الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثالثاً: البناء الاقتصادي
(أ) مفهوم المال العام
خسائر الحرب في العصور الحالية خسائر خيالية سواء للمنتصر أو المنهزم فنفقات الحرب أصبحت نفقات باهظة، فالطائرة الواحدة أصبحت ببضعة عشرات من ملايين الدولارات والقذيفة الواحدة بعدة آلاف، والحرب بالنسبة إلينا شر لابد منه، وهي مفروضة علينا سواء سعينا إليها أو هربنا منها، فالأعداء والطامعون فينا حولنا من كل جانب، والكل يتربص فترة ضعف لينقض على جزء من أوصالنا فيقتطعه ولهذا فنحن ملزمون أن نوفق بين ما نملك من ثروات وما ينبغي أن يكون لدينا من وسائل دفاع، والذين رفعوا رايات السلم أو الاستسلام البيضاء كان من أقوى حججهم أن الحرب أصبحت أكبر منا وأنها أكلت منا أضعاف ما ربحناه من ورائها، وبالرغم من أننا نملك مجتمعين كعرب ومسلمين أعظم ثروات الأرض وإمكاناتها إلا أننا متفرقون نبدو وكأننا لا نملك شيئاً إطلاقاً وذلك بسبب التخلف الهائل لسياساتنا الاقتصادية، ولن نستطيع مستقبلاً أن نكسب حرباً حقيقية مع العدو إلا بتعديل هذه السياسة وبناء اقتصادنا بناء سليماً نستطيع أن نواجه به نفقات الحرب
وتكاليفها وهذه بعض الخطوط العامة التي يجب مراعاتها لوضع هذه السياسة:
1-
في الرقعة العربية كلها يبدو أن دولنا لم تحدد بعد مفهوم (المال العام) وأنه يحرم الاعتداء عليه وتبديده والأنفاق منه إلا في وجوه النفع العام ولكن الحال أن المال العام في دولنا جميعاً إلا ما شاء الله يوزع ويقسم بالمحسوبية وبالهوية والجنسية بالمبدأ المشهور (شيلني وأشيلك) ، فمن أعظم ما تعاني منه الدول العربية والغنية سواء ما يسمى (بالتضخم الوظيفي) وذلك أن الحكومات تعتقد أو هكذا تنفذ أن كل فرد من الدول يحمل (جنسيتها) فله حق في التوظيف وبالتالي (الأكل) من المال العام ولا تسأل الحكومة نفسها إن كان هذا الفرد الموظف في أجهزة الدولة سيؤدي نفعاً عاماً بقدر ما يأكل من المال العام أم لا؟ وذلك أنها تعتقد أنه مادام مواطناً يحمل الجنسية فله الحق في هذا المال العام.
لقد طبقت هذه القاعدة في كثير من بلادنا العربية، وكان هذا من أكبر عوامل فساد الجهاز الوظيفي والحكومي وذلك أن الموظف الذي يوضع في مكان ولا عمل له إلا الدوام يشكل بذاته عائقاً حقيقياً للعمل والبناء وذلك أن التوظيف بلا سبب يستدعي إيجاد عمل وحيث إنه لا عمل إذن فلابد أن يكون هناك ما يسمى (بالروتين) وهذا (الروتين) معناه التعقيد، والتعقيد يعني أن ندور بلا سبب وجيه لنحصل على هدف ما فإذا أضيف إلى ذلك وضع موظف غير مناسب في مكان غير مناسب كانت الكارثة كأن نضع الشرطة والجنود في المصانع بدلاً من الأمن والدفاع، ونضع المهندسين في التعليم والمعلمين في الزراعة وهكذا.. أننا بهذا سنحصل في النهاية على آلة ضخمة معقدة جداً ولكن كل قطعة منها قد وضعت في
غير مكانها فهي من البعد تشبه الآلة المعدة للإنتاج ولكنها في حقيقتها آلة جوفاء تصدر أصواتاً متنافرة ولا تنتج شيئاً أو كما قال أسلافنا العرب وصدقوا "نسمع جعجعة ولا نرى طحناً"، والعجب أن هذه الآلة في النهاية تكون قوة حارقة للاقتصاد وغير موفرة أو منتجة له، تماماً كما لو كان عندك بقرة تأكل كثيراً ولا تنتج من الحليب إلا شيئاً يسيراً ثم تغافلك وترضع نفسها.
