الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدوَّامة
أصدق وصف من الممكن أن نصف به حالة الأمة الإسلامية اليوم هو أنها تعيش في الدوامة، فالتمزق السياسي، والنزاعات الإقليمية، والانفصال النفسي، وضياع الأهداف وابتعاد الآمال بالعزة والسيادة، واللهث وراء الأحداث المتناقضة المتشابكة وعدم فهم ما يدور.. كل هذه ملامح واضحة للدوامة التي تلف العالم الإسلامي.
وليس العالم الإسلامي وحده في هذه الدوامة، بل إن شعوب الأرض جميعاً قد أصبحت أجزاء تائهة وسط هذه الآلة الرهيبة التي تطحن الجميع بلا رحمة، فالأزمات النفسية، والصراعات الدولية، والتسابق الجنوني نحو مصادر الطاقة والمواد الخام، والأسواق والإنتاج الصناعي المجنون لكل شيء وبلا حساب، والركض اللاهث نحو أسلحة الدمار والفناء.. كل هذا وغيره جعل إنسان العصر هو إنسان الصراع أو الإنسان التائه، وجعل السمة الأساسية لعصرنا الرهيب هو "الصراع".
ولو خرجنا قليلاً بأنفسنا من الدوامة لنلقي نظرة عامة من خارجها لوجدنا أن البداية لهذه الدوامة المعقدة هو انتهاء الحرب العالمية الثانية وسقوط انجلترا وفرنسا اللتين خرجتا منتصرتين ظاهراً ولكن منهزمتين حقيقة واللتين أفسحتا
المجال مرغمتين لدولتين أخريين هما أمريكا وروسيا، وببروز هاتين الدولتين منذ ذلك الوقت وإلى اليوم نشأ استعمار جديد حل مكان الاستعمار الإنجليزي والفرنسي التقليدي القديم.. وبحلول الاستعمار الجديد تغيرت كافة الأساليب الاستعمارية القديمة التي كانت تعتمد على الجيوش الغازية والمعاهدات التي تخول للمستعمر الاستئثار بالسياسة الخارجية والأمن الداخلي والحماية الخارجية إلى استعمار جديد يعتمد على المعاهدات الاقتصادية، والألاعيب السياسية والعملاء المدربين.
وإذا كان الاستعمار القديم قد خلق أبطالاً شجعاناً سواء من الجيوش الاستعمارية أو من الشعوب التي حارب أبطالها دفاعاً عن أرضها وحماها، فإن البطولة الجديدة التي خلقها الاستعمار الجديد ليست هي بطولة الحروب، وركوب الأخطار، وإنما هي اليوم اتقان فن الكذب والدهاء واللف والدوران والمناورة، فالاستعمار الجديد استعمار تصنعه أجهزة المخابرات التي لا يوجد في قواميسها وسيلة ممنوعة للوصول إلى الأهداف، وهذه الأجهزة الرهيبة التي يستحيل على من هم خارجها أن يعرفوا ما يدور فيها يتحكمون بكل شيء تقريباً حتى برؤساء الدول العظمى التي تدبر عجلة هذه الدوامة، هذا الأخطبوط الخفي الذي لا يعمل إلا في الظلام هو المحرك الحقيقي للدوامة العالمية التي نعيشها اليوم، وهذه المظاهر والظواهر السياسية التي نشاهدها في كل مكان من ثورات وانقلابات وحروب وتصريحات وتهديدات يستحيل تفسيرها إلا وفق المعادلات المعقدة التي تحكم هذه السياسة الخفية، والذين يحاولون منا تفسير هذه الظواهر السياسية بعيداً عن فهم هذه المعادلات المعقدة يقعون في التناقض ثم في الحيرة والالباس ثم في اليأس واعتزال الفهم والتفكير..
بعد هذا العرض السريع والموجز لمظاهر الدوامة التي تلف العالم يرد هذا السؤال: ألا يمكن أن نخرج من هذه الدوامة؟
والجواب: يجب أن نعلم أولاً أننا لا نعيش وحدنا في هذا العالم، وأن الحدود السياسية أصبحت الآن خطوطاً وهمية على الخرائط وأن الوقت الذي كانت تستطيع فيه دولة ما أن تغلق فيه الأبواب على نفسها وتعيش بعيداً عن العالم قد انتهى والعالم اليوم قد أصبح قرية صغيرة فمن بيتك اليوم ترفع سماعة التليفون وتخاطب صديقاً في أمريكا وصديقاً آخر (بمجرد إدارة القرص) في اليابان، والغزو الإعلامي الخارجي دخل البيوت إلى مخادع الزوجات وليس هناك مكان في العالم اليوم بمنأى عن الحرب المدمرة والمصالح الاقتصادية تشابكت بحيث لو حدث إضراب عمال في مكان ما من العالم لتأثرت أجزاء كثيرة له، ولو احترقت نصف آبار البترول في العالم اليوم دفعة واحدة لعاد الناس جميعاً إلى ما قبل الآلة ولاندثرت الحضارة الحديثة، وأي خلل في ميزان القوى، وفي ضبط النفس بين روسيا وأمريكا يعرض العالم للدمار، ولقد وقف العالم على هذه الهاوية مرات عديدة وكادت أن تقع الكارثة، وكل يوم يأتي يزيد من احتمال الوصول إلى حافة الهاوية.. باختصار لسنا وحدنا في هذا العالم، ولكن ثمة أمم ودول كانت تعاني مثلنا هذه الحالة من الضياع والدوار والشتات، ولكن بفضل رجال مخلصين من أبنائها استطاعت أن تخرج ولو قليلاً من الدوامة الروسية الأمريكية مع أنها مع ذلك لم تتخلص نهائياً وهذه الدول هي: الصين، واليابان، وألمانيا، ولست بصدد بيان الدور الذي اضطلعت به كل دولة منها لتتخلص جزئياً من التكالب والسيطرة الروسية الأمريكية عليها. وأما منطقتنا الإسلامية والعربية منها بالذات فما زالت نهباً للصراع بين
العملاقين، ومجريات الأحداث فيها لا يمكن فهمه بعيداً عن هذا الصراع.
وهناك أمران اثنان يجعلان هذا الصراع شرساً أليماً فالعامل الأول هو هذه المميزات الظاهرة التي تتمتع بها هذه المنطقة من التوسط الجغرافي بين دول العالم والثروات الهائلة التي يزخر بها الوطن الإسلامي العربي (البترول، والزراعة) . والعامل الثاني هو وجود إسرائيل هذه الدولة التي عاشت عميلاً أميناً للشيوعية العالمية والرأسمالية العالمية في آن واحد والتي تختلف الدول الكبرى دائماً حول مصالح كل منها، ولكنها تلتقي دائماً حول بقاء إسرائيل في أرض فلسطين، ويستحيل على اليهود أن يقبلوا أمة إسلامية موحدة خارجة عن اللعبة العالمية والصراع الدولي والدوامة الرهيبة.
هذه الخطوط العامة التي نضعها بين يدي القارئ لملامح الدوامة الرهيبة التي تلف عالمنا الإسلامي سيستطيع بها أي فرد أتاه الله نصيباً من الذكاء والفهم أن يحل شيئاً من معضلة الحرب اللبنانية، وأن يفهم جانباً من معضلة الحرب-المصرية-الليبية، وأن يدرك لماذا وفي بلادنا الإسلامية بالذات يصاب الناس بالإحباط وخيبة الأمل والدهشة وعدم الفهم والتعصب الأعمى، وأيضاً بالتطرف واستعمال العنف أنها جميعاً محاولات يائسة للخروج من الدوامة.
29 يوليو 1977