقزز النفس كان ينبغي أن يوضع تحت عنوان: أخبار التافهين والتافهات، وهكذا وجدنا في مصطلحنا الاجتماعي الدياثة (وتعني رضا الرجل بالفاحشة على أهله) رقياً وواقعيه، والخيانة في الأهل والمال صداقة وزمالة، ووجدنا ويا لداهية!! كل هذا الخنا والفجور والتفاهة في التأليف والتمثيل والإخراج فناً، وكل أولئك التافهين والتافهات أبطالاً.. أرثي لهذه الكلمة (البطل) كيف رضيت بأن توضع في غير موضعها.
وإذا جئنا إلى قاموسنا الديني فالعجب لا ينقطع فالتمسك بالإسلام أضحى تعصباً، والكفر بكل ما جاء به الرسول أضحى تطوراً، ورد أحكام الله والتعقيب عليه أمسى تفكراً وتعقلاً، ولفظ المسلم يدل على كل هذا السقط من الناس الذي لا يعرف ولا يعمل ولا يؤمن بإسلام أصلاً، وأما الكفر فهو عتقاء مغرب (شيء لا وجود له) في كل بلاد الضاد والحال أنه يطالعك مجسماً أينما توجهت، وهل الكفر إلا رد الحق بعد بيانه؟
وهؤلاء الذين يتأكلون بالدين، ويقولون على الله ورسوله ما لم يقله الله ورسوله، ويفتون كل إنسان بما يشتهي، ويلوكون كلمات يرددونها كالببغاوات بلا فقه ولا عمل نسميهم -زوراً- علماء الإسلام.
قال أحد الصحابة في عهد بني أمية: لو خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعرف مما كان يعهد شيئاً إلا أنكم تصلون جميعاً، فكيف لو خرج رسول الله الآن، هل تجد شيئاً من دينه
بقي كما هو، بل هل تجد حقيقة شرعية واحدة يفهمها الناس كما أراد هو لا كما فسروها أولوها وأطلقوها في غير موضعها؟
نحن مهددون باندثار حضارتنا لأننا زيفنا أعظم عملة نتعامل بها وهي الكلام، وإني لأعجب والله كيف نثور ونغضب ونسجن من زيف دينارا وغاية ما فعل أنه سرق من جيب الأمة ديناراً، ولا نثور ونغضب ممن يزيف الكلام وقد يكون في تزييف كلمة واحدة هلاك أمة بأسرها، وقد شرحنا هذا آنفاً، فأعد قراءة المقال، كلنا يشكو من الفوضى وما ذلك إلا أننا ألبسنا اللص لباس الشرف، وأعطينا المغتصب حق الملك، وخلعنا على الديوث لباس العصر وجعلنا كل التافهين أبطالاً، وكل المتشبهين رجالاً وكل الذين خانوا أمانة العلم علماء، وكل الذين باعوا أمتهم وأوطانهم قادة وزعماء فماذا بقي لنا؟! بقي أن نعيد ترتيب اللغة من جديد، وأن نتعلم من الصفر كيف نسمي الأشياء بأسمائها.
14 ديسمبر 1976م.