من أغرب الغرائب أننا في البلاد العربية نتبع سياسة عرجاء أو عمياء في الاقتصاد فبينما يرتفع الشعار في الدول الاشتراكية: "لا طعام دون عمل" ونرى الناس هناك يندفعون إلى العمل في تلك الآلة الضخمة التي يراعي القائمون عليها الإنتاج قبل الإنسان، وكذلك في النظام الرأسمالي لا طعام أيضاً دون عمل وإنتاج وإن كانت الآلة هناك آلات متعددة خاصة، (مؤسسات رأسمالية) لا وجود لإنسان في واحدة منها إلا بإنتاج يساوي أضعاف أضعاف ما يأخذه من راتب، أقول بينما نعيش في عالم على هذا النحو في جناحيه الرأسمالي والشيوعي فإننا نعيش في بلاد الشعار فيها (لا طعام دون وظيفة ومركز) ، والوظيفة معناها (الدوام) والدوام عندنا لا يرتبط بالإنتاج كماً ولا كيفاً، وإنما يرتبط بالزمن فقط، وهكذا نملك صورة الإنتاج لا حقيقته وشكل الآلة لا مضمونها، نملك بقرة لكنها بدلاً من أن تُرضع أولادها تُرضع نفسها، والعجب بعد ذلك ممن يصرخون هنا وهناك كالببغاوات مرددين أن النظام الرأسمالي كفر والنظام الشيوعي كفر، ونظامنا (هذا) هو الإسلام أو قريباً من الإسلام والحال أن النظام الاقتصادي القائم في دولنا العربية والإسلامية لا يمت إلى الإسلام بوشيجة ولا قربى، فإن من أعظم المحرمات في الإسلام المال العام ولا يجوز الأخذ منه إلا
بحق فإذا لم يكن الموظف ويسمى في النظام المالي الإسلامي (العامل) منتجاً وأميناً فلا حق له في المال العام وعندنا الآن المال العام غنيمة والشطارة هي في التحايل للأخذ منه، ويردد العامة في الأمثال (إن فاتك الميري أتمرغ في ترابه) أي وإن تركك العمل الحكومي فتهافت على أي شيء فيه، وذلك أنه عمل يشعر الفرد فيه أنه صاحب حق في الراتب وليس مطالباً بالإنتاج.
وهكذا بسوء فهمنا لقضية المال العام نصل في النهاية إلى انهيار كامل لا في الاقتصاد وحده وإنما أيضاً في المثل والأخلاق، وذلك أن الموظف الذي يقبض ولا ينتج غاش لأمته وهو لص أيضاً ومحاسب على هذا المال الذي أخذه دون وجه حق، ثم إن شبابنا الآن يركض في السلم التعليمي للحصول على الوظيفة لا على العلم، لأنه يعلم أن الشهادة هي جواز المرور إلى الوظيفة، وفي الوظيفة لن يسأل عن الإنتاج وإذن فالمهم هو الشهادة والعلم سبيل طويل وطريق شاق للشهادة والغش أسهل وأقرب من التحصيل ولذلك فأقولها بيقين العارف المطلع "الغش الآن هو القاعدة والتحصيل والعلم هو الشذوذ"، وهذا يعني الكارثة الوطنية والقومية والدينية.
في كل بلاد العالم يتعلم الناس وفي بلادنا نعطي شهادات، وإذا وصل غير الكفء إلى المنصب فإن همه كله سينصب على محاربة الأكفاء لأن الأكفاء هم أخطر الناس على وظيفته ومنصبه، وبذلك تبدأ حرب قذرة على العاملين والمنتجين وهم القلة المخلصة وتبدأ الترقيات والهبات للمنافقين والدجالين وذلك أنهم المسايرون والراضون وهكذا تطحن هذه الآلة الفاسدة المخلصين من أبنائها، ويشعر هؤلاء المخلصون بالضياع والغربة لأنهم قلة من الأشراف والأمناء في مجتمع من الذئاب، وهكذا ترضع البقرة نفسها ويموت الصغار!!
وهكذا تتسلل القضية وتتشابك، وذلك أن البناء الاجتماعي والاقتصادي والأخلاقي يمسك بعضه بخناق بعض وذلك أن المجتمع كل متماسك ترتبط فيه كل قضية بالأخرى.
وإصلاح هذه القضايا المجتمعة يبدأ من تحيد مفهوم (المال العام) ومن له الحق فيه، وكيف يؤخذ وفيم ينفق فإذا وصلنا إلى مفهوم واضح محدد استطعنا بعد ذلك أن نضع كل شيء في مكانه الصحيح وعند ذلك سنجد أننا نملك وفرة هائلة من الإنتاج والرفاه نستطيع أن نوفر جزءاً منها لإقامة صناعة حربية متطورة تتناسب مع إمكانياتنا وحجم الطامعين فينا، ودون ذلك ستظل الساقية تدور والماء يعود إلى البئر، ونظل نسمع جعجعة ولا نرى طحناً.
11 مارس 1